اتساع المدينة وعمرانها في العصر العباسي الأول: على أثر إنشاء المدينة عاصمة جديدة للدولة العباسية، واكتظاظ العمران داخل أسوارها، أقبل الناس على السكن بجوارها،

"/>
بغداد(تاريخ)
Baghdad - Bagdad

بغداد (التاريخ_)

 بغداد في العصر العباسي (762- 1258م)

اتساع المدينة وعمرانها في العصر العباسي الأول: على أثر إنشاء المدينة عاصمة جديدة للدولة العباسية، واكتظاظ العمران داخل أسوارها، أقبل الناس على السكن بجوارها، واتسعت قرية الكرخ التي تقع جنوب المدينة، وصارت تعرف باسم محلة الكرخ، وقد نقل المنصور نفسه سنة (773م) الأسواق من مدينته المدورة إلى الكرخ، وعزم أيضاً على إنشاء محلة كبيرة أخرى في الجانب الشرقي لدجلة، شرق المدينة (المدورة)، لتكون مقراً لولي عهده المهدي وجيشه الخراساني، وذلك تحسباً من الفتنة بينهم وبين العرب، واستمرت عمليات البناء في هذه المحلة الجديدة نحو خمس سنوات، وسميت باسم «عسكر المهدي»، ثم سميت محلة الرصافة التي سرعان ما اتسعت لتنافس المدينة المدورة عمراناً وسكاناً، وتتفوق عليها في مراحل لاحقة، فابتنيت حولها الأسوار وازدحمت العمارة ومراكز الثقافة والعلم.

وإذ شهدت المدينة المدورة أزهى عصورها في عهد الخليفة هارون الرشيد (786- 809م) فأنشئت فيها المشافي (البيمارستانات) والمدارس والمساجد ومصانع النسيج والصباغة وصك النقود، واشتهرت بتراثها الأدبي والشعري والقصصي والعلمي. ولقد تغنى الشعراء بجمال بغداد ودعوها جنة الله في أرضه، لروعة حدائقها وخضرة أريافها وعظمة قصورها، والزخارف التي تزين قاعاتها وبواباتها، كما أشاد المؤلفون بجلالة قدرها وفخامة أمرها وكثرة علمائها وأعلامها وكثرة دورها ومنازلها ودروبها ومحالها وأسواقها ومساجدها وحماماتها وخاناتها. ولكن هذه المكانة تراجعت لمصلحة الرصافة بعد انتقال مركز الخلافة إليها في عهد الخليفة المأمون (813-833م) بعد انتصاره على أخيه الأمين، فابتنيت حولها الأسوار وارتحلت إليها دور العلم والثقافة ومراكز الثروة والجاه، وظلت بعض من آثارها باقية حتى اليوم.

كان لموقع بغداد الجغرافي ونشاط سكانها وتشجيع الدولة للتجارة أن أصبحت المدينة المركز الأعظم للتجارة، وأصبحت الأسواق من مظاهر الحياة الرئيسة فيها، سواء في الرصافة أو الكرخ، وكان لكل تجارة سوقها ولهذه الأسواق منذ عهد المنصور محتسب، يراقب الأسواق ويمنع الغش ويراقب الأوزان والمقاييس كما أنه كان يراقب الحمامات والمساجد، وكان لكل تجارة أو مهنة رئيس تعينه الدولة، ولكل مهنة صانع أو أستاذ، وكان من العوامل التي ساعدت على ازدهار التجارة والصناعة تطور النظام المصرفي في بغداد، كما يلاحظ من نشاط الصرافين والجهابذة، وكان للصرافين أسواقهم الخاصة ولاسيما في الكرخ، وكانوا يقدمون خدماتهم لأبناء الشعب، في حين كان الجهابذة يخدمون مصالح الدولة وموظفيها.

وشهدت هذه المرحلة من حياة المدينة معارف نظرية جمة، وبرز فيها أعلام كثر، فظهر الأصمعي والفراء، والخليل بن أحمد في اللغة، والمبرد والجاحظ في الأدب، وأبو نواس وأبو العتاهية والعباس بن الأحنف في الشعر، وابن إسحاق في الموسيقى، وآل بختيشوع وأولاد شاكر وابن ماسويه وابن البطريق وغيرهم في العلم والطب والفلك، وأنشئت المدارس والجامعات وقصدها طلاب العلم من جميع الأقطار الإسلامية، ونشأت الجمعيات العلمية مثل جماعة إخوان الصفا، الذين كانت رسائلهم أقرب إلى دائرة معارف موسوعية تحيط بمعارف العصر، كما كان بيت الحكمة مركزاً لترجمة روائع التراث العلمي القديم. وهكذا فإن بغداد كانت أعظم مركز للحياة العلمية والثقافية والفكرية في أزهى عصور الحضارة العربية الإسلامية، ويكفي أن يعود المرء إلى تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ليرى كثرة الشعراء والأدباء والعلماء في كل حقل من حقول العلم والمعرفة.

بغداد في العصر العباسي الأوسط والأخير: في المرحلة الممتدة بين 836 و892م انتقل العباسيون إلى عاصمة جديدة هي سامراء للابتعاد بحرسهم من الأتراك عن الاختلاط بالعرب، ولكنهم بعد العودة مجدداً إلى بغداد واتخاذها عاصمة للدولة في عهد الخليفة المكتفي بالله (901-907م) اختاروا الإقامة هذه المرة في ما سمي «المخرم» على الضفة الشرقية من دجلة إلى الغرب من الرصافة، ويعرف موقعها اليوم بضاحية «الصرافية». وقد ابتنى الخليفة المكتفي سوراً جديداً للمدينة، مازالت إحدى بواباته قائمة اليوم بعد ترميمها واتخاذها متحفاً للأسلحة.

بعد مقتل المقتدر سنة 322هـ اضطربت الأوضاع في بغداد، وظهر منصب جديد في الدولة وهو منصب أمير الأمراء الذي طغى على كل المؤسسات الإدارية والفكرية والعسكرية، وفي سنة 330هـ تعرضت بغداد لأزمة سياسية واقتصادية شديدة لم ينقذها منها إلا الحمدانيون، ولكن نفوذهم لم يدم طويلاً لظهور شخصية توزون التركي الذي انفرد بالسلطة الفعلية في الدولة، والذي تمثل وفاته نهاية السيطرة التركية وبداية ظهور قوة جديدة على المسرح السياسي في بغداد هي البويهيون، وتبدأ بذلك مرحلة جديدة في تاريخ الدولة العباسية هي مرحلة السيطرة البويهية.

كان العصر البويهي بوجه عام عصراً قاسياً على بغداد التي تراجعت في عهدهم، الذي امتد من سنة 944- 1055م، فقد أهملت مدينة المنصور وتقلصت معظم الأحياء في بغداد الغربية، وكانت أعمر بقعة فيها الكرخ حيث أسواق التجار ومساكنهم، ولذلك صار يُطلق على الجانب الغربي من بغداد اسم الكرخ. أما الجانب الشرقي فكان أكثر ازدهاراً وكان معظم كبار رجالات الدولة يقيمون فيه، وكانت مناطقه العامرة هي باب الطاق حيث السوق العظيمة، ودار الإمارة حيث يقيم الأمراء البويهيون في المُخرِّم وقصور الخلفاء في الطرف الجنوبي، ولعل عضد الدولة (977- 982م) هو الأمير البويهي الوحيد الذي أظهر اهتماماً ببغداد، فجدد ما دُثر من الأنهار وأعاد حفرها وتسويتها، كما أمر بعمارة منازل بغداد وأسواقها وكانت مختلة قد أُحرق بعضها وخُرب بعضها الآخر، وابتدأ بالمساجد الجامعة وكانت في منتهى الخراب فهدم ما كان متداعياً وأعاد بناءها وألزم أرباب العقارات بالعمارة، فمن قصرت يده عن ذلك اقترض من بيت المال، كما بنى مشفىً كبيراً ببغداد عُرف بالبيمارستان العضدي. كانت هذه الإصلاحات ممكنة في عهد عضد الدولة لقوته التي أرجعت الأمن وضبطت الجند، ولرغبته الصادقة في تحسين الأوضاع، على أن الرفاه لم يدم طويلاً، وإذا استثنينا بعض الإصلاحات من سَدِّ بشق نهر أو حفر قناة، فإننا لانكاد نسمع بعد عضد الدولة إلا الحديث عن الفقر والخراب، وتكرر فيضان دجلة الذي خرب الأرض والغلات لعدم تنظيم مياهه، وقاست بغداد الكثير من فوضى العامة ومن الخلافات المذهبية التي كان يشجعها البويهيون، ومن «العيَّارين» الذين كانوا يفرضون الرسوم على الأسواق والطرقات وينهبون المسافرين ويقتحمون المنازل ليلاً وينشرون الخراب والدمار بالسيف والنار، وقد استمرت هذه الفوضى حتى مجيء السلاجقة.

ففي سنة 1055م دخل طغرل بك بغداد، وفي السنة الثانية وسع دار الإمارة بعد أن هدم العديد من البيوت والحوانيت حولها، وأحاط دار الإمارة بسور، وصارت تعرف بدار المملكة، أما ملكشاه فإنه وسع وأعاد بناء جامع المُحرم القريب من القصر سنة 484هـ وعُرف بجامع السلطان.

تركزت الحياة في بغداد الشرقية في العصر السلجوقي حول قصور الخلافة والأحياء القريبة منها، وقد زار بنيامين الطليطلي بغداد نحو سنة 1171م، فتحدث عن روعة قصر الخليفة بحدائقه وحَيْر وحوشه وبركته، وامتدح البيمارستان العضدي الذي كان يضم 60 طبيباً وجناحاً خاصاً للمختلين عقلياً.

 وفي سنة 581هـ وصف ابن جبير بغداد، ولاحظ التدهور العام للمدينة وانتقد عجرفة أهلها «الذين يظهرون لمن دونهم الأنفة والإباء ويزدرون الغرباء... ولا يعتقدون أن لله بلاداً أو عباداً سواهم...»، ويذكر ابن جبير أن الجانب الغربي قد عمه الخراب، ولكنه مع استيلاء الخراب عليه يحتوي على سبع عشرة محلة، كل محلة منها مدينة مستقلة وفي كل واحدة منها الحمامان والثلاثة والثماني، وكان أكبر هذه المحلات، القُرَيَّة على شط دجلة قرب الجسر، ثم الكرخ وهي مدينة مسورة، ثم محلة باب البصرة وفيها جامع المنصور ثم الشارع.

أما الشرقية فهي دار الخلافة وقصور الخليفة والحدائق المحيطة بها تحتل ربع مساحتها، والشرقية كما يصفها ابن جبير «حفيلة الأسواق عظيمة الترتيب، تشمل من الخلق على بشر لايحصيهم إلا الله تعالى، وبها من المساجد الجامعة ثلاثة، جامع الخليفة متصل بداره، وجامع السلطان وهو خارج البلد ويتصل به قصور تنتسب للسلطان، وجامع الرصافة، والمساجد في الشرقية والغربية كثيرة لا تحصى، والمدارس بها نحو الثلاثين، وكلها بالشرقية، وأعظمها وأشهرها المدرسة النظامية التي بناها الوزير نظام الملك، ولهذه المدارس أوقاف عظيمة ينفق منها على الفقهاء والمدرسين والطلبة بها». وعلى الرغم من عظم شأن بغداد فإن ابن جبير وجد الفرق كبيراً بين وضعها كما رآها وبين ما كانت عليه في قمة ازدهارها.

عانت بغداد في العصر السلجوقي من الحرائق والفيضانات ومن اضطرابات وفوضى العامة والخلافات المذهبية، مما كان يؤدي إلى الكثير من سفك الدماء والدمار.

حملة هولاكو والحكم المغولي وما تلاه

في كانون الثاني عام 1258م، وصل هولاكو وجنوده إلى أسوار بغداد، واضطر الخليفة المستعصم أن يسلم المدينة دون قيد أو شرط في 10 شباط وقُتل بعد ذلك بعشرة أيام، هو وأفراد كثيرون من أهل بيته، ونُهبت المدينة وأُحرقت، ولكنها لم تُخرَّب بأسرها كغيرها من المدن التي استولى عليها هولاكو، لأنه كان يريد أن يتخذها عاصمة، فنجده على العكس يأمر بترميم عدد من العمائر، مثل جامع الخلفاء ويأمر بإعادة فتح المدارس والرباطات التي كان قد ازداد عددها في العهد السلجوقي لازدياد انتشار الصوفية. لكن بغداد ظلت بعد احتلال هولاكو تتقاذفها موجات الحرب والاجتياح، فتعاقب عليها الحكام الأجانب بين احتلال وآخر، زهاء أربعة قرون متتالية، مما انعكس على تخطيطها وتطورها فتراجعت المعرفة وانحسر العمران.

حكم الإيلخانيون (خلفاء هولاكو) بغداد حتى سنة 1339-1340م حينما استقل حسن بُزرك Buzurg بأمورها وأسس الدولة الجلائرية التي استمرت إلى عام 1410م، وفي أيامها استولى تيمورلنك على بغداد مرتين، الأولى عام 1393م، والمرة الثانية عام 1402م، حين قُتل أهلها وخُرِّبت كثير من المساكن والمنشآت العامة، وعاد السلطان أحمد الجلائري إلى بغداد سنة 1405م، وأصلح بقدر استطاعته الأمور التي خرَّبها تيمور، ولم ينقض وقت طويل حتى استولى عليها التركمان، وازداد تدهور بغداد وتراجعها في ظل حكمهم، فترك كثير من السكان بغداد، كما أن خراب نظام الري يفسر تكرار الفيضانات التي كانت تسبب الخراب والدمار.

بغداد في العهد العثماني

في سنة 1507- 1508م استولى الشاه اسماعيل الصفوي على بغداد، وبدأت حقبة من الصراع الفارسي العثماني عليها، فدخل السلطان العثماني سليمان بغداد سنة 1534م، ونظم إدارة ولاية بغداد وعهد بالإدارة إلى والي (باشا) ودفتردار للشؤون المالية وقاضي، وأمر بمسح الأراضي الزراعية وتسجيلها وبنى دور ضيافة للفقراء، وترك في بغداد حامية مؤلفة من الإنكشارية. وفي 1623م استولى الشاه عباس الأول على بغداد، ولكن العثمانيين بقيادة السلطان مراد الرابع استعادوها سنة 1638م، واستتب لهم الأمر فيها حتى سنة 1917.

تولى حكم بغداد 24باشا في المدة ما بين 1637-1704م، ولذلك لم يكن ثمة متسع من الوقت للولاة للقيام بإصلاحات، وكان الباشا يتمتع بسلطة شبه مستقلة إلا أن سلطة الانكشارية كانت كبيرة، وشهدت إيالة بغداد في بدايات القرن الثامن عشر فوضى إدارية وسيطرة الانكشارية على المدينة وسيطرة البدو على المنطقة المحيطة ببغداد، وفُقد الأمن والنظام الضروريان للتجارة، ولذلك افتتح تعيين حسن باشا عام 1704هـ ثم ابنه أحمد من بعده مرحلة جديدة في تاريخ بغداد، إذ اعتمدا على المماليك لكبح جماح الانكشارية، ووضعا أسس السيادة المملوكية التي استمرت حتى سنة 1831. ونجح حسن باشا في إعادة النظام، وأعاد بناء جامع سراي وألغى الضرائب المفروضة على الوقود والمواد الغذائية، وتابع أحمد باشا سياسة والده مما زاد في مكانة بغداد.

وحينما توفي أحمد باشا سنة 1747، حاولت السلطة في الأستانة أن تعيد سيطرتها المباشرة على بغداد، ولكنها أخفقت لمعارضة المماليك. وفي سنة 1749، كان سليمان باشا أول حاكم مملوكي تولى حكم بغداد، وهو المؤسس الحقيقي لحكم المماليك في العراق، ومن ثم كان على السلطان أن يعترف بمكانتهم وأن يعترف عادة بمرشحهم لحكم بغداد، وأسس سليمان باشا مدارس لتدريبهم وتثقيفهم لخلق نخبة مهيأة للقيادة والأعمال الإدارية فكانوا يتلقون ثقافة أدبية ويُدربون على استخدام السلاح والفروسية والرياضة البدنية وبعض آداب البلاط.

وطد سليمان باشا الأمن والنظام وشجع التجارة، ولكن بغداد تعرضت سنة 1772 لطاعون مريع استمر ستة أشهر فهلك الآلاف وهاجر آخرون، وتوقفت الحركة التجارية، ولكن سرعان ما استعادت بغداد، كما يبدو، نشاطها، فقد كتب شاهد عيان سنة 1774 أن بغداد سوق كبرى لمنتجات الهند وإيران والأستانة وحلب ودمشق، وباختصار فهي مستودع الشرق العظيم.

في سنة 1779 أصبح سليمان باشا الكبير حاكماً لبغداد، فرمم أسوارها الشرقية، وبنى سوراً حول الكرخ وأحاطه بخندق وبنى المدرسة السليمانية وجدد جامع الخلفاء وجامع الفضل والقَبَلانية، وبنى سوق السراجين، ومنع المصادرات وألغى الرسوم لدور العدل والقضاء ومنح القضاة الرواتب.

وجاء داود باشا سنة 1816 بعد مدة من الاضطرابات، فسيطر على القبائل وأعاد النظام والأمن، وأسس معامل للنسيج والسلاح، وشجع الصناعة المحلية، وبنى ثلاثة مساجد كبيرة أهمها مسجد حيدر خانة، وأسس 3مدارس، وبنى سوقاً بالقرب من الجسر، ونظم جيشاً يضم 20ألف جندي، قام بتدريبه ضابط فرنسي، وقد ساعدت إدارته النشيطة على ازدهار بغداد، ولكنه بالمقابل اضطر إلى فرض ضرائب باهظة. وكان من نتيجة الطاعون المريع الذي حدث سنة 1831 والفيضان الذي اجتاح المدينة مع سياسة السلطان محمود الثاني المركزية والإصلاحية أن انتهت سيطرة المماليك مع سقوط داود باشا.

ارتبطت بغداد ابتداء من العام 1831 م حتى نهاية الحكم العثماني مباشرة بالأستانة، ومن أشهر ولاة هذه المرحلة مدحت باشا (1869-1872) الذي أوجد نظام الولايات الحديث، فكان للوالي معاون ومدير للعلاقات الخارجية وكاتب (سكرتير)، وقُسمت الولاية إلى سبعة سناجق يترأسها متصرف، وألغى بعض الضرائب البغيضة. وفي سنة 1869 أسس أول دار للنشر وصدرت أول جريدة وهي «الزوراء» جريدة رسمية تصدر أسبوعياً، واستمرت هذه الجريدة حتى عام 1917. أوجد مدحت باشا كذلك المدارس الحديثة، فأسس مدارس تقنية  وعسكرية ومدرسة إعدادية وأخرى ثانوية، وهدم أسوار المدينة كخطوة نحو التحديث، استمرت حركة الثقافة بعد مدحت باشا، فتأسست أول مدرسة إعدادية للبنات سنة 1899، وافتتحت أربع مدارس إعدادية سنة 1890، ومدرسة لإعداد المعلمين للمرحلة الابتدائية سنة 1900م، وتأسست خمس دور للنشر مابين 1884-1907، وفي سنة 1908 أرسلت بغداد 3ممثلين إلى مجلس النواب العثماني، وفي سنة 1910 بنى ناظم باشا سداً يحيط ببغداد الشرقية لحمايتها من الفيضانات.

ازداد سكان بغداد بانتظام بعد منتصف القرن التاسع عشر، فكان عددهم نحو60ألف نسمة عام 1853، وفي سنة 1900، قُدر عدد السكان بمئة ألف نسمة، وفي سنة 1918 بمئتي ألف نسمة. وكان الرحالة الأجانب يؤخذون بهذا المزيج الكبير من الجنسيات والعقائد والتفاوت في اللهجات، والحرية التي كان يتمتع بها غير المسلمين، من نصارى ويهود والذين كانوا يتكلمون جميعاً العربية، وكانت لكل فئة أحياؤها الخاصة، فالأتراك كانوا يسكنون في الأحياء الشمالية من المدينة، واليهود والنصارى في أحيائهم القديمة شمال وغرب سوق الغازي، ومعظم الفرس كانوا يعيشون في الجانب الغربي، ولكن الكرخ كانت عربية وقد ازداد عدد السكان العرب بدخول العناصر البدوية إليها.

بغداد في العهد البريطاني

دخل البريطانيون بغداد في 11 آذار 1917 إثر انتصارهم على الأتراك، وسرعان ما انصرف الحكم البريطاني إلى مقاومة الثوار العراقيين فاضطر إلى تغيير واجهة الاحتلال بعناوين جديدة بعد ثلاث سنوات إثر قيام «ثورة العشرين» الشاملة في معظم أرجاء العراق، ففرض على أثرها نظام الانتداب البريطاني (1920-1932) وصارت بغداد عاصمة لمملكة العراق منذ ذلك العهد.

لم يكترث البريطانيون للخراب الذي أصاب بغداد، بل أثقلوا كاهل العراقيين بالضرائب لتغطية نفقات الجيش البريطاني في العراق، واستمر الأمر على حاله فأهملت الجوانب العمرانية والتخطيطية للمدينة. لكن الفيضانات، اضطرتهم إلى تعزيز السور القديم الذي صار يعرف باسم «السدة الشرقية» وهو سد ترابي يحمي داخل المدينة من الغرق، في حين تنتشر خارجها أكواخ المهاجرين الفقراء والمستنقعات الآسنة التي تربى فيها الجواميس. كما أنشئت سدود جديدة لحماية بعض مناطق بغداد، مثل البتاوين والعلوية والكرادة الشرقية والزوية ومعسكر الرشيد والرستمية والزعفرانية.

وظلت بغداد في عهد الاستقلال تتطور ببطء شديد حتى منتصف الخمسينات، بعد أن زال عنها خطر الفيضانات، فتسارعت وتأثر توسعها وتطورها، أزيلت السدود الترابية وجففت المستنقعات من حولها، وبدأت ترتسم معالم بغداد الحديثة ومظاهرها الحضارية الجديدة.

فاضل الأنصاري، نجدة خماش


- التصنيف : التاريخ و الجغرافية و الآثار - النوع : سياحة - المجلد : المجلد الخامس، طبعة 2002، دمشق - رقم الصفحة ضمن المجلد : 195 مشاركة :

متنوع

بحث ضمن الموسوعة