يوحنا الذهبي الفم
يوحنا ذهبي فم
John Chrysostom - Jean Chrysostome
يوحنا الذهبي الفم
يوحنا الذهبي الفم
(نحو 347-407 م)
يوحنا الذهبي الفم Johannes Chrysostomos بطريرك القسطنطينية (398ـ403م) وأحد كبار آباء الكنيسة الأرثوذكسية وعلم من أعلامها في اللاهوت والوعظ والخطابة.
![]() |
ولد لأسرة ثرية من علية القوم. كان والده سيكوندس Secundus أحد قادة الجيش الروماني المرابط في سورية، تزوج فتاة أنطاكية تدعى أنتوسا Antosa، وأنجب منها ابنة وولداً سمياه يوحنا، ثم لم يلبث أن تُوفِّي، وترك أرملة شابة في سن العشرين وهبت حياتها لتربية ولديها ورعاية أملاكهما.
ولد يوحنا (لا يعرف بالضبط متى؟ 345ـ349م) في مدينة أنطاكية Antiocheia «لؤلؤة الشرق» التي كانت إلى جانب الإسكندرية عاصمة الثقافة في ذلك العصر، وكان لها ولثقافتها ولاهوتها الأثر الكبير في حياة يوحنا.
تتلمذ وهو في الرابعة عشرة من عمره على الأديب والمعلم والخطيب الشهير ليبانيوس[ر] الأنطاكي Libanios، وأخذ عنه فنون الخطابة و الآداب الإغريقية، وتخرج محامياً، فاشتهر وذاع صيته.
تعمّد يوحنا وهو في سن العشرين، وترك أستاذه الوثني، ولكن ليبانيوس بقي على حبه وتقديره لتلميذه اللامع: «لو لم ينتزعه مني المسيحيون، لجعلته خلفي على مدرسة أنطاكية الخطابية». واختار يوحنا معلماً آخر هو أسقف أنطاكية الذي رعاه، وعهد به إلى أكبر أستاذ في اللاهوت آنذاك وأشهره وهو ديودورُس Diodoros الطرسوسي الذي كان عالماً يفسر الكتاب المقدس تاريخياً وحرفياً حسب تقاليد المدرسة الأنطاكية. وهكذا نشأ يوحنا على يده حتى أصبح أكبر عارف بالكتاب المقدس، وصار علماً من أعلام الخطابة والفضيلة.
كانت حماسته للحياة الرهبانية كبيرة،ً وفكر أن ينقطع عن العالم مع صديقه باسيليوس Basileos، ولكنه قرر أخيراً البقاء إلى جانب أمه الوحيدة ليعيش في بيته عيشة النساك. وفي سنة 375م ترك أنطاكية، وذهب إلى الصحراء بعد أن ماتت أمه، وباع كل ما يملك، ووزعه على الفقراء، وانقطع عن العالم في أحد الأديرة، ثم غادره ليتوحد في إحدى المغاور، ورجع إلى أنطاكية بعد غياب دام ست سنوات وقد نال منه الصوم والسهر والبرد وأصيب بالمرض. عاد لخدمة المجتمع منذ عام 381م، فسيم أولاً شماساً، وعمل على خدمة الفقراء ومساعدة المصابين، ولكنه بدأ ينتقد الكنيسة والأساقفة لانشغالهم بالأمور الدنيوية، ثم رفِّع في سنة 386 إلى درجة الكهنوت، فنقل نضاله إلى مجال الكلمة واعظاً كبيراً وخطيباً مفوهاً. كان يوحنا في الأربعين من عمره عندما تولى الدفاع عن شعب أنطاكية بجرأة كبيرة إبان المحنة التي ألمت بهم سنة 387م عندما حطم الأنطاكيون تماثيل الامبراطور ثيودوسيوس Theodosios وأسرته احتجاجاً على مرسوم بزيادة الضرائب، فأنزل عقاباً شديداً بالمدينة، ونزع عنها كل الامتيازات ليجعل اللاذقية عاصمة الشرق بدلاً من أنطاكية، وأقفلت الملاعب والمسارح وميدان السباق والحمامات، وقد تم بمساعي يوحنا الذهبي الفم وبطريرك أنطاكية إنقاذ المدينة من الدمار.
كانت شهرته قد بلغت القسطنطينية، فأرسل الامبراطور أركاديوس Arcadius ت(395ـ408م) في طلب يوحنا لتعيينه رئيساً لأساقفة العاصمة. واستقبل استقبالاً حافلاً، ودهش من عظمة المدينة وغناها، ورأى البذخ في بلاط الامبراطور والطبقة الأرستقراطية، وصعق عند رؤيته تبرج النساء وزينتهن، وتكرر المشهد في دار المطرانية التي كان يسكنها سلفه.
سيم يوحنا الذهبي الفم أسقفاً في احتفال كبير سنة 398م، عاش بعدها صراعاً مريراً وسيرة استشهاد دامت عشر سنوات. كان أول أعماله أن أزال معالم الترف من مقره الأسقفي حتى أفرغ داره من الأثاث الثمين والأواني الفضية، ووزع ثمنها على الفقراء، وعاش متقشفاً كما كان في أنطاكية. كما ألغى عادة إقامة الولائم الرسمية في قصره، وبدأ بتطهير صفوف «الاكليروس» من الفوضى والفساد، ثم انتقل إلى مهاجمة نساء البلاط والطبقة الأرستقراطية والأغنياء. وهكذا أثار يوحنا بعظاته الجريئة وتدابيره الإصلاحية غضب أساقفة أبناء المجتمع المخملي وكهنته وسيدات القصر ولاسيما الامبراطورة أودوكسيا Eudoxia التي حنقت عليه لتشدده في مهاجمة الترف والفسق والرذيلة. واستغل خصومه هذه الأجواء فعقدوا مجمعاً كنسياً في خلقيدونية عام 403 م برئاسة تيوفيلوس Theophilos بطريرك الإسكندرية، وبمؤازرة الامبراطورة قرروا عزل يوحنا من منصبه أسقف القسطنطينية، فنفي بأمر من الامبراطور، ولكن عندما ضرب في اليوم التالي زلزال عنيف مدينة القسطنطينية أُلغي قرار النفي، ورجع إلى كرسيه الأسقفي، ولكن لعدة أشهر فقط. فقد عاد إلى التنديد بالمساوئ الاجتماعية السائدة، وانتقد إقامة تمثال للامبراطورة مقابل كنيسة أياصوفيا، ووصفها بهيروديا الثانية، فعزمت على التخلص منه، وانبرى تيوفيلوس يذكر أن قرار خلعه مازال قائماً. ونفي في هذه المرة نهائياً إلى قرية منعزلة نائية في أرمينيا تدعى كوكوزا عام 404م، وثار أتباعه الأوفياء من الطبقات الشعبية ثورة عنيفة، أحرقت في أثنائها كنيسة أياصوفيا ومجلس الشيوخ القريب منها. وأرسل يوحنا من منفاه رسائل استغاثة إلى امبراطور الغرب هونوريوس Honorius وإلى بابا روما وأساقفة الشرق والغرب والكهنة، فأمر أركاديوس بنقله إلى منطقة صحراوية نائية، ولكن يوحنا الذي أنهك قواه الحرّ والبرد والمرض والإرهاق مات في الطريق عند بلدة كومانا Comana وقد أتم الستين من عمره بعد حياة حافلة بالزهد والفضيلة والثبات على المبدأ والتصدي لمظاهر الترف والظلم والفساد والدفاع عن الطبقات المسحوقة: «هل في الناس من هم أظلم من الملاّك؟ فأنت إذ نظرت إلى الطريقة التي يعاملون بها مستأجري أملاكهم رأيتهم أشد وحشية من البرابرة، فهم يفرضون ضرائب فادحة لا آخر لها على الذين أنهك الجوع والكدح أجسامهم طيلة حياتهم…».
وفي سنة 438م نقل جثمانه إلى القسطنطينية، التي لم تسمع قبله مواعظ تضارع مواعظه قوة وبلاغة وصراحة، وحضر الاحتفال الامبراطور ثيودوسيوس الثاني بن أركاديوس.
كان يوحنا الذهبي الفم من أغزر آباء الكنيسة تأليفاً، والقسم الأكبر من مؤلفاته يتمثل في المواعظ والخطب الدينية، ومن أشهرها تلك التي ألقيت في أحداث أنطاكية عام 387م، وخطبه في التماثيل وموعظتان قبل نفيه الأول وبعده، كما أن له كثيراً من المواعظ الأخلاقية من وحي أسفار الكتاب المقدس والتي وصل عددها إلى 700 عظة. وترك مجموعة كبيرة من الكتب والشروح حول الحياة الرهبانية والكهنوت ومؤلفاته في التربية والعفة ومقالات ضد يوليانوس والوثنيين واليهود. وبلغت رسائل يوحنا الذهبي الفم نحو 240 رسالة كتبها كلها في المنفى (404-407م)، وتضم رسائل تاريخية ورسائل تعزية وتوصية وسواها، وهي ذات أهمية تاريخية كبيرة لعصره.
أما الطقوس المستعملة اليوم في الكنيسة الأرثوذكسية والمعروفة بطقوس كريسوستموس فلم تكن من تأليفه، وإنما نسبت إليه. وبسبب فصاحته ومقدرته الخطابية وسحر بلاغته ودرر كلماته لقبه معاصروه والأجيال اللاحقة بالذهبي الفم أو فم الذهب.
وفي أثناء الحملة الصليبية الرابعة على القسطنطينية (1204م) نقل رفات القديس يوحنا الذهبي الفم إلى روما، ووضع في كنيسة القديس بطرس بالقرب من ضريحي القديسين بطرس وبولس، وتحتفل الكنائس الغربية والشرقية بعيده في 27 كانون الثاني. وفي سنة 1908 أعلنته الكنيسة شفيع الخطباء المسيحيين. كما أن المجمع الكنسي العالمي في موسكو يمنح وساماً باسمه لمن يسير على نهجه.
وهكذا دخل القديس يوحنا الذهبي الفم التاريخ أشهر واعظ وخطيب مسيحي من أبناء سورية الذين قضوا في سبيل المبادئ التي آمنوا بها.
محمد الزين
الموضوعات ذات الصلة: |
أنطاكية ـ البيزنطيون ـ ليبانيوس.
مراجع للاستزادة : |
ـ ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران، الجزء 21 (القاهرة 1973).
ـ خليل رستم، القديس يوحنا الذهبي الفم، سلسلة إيمان وحياة ـ8 (1983).
- التصنيف : التاريخ و الجغرافية و الآثار - النوع : أعلام ومشاهير - المجلد : المجلد الثاني والعشرون، طبعة 2008، دمشق - رقم الصفحة ضمن المجلد : 585 مشاركة :