logo

logo

logo

logo

logo

ديكنز (تشارلز-)

ديكنز (تشارلز)

Dickens (Charles-) - Dickens (Charles-)

ديكنز (تشارلز -)

(1812-1870)

 

يعد تشارلز ديكنز Charles Dickens واحداً من أكبر الروائيين الإنكليز وأكثرهم شعبية. يجمع في إنتاجه الأدبي الهائل القدرة المتميزة على القصّ والدعابة والتهكم ورسم الصور المثيرة للتعاطف والنقد الاجتماعي الحاد، إضافة إلى دقة الملاحظة في تصوير الأشخاص والأماكن، سواء أكانت واقعية أم متخيلة. ترسم رواياته صوراً بانورامية تعبّر عن تعاطفه مع الضعفاء في المجتمع، وعُرف أيضاً بقراءاته لأجزاء من أعماله على المسرح إذ كان يدفع جمهوره إلى الضحك أو البكاء. وما تزال مؤلفاته تلقى رواجاً واسعاً، فهي تُقرأ وتُدرَّس وتمثّل على خشبات المسرح، وتصور في أفلام ومسلسلات، مما يؤكد التأثير المستمر لإبداعه.

ولد ديكنز في بورتسموث Portsmouth بإنكلترا في أسرة تنتمي إلى الطبقة الوسطى، وقضى معظم سنوات طفولته في لندن ومقاطعة كنت Kent اللتين صورهما في رواياته. بدأ يدرس في سن التاسعة، لكنه ما لبث أن اضطر إلى ترك الدراسة وهو في الثانية عشرة، حين سجن والده بسبب ما ترتب عليه من ديون، فعمل في صنع أصبغة الأحذية في لندن، وكانت في رأيه من أفظع التجارب في حياته، فلقد اتسمت بالوحدة والخوف المستمر، وصورها في روايته «ديفيد كوبرفيلد» David Copperfield  ت(1849-1850) وفي روايات أخرى شخصياتها أطفال يعانون اليتم والفاقة، كما في «أوليفر تويست» Oliver Twist  عام (1838). على الرغم من عودته للدراسة مدة وجيزة بعد تحسن أحوال والده المادية وخروجه من السجن، فقد اعتمد على جهده الشخصي في تثقيف نفسه، فقرأ «ألف ليلة وليلة» ومؤلفات شكسبير[ر] وثربانتس[ر] والعديد من روائيي القرن الثامن عشر الذين يظهر تأثيرهم في كتاباته المبكرة. بدأ في سن الخامسة عشرة العمل في مكتب محاماة، وبعد أن أتقن حرفة الاختزال عمل مراسلاً صحفياً في المحاكم والبرلمان مما أكسبه قدرة على الوصف الدقيق الذي ميّز أسلوبه فيما بعد.

لم تخل حياة ديكنز من المغامرات وخيبات الأمل العاطفية بدءاً من فشله في الزواج من ماريا بيدنل Maria Beadnell ثم زواجه عام 1836 من كاثرين هوغارت الذي كانت نتيجته عشرة أولاد، لكن حياته الزوجية لم تحقق له السعادة لعدم تواؤم الأمزجة فانفصلا في عام 1858، وعلاقته بالممثلة الشابة إيلين تيرنان Ellen Ternan التي دامت حتى آخر حياته. وتضافر كل هذا مع خيبة أمله في أولاده وشعوره بالإحباط مما أدى إلى إصابته بسكتة دماغية توفي إثرها في غادز هِل Gad’s Hill في مقاطعة كنت ودُفن في كنيسة وستمنستر.

نشر ديكنز عام 1833 تحت الاسم المستعار «بوز» Boz الحلقة الأولى من سلسلة صور قلمية وصفية Sketches حول الحياة اليومية في لندن، تلتها حلقات أخرى ما لبثت أن ظهرت في مجموعة حملت عنوان «صور قلمية لبوز» Sketches by Boz. وبدأ بعد ذلك سلسلة أخرى مرفقة بالرسوم، لكنه حولها من مجرد صور قلمية موجزة إلى نوع من السرد الساخر، جمعها فيما بعد في كتاب أطلق عليه عنوان «أوراق بِكويك» Pickwick Papers  عام (1837). لاقت هذه الحلقات شهرة فورية واسعة، وفي حين طبعت أربعمئة نسخة من الحلقة الأولى، فقد طبعت أربعون ألف نسخة من الحلقة الرابعة. وبذلك وفي غضون أربعة أشهر فقط نال ديكنز شهرة واسعة داخل بلاده وخارجها.

حافظ ديكنز على شهرته بإنتاج سيل مستمر من الروايات التي نشرت جميعاً على شكل حلقات في الصحافة الأدبية يصفها بعض النقاد بالكتابة المتسرعة التي يعوزها الترابط، ويأخذون عليه أنه كان يراعي مزاج القراء الآني، نتيجة لردود أفعالهم إزاء كل حلقة. وإضافة إلى الكتابة أظهر ديكنز طاقات ومواهب متعددة، إذ ترأس تحرير عدة صحف أسبوعية وتولى رئاسة عدة مؤسسات خيرية وشارك في نشاطات تستهدف تحقيق إصلاحات اجتماعية وألف كتباً في أدب الرحلات منها «صور من إيطاليا» Pictures From Italy  عام (1846)، وألقى محاضرات أثناء رحلة مطولة قام بها إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1842. وقد هوجم في الصحافة هناك لتعبيره عن اشمئزازه من بعض سمات الحياة الأمريكية، وخاصة فيما يتعلق بالرق والحقوق المدنية، وأعرب لدى عودته إلى إنكلترا عن خيبة أمله، وعبّر عن ذلك في «مذكرات أمريكية» American Notes عام (1842) و«مارتن تشزلويت» Martin Chuzzlewit  عام (1844). إن علاقة ديكنز بأمريكا علاقة حب وكره، فقد كان يراها بلاد أحلامه ويعول عليها الكثير، ولكن في الوقت نفسه هو الناقد الاجتماعي ذو النظرة الثاقبة الذي يكتشف الظلم والفظاظة في مجتمع يدعي التحضر والمساواة بين أفراده.

نشر ديكنز في عام 1843 قصة للأطفال بعنوان «ترنيمة عيد الميلاد» Christmas Carol نالت شهرة استمرت مع مرور الزمن، فواصل الكتابة حول هذا الموضوع حتى عام 1867، وكانت كتاباته هذه تنال شعبية فورية. كما ترأس فرقة مسرحية ظلت تمثل لسنوات، وقدمت عروضها أمام الملكة فكتوريا عام 1851. وفي أواخر حياته دأب على قراءة أجزاء من أعماله أمام الجمهور في إنكلترا والولايات المتحدة، وقد ساعد على نجاحه في هذا النشاط مواهبه التمثيلية وحبه للمسرح واعتزازه بتجاوب الجمهور معه.

تطورت روايات ديكنز من قصص ساخرة مبنية على شخصية مركزية إلى أعمال وثيقة الصلة بعصره، فقد أظهر اهتماماً واضحاً بمشكلات المجتمع الحديث كما في «أوليفر تويست» التي صب اهتمامه فيها على تصوير الشر في الحياة الاجتماعية مع حفاظه على الروح المرحة التي يتميز بها، وكان أول من رسم في كتاباته صوراً دقيقة عن الحياة اليومية في المدن. وبالرغم من أنه رسم وجهاً ضاحكاً لعالم مأساوي، إلا أنه لم يستطع أن يخفي خيبة أمله في مجتمع الثورة الصناعية. وكانت رواية «دومبي وابنه» Dombey and Son  ت(1846-1848) حاسمة في تطوره الفكري كروائي جاد يبحث عن الإجابة على الأسئلة الوجودية الكبرى في الحياة. كما صور فساد النظام القضائي في روايته «بيت كئيب» Bleak House  عام (1853) التي يعدها بعض النقاد درة أعماله وإن لم تكن أكثرها شعبية. وعالج تجربة السجن عبر أبطال روايتيه «الأوقات الصعبة»Hard Times  عام (1854) و«دوريت الصغيرة» Little Dorrit  عام (1857)، وحالة الفوضى التي عمت إبان الثورة الفرنسية في «قصة مدينتين» A Tale of Two Cities  عام (1859). وعبّر في روايتيه الأخيرتين «الآمال الكبيرة» Great Expectations  عام (1861) و«صديقنا المشترك» Our Mutual Friend  عام (1865) عن توتره وخيبة أمله.

قال ديكنز في إحدى المناسبات إنه كان يشكل في خياله صورة لمشهد ما، بحيث يزاوج بين الصورة وما ينسجه خياله. وقيل عنه إنه يصور لندن للأجيال القادمة بنظرة حادة دقيقة الملاحظة، تهتم بالتطورات الاجتماعية والسياسية بلغة بسيطة سهلة المنال. وتعبر كتاباته في خمسينيات القرن التاسع عشر عن قنوط ويأس شديدين بسبب الأوضاع السياسية والاجتماعية الراهنة، إذ صار التهكم أكثر قسوة والنهايات السعيدة أقل ظهوراً. أما من الناحية الفنية فقد كانت رواياته الأخيرة أكثر تماسكاً، وحبكتها أشد التصاقاً بالموضوع. ويتسم أسلوبه بغزارة الصور المتخيلة والرموز، كما يخضع رسم الشخصيات فيه أكثر فأكثر للهدف العام فتصير أكثر تعقيداً.

ليس هناك مفتاح سهل يمكن به فتح مغاليق مثل هذا الفنان الغزير الإنتاج المتعدد المواهب، فرواياته تغطي مساحة واسعة من القضايا الاجتماعية والأخلاقية والعاطفية والنفسية. وعلى الرغم من أنه يضع الناس العاديين محل اهتمامه الأساسي، فإنه يركز على الحالات الشاذة التي تصور غرابة الأطوار وفساد الأخلاق والجنون والهلوسات والأحلام.

ظلت روايات ديكنز الأولى أكثر شعبية، وظل نقاده يعترضون في أول الأمر على رواياته المتأخرة، مستهجنين فقدانها روح الدعابة ولجوءها المتزايد إلى الصور الرمزية والمتخيلة. ومع أن الكاتب لم يوضع قط في زاوية النسيان ولم يفقد شعبيته، غير أنه لم يلق اهتماماً لافتاً في السنوات السبعين التالية لوفاته، وأخذ بعض النقاد يصفون كتاباته بأنها مجرد كتابات كاريكاتورية سريعة. ولم يهتم دارسو السير الشخصية به حتى منتصف القرن العشرين، حين أخذوا يعيدون تقييم أعماله ويكشفون مدى عمقها وتميزها، ليتوصلوا إلى أنه لم يكتب لعصره فحسب بل لكل العصور. وأظهرت الذكرى المئوية لوفاته عام 1970 توافقاً بين النقاد على أن مكانة ديكنز في الرواية تعادل مكانة شكسبير في المسرح، وقد قورن به فيما يتعلق بسعة الخيال والطاقة الإبداعية، فهما ينفردان بما خلّفاه للعالم من أعمال كثيرة تتمتع بالشعبية على عكس عدد من الأدباء المرموقين الذين قامت شهرتهم على عمل واحد. فالشخصيات الخالدة التي ابتكرها ديكنز متفردة، كما هي لدى شكسبير. ومن أحب الشخصيات لدى القراء الطفل المقعد تيم الصغير Tiny Tim في مواجهة البخيل سكرودج Scrooge، الذي ينقلب سلوكه رأساً على عقب لتأثره بمعنى الأعياد، في «ترنيمة عيد الميلاد»، وأوليفر في «أوليفر تويست»، ونِل الصغيرة Little Nell المريضة في «دكان التحف القديمة» The Old Curiosity shop عام        (1841) التي كان القراء يتابعون مصيرها من حلقة إلى أخرى برهبة وشوق كبيرين، وكان الأمريكيون منهم ينتظرون على رصيف الميناء في نيويورك لتقصي أخبارها من المسافرين القادمين من إنكلترا، وكذلك شخصيات ديفيد كوبرفيلد David Copperfield  ت(1849-1850) ونِكولاس نِكلبي Nicholas Nickleby  عام         (1839) وبيب Pip في «الآمال الكبيرة»، التي تتضمن الكثير من شخصية المؤلف نفسه ويمكن عدّها سيرة ذاتية، وتعاني هذه الشخصيات العوز والاضطهاد في طفولتها ثم تتطور إلى شخصيات ناجحة في حياتها العملية ولكن على حساب سعادتها.

عاش ديكنز في عصر شهد تحولات حاسمة، وكان قادراً على تمثيل عصره وتسلية قرائه في آن معاً فترك أثراً واضحاً في جيله والأجيال التالية. 

حصة منيف

الموضوعات ذات الصلة:

الإنكليزي (الأدب ـ) ـ الرواية.

مراجع للاستزادة:

- ANGUS WILSON, The World of Charles Dickens (1970).

- E. JOHNSON, Charles Dickens. His Tragedy and Triumph, 2vol (New York 1925).

- J. GROSS &G. PEARSON, Charles Dickens And The 20th Century (London 1962).

- ROBERT GARIS, The Dickens Theatre (1965).

- STEPHAN ZWEIG, Trois Maîtres: Dostoïevski, Balzac, Dickens (Grasset 1949).

 


التصنيف : الآداب الجرمانية
النوع : أعلام ومشاهير
المجلد: المجلد التاسع
رقم الصفحة ضمن المجلد : 548
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1096
الكل : 40515906
اليوم : 45721

تقي الدين محمد بن معروف

تقي الدين محمد بن معروف (نحو 932 ـ 993هـ/1525 ـ 1585م)   تقي الدين محمد بن معروف بن أحمد، عالم فلكي، وراصد رياضي ومهندس ميكانيكي، اشتهر أوائل الحكم العثماني. ورد اسمه كاملاً ومدوناً بخط يده على مخطوط له عنوانه «الطرق السنية في الآلات الروحانية». يرجع في نسبه إلى الأمير ناصر الدين منكويرس، ابن الأمير ناصح الدين خمارتكين. أشارت معظم المراجع إلى أنه من مواليد مدينة دمشق، ثم انتقلت أسرته إلى مصر، حيث استقرت فيها. نشأ تقي الدين في بيت علم ودين، فقد كان والده قاضياً في مصر. ودرس هو علوم عصره، وأصبح قاضياً مثل أبيه. تحدث عن نفسه في أحد مؤلفاته، وهو «سدرة منتهى الأفكار في ملكوت الفلك الدوار» فقال: «ولما كنت ممن ولد ونشأ في البقاع المقدسة، وطالعت الأصلين «المجسطي»، و«كتاب إقليدس في الأصول» أكمل مطالعة، ففتحت مغلقات حصونها، بعد الممانعة والمدافعة. ورأيت ما في الأزياج المتداولة (الجداول الفلكية) [ر] من الخلل الواضح، والزلل الفاضح، تعلق البال والخلد بتجديد تحرير الرصد». وهذا يدل على أن تقي الدين قد اطّلع على الكتب العربية التي وردت فيها الأرصاد والحسابات الفلكية والأزياج فسعى لإصلاحها. واستخرج زيجاً وجيزاً مستعيناً بأبحاث أَلُغ بك، كما ذكر في كتابه «الدر النظيم في تسهيل التقويم». ويبدو من أقوال تقي الدين، التي وردت في كتابه «الطرق السنية في الآلات الروحانية» أنه زار اصطنبول، مع أخيه عام 953هـ/1546م. وربما كان ذلك بحكم وظيفته، أو رغبة في طلب العلم.  وفي تلك المدينة قام بمشاركة أخيه بتصميم آلة لتدوير سيخ اللحم على النار، فيدور من نفسه من غير حركة الحيوان. عمل تقي الدين في خدمة الوالي علي باشا، الذي كان يحكم مصر من قبل السلطان سليمان القانوني، بدءاً من عام 956هـ/1549م. فأهداه كتابين من مؤلفاته وهما «الطرق السنية في الآلات الروحانية»، و«الكواكب الدرية في البنكامات الدورية». وجاء في كتاب «كشف الظنون» أنه في عام 975هـ/1568م ألف تقي الدين كتاب «ريحانة الروح في رسم الساعات على مستوى السطوح» في قرية من قرى نابلس. ثم شرحها العلاّمة عمر بن محمد الفارسكوري شرحاً بسيطاً بإشارة من المصنف، وسماها «نفح الفيوح بشرح ريحانة الروح»، وفرغ منها في ربيع الأول 980هـ، ولها ترجمة إلى اللغة التركية موجودة نسخة منها في المكتبة الظاهرية بدمشق. رحل تقي الدين بعد ذلك إلى اصطنبول، حيث تقرّب من الخواجه سعد الدين، معلّم السلطان، وصار من خواصه الملازمين. ونظراً لبراعة تقي الدين في العلوم الفلكية دعمه الخواجه سعد الدين ليكون رئيساً للمنجمين في أواخر حكم السلطان سليمان، وكان ذلك عام 979هـ/1571م. كان تقي الدين يرغب في إنشاء مرصد في اصطنبول، على غرار مرصد مراغة، الذي أنشأه أَلُغ بك، لذلك قدّم تقريراً للسلطان، عن طريق الصدر الأعظم محمد باشا، ووساطة الخواجه سعد الدين، وشرح في تقريره أن الجداول الفلكية الموجودة صارت غير قادرة على إعطاء معلومات صحيحة، لذلك صارت الحاجة ملحة لعمل جداول فلكية تستند إلى أرصاد جديدة. استجاب السلطان لطلب تقي الدين، وبدأ بإنشاء المرصد أوائل عام 983هـ/1575م، وانتهى بناؤه وتجهيزه بالأجهزة والأدوات بعد ذلك بعامين. وحدث في ذلك الوقت ظهور مذنب في سماء اصطنبول، ولما شاهده تقي الدين في مرصده تقدم بالتهنئة للسلطان، متنبأ له بالنصر على الفرس، الذين كانوا في حرب مع الدولة العثمانية. وقد تحقق ذلك النصر، لكنه لم يكن مجرداً من الخسائر الفادحة. كما أن وباء الطاعون انتشر انتشاراً واسعاً في ذلك الوقت. فانتهز الفرصة قاضي زاده شيخ الإسلام هو وجماعته المنافسون للصدر الأعظم وللخواجه سعد الدين، وشنوا حملة معادية لإنشاء المرصد، ونجحوا بإقناع السلطان بهدمه، فتم لهم ذلك في عام 1580م. كان السلطان مراد قد كافأ تقي الدين، عقب إنشائه المرصد، فمنحه راتب القضاة، كما منحه قطائع درت عليه دخلاً كبيراً. إلا أن هدم المرصد كان له تأثير سيء في نفس تقي الدين، وقد توفي بعد ذلك بخمس سنوات، ودفن في مدينة اصطنبول. كان تقي الدين، كما يقول عن نفسه، في كتابه «الكواكب الدرية في البنكامات الدورية»، مغرماً منذ حداثته بمطالعة كتب الرياضيات، إلى أن أتقن الآلات الظلية والشعاعية علماً وعملاً، واطلع على نسب أشكالها وخطوطها. كما اطّلع على كتب الحيل الدقيقة والميكانيك، ورسائل علم الفرسطون والميزان وجر الأثقال. وكان يتقن معرفة الأوقات ليلاً ونهاراً، معتمداً على عدة أشكال من الآلات، وخاصة البنكامات الدورية (الساعات). وقد دوَّن فن الساعات الميكانيكية ومبادئها، وذكر عدداً من الآلات التي اخترعها. ولكي يبرهن على مدى تقدمه في العلوم الرياضية، ورغبته في نشر المعرفة، وضع عدة مؤلفات، منها رسالة «بغية الطلاب في علم الحساب»، وكتاب في الجبر عنوانه «كتاب النسب المتشاكلة». وكتاب في الفلك عنوانه «سدرة منتهى الأفكار في ملكوت الفلك الدوّار». وسجل في كتابه الأخير المشاهدات الفلكية التي حققها في مرصد اصطنبول. ووصف الآلات التي استعملها فيه، وماكان منها من مخترعاته، محتذياً في ذلك حذو العلامة نصير الدين الطوسي الذي كان يعدّه المعلم الكبير. كان تقي الدين وافر الإنتاج العلمي، قام بتصنيف عدد من الرسائل والكتب، ولما يزل أكثرها مخطوطات محفوظة في عدة مكتبات عالمية. وفي عام 1976 قام أحمد يوسف الحسن بتحقيق ودراسة مخطوط «الطرق السنية في الآلات الروحانية»، ونشره مصوراً في كتاب عنوانه «تقي الدين والهندسة الميكانيكية العربية»، وبين بالرسم والشرح شكل وعمل الآلات التي وردت في هذا الكتاب، وقال: «إن أهمية كتاب الطرق السنية في أنه يكمل حلقة مفقودة في تاريخ الثقافة العربية، وتاريخ الهندسة الميكانيكية». أما موضوعات الكتاب فتشمل مقدمة وستة أبواب. تكلم تقي الدين في مقدمة هذا الكتاب على الآلة المعروفة بحق أو علبة القمر، وهي مشابهة في تركيبها للساعات الميكانيكية. وفي الباب الأول: تكلم على أربعة أصناف من البنكامات، وهي ساعات رملية أو مائية، مما عرفه العرب في مطلع حضارتهم. وفي الباب الثاني: ذكر ثلاث آلات لجر الأثقال. وفي الباب الثالث: وصف أربع آلات لرفع الأثقال ومثلها لرفع الماء. وفي الباب الرابع: تكلم على عمل آلات الزمر الدائم والنقارات (ثلاثة أنواع) والفوارات المختلفة الأشكال (أربعة أنواع). وفي الباب الخامس ذكر أنواعاً شتى من آلات طريفة (أحد عشر نوعاً). وفي الباب السادس: وصف لسيخ اللحم الذي يدور بصورة آلية على البخار.   محمد زهير البابا   مراجع للاستزادة:   ـ بنو موسى بن شاكر، الحيل، تحقيق أحمد يوسف الحسن (معهد التراث العلمي العربي، حلب). ـ تقي الدين، الطرق السنية في الآلات الروحانية، تحقيق أحمد يوسف الحسن (معهد التراث العلمي العربي، حلب).
المزيد »