logo

logo

logo

logo

logo

القبطي (الفن-)

قبطي (فن)

Coptic art - Art copte

القبطي (الفن ـ)

 

الفن القبطي Coptic art هو الفن المصري في العهد المسيحي، ويشتمل على أعمال متعددة الشخصية لعدم وجود فصل بين «الفن» art، و«الحرفة» craft في الفترة المسيحية الأولى. أما تسمية «القبطي» فهي نسبة إلى كلمة «قبط» المشتقة من التسمية الإغريقية (إيغيبتوس) لأرض الفراعنة.

مصادر التأثير الأولى

القديس منا

القديس يوسف النجار

تأثر الفن القبطي بمصدرين رئيسين: العالم الكلاسي أي (الهيلّيني Hellenic)، وعالم مصر القديمة. وصُورت موضوعات الفن بالأسلوب اليوناني Greek style، أو بتأثير الفن الكلاسي المباشر؛ وتشتمل على حجارة منحوتة لها أجنحة النصر، أو كيوبيد (إله الحب عند الرومان Cupid) يحمل إكليل الغار وأغصان الكرمة مع باخوس Bacchus، وأفروديت Aphrodite، وليدا Leda، ونُصب تحمل مزيجاً مصرياً ويونانياً، وهي تمثل نحتاً نافراً على ألواح خشبية استعملت عناصر تزيين على جدران الكنائس. وأوضح مثال على تأثير مصر القديمة، البلاطات الجنائزية التي وُجدت بأعداد كبيرة في أنحاء مصر كافة.

إضافة إلى التأثيرات المصرية اليونانية، تأتي التأثيرات الفارسية، والبيزنطية، والسورية حين احتلال زنوبيا للإسكندرية (269ـ273م)، حتى بدا هذا الفن مزيجاً خاصاً. وخير ما يُقال في هذا الصدد أن الفن القبطي فن يتميّز من فن أنطاكية والقسطنطينية وروما.

تطور الفن القبطي

المسيح يحمي القديس مينا

 

رؤيا يوحنا

يمكن أن تُشاهد بوضوح مختلف القوى المؤثرة في تطور الفن القبطي، بالاطلاع على أديرة وادي النطرون. فقد تأثرت هذه الأديرة في القرنين الرابع والخامس بالشقاق بين الرهبان الملكيين، والرهبان الأقباط. واستمر الرهبان الملكيون يديرون الأديرة حتى قدوم الفتح الإسلامي إذ عاد الرهبان الأقباط إلى استلام زمام الأمور من جديد. وقد تعرضت هذه الأديرة لغزوات البدو بدءاً من القرن الثامن حتى القرن الحادي عشر. ورمم الفاطميون أديرة الأقباط في وادي النطرون بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر، واستعانوا على ذلك بحرفيين محليين كان جلّهم من الأقباط لتوسيع مدينة القاهرة وتزيينها. ولذلك حين يقوم أحدهم بزيارة أديرة وادي النطرون، عليه أن يضع في حسبانه، أن بعضاً من اللوحات الجدارية صُوّر بإشراف الرهبان الملكيين، وبعضها الآخر بتوجيهات من الرهبان الأقباط.

الحرفة craftsmanship

حين دراسة الأعمال الفنية الموجودة في متحف القاهرة القبطي، وفي متاحف قبطية أخرى في أرجاء المعمورة كافة، وفي المراكز الرهبانية، ينجلي للدارس في الحال أنه أمام عمل بالغ التعقيد أنتجه حرفيون مهرة.

كان لمصر تقليد متبع من المعلمين الحرفيين في شتى أنواع الحرف، وعملوا عبر تاريخ مصر القديمة بتوجيه مشرفين محترفين أكفاء قادرين على التمييز بين الجيد والنافل، والمحافظة على المستوى المطلوب. وكان هؤلاء المعلمون يتنقلون بين أرجاء الامبراطورية إبَّان حكم روما لمصر؛ فقد عملوا في الإسكندرية، واستُقدموا إلى روما والقسطنطينية. ومن أعمالهم المنحوتة: خوذة في متحف فيزبادن Wiesbaden، نُحتت مع أبي الهول، وأسطورة النيل الأب، وصندوق صغير في المتحف البريطاني يُظهر شخصاً قبطياً تقليدياً يمثّل القديس «منا» Mena. وكانوا يشرفون أيضاً على أعمال شديدة التعقيد، وما الزخارف التي وجدت في دير السوريين في وادي النطرون إلا دليل بيّن على ذلك.

النسيج weaving

كان النسيج في الفترة المسيحية الأولى من الكتان أو الحرير؛ والنسيج القبطي الذي تطور وصار أجمل الفنون القبطية، يشتمل على سجاجيد حائطية، وأغطية وستائر إضافة إلى الأثواب المزركشة. وتظهر الموضوعات المنسوجة تنوعاً كبيراً يتضمن الأفكار الكلاسية، واليونانية المصرية مثل: كيوبيد الحب النابض بالحياة، والصبايا اللواتي يرقصن وهن يمتطين ظهور الوحوش البحرية. وتضم أيضاً مشاهد من الإنجيل مثل العذراء تعتلي حماراً وتمسك بالطفل يسوع. وبعد أن صارت القسطنطينية عاصمة للامبراطورية، ازداد إنتاج النسيج وازداد ثراءً بإضافة الأفكار البيزنطية والفارسية. ومعظم ما كان يحاك من الألبسة هو التيونيك (لباس يوناني وروماني طويل يحزم بحزام في الوسط)، وهو من الكتان غير المصبوغ ومزين بشرائط منسوجة. كما حاك الأقباط نسيجاً خاصاً بالمسلمين بعد الفتح في القرن العاشر، وأدخلوا عليه الكتابة الكوفية.

الرسم التوضيحي illustration

تنقسم المخطوطات القبطية إلى خمسة أقسام: الكتابة باليونانية، والكتابة بالإغريقية والقبطية، والكتابة بالقبطية، والكتابة بالقبطية والعربية، وأخيراً الكتابة باللغة العربية مترجمة إلى اللغة القبطية.

وكانت الكتابات الدينية في العهد المسيحي تكتب على ورق البابيروس، أو على الرق. وتكتب النصوص بالأسود، وبالأحمر تُكتب العنوانات وبدايات الفصول. كما زُين كثير من النسخ بتصاميم ذات ألوان برّاقة فيها شخوص الشهداء والقديسين والحواريين والملائكة، إضافة إلى الطيور والحيوانات وأوراق النباتات بتصاميم هندسية.

الصور الشخصية portraits

سيدة تحمل الصليب

ليس ثمة حركة مسيحية أخرى، في بداية المسيحية، لها مثل ما للفن القبطي من الوافر العددي من صور الأشخاص الذين منحوا أوسمة الشرف في بلدانهم. فشهداء مصر وقديسوها وبطاركتها ونسَّاكها وزهادها قد استلموا شهادات امتياز في مصر، وأعمالهم البطولية ومكابداتهم، أو عجائبهم؛ حولت جميعها إلى كلمات في أغان، وصُورت صورهم على جدران المعابد القديمة التي تحولت إلى مصليات (كنائس صغيرة) وكنائس. وكانت وضعية الأشخاص إن في اللوحات، أو في الحفر على الخشب، أو في النسيج المزدان بالرسوم، تظهر من الأمام وتواجه المشاهد بوجوه رصينة هادئة، وبعمق في التعبير ذي قيمة مثالية؛ فالعيون اللوزيَّة المؤطرة التي تبعث ذكرى ألواح باويت Bawit، وألواح الفيّوم الخشبية المصورة التي تعود إلى القرن الأول والثاني، والتي كانت توضع فوق رأس الميت، وتُحزم بأربطة المومياء.

اللوحات paintings

من الملائم إنهاء هذه القائمة من أشكال الفن القبطي باللوحات القبطية التي هي فن حقيقي يقابل - كما يُقال اليوم- الحِرَف. وقد كشفت اللوحات الحائطية عن فن غير معقد، ذي أسلوب بسيط، وعن فن دقيق مصقول ومتطور. فالأول ظهر في سني المسيحية الأولى حيث حوِّلت المعابد القديمة إلى كنائس، وصُورت فوقها الموضوعات المسيحية على قاعدة من جص. وقد بقيت هذه اللوحات في بعض الأمكنة في مصر مثل: دير القديس سمعان في أسوان، والدير الأبيض في سوهاج، والحرم الأثيوبي (المكان الذي يقوم فيه الكهنة بشعائر الصلاة) للقديسة تقلا هيمالوط في الكنيسة المعلقة في القاهرة القديمة.

أحب الأقباط اللون البرَّاق الصافي، وكانوا موهوبين جداً في مزج الأصباغ المختلفة مع المسحوق الصخري. وكانوا يستعملون غالباً بياض البيض وسيطاً للجمع بين هذه الأصباغ.

وهناك الأيقونات icons، وصور الشخصيات المقدسة التي صُوِّرت على ألواح خشبية wooden panels. وقد سمحت الكنيسة بتصوير الموضوعات المقدسة، التي تساعد المؤمن على فهم المسيحية، ولاسيما المشاهد التي تصور ميلاد المسيح\ the nativity والعذراء والطفل والحواريين Apostles وحياة القديسين. ويقول المؤرخ العربي المقريزي: «علق البابا سيريل الأول الأيقونات في كل كنائس الإسكندرية في عام 420م، وقضى بأن تُعلق في الكنائس الأخرى في أرجاء مصر كافة كما في الإسكندرية».

في أقدم تطور لتصوير الأيقونة، كان الفنانون يرسمون على اللوح الخشبي مباشرة؛ ولكنهم غطوا، فيما بعد، الألواح بطبقة رقيقة ناعمة من الجص فاستطاعوا أن يحفروا الخطوط التي يرسمونها ليضبطوا سيل الذهب السائل. وثمة حكاية تقول: إن اللوحة الواحدة كان يصورها أكثر من فنان ماعدا الوجه الذي كان يصوره المعلم.

ازداد تحول فن الأيقونة في مصر نحو سورية وفلسطين في القرن الخامس الميلادي. وبدأ شهداؤها وقديسوها يظهَرون بمظهر ملوكي رسمي كما في الفن السوري.

وبعد قرون قليلة تلت الفتح الإسلامي لمصر (القرن الهجري الأول/القرن السابع الميلادي)، فقدت اللوحات ميزتها القبطية تدريجياً. وبلغ هذا الأمر غاية وضوحه في القرن الثالث عشر حين بدأ فن نسخ اللوحات المرسومة على ألواح خشبية، وبدأت المنمنمات.

وتحول الفنانون، بحلول القرنين السابع عشر والثامن عشر، أمثال جون النسِّيخ، وبغدادي أبو السعد، وجون الأرمني، الذين كانوا من أعظم مصوري الأيقونات في مصر، إلى فن الأيقونة السوري، واليوناني ليكونا مصدر إلهامهم. وأخيراً كلف القبط الفنان اليوناني أناستازي Anastasi تصوير كثير من الأيقونات المعلقة اليوم في كنائس القاهرة القديمة.

تاريخ الفن القبطي

كانت دراسة الفن القبطي حقلاً مهملاً مدة طويلة. وترجع أسباب هذا الإهمال إلى التنقيبات الأولى التي لم تول أهمية للآثار المسيحية. فمن المدهش حقاً، أن شامبوليون Champollion عالم الآثار الفرنسي مكتشف اللغة الهيروغليفية، قد اكتشف هناك في مدينة حبو Habu كنيسة من القرن الخامس الميلادي؛ ولم يأت على ذكرها في تقريره الرسمي. وفي أماكن المعابد المصرية القديمة التي حوِّلت إلى كنائس، ورسمت على جدرانها اللوحات الجدارية ذات الموضوعات المسيحية؛ قد أزيلت لأنها تغطي النحت النافر المصري القديم.

وأول شخص عني بالفن القبطي، وبذل الجهد للحفاظ عليه، هو عالم الآثار الفرنسي غاستون ماسبيرو Gaston Maspero، مما شجع العلماء المصريين على إجراء تنقيبات جادة نتج منها الحفاظ على بقايا دير القديس أبولو Apollo في باويت Bawit الذي يبعد عشرة أميال عن أسيوط في الجنوب الغربي منها، وعلى دير القديس يريمياس Saint Jeremias في هضبة سقارة. وقد تأسس بعد ذلك عام 1910 المتحف القبطي في القاهرة الذي ضم مجموعة ثرة من الآثار الفنية.

بطرس خازم

 الموضوعات ذات الصلة:

 

المصري القديم (الفن ـ).

 

 مراجع للاستزادة:

 

ـ نعمت إسماعيل علام، فنون الشرق الأوسط في الفترات الهيلينستية ـ المسيحية ـ الساسانية (دار المعارف، القاهرة 1980).


التصنيف : العمارة و الفنون التشكيلية والزخرفية
النوع : عمارة وفنون تشكيلية
المجلد: المجلد الخامس عشر
رقم الصفحة ضمن المجلد : 219
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1087
الكل : 40497026
اليوم : 26841

الإنكماش الإقتصادي

الانكماش الاقتصادي   الانكماش الاقتصادي deflation حالة تنتاب الحياة الاقتصادية نتيجة سياسة متعمدة في غالب الأحيان، يميل معها مستوى الطلب الكلي ليغدو أدنى من مستوى العرض الكلي، مما يؤدي إلى تقليص الفاعليات والتداول النقدي، وارتفاع قيمة العملة الوطنية وكلفة القروض، مع ميل مستوى الأسعار والأجور نحو الانخفاض. ومهما بدا هذا التعريف شاملاً فإنه لا يستطيع أن يحيط وحده بجميع أوجه الانكماش الاقتصادي. التطور التاريخي لمفهوم الانكماش إن مصطلح الانكماش حديث في الفكر الاقتصادي مثل مصطلح التضخم[ر] inflation. ففي المرحلة التي غلبت فيها المدرسة الكلاسيكية كان الانكماش ملحوظاً بوصفه نوعاً من الكساد الاقتصادي depression يحدث مؤقتاً بانتظار عودة التوازن العفوي بين العرض والطلب، أي بين الإنتاج والاستهلاك إلى حالته الطبيعية. لكن دخول الاقتصاد الرأسمالي في أزمات دورية منذ عام 1825 لفت النظر إلى ظاهرة الانكماش بوصفها وجهاً من أوجه الأزمة يظهر قبل الركود. وكان التضخم الذي لحظه الاقتصادي جان بودان في القرن السادس عشر قد غدا في القرن التاسع عشر مألوفاً. ولما دخل التضخم في الأدبيات الاقتصادية باسمه الإنكليزي المشار إليه أعلاه باتت كلمة الانكماش تعني عملية مقصودة لإزالة التضخم. وقد ارتبط مفهوم الانكماش بمفهوم التضخم ارتباطاً وثيقاً، لكنه بقي ارتباطاً وحيد الطرف، فالانكماش حلٌ للتضخم، في حين لا يقول أحد بأن الانكماش يجد حلّه في التضخم، بل في عودة التوازن. مع ذلك، فإن الانكماش حالة يمكن أن تصيب الاقتصاد على نحو عفوي. وهو يثير في الفكر الاقتصادي جملة من التعاريف، وتكمن صعوبة تحديده في طبيعته، وفي كونه مقصوداً أو غير مقصود، وخاصة عندما يختلط بغيره من الظواهر النقدية والاقتصادية. مهما يكن الأمر فإن الحدود التي يمكن حصر الانكماش فيها هي حدود العرض والطلب الكليين: كلما نزع الأول نحو الارتفاع نسبة إلى الثاني كان هناك انكماش، والعكس في التضخم، بغض النظر عن الأسباب التي أدت إلى ذلك. ومن هنا أيضاً كان الانكماش أمراً ملحوظاً في كل الاقتصاديات، رأسمالية كانت أم اشتراكية أم نامية. ففي الرأسمالية يمكن ملاحظة الانكماش، مثلاً، عندما يفقد اقتصاد السوق توازنه بعد بلوغه نقطة التشغيل الكامل بمفهوم الاقتصادي البريطاني كينز Keynes، كما يظهر كلما ارتسمت علامات التشاؤم على الحياة الاقتصادية نتيجة لإلغاء احتمالات الربح أو الإفلاس في المشروعات أو تعطيل عوامل الإنتاج أو زيادة نفقات الإنتاج. وفي الاشتراكية، يظهر الانكماش نتيجة تحديد أهداف للخطط الاقتصادية قاصرة عن استخدام جميع الموارد المتاحة أو لأن الإنفاق الإجمالي أقل من قيمة الناتج الإجمالي. أما في البلدان النامية، فيمكن أن يظهر الانكماش ردة فعل للسياسة الهادفة إلى رفع معدلات التنمية بأساليب تضخمية، مما لا تستجيب له البنية الاقتصادية الاجتماعية، فيقع الانكماش. الانكماش والركود يختلف الانكماش عن الركود Stagnation في أن الأول، وإن اتسم بتباطؤ الفاعليات، ينتظم في مجموعة من التدابير التي من شأنها إعادة التوازن إلى الاقتصاد، أمّا الركود فهو حالة تجتاح الاقتصاد فيصاب بانخفاض الإنتاج فارتفاع الأسعار ووقوع البطالة، وتنعكس آثار  ذلك كله على الحياة الاجتماعية. وقد يختلط الركود بالتضخم فيدعى آنذاك بالركود التضخمي Stagflation وهي الحالة التي تسيطر اليوم على اقتصاديات الدول الرأسمالية، إذ يقترن التضخم النقدي بالركود الاقتصادي. وإذا كان الانكماش هو الوجه الآخر للتضخم، فإن الركود هو الوجه الآخر للازدهار Prospérité. لكن لابد من الإشارة أيضاً إلى أن الانكماش، حينما يستوطن، يؤدي إلى الركود ومن هنا جاءت بعض الالتباسات في تحديد كل منهما. الانكماش النقدي باستثناء بعض الحالات النادرة التي كانت تقع فيما يعرف بالاقتصاديات الاشتراكية، إذ قد يحصل الانكماش النقدي نتيجة لتقديرات خاطئة غير مقصودة تقلل من تدفقات الكتلة النقدية مقارنة بالتدفقات السلعية، فإن الانكماش النقدي لا يكون إلا نتيجة لسياسة نقدية متعمدة تهدف إلى تقليص الكتلة النقدية المتداولة وتصل إلى حدود ما يسمى بالبزل النقديPonction Monétaire. وهذا البزل النقدي هو بقصد كبح جماح الأسعار أو إجبارها على الانخفاض بفعل التقليص القسري للكتلة النقدية. وتملك الدولة، من أجل ذلك، عدداً من الوسائل أهمها: الإقلال من الإصدار النقدي وسحب بعض فئات العملة من التداول، مما يرفع، في كل الأحوال، من قيمة العملة الوطنية وينعكس في انخفاض الأسعار. وتقوم التغطية في ضبط الإصدار النقدي وتعريف الوحدة النقدية بطريقة سليمة لتحقيق الاستقرار النقدي. لذلك تحرص الدولة على هذه التغطية حرصها على استقرار أسعار عملتها. قامت بلجيكة في الأعوام 1944-1946 بعملية انكماشية جمدت بها الأوراق النقدية والحسابات المصرفية، وقد أدى ذلك إلى استقرار التداول النقدي وازدياد القوة الشرائية بنسبة نمو الإنتاج وإلى انخفاض الأسعار. وأجرت ألمانية الاتحادية عام 1948 إصلاحاً نقدياً حدّت به من التدفقات النقدية المرتفعة في اقتصادها بتحويل المارك، عملة الرايخ القديمة، إلى دوتش مارك بنسبة: 1 إلى 10. وتظهر العلاقة بين الكتلة النقدية والأسعار بسهولة: فالأسعار = الكتلة النقدية/ كتلة المنتجات أو نسبة الكتلة النقدية إلى كتلة المنتجات فإذا نقصت الكتلة النقدية (مع بقاء كتلة المنتجات على حالها) أدى ذلك إلى انخفاض الأسعار. لكن هذه السياسة الانكماشية ما كان لها أن تنجح، كما يقول ريمون بار، لولا أن بلجيكة استطاعت تحقيق استيرادات مكثفة سمحت بها موجوداتها من القطع الأجنبي (الدولار)، ولولا أن ألمانية كان عليها أن ترد إلى الشعب عملته. وسياسة الانكماش النقدي تنطوي كذلك على محاذير اجتماعية وخاصة ما له علاقة بخسارة المدينين وتقوية مركز المدخرين، وقد تعجز وحدها عن تخفيض الأسعار، وقد اعتمدت أمريكة على هذه السياسة، في عهد نيكسون في السبعينات، غير أن الحدّ من السيولة النقدية في الاقتصاد الأمريكي أدى إلى تقليص الفاعليات الاقتصادية واستمرار الأسعار في الارتفاع، نتيجة للتضخم الناجم عن زيادة الكلفة، وكان لابد من مزج التدابير النقدية المقترحة من مدرسة شيكاغو بتدابير أخرى. وتفرض سياسة الانكماش النقدي نفسها على البلدان النامية، بيد أن نمط الإنتاج الغالب في معظمها يملك آلية يستحيل معها تطبيق هذه السياسة لمعالجة التضخم، وهذا النمط نفسه ينتقص من مسألة التغطية ويضرب عرض الحائط بكل المعايير لدى إصداره النقدي المكشوف، فيخلق بذلك توترات تضخمية تجبر السلطات النقدية على السير في اتجاه سياسة معاكسة. إن ارتفاع أسعار السلع الضرورية والفاخرة في هذه البلدان، نتيجة لنقص الإنتاج من جهة وانخفاض قيمة العملة الوطنية من جهة أخرى، يحدث نوعاً من الادخار الإجباري بالكف عن الاستهلاك، لكنه ادخار يذهب جله إلى الاكتناز والمضاربات والمتاجرة بالعملات الأجنبية وتهريبها فيستشري التضخم، وبذلك تتبخر رغبات «التقشف» المعلنة. الانكماش التسليفي وهو جانب من سياسة متعمدة للتسليف تلجأ إليها الدولة من أجل توجيه عملية توافر النقود وتحقيق الأهداف الاقتصادية والمالية في مرحلة التضخم. وقد تلجأ الدولة إلى تحقيق نوع من التنمية من دون تضخم، يتسم معه الاعتدال في السياسة التسليفية بنوع من الانكماش. وأهم التدابير في إطار الانكماش التسليفي هو تحكم مصرف الإصدار بالسيولة النقدية ورفع كلفتها، تارة عن طريق سعر إعادة الحسم مما يجبر مصارف الودائع على رفع معدلات الحسم لديها والإبطاء  في العمليات التي من شأنها إيجاد وسائل الدفع وطوراً عن طريق منح الاعتمادات، وذلك بالتأثير في معدلات الفائدة في السوق المالية، وسلوك سياسة السوق المفتوحة open market فتبيع الدولة ما لديها من أوراق مالية تمتص بفضلها جزءاً من الودائع لدى البنوك مقلصة بذلك السيولة لدى هذه الأخيرة مما يحدّ من قدرتها على التسليف. وتعمد السلطات المالية إلى تدابير متممة منها تطبيق نظام الاحتياطي الإلزامي على المصارف، بحملها على إيداع نسبة من الأموال لدى المصرف المركزي معادلة لجزء من ودائع الزبائن، كما تفرض رقابة صارمة على السيولة النقدية يحظر بموجبها على المصارف تجاوز الاعتمادات، التي تمنحها، للمعدل الوسطي لمجموع المبالغ المودعة لديها. ويمكن أن يضاف إلى ذلك ترشيد تخصيص الاعتمادات للمشروعات وفئاتها بطريقة اصطفائية ومنع منح هذه الاعتمادات لغايات المضاربة، وذلك بتحديد سقف الاعتماد الممنوح لبعض المشروعات. وتلجأ أكثر الدول النامية إلى سياسة الانكماش التسليفي لمجابهة التضخم ومنها سياسة سعر الفائدة، لكن هذا الإجراء الأخير محكوم عموماً بأسعار الفائدة في الأسواق المالية الدولية. كما أن أسلوب التمويل بعجز الميزانية المنتشر في هذه الدول يستدعي الاقتراض من المصارف، إذ تلجأ الدولة إلى ذلك مقابل أذونات خزينة، وغالباً من دونها، مما يعرقل سياسة الانكماش ويفتح الباب لضدها. الانكماش في الإنفاق حين يقع الخلل بين حجم الإنتاج وحجم الإنفاق من تزايد هذا الأخير واتساع «الفجوة التضخمية»، تبدو سياسة الحدّ من الإنفاق الخاص والعام (حين لا يمكن زيادة الإنتاج) مسألة لابدّ من حلها وتأخذ الصور التالية: 1ـ في مجال الإنفاق الخاص: أول ما يخطر على البال هو تخفيض الأجور. والمعلوم أنه ليس لتخفيض الأجور والرواتب مكان واسع في الفكر الاقتصادي ولا هو مستحب في مراحل التطور الاقتصادي الاجتماعي. وأمام قضية ربط الأجور بالأسعار وتثبيت الأجور، وربط الأجور بالإنتاجية اختفت نغمة تخفيض الأجور. وقد يمكن تصور سياسة لتخفيض الأجور في الاقتصاديات الاشتراكية لدى زيادة فوائض الكميات المنتجة وانخفاض الأسعار. لكن هذا يبقى غير مستحب من الناحية النفسية، ولذلك تستعيض الدولة عن تخفيض الأجور بزيادة الضرائب لامتصاص القوة الشرائية الزائدة. وتفضل الضرائب الشخصية المباشرة بشرط أن تصيب جميع الدخول المعلنة التي كان من السهل التهرب من إعلانها. أما الضرائب غير المباشرة فهي، لاشك، تحدّ من الاستهلاك لكنها تؤدي أيضاً إلى ارتفاع الأسعار نتيجة ثقل عبئها، مما يقود إلى نوع آخر من التضخم. لذا فإن استعمال الضرائب غير المباشرة لا يكون على العموم مجدياً إلا إذا أصاب سلع الاستهلاك الترفي. 2ـ في مجال الإنفاق العام: تلجأ السلطات المعنية إلى السياسة الانكماشية في الموازنة العامة وذلك بالإقلال من النفقات من جهة وتحقيق وفر في الموازنة من جهة أخرى. وهو أمر يمكن أن ينجح في الاقتصاديات الرأسمالية والاشتراكية. أما في الاقتصاد المتخلف، والمعلوم هنا أن نسبة كبيرة من النفقات العامة الحكومية تميل إلى الارتفاع، كالرواتب والنفقات الإدارية والدفاعية والأمنية، فإن الحد من الإنفاق العام مهما تصدت له السلطات المعنية لا يذهب إلا إلى الإنفاق الاستثماري. ومن هنا كانت المفارقة؛ فالتنمية تتطلب زيادة في الإنفاق الحكومي لزيادة كمية المنتجات، والانكماش (التقشف) يعمل، بتخفيض هذا الإنفاق، على تخفيض إنتاج البضائع والخدمات الضرورية. ولذا كان لابد لهذه السياسة من أن تأخذ بالحسبان صعوبة تقليص النفقات والتعويض منها بالحصول على الموارد. ولا ينجح ذلك إلا في مرحلة يتهيأ فيها الاقتصاد المتخلف للانتعاش. وفي هذه البلدان المتخلفة ذاتها لابد لسياسة الانكماش في الإنفاق من أن تعمل على امتصاص القوة الشرائية الإضافية لدى ذوي الدخول العالية لردها إلى الدولة وتوجيهها نحو الاستثمار وزيادة التراكم. كما أن استقرار الأسعار، ولو بصورة نسبية، يبقى ضماناً لنجاح سياسة الانكماش في الإنفاق، إضافة إلى أن هذا الاستقرار يساعد على الاستقرار في أسعار الصرف وتحسين مركز البلد النسبي في التصدير. ومن ثم لابد من إخضاع أسعار الخدمات للمراقبة وإلا فإن الفعاليات الخدمية تنشط على حساب الفعاليات السلعية، مما يوجد خللاً يصعب إصلاحه، يسير في خط التضخم نفسه الذي يراد كبحه. الانكماش والاقتصاد الوطني درج الفكر الاقتصادي على دق ناقوس الخطر كلما سار الاقتصاد الوطني في طريق الانكماش. لأن الانكماش يؤدي إلى الكساد وهذا يحمل أسوأ العواقب على العمالة والفعاليات الاقتصادية. ولعل أكبر سابقة من هذا النوع كانت أزمة الثلاثينات (1929 وما بعدها). هذه الأزمة وضعت الفكر الاقتصادي أمام حالة من الانكماش أدت إلى الكساد إذ اجتاحت البطالة الولايات المتحدة وبريطانية وأكثر الدول الأوربية. مما دعا الاقتصاديين إلى التفكير بالوسائل الضرورية للخروج من الأزمة. أسهمت التدابير الكينزية إسهاماً تاريخياً حين طالبت برفع الأجور الاسمية لرفع مستوى الطلب الفعال، وحين اشتركت الدولة في هذا وفي حل مشكلة البطالة عن طريق زيادة الإنفاق الحكومي وتمويل عناصره، ولاسيما «التمويل بعجز الموازنة» إذ تخطت الاقتصاديات الرأسمالية أزمتها بفضل هذه التدابير منتقلة إلى مرحلة من الازدهار، ثم عاشت بعدها في نشوة زيادة الإنتاج والاقتراب من مستوى التشغيل الكامل حتى بداية السبعينات حين اندلعت الأزمة الرأسمالية الجديدة، وهي أزمة جديدة اجتمع فيها التضخم والركود، فكان من الطبيعي أمام الركود التضخمي أن تفقد التدابير الكينزية مسوغاتها، وأن تعود الرأسمالية إلى تدابيرها التقليدية (الكلاسيكية) لمعالجة التضخم بتوازن الموازنة والاستقرار النقدي وضغط الإنفاق، مكتشفة أهمية السياسة الانكماشية، أي أن تعود إلى تدابيرها التقليدية لمكافحة الركود ومن أهمها الاتجاه بقوة نحو الأسواق الخارجية وجبهات القتال لتصريف فائض الإنتاج ولاسيما فائض إنتاج «العهد الصناعي الثالث» الذي تمخضت عنه الأزمة نفسها. لكن التدابير الكينزية مازالت تجد تطبيقاتها في البلدان النامية والمنطقة العربية منها خاصة في شروط لم تخطر على بال كينز، مما يؤجج التضخم ويقضي على التضامن الاجتماعي في هذه البلدان، حيث العمالة ذات دلالات مختلفة عما هي عليه في البلاد الرأسمالية، يتعايش التضخم الجامح مع البطالة بمختلف صورها، ولكن ليس لأسباب انكماشية قادت إلى الركود، بل لأسباب تضخمية سابقة، هي على العموم من منشأ نقدي (تواتر الإصدار النقدي الكينزي بلا تغطية) ولوجود آلية تخريبية في نمط الإنتاج الغالب تعطل الفعاليات السلعية لصالح النشاطات الخدمية الطفيلية. ولذلك، فإن الإمعان في استعمال «الوسائل الكينزية»، لأنها أسهل الوسائل، يؤدي إلى توفير سيولة نقدية تفوق المقدرة الإنتاجية الحقيقية، مما يطلق التضخم ولا يسمح لأي سياسة انكماشية أن تعمل بأي حال من الأحوال. في هذه البلدان النامية لابد إذن من إحداث «الانعكاس» في الآلية المذكورة للتصدي بحزم للتضخم،) لأن البطالة في عوامل الإنتاج ليست بسبب الانكماش). ويجب أن تعمل سياسة الانكماش في هذه البلدان للتأثير في العرض والطلب الكلي معاً، ويكون ذلك حتماً بالحدّ من زيادة الكتلة النقدية للحدّ من جموح الطلب الاستهلاكي، وبالعمل على ساحة العرض لزيادة إنتاج السلع الزراعية والصناعية، وفي هذا المجال يجب إعادة هيكلة الجهاز الإنتاجي واتخاذ جميع التدابير للتركيز على زيادة الإنتاجية وتنمية الموارد. وهكذا يؤمل الحصول على توازن في مستوى معين من الأسعار يتعامل مع مستوى معين من الأجور والرواتب. إن عدم أخذ السياسة الانكماشية لمسألة الطلب الكلي في الحسبان هو كعدم مراعاة «سياسات التنمية بالتضخم» لقضية العرض الكلي في البلدان النامية. ولذا فإنه من أجل الحد من القوة الشرائية المتزايدة لابد من التعرض للريوع السهلة والأرباح الناشئة عن الوضع الاقتصادي الاجتماعي المتخلف ويكون ذلك بالضرائب المباشرة. إن تعقيم القوة الشرائية المتراكمة بين أيدي فئات المستغلين والمضاربين والعابثين بمؤسسات الدولة يستدعي توجيه الفوائض إلى حساب خاص في الخزينة يخصص لزيادة الإنتاج. إلى ذلك كله يضاف ما له علاقة بمراقبة الاستيراد والتصدير ومعدلات الصرف ومكافحة التهريب وتسرب العملات إلى الخارج. ولعل ذلك يستدعي بالضرورة تغيير نمط الإنتاج الغالب.    إسماعيل سفر   الموضوعات ذات الصلة:   التضخم.   مراجع للاستزادة:   ـ إسماعيل سفر، محددات السياسة الاقتصادية العربية المعاصرة (1983)، أزمة الرأسمالية وعاملها الخارجي (1984)، النظرية الكينزية والمأساة الاقتصادية ـ الاجتماعية (1985): منشورات جامعة الدولة بمونص (بلجيكة) مركز الدراسات والبحوث العربية (CERA). -PR.R. BARRE , Economie politique (PUF, Paris 1964).
المزيد »