جبلة
جبله
Jeble -
جبلة
جبلة
جبلة في العصور الكلاسيكية
تقع مدينة جبلة على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط على بعد 28كم جنوب مدينة اللاذقية، وتتوسط السهل المعروف باسمها، الذي يمتد من مجرى نهر الصنوبر في الشمال حتى مصب نهر السن في الجنوب بطول 30كم وعرض قرابة 10كم. يحده من الشرق سلسلة الجبال الساحلية، ومن الغرب البحر المتوسط، ويتميز شاطئ هذا السهل بأنه صخري يتخلله بعض الموانئ والمراسي الطبيعية ومن أهمها ميناء جبلة وميناء سوكاس وميناء مصب نهر السن، التي كان لها دور كبير في التبادلات التجارية بين مدن هذا السهل ودول حوض المتوسط.
![]() |
ويعدّ سهل جبلة من أكبر سهول الساحل الشرقي للبحر المتوسط وأغناها، ويتمّيز بمناخه المتوسطي وتربته الخصبة ووجود الأنهار والينابيع التي كانت من العوامل الأساسية لجذب الإنسان للاستقرار في هذه المنطقة، وقد شهد قيام العديد من الحضارات والتأثيرات الخارجية وهذا ما يلاحظ في العديد من المواقع الأثرية المنتشرة في كامل السهل والتي تمتدّ من الألف السادس ق.م حتى الفترات الإسلامية.
جذب غنى مدينة جبلة وسهلها بالمواقع والمباني الأثرية والتاريخية أنظار الرحالة والباحثين والمستكشفين منذ القرن السابع عشر حتى الربع الأول من القرن ٢٠م، وقد اقتصرت أعمالهم على الدراسات التاريخية والرفع الهندسي والوصف المعماري للأطلال المعمارية، منهم: هنري موندريل Henry Maundrell وريتشارد بوكوك Richard Pococke وإرنست رينان Ernest Renan ورينيه دوسو René Dussaud وبول جاكو Paul Jacquot.
![]() |
صورة جوية لمدينة جبلة عام 1939 |
أما أعمال التنقيب الأثري فقد بدأت منذ ثلاثينيات القرن العشرين وقد مرت التنقيبات والدراسات الأثرية الميدانية في مدينة جبلة وسهلها بثلاث مراحل أساسية:
المرحلة الأولى: بدأت منذ ثلاثينيات القرن العشرين واستمرت حتى الستينيات، وعلى الرغم من وجود فترة زمنية كبيرة بين العمل الأول والثاني يمكن وضعها ضمن المرحلة نفسها. وقد تميزت هذه المرحلة بأعمال الأسبار الأثرية والمسح الأثري والرفع الهندسي التي تمت من قبل بعض الباحثين والمنقبين، ومن أهم هذه الأعمال:
- أعمال السبر الأثري ودراسة الطبقات الأثرية التي تمت من قبل الباحث السويسري إميل فوريير Émile Fourier عام ١٩٣٤ م في تل مينة الروس.
- الكشف والتنقيب الأثري في مسرح جبلة من قبل بعثة أثرية سورية عام 1950 من قبل كالامكاريان M. G. Kalamkarian، ومن ثم من قبل نسيب صليبي عام 1952.
- أعمال البعثة الأثرية الدنماركية في تل سوكاس بإدارة جان بول- ريس Jean-Paul Riis وقد ركزت البعثة أعمالها في تل سوكاس وقامت بعدة نشاطات أثرية في مدينة جبلة وسهلها، من أهمها: المسح الأثري للسهل والسبر الطبقي (الستراتيغرافي) في تل دروك، والسبر الأثري في قرية عرب الملك ودراسة طبوغرافية مدينة جبلة وأعمال التنقيب الأثري في مدافن منطقة الفيض.
المرحلة الثانية: بدأت في سبعينيات القرن الماضي واستمرت حتى نهاية القرن العشرين، وقد تميزت هذه المرحلة بنشاط الأعمال التنقيبيّة للتحقق من أسماء مواقع بعض المدن التي وردت في أرشيف مملكة أوغاريت وخاصة ضمن التلال القريبة من مدينة جبلة، وأهمها:
- حفريات رامز حوش في مدافن الجبيبات عام 1977.
- أعمال البعثة الأثرية السورية في تل سيانو بإدارة عدنان البني عام 1990 ومن ثم بإدارة ميشيل المقدسي.
- أعمال التنقيب الأثري لمدفن في مدافن الجبيبات عام 1980 من قبل الباحثين الفرنسيين جاك وإليزابيث لاغارس Jacques et Elizabeth Lagarce.
- أعمال البعثة الأثرية السورية-البلجيكية المشتركة في تل التويني عام 1999 بإدارة ميشيل المقدسي ومسعود بدوي عن الجانب السوري، وكارل فان ليربيرغ Karel van Lerberghe ويواكيم بريتشنايدر Joachim Bretschneider عن الجانب البلجيكي.
ومن الأعمال المهمة في هذه المرحلة أعمال التنقيب الأثري في مدافن الجبيبات ومسرح جبلة التي نفذتها دائرة آثار اللاذقية.
المرحلة الثالثة: بدأت منذ بداية القرن الحادي والعشرين. وتميزت بزيادة النشاط الأثري السوري على منطقة جبلة كلها، وأهمها:
- أعمال البعثة الأثرية السورية في موقع المصيطبة بإدارة مسعود بدوي.
- أعمال البعثة الأثرية السورية في تل إيريس بإدارة أنطوان سليمان وميشيل المقدسي.
- أعمال البعثة الأثرية السورية في مدافن الجبيبات بإدارة مسعود بدوي.
- أعمال دائرة آثار جبلة في التنقيب والترميم في مسرح جبلة.
ولابد من الإشارة إلى نشاط دائرة آثار جبلة في أعمال التنقيب الطارئ في العديد من المواقع الأثرية، وأعمال التنقيب في مواقع جبال منطقة جبلة خاصة في موقع عين سالم (كنيسة بيزنطية)، وموقع قمة نيبال (معبد روماني)، وأعمال التنقيب والترميم في قلعتي المينقة وبني قحطان.
تاريخ الاستيطان:
أقدم ذكر معروف حتى الآن لمدينة جبلة ما ورد في نصوص أوغاريت باسم جبعلا Giba‘la وخلال العصر الفينيقي والعصرين الهلنستي والروماني عُرفت باسم غابالا Gabala، وأطلق عليها الصليبيون اسم زيبل Zibel، أما اسمها العربي جبلة فيرجع إلى العصر العباسي.
شهدت مواقع سهل جبلة وتلالها كباقي المواقع الأثرية السورية في منتصف الألف الثالث ق.م - نحو ٢٦٠٠ ق.م - النهضة المعمارية الثانية التي شملت مناطق واسعة امتدت من الهضبة الإيرانية شرقاً حتى شرقي البحر المتوسط غرباً، وذلك في العديد من التلال مثل تويني وسيانو وقلعة الروس.
مع بداية الألف الثاني ق.م استوطنت المنطقةَ مجموعاتٌ أمورية، فكانت جبعلا في منتصف الألف الثاني ق.م تابعة لمملكة أوغاريت، إذ تعرضت خلال القرن الثاني عشر ق.م لغزو شعوب البحر. خلال الألف الأول ق.م خضعت المنطقة للسيطرة الآرامية التابعة لمملكة حماة، وبعد ذلك قامت مجموعة من المدن الفينيقية ومن بينها غابالا التي أدت دوراً تجارياً واقتصادياً مهماً في المنطقة، وفي القرن التاسع ق.م تعرضت للغزو الآشوري، وتبعت لمملكة أرواد في مطلع القرن الثامن، كما خضعت للبابليين (الكلدانيين) في القرن السابع ق.م، ثم احتلها الفرس في القرن السادس ق.م.
عام ٣٣٣ ق.م خضعت للإسكندر الكبير، وفي نهاية القرن الرابع ق.م أصبحت تحت الحكم السلوقي، ثم خضعت للسيطرة الرومانية عام ٦٤ ق.م، وفي القرن الرابع أصبحت تحت الحكم البيزنطي، وفي هذه الفترة ازدهرت المدينة وضربها زلزال سنة ٤٧٦م، وفي منتصف القرن السادس قام الإمبراطور جستنيانوس Justinien بإعادة بناء المدينة. وفتحها العرب المسلمون سنة ١٧ه/ ٦٣٨م بقيادة عبادة بن الصامت.
في عام ١٠٩٨-١٠٩٩ احتلها الصليبيون ثم حررها صلاح الدين الأيوبي سنة ٥٨٤هـ/١١٨٨م وعاود الصليبيون احتلالها عام ١٢٠٧م، وفي عام ٦٨٨هـ/١٢٨٩م حررها السلطان منصور قلاوون، وأصبحت عام ٩٢٣هـ/ ١٥١٦م تابعة لإيالة طرابلس خلال الفترة العثمانية، ووقعت عام ١٩١٨م تحت الانتداب الفرنسي حتى عام ١٩٤٦م فأصبحت تابعة لمحافظة اللاذقية.
أهم المباني الأثرية في مدينة جبلة:
مازالت مدينة جبلة حتى الآن تحتفظ ببعض المباني وبعض العناصر المعمارية التي تدل على حضارتها، وأهمها:
المسرح: يقع في الجهة الشمالية الشرقية من المدينة القديمة، بني على أرض سهلية بحجارة رملية كبيرة الحجم، في حين بنيت مقاعد الجمهور من الحجر الكلسي.
وهو يتألف من ثلاثة أقسام: مدرجات الجمهور والصحن (الأوركسترا) ومنصة التمثيل، ويبلغ قطره ٩٠م، ويتسع إلى ٨٠٠٠-١٠٠٠٠ مشاهد، ويُعتقد أن عدد درجاته ٣٥ درجة، ويرجع تاريخ بنائه إلى القرن الثاني الميلادي (العصر الروماني).
![]() |
مسرح جبلة الأثري |
وقد حُوّل المسرح إلى قلعة في أثناء الفتح العربي الإسلامي لمدينة جبلة، وبقي قلعة في الفترات الصليبية والأيوبية والمملوكية. زاره عدد من الباحثين والرحالة، منهم: هنري موندريل عام ١٦٩٧م خلال رحلته من حلب إلى القدس، وريتشارد بوكوك عام ١٧٤٥م حيث وضع أول مخطط له، وإرنست رينان عام ١٨٦٠م، ورينيه دوسو الذي زاره مرتين وكانت زيارته الثانية عام ١٨٩٦م حيث وجده خراباً ربما بسبب الزلازل المتلاحقة التي تعرضت لها المنطقة وبفعل يد الإنسان التي استعملت حجارته المشذبة في بناء البيوت؛ وهذا ساعد على تشويه المسرح. كما بنيت عليه بعض الأبنية واستخدمت أروقته مستودعات وإسطبلات ومحلات تجارية. وتم إخلاء إشغالات المسرح عندما بدأت المديرية العامة للآثار والمتاحف الاهتمام به منذ عام ١٩٥٠.
ويدل بناء المسرح في تنظيمه ومواد بنائه وزخرفته على مهارة هندسية، ولذلك استحق قول أحد مرافقي بعثة إرنست رينان «إنه أجمل الآثار الرومانية على الساحل الفينيقي».
مدافن الجبيبات: تقع في الجهة الشمالية الغربية من المدينة القديمة، بشكل شريط موازٍ لشاطئ البحر بطول ١٦٠٠م وعرض قرابة ٢٠٠م، كان يتم الكشف عنها في أثناء قيام أي مشروع حيوي في المنطقة ( حفر أساسات بناء، صرف صحي، طرقات).
وهي مدافن جماعية وقبور فردية، تم تحديد ثلاثة أنماط للدفن وذلك بناء على مداخلها: النمط الأول بشكل بئر، النمط الثاني بشكل درج، أما النمط الثالث فهو بشكل قبر فردي.
وأشكال المدافن بسيطة محفورة بالصخر بطريقة الكهف، فكان لكل مدفن جماعي مخطط مختلف عن الآخر بحسب عدد المعازب أو القبور أو اتجاه المدخل، وكان يتم وضع الجثث إما بواسطة توابيت فخارية وإما بوضعها مباشرة على الأرض. أما القبور الفردية فكانت محفورة بالصخر، وتتجه غرباً، ولها عدة أنماط تم تحديدها عن طريق كيفية إغلاقها. كما أنها لا تحمل أي عناصر زخرفية أو كتابات تحدد أسماء المتوفين أو طبقاتهم الاجتماعية.
قدمت هذه المدافن عدداً لابأس به من الأثاث الجنائزي، مثل: السرج والأباريق والقوارير والأمفورات الفخارية، وكذلك البلسميات والقوارير والحقق والصحون الزجاجية ورؤوس المغازل وخرز مختلف المواد وبعض النقود الذهبية والفضية والبرونزية وبعض المواد الأخرى التي تعود للعصرين الهلنستي والروماني.
![]() |
مدافن الجبيبات |
حمام جبلة: يقع على بعد عدة أمتار جنوب - شرق مسرح جبلة، كشف عنه عام ٢٠٠٧ في أثناء حفر أساسات بناء مشروع تجاري، وهو محفوظ على مستوى الأساسات ومبني بحجارة رملية كبيرة الحجم وتبلغ مساحته ٩٠٠ م٢. ويؤرخ للقرن الثاني الميلادي(العصر الروماني)، واستخدم حتى القرن الخامس الميلادي (العصر البيزنطي). ويتألف من عدة أقسام: القسم الحارcaldarium والقسم الفاتر tepidarium والقسم البارد frigidarium.
وبعض القاعات مزودة بحوض نصف دائري أو بأحواض مستطيلة كبيرة وصغيرة، وكانت أرضيات هذه القاعات مبلطة بالرخام ومرفوعة على أعمدة مبنية من الآجر ومرتبط بعضها ببعض بوساطة قنوات من أجل مرور الهواء الساخن.
وبعض الأرضيات من أقسام الحمام مبلطة بالفسيفساء الخالية من الزخارف، وكان يتم تسخين الماء وتدفئة الأرضيات بوساطة ثلاثة مواقد تحت الأرض حيث توجد أماكن الخدم.
وفي الأقسام الشرقية من الحمام خزان يزود الحمام بالمياه التي كانت تجلب من نبع الفوار، وفي الأقسام الغربية منه إحدى قنوات تصريف المياه الرئيسية في المدينة.
![]() |
بقايا حمام جبلة |
من خلال ما تقدم يتبين أن مدينة جبلة كانت إحدى المدن الواقعة عند الحدود الجنوبية لمملكة أوغاريت خلال النصف الثاني من الألف الثاني ق.م، وازدهرت خلال الألف الأول ق.م أيام الفينيقيين وفي العصرين الهلنستي والروماني، واستمرت خلال العصر البيزنطي؛ فميناؤها أدى دوراً كبيراً في استمرار نشاطها التجاري وكان صلة الوصل بينها وبين دول حوض البحر المتوسط.
مسعود بدوي
جبلة في العصر الإسلامي
عُرِفت جبلة باسمها في المصادر اللاتينية في فترة الحروب الصليبية:Gibel ou Zebel ، في حين أنها كانت تُعرف باللغة اللاتينية باسم: Gibellum، واليوم تُعرف المدينة في الدراسات الحديثة العربية والأجنبية بحسب اللغة التي تُلفظ بها بالأسماء التالية: Jeblé،Djabala ، Djebel،Djebelé .
ومعنى جبلة هو الأرض الصلبة، في حين تشير بعض المصادر إلى أنه مشتق من كلمة جبل باللغة العربية، استناداً إلى أن الموقع القديم للمدينة هو تل التويني الواقع على رابية مشرفة على البحر؛ إذ بيّنت دراسات بعثات التنقيب الأثرية الوطنية السورية والبلجيكية أنه قد تمَّ إخلاء الموقع المرتفع والانتقال إلى موقع منبسط على الشاطئ على تماسٍ مباشرٍ مع خطوط التجارة البحرية القديمة.
ومنذ القرن الرابع الميلادي كانت جبلة مركز أُسقفية مستقلة مُلحقة بالكرسي البطريركي في أنطاكية، وفي سنة ٥٢٨م أصبحت أسقفية جبلة تتبع مطرانية اللاذقية. وعلى الرغم من أهمية مدينة جبلة لم يبقَ من آثارها المسيحية سوى بعض البقايا المعمارية التي وجدت في أحد بيوت المدينة القديمة، ومنها مذبح بسقف مقنطر يتوسطه حجر العقد على شكل صليب منحوت بالحجر، باتجاه جنوب- شمال، وبئر ضمن فراغٍ خاص حيث يوجد كوة على الجدار الشرقي منه، وأسطوانة عمود منحوت من حجرٍ واحد تمَّ نقله من بين أعمدة المدرج الروماني الواقع شمالي المدينة وأعيد استخدامه في هذا الموقع. إضافة إلى كتابات حجرية باللغة الإغريقية في مدينة جبلة وتعود بغالبيتها إلى فترة إعادة السيطرة البيزنطية على المنطقة في القرنين ٤و٥هـ/١٠و١١م.
![]() |
أزقة جبلة التاريخية |
وفي سنة ١٧هـ/٦٣٨م فُتحت المدينة صلحاً على يد الصحابي عبادة بن الصامت، وأُلحقت إدارياً بجند حمص، وقد ازدهرت المدينة في العصرين الأموي والعباسي. وفي القرن ٤هـ/١٠م فرض البيزنطيون سيطرتهم على المدينة مرتين: الأولى سنة ٣٥٧هـ/٩٦٨م بقيادة نيقفور فوكاس، ليستردها منه فتوح غلام جعفر بن فلاح قائد الجيش الفاطمي سنة ٣٦٠هـ/٩٧١م؛ والثانية بقيادة جان تزيمسكس سنة ٣٦٤هـ/٩٧٥م.
وفي سنة ٤٦٩هـ/١٠٧٦م أصبحت جبلة تتبع البيزنطيين ومحكومة لمصلحتهم من قبل قاضٍ محلي يدعى أبا عبيد الله منصور الذي سلّمها لإمارة بني عمار في طرابلس، ليعلن قاضي جبلة ابن صليحة استقلاله بالمدينة عن إمارة بني عمار وإعادة الخطبة إلى الخليفة العباسي في بغداد. وفي سنة ٤٩٢هـ/١٠٩٨م حاصرها الصليبيون بقيادة جودفري وكونت دو فلاندر، وسرعان ما رفعا هذا الحصار بعد أن دفع أمير جبلة الأموال والأحصنة. وفي سنة ٤٩٤هـ/١١٠٠م، وصل تاج الملوك بوري بن طغتكين إلى المدينة ليتسلمها منه فخر الملك بن عمار حتى سنة ٥٠٣هـ/١١٠٩م عندما استولى عليها الصليبيون بقيادة تانكرد، وبقيت بيدهم حتى استعادها نور الدين محمود ابن زنكي بعد تدميرها في ٥٦٢هـ/١١٦٦م، ليستعيدها في السنة ذاتها الصليبي بوهمند الثالث أمير أنطاكية. وفي سنة ٥٨٤هـ/١١٨٨م سلّمها سكانها إلى صلاح الدين الأيوبي؛ فأصبحت جبلة تابعة إدارياً لمدينة حلب، ليعود الصليبيون ويستولوا على المدينة بعد أن دب الخلاف بين ورثة صلاح الدين وألحقوها مجدداً بإمارة طرابلس. وفي سنة ٦٦٩هـ/١٢٧٠م استعادها الظاهر بيبرس ليبدأ العصر المملوكي لجبلة ويستمر حتى سنة ٩٢٢هـ/١٥١٦م سنة وصول العثمانيين إلى الشام الذين ألحقوها بولاية طرابلس.
![]() |
تمتاز مدينة جبلة بمخططها المتقاطع (الشطرنجي) من العصر الهلنستي، وفي الجزء الجنوبي الشرقي من المدينة القديمة ما تزال آثار الشارعين الرئيسين للمدينة الديكامانوس والكاردو واضحة للعيان.
أما النسيج العمراني في باقي المدينة القديمة فيتألف من أزقةٍ ملتويةٍ تُفضي من زقاقٍ إلى آخر بأبعادٍ مختلفة تغطي بعضها ساباطات. وأما الزقاق الجنوبي المجاور لجامع المنصوري - والمعروف باسم «زقاق البحر» - فيتميز من باقي أزقة مدينة جبلة القديمة بأنَه مقسم بصرياً من خلال خمسة عقود مدببة تتكأ على الجدار الجنوبي لحرم الجامع من جهة؛ وعلى جدران المنازل المقابلة من جهة أخرى.
ساهم وجود المرفأ في رسم المخطط العمراني للمدينة منذ نشأتها، حيث كان المرفأ محاطاً بالمدينة نفسها، وقد أدى دوراً حاسماً في تطور مدينة جبلة تاريخياً واقتصادياً، إذ غدا مركزاً تنتشر فيه جميع النشاطات والفعاليات الاقتصادية والاجتماعية عبر العصور، فكما ذكر المؤرخ ابن حوقل فإنّ العمل في مرفأ جبلة ما كان يتوقف لا ليلاً ولا نهاراً. وعلى امتداد فترة الحروب الصليبية على بلاد الشام سيطر الجنويون على مرفأ مدينة جبلة واقتصادها وتجارتها.
تمتاز المدينة القديمة في جبلة بوجود العديد من المباني ذات القيمة التاريخية والفنية والآثارية، لذلك فقد عُدّت من ضمن «المدن الساحلية الصغيرة التاريخية» في التصنيف المعتمد من اليونسكو، ومن أبرز المعالم الأثرية الإسلامية في مدينة جبلة:
- جامع السلطان إبراهيم بن أدهم [ر]، مؤرخ لسنة 415هـ/1024م، نسبةً إلى أحد أشهر الزُهاد والنُّساك في الإسلام في القرن 2هـ/ 8م إبراهيم بن أدهم العجيلي، أصله من مدينة بَلخ؛ من أبناء ملوك خراسان.
- جامع المنصوري [ر]: يُعدّ أحد أهم الشواهد على تاريخ مدينة جبلة الإسلامي. يمتلك زخرفة كتابية تعود إلى سنة 488هـ/1059م في العصر الفاطمي، كما يحتوي على العديد من الزخارف الكتابية التي تعود إلى الحقبتين الأيوبية والمملوكية.
- مسجد الحموي: شيّد سنة 799هـ/1396م في العصر المملوكي.
- حمام التصاوير: وهو مشيدة مملوكية.
- حمام السلطان إبراهيم بن الأدهم[ر]: مشيدة مملوكية، تمّ تجديدها في العصر العثماني سنة 1016هـ/1607م. يقع خارج أسوار المدينة القديمة الشمالية في منطقة الجامع، ويشغل الزاوية الجنوبية-الغربية لصحن جامع السلطان إبراهيم بن أدهم، إلى الشمال من المدرج الروماني.
![]() | ![]() |
حرم جامع السلطان إبراهيم بن أدهم | حرم جامع السلطان إبراهيم |
- قبة العمري: غير مؤرخة.
كما امتلكت المدينة العديد من الأبنية التاريخية المذكورة في الدراسات، ولا أثر لها على أرض الواقع اليوم، منها:
- زاوية عثمان 753هـ/1352م التي تعود إلى العصر المملوكي، والتي ذكر عنها المؤرخ الفرنسي جان سوفاجيه أنها كانت قائمة في الزقاق الجنوبي المجاور لجامع المنصوري.
- خان أرغون شاه الذي يعود تاريخ بنائه إلى سنة 798هـ/1396م في العصر المملوكي، وكان قائماً إلى جنوب جامع السلطان إبراهيم بن أدهم.
- كما تذكر المصادر التاريخية للمؤرخين والرحالة العرب في العصور الوسطى - كعماد الدين الأصفهاني، وابن الأثير، وابن شداد وغيرهم - أن المسرح استخدم كقلعةٍ حربيةٍ للدفاع عن المدينة وقاعدة تمركز للحامية العسكرية.
هلا أحمد أصلان
مراجع للاستزادة: - Ernest RRENAN, Mission de Phénicie, Imprimerie Nationale, (Paris, 1864). - Massoud BADAWIi, «Huit tombes hellénistiques et romains à Jablé», Syria, tome 84, (2007), pp. 185-204. -M. Astour, « Maʾhadu, the Harbor of Ugarit » JESHO, XIII, 1970, p. 113-127. -M.Gaudefroy-Demombynes, La Syrie à l’époque des Mamelouks, Paris, 1923. - R. Dussaud, La Syrie antique et médiévale, Paris, 1927, p. 136. -Tell al-Tweīnī, « Le rapport des fouilles syro-belges de Tell Tweīnī », p. 3-5. |
- التصنيف : آثار كلاسيكية - المجلد : المجلد الرابع، طبعة 2018، دمشق مشاركة :