logo

logo

logo

logo

logo

الآثار (علم-)

اثار (علم)

Archaeology - Archéologie

الآثار (علم -)

عمار عبد الرحمن

طبيعة المواقع الأثرية

نشأة علم الآثار وتطوره

علاقة علم الآثار بالعلوم الأخرى

علم الآثار التوراتي في فلسطين

مدارس الآثار

علم الآثار الجديد

تاريخ التنقيب عن الآثار في سورية

منهج البحث الأثاري

الآثار بين أيدينا

التنقيب الآثاري

 

يهتم علم الآثار بدراسة ماضي الإنسان من خلال معاينة مخلفاته المادية التي كان يحتاج إليها في حياته اليومية، واستطلاع وسائل إنتاجه ومعتقداته وكذلك الأبنية التي أشادها، والنشاط الاجتماعي والاقتصادي الذي قام به. كما تعد النصوص المكتوبة باللغات القديمة مصدراً مهماً - في حال وجودها- لمعرفة تفاصيل دقيقة عن حياة ذلك الإنسان، فقد اهتم علم الآثار كذلك بدراسة أصل الإنسان والحضارة مستعيناً بأحدث التقانات المخبرية والأرضية والفضائية التي تدرس أدق التفاصيل المتعلقة بحياة القدما . فعلم الآثار يشمل فترة طويلة تتجاوز مليون عام من حيث الدراسة العلمية الوافية لمختلف الأماكن والعصور.

وهذا المصطلح ترجمة لكلمة  Archaeology بالإنكليزية وهي مأخوذة عن الكلمة اليونانية Apxiolλojia وتعني "علم القديم". ونظراً لاتساع أفق علم الآثار بوصفه يتناول ويبحث في ماضي الإنسان وتاريخه وكل ما خلّفه من لقى صغيرة وكبيرة وعمارة مشيدة، وحالات الدفن، وأحياناً تتناول الدراسات تفاصيل دقيقة للبقايا النباتية والحيوانية القديمة، ارتأى بعض العلما تصنيف علم الآثار على أنه علم ينتمي إلى "علم الإنسان الثقافي " cultural anthropology الذي يعدّ إلى جانب "علم الإنسان الطبيعي " physical anthropology  ما أطلق عليه "علم الإنسان " Anthropology.

نشأة علم الآثار وتطوره

يذهب بعضهم إلى أن الاهتمام بالآثار يعود إلى العصور الحديثة، ولكن الأبحاث والمعطيات تشير إلى اهتمام سابق وربما لوقت طويل. فليس من المستغرب القول إن هذا الولع والشغف كان منذ العصور القديمة، فقد كان الملك البابلي نبوخذ نصر مهتماً بما تركه أجداده في مدنهم القديمة، وقام بالتحري عن القصور القديمة وما تحتويه، حتى إن ابنته "بلشلتي- نانو" قامت بجمع القطع الأثرية في مكان مخصص في القصر، فكان هذا أول متحف بالتاريخ.

وفي العصر الكلاسيكي المترافق مع ظهور اللغة الإغريقية أصبحت الثقافة أكثر رواجاً وشجعت مختلف العلوم، وظهر بعض المهتمين بوصف الآثار والتاريخ والجغرافيا، وأقدمهم توقيديدس  Thoukidudes في القرن الخامس قبل الميلاد في وصفه لآثار اليونان. ويمكن القول إن هيرودوتس Herodotus أول من اتبع طريق الترحال والمعاينة والتسجيل، فقد زار عدة مناطق في الشرق القديم في القرن الخامس قبل الميلاد. كما تحدثت البرديات المعروفة باسم "برديات زينون" المؤرخة لمنتصف القرن الخامس قبل الميلاد عن الأحوال الزراعية والاقتصادية والاجتماعية في الأردن وفلسطين.

وكان باوزانياس Pausanias وزينوفون Xenophon واسترابون Strabo ممن وصفوا الأوابد الأثرية في بلادهم اليونان وخارجها أيضاً. وتـأتي أفضل الكتابات حول تاريخ سورية الطبيعية في القرن الأول الميلادي من قبل بليني Pliny في كتابه "التاريخ الطبيعي". ويشير معاصره الروماني فيتروفيوس Vitruvius في القرن الأول الميلادي في مؤلفه الشهير عن فن العمارة إلى المنشآت اليونانية. أما بطلميوس Ptolemos في القرن الثالث الميلادي فقد ترك أقدم أطلس جغرافي معروف حتى تاريخه. وكذلك قدم جيورجيوس كيبريوس في كتابه "وصف العالم الروماني" قوائم بأسما بعض مدن وأقاليم بلاد الشام قبيل الفتح الإسلامي.

استطاعت الحضارة الإسلامية أن تستفيد من تجارب العلوم السابقة القديمة، وأن تسهم في تطورها على جميع الأصعدة، وكانوا في وقتهم سبّاقين في اعتلا الهرم بما يتعلق بالجديد من العلوم ورفدها بالأفكار والإبداعات الجديدة، ومن بين هذه العلوم الأبحاث التي تناولت علم الآثار. فقد كانت الرغبة ملحة من قبل الخلفا المسلمين برصد الأصقاع الجديدة ومعرفة أحوالها، وقاموا بإرسال بعثات استكشافية لهذه الغاية، كما في إرسالية الخليفة الواثق إلى سواحل بحر الخزر. ويمكن عدّ كتاب "الأصنام" لابن هشام الكلبي (ت 204هـ/ 819م) الذي يتناول نُصُباً وآثاراً ويصفها بدقة من حيث مادتها وشكلها ومكانها، بأنه من الكتب الأثرية الموصوفة على نحو جيد.

ومن الرحالة والجغرافيين والمؤرخين الذين أسهموا في علم الآثار ابن خرداذبه (ت280 هـ،/893م) في كتابه "مسالك الممالك"، والبلاذري الذي وصف معالم بعض المدن في مؤلفه الشهير "فتوح البلدان"، واليعقوبي (ت بعد 292هـ/ 905م) في وصفه بغداد. ويبرز المسعودي (ت 346هـ/ 903م ) في دقة ذكره لتفاصيل الآثار الساسانية والنقوش الصخرية، وقبر الإسكندر، وعن آثار أنطاكية وهياكل بعلبك والجامع الأموي والمدافن الفرعونية، ويتعمق في الحديث عن التنقيب السري لبعض المدافن وعما تم الكشف عنه من آثار. وينفرد المقدسي في ذكر طبوغرافية فلسطين في كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم".

وربما لا يوجد ما يضاهي كتاب "الإكليل" للهمداني (ت 334هـ/ 945م) في وصفه لجنوب شبه جزيرة العرب من حيث الوصف للقلاع والحصون القديمة وبالأخص النقوش على الحجارة، وكذلك ذكره للقرى ولجغرافية المنطقة. ويليه ابن حوقل (380هـ/ 990م) في كتابه "صورة الأرض" الذي استفاد مما ذكره سابقوه وأضاف آثاراً جديدة لم تذكر سابقاً مثل قصر غمدان في صنعا ، وفي الغرب يصف بعض مدن المغرب، أما في الشرق فيذكر مدائن فارس، ويصف تمثال بوذا الضخم في الهند.

ويعدّ بعضهم أن الولوج إلى علم الآثار بوصفه علماً قد تم على يد الطبيب الجراح موفق الدين عبد اللطيف البغدادي  (565-629هـ/1162-1231م) الذي يصف الآثار ويفصّل في ذلك، ويشرّح الموميا ويحللها بدقة لمعرفة أسرارها. ولا يمكن إغفال ياقوت الحموي (ت 626هـ/1229م) الذي يعدّ بحق من أدق من وصف الآثار القديمة وتتبع قصصها المتواترة عنها وسجّلها، وقام بذكر كل المناطق تقريباً في الشرق ويستحق كتابه "معجم البلدان" لقب العمل الموسوعي.

في العصور المظلمة لم تكن أوربا مؤهلة لتقديم الكثير على الصعيد الثقافي، ولكن مع قدوم عصر النهضة انتعشت الدراسات الإنسانية ومنها الآثار بالمفهوم العام. فقد نشر الهولندي غروتر Grotter كتابات قديمة تضم نقوشاً تدمريةً لتدمريين كانوا في روما. وخلال القرن الثامن عشر، ومع انتعاش الوضع الاقتصادي والاجتماعي في أوربا ظهرت محاولات جادة ومنظمة إلى حد معقول، فقد استطاع يواكيم فينكلمان  Joachim Winkelmann بوصفه قيماً على مكتبة الفاتيكان أن يؤلف كتاباً في تاريخ الفن The History of Art  استعرض فيه الفنون القديمة والرومانية وغيرها. كما كان له مؤلفات في الآثار وطريقة تصنيفها وخصوصاً النقود. وهذا ما دعا بعضهم أن يطلق عليه مؤسس الآثار في ألمانيا.

وخرج الأوربيون من حدود قارتهم الجغرافية إلى مناطق الشرق، فقد قام الإنكليزيان وود  Wood ودوكنس  Doukins - إثر رحلة قاما بها إلى تدمر عام 1751م - بتأليف كتاب "أطلال تدمر"، وما لبثا أن نشرا لاحقاً كتاباً مشابهاً ولكن عن أطلال بعلبك.

قام الرحالة الدنماركي كارستن نيبور K. Niebuhr في عام 1765م بزيارة لمدينة بيرسيبوليس في إيران ونسخ العديد من الكتابات والنقوش المسمارية، كما استطاع تمييز ثلاثة أنواع من الخطوط المسمارية، ونسبها إلى اللغات الفارسية القديمة والعيلامية، والأكادية بلهجة بابلية.

مع نهاية القرن الثامن عشر توجهت الأنظار إلى مصر، ورافقت حملةَ نابليون لاحتلال مصر عام 1798م بعثةُ علمية تضم عدداً من المتخصصين الفرنسيين الذين قاموا بوصف جميع الآثار الظاهرة على الأرض وتسجيلها، ومن ثم نشرها في عدة مجلدات تحت عنوان "وصف مصر"، ورافق عمليةَ الدراسة هذه نقلُ الكثير من الآثار المصرية إلى المتاحف الفرنسية، ومنها حجر الرشيد الذي فك رموزه العالم الفرنسي جان- فرنسوا شامبليون  Jean-François Champollionواستطاع معرفة رموز الكتابة الهيروغليفية.

يمكن أن يقال إن علم الآثار ابتدأ في الشرق القديم أوائل القرن التاسع عشر، فقد كان هناك رجال دين ومهتمون آخرون يبحثون عن مواقع ذات صلة بالكتاب المقدس. وكان المنقبون الرواد دبلوماسيين ورجال علم وضباطاً وإداريي مستعمرات. وكان هؤلا مهتمين عادة باستخراج تحف وكنوز لمتاحف أوربية، لكن العديد منهم سجلوا بعناية ما يتعلق بمكتشفاتهم. فمنهم السويسري بوركهارت Burckhardt الذي عرّف العالم بمدينة البترا ، وفي عام 1815م نشر كلوديوس جيمس ريتش Claudius James Rich أول دراسة مفصلة عن بابل. وفي أربعينيات القرن التاسع عشر نقب كل من باول -أميل بوتا  P. E. Botta قنصل فرنسا في الموصل وأوستن هنري ليرد A. H. Layard  وهرمز رسام H. Rassam في مواقع القصور الآشورية الرئيسة، وقد عثر في عام 1849م على نينوى قرب الموصل. والجدير ذكره أن ليرد أول من قام بالتنقيب في منطقة الجزيرة السورية.

وقام هاينرش شليمان  H. Schliemann بالتنقيب في موقع مدينة طروادة في سبعينيات القرن التاسع عشر. وقد لاقت هذه الأعمال رواجاً كبيراً في أوربا ونالت شعبية واسعة.

وكانت أول خطوة منفردة نحو تحويل التنقيب الآثري بعيداً عن النبش بحثاً عن القطع الأثرية وجعله فرعاً من فروع العلم الصحيح عمل ويليام فندر بتري W. F. Petrie  في تل الحسي في فلسطين عام 1890م. ذلك أن بتري قام لأول مرة بالتنقيب بحسب الطبقات عن طريق فتح مقطع عمودي على طول التل. وفي عام 1904م نشر بتري كتاب "الطرائق والأهداف في علم الآثار" ونهج منهجاً علمياً في دراسة الفخار والاهتمام بالتعاقب الطبقي الأثري في حفرياته في نوقراطيس (نقراش) في مصر.

وقد طورت هذه الطريقة العلمية الأساسية لاحقاً من قبل جورج أندرو رايسنر G. A. Reisner وكاثلين ماري كينيون   K. M. Kenyon. ثم أضيف إليها الاهتمام بالفخار وطرزه من قبل وليام فوكسويل ألبرايت [ر] W. F. Albright في تنقيبات تل بيت مرسيم في فلسطين، وبنحاس ديلوغز P. Delougaz في تنقيبات مواقع منطقة ديالى في شرقي العراق.

شهدت فترة ما بين الحربين العالميتين حفريات مهمة، ففي عام 1922م تم اكتشاف مقبرة الملك "توت عنخ آمون" في مصر على يد الإنكليزي كارتر Carter، وقد تميزت هذه المقبرة من غيرها من حيث غناها باللقى والكنوز الأثرية. أما في بلاد الرافدين فقد قامت بعثة أثرية مشتركة من المتحف البريطاني وجامعة بنسلفانيا وتحت إشراف ليونارد وولي بأعمال تنقيبات في عدد من المواقع مثل مدينة أور جنوبي بلاد الرافدين للكشف عن الحضارة السومرية، وفي الوقت نفسه قامت بعثات أخرى من جامعات أكسفورد وشيكاغو بالتنقيب في مواقع "كيش" و"جمدة نصر" كما عملت البعثة الألمانية في مدينة أوروك.

أما في بلاد الأناضول فقد واصلت بعثة من جامعة ليفربول - بإشراف جون جارستنع J. Garstang - تنقيباتها في المواقع الحثية.

علم الآثار التوراتي في فلسطين:

ارتبط نشو علم الآثار في فلسطين بعصر النهضة في أوربا والبحث عن الجذور الدينية والأماكن المقدسة وفق معلومات العهدين القديم والجديد. فقد أنشئت جمعية "صندوق اكتشاف فلسطين" في عام 1865م، بهدف البحث وفقاً للتقاليد المنهجية عن آثار الأرض المقدسة وطبوغرافيتها وجيولوجيتها وجغرافيتها الطبيعية وعادات سكانها وتقاليدهم، وذلك من أجل إيجاد المطابقة بين مجريات أحداث العهد القديم مع أرض الواقع. وقامت هذه الجمعية قبل الحرب العالمية الأولى بعدد من النشاطات الأثرية الميدانية، منها ما قام به الضابط الإنكليزي تشارلز وارن Ch. Warren في عام 1867م من تنقيبات في الجز الملاصق للمسجد الأقصى في محاولة للبحث عن آثار النبي سليمانu. كما بحث علما آخرون في مواقع لها علاقة بالتوراة مثل حفريات تل المتسلم (مجدو [ر]) وتل عين السلطان (أريحا [ر]). وقاموا من دون أية دلائل علمية بإنشا مطابقة مع مواقع توراتية. حتى إنهم قاموا ببنا تاريخ وإطلاق مصطلحات هدفها فقط إثبات ادعا اتهم، مثل مصطلحات "الفترة الكنعانية والإسرائيلية، واليهودية، واليهودية المتأخرة". وقاموا لاحقاً بتدعيم هذا البنيان الافتراضي بتأسيس مؤسسات أخرى هدفها تشجيع العهد القديم وتدريسه وفق ما يرونه مناسباً لهم، كي يوسعوا القاعدة المحيطة بهم.

في هذا الإطار قام الرحالة الهولندي أدريان ريلاند A. Reland بزيارة فلسطين وكتب كتاباً عنوانه "فلسطين مصورة من خلال معالمها القديمة"، ونشره في عام 1709م. وتوالت بعدها البعثات التبشيرية وغيرها من أجل تثبيت دعائم علم الآثار التوراتي هذا، وما زالت مستمرة حتى اليوم.

علم الآثار الجديد:

علم الآثار هو وسيلة الإنسان المعاصر لاستعادة تاريخ الإنسان وفهمه من خلال دراسة البقايا الطبيعية، والثقافة المادية مثل العظام والفخار والحلي والأسلحة والعمارة.

لقد برز في النصف الثاني من القرن العشرين مصطلح "علم الآثار الجديد" New Archaeology الذي يجمع بين التوجه الإثنولوجي والتوجهات الاجتماعية، وله وسائل تحليلة مكانية ويبحث في العلوم على أساس النظرية التطورية الجديدة. يهدف علم الآثار الجديد إلى دراسة تنظيم الجماعات البشرية في داخل مناطقها ومعرفة بنيتها الاجتماعية بهدف ربط ذلك كله بنظام عام للسلوك الإنساني. لقد تبلورت معالم هذه الدراسة بين طلاب روبرت بريدوود R. Braidwood الذي كان أول من اصطحب معه مختصاً بعلم النباتات القديمة، حينما قام بالتنقيب الآثري في موقع جرمو في شمالي العراق.

يتجه علم الآثار الجديد نحو مسارات جديدة توسع آفاقه وتطوره، ويمكن إجمالها بثلاثة مبادئ:

 -1 استخدام تقنيات جديدة في التوثيق واستعمال الحاسوب للتحليل الإحصائي والبياني للمعلومات، وتوسيع دور علوم البيئة الأثرية لفهم الأسس الاقتصادية والمعيشية لمجتمعات ما قبل التاريخ على وجه الخصوص.

 -2 التعامل مع الحضارة من وجهة نظر علم التطور.

 -3 تحديد الحضارات بوصفها وحدات في أنظمة تعمل وفق مفهوم التطور، وإقامة علاقة وثيقة بين علم الآثار وعلم الإنسان "الأنثروبولوجي"، وتوجيهه للدراسة المنظمة لأنماط الاستيطان وإبراز التناظرات الأثنوغرافية، وإعادة تكوين كامل لحياة ما قبل التاريخ.

إن هذا التوجه الجديد لعلم الآثار يتضمن إعادة البنا النظري للحياة الدينية والاجتماعية، وتحديد الأساليب المعيشية ونمط التغييرات الطقسية والبيئية، وإخضاع المعلومات المجردة للحساب الرياضي.

منهج البحث الآثاري: وله أسلوبان:

- 1المسح الآثاري:

تطلبت أعمال المستكشفين الأوائل التجوال في بعض المناطق بحثاً عن المواقع الأثرية، وترافق هذه بتدوينهم وصفاً لتلك المناطق وللمواقع التي وجدوها. ثم بدأت أعمال المسح الآثاري تأخذ طابعاً منهجياً منظماً. وعرف المسح الآثاري الأرضي ground survey بأبسط أشكاله، ففي نحو الربع الثاني من القرن العشرين قام آثاريون، ومنهم ماكس ملوان   M. E. L. Mallowan بعدة أعمال مسح سجلوا خلالها مواقع عديدة وحددوا مواضعها وعصورها. وأدرك الآثاريون لاحقاً أن هذه المعلومات التي تم جمعها من خلال المسوحات الأرضية يمكن أن تطور إلى تأريخ بمعالم واضحة، وأيضاً الخروج بنتائج مهمة. وأصبح من المتعارف أن المسح الأثري يهدف مبدئياً إلى النقاط الرئيسة التالية:

 -1 تعرف على المواقع الأثرية والفترات الزمنية التي مرت على كل موقع.

 -2 تثبيت المواقع الأثرية على الخرائط.

 -3 تعرف الطرز العمائرية إن وجدت ظاهرة للعيان ومن دون إجرا تنقيبات.

 -4 الربط بين المواقع الأثرية في المنطقة الواحدة والمناطق الأخرى المجاورة من خلال دراسة الملتقطات الأثرية من كسر فخارية وأدوات صوانية.

فحين يقوم الآثاري بمسح منطقة أثرية يتوجب عليه الاطلاع المسبق على الخرائط الجغرافية القديمة والحديثة، وحين يقوم بمسح لموقع أثري معين فإنه يجمع اللقى السطحية من فخار وأي مواد أثرية أخرى. ومن خلال تأريخ هذه اللقى يمكن معرفة العصور التي سكن فيها الموقع وهل كان مخيماً أو قرية أو مدينة. وفي بعض الحالات يمكن من خلال المسح والدارسة الطبوغرافية للموقع تحديد مكان وجود منشآت مركزية والمناطق السكنية فضلاً عن المنشآت الصناعية، مثل أفران الفخار والقنوات، وغيرها. وحينما ينجز المسح الآثاري لعدد كبير من المواقع في المنطقة المحددة يمكن رسم صور لتلك المنطقة بحسب العصور التي شهدتها، بما في ذلك التغيرات في أعداد القرى والمدن، وفي حجومها، كما يمكن رصد انتقال السكان من منطقة إلى أخرى، من قرى إلى مدن، أو بالعكس.

ومع تقدم الأبحاث والتقنيات في مجال المسح الآثاري، شمل الاهتمام دراسة الإطار البيئي الكامل الذي عاصر حقبة زمنية، وذلك بدراسة مصادر المواد الطبيعية، ودراسة التغيرات الجيولوجية والجغرافية والجيومورفولجية مثل تغيرات الأنهار وانخفاض سويات البحار وارتفاعها.

ويمكن ذكر أهم التقنيات الحديثة المستخدمة في مجال المسح الآثاري كما يلي:

المسح الجوي:

عبر التصوير من الطائرات أو المناطيد aerial photography، وقد استخدمت هذه التقانة مع بداية القرن العشرين، وهناك طريقتان لها إحداهما:

التصوير المجسم  :Stereoscopic وبهذه الطريقة يمكن إبراز المعالم الأثرية على الصور بوساطة استخدام الستيريوسكوب. وهذا ما طبقه الأب أنطوان بوادبار A. Poidebard  في سورية لأول مرة في منطقة الصحرا السورية، حيث استطاع تحديد خطوط الدفاع الرومانية فيها وأبراجه.

والأخرى التصوير الفوتوغرامتري  :Photogrammetry ويمكن بهذه الطريقة تعرف طبوغرافية المنطقة المدروسة، ورسم الخرائط لها.

ويمكن من دراسة الصور الجوية أن تحديد أمور مهمة مثل البقايا المعمارية التي تظهر بشكل ظلال على الصورة. كما يمكن ملاحظة اختلاف نمو المحاصيل الزراعية الذي ربما يشير إلى وجود بنى أثرية مثل آبار أو خنادق تحتها تساعد على نموها أكثر من منطقة أخرى. وكذلك يدل الاختلاف في لون التربة على اختلاط البقايا الإنسانية بالعضوية التي تعطي لوناً داكناً.

أمّا المسح الآثاري داخل الأرض فإنه يفيد في معرفة ماهية الآثار المطمورة داخل الأرض، وأبسط وسائله هي المجسات probes عبر قضبان حديدية تغرس في بطن التربة لتلمس طبيعة ما فيها من آثار. وهناك طريقة الاستشعار الكهربائي electrical resistivity التي تتم عبر إرسال طاقة تيار كهربائي إلى داخل التربة وقياس - على شاشة خاصة - انعكاس مقاومة هذه التربة للتيار المرسل الذي يعكس طبيعة التربة، فالأحجار أكثر مقاومة من الطين أو الخشب. وبهذا يمكن تحديد ماهية البنى الموجودة. أما الطريقة المغنطيسية فهي ترصد من خلال جهاز راصد للمعادن التي يمكن أن توجد في بطن الأرض، ولكنه لا يستطيع إعطا نتائج واضحة على عمق كبير في التربة.

وآخر تقنيات المسح الآثاري سيكون عن طريق الاستشعار عن بعد remote sensing، وذلك باستخدام الصور الجوية الفضائية الملتقطة بوساطة الأقمار الصناعية، وتكشف هذه الطريقة الآثار فوق الأرض وتحتها وخاصة في المدن الأثرية الكبيرة، وتزداد تقنيات هذا النوع من المسح تطوراً وتحقق نتائج مهمة.

التنقيب الآثاري [ر]:

إن الإجرا ات التي تتم عند إخراج الآثار من الركام الذي تشكل فوقها مع مرور الزمن، ومعاينة العمائر واللقى بحيث يمكن إعادة تصورها على نحو مطابق للزمن الذي وجدت به، هي ما يعرف في علم الآثار "بالتنقيب الآثاري " .excavation

وقد وضعت أسس وقواعد لعمليات التنقيب الآثاري نتيجة توارث الخبرات في هذا المجال. والهدف منها توخي الدقة في استرجاع ما تركه الأقدمون، كي يمكن بنا تاريخي للموقع والحصول على صورة دقيقة عن الحضارة التي يعود إليها الموقع.

المواقع الأثرية:

تختلف المواقع في مساحاتها، فهناك المواقع الكبيرة جداً والأخرى التي تكون مكاناً أقام الإنسان فيه بضع ساعات أو آلاف السنين. كما أن المواقع تتباين عن بعضها من حيث المحافظة على طبيعتها والنشاطات التي قام بها سكان ذلك الموقع، وكل منها يحتاج إلى طريقة ملائمة للتحري عنها.

وتتكون التلال الأثرية من مجموعة من الطبقات التي تشكلت بفعل تراكم مخلفات الإنسان، وهناك مواقع أخرى تشكلت من طبقة واحدة  stratum. كما يمكن أن يكون الموقع الأثري قبراً أو مجموعة من القبور يعثر بداخلها على مجموعة من الأدوات والأواني صنعتها مجموعة بشرية معينة. ويستطيع الآثاريون ربط المواقع الأثرية بعضها ببعض، واكتشاف العلاقات التي كانت قائمة بين المجموعات البشرية من خلال دراستهم للقى الأثرية.

طبيعة المواقع الأثرية:

 -1 مواقع التقصيب :Butchering Sites

عندما كان يتحرك الصيادون وجامعو القوت في عصور ما قبل التاريخ  prehistory لاصطياد فريسة ما، أو سعياً ورا الثمار البرية كانوا يضطرون إلى الإقامة في مواقع ما فترة محددة من أجل تحضير الطريدة المصادة من سلخ وتقطيع وتوزيع على بعضهم. وما تركوه من أدوات حجرية وبقايا عظام هي نتاج نشاط إنساني محدد في موقع ما فترة قصيرة ومؤقتة. وربما هجر الموقع بعده للأبد.

 -2 المواقع الدينية :Ceremonial Sites

ارتبطت الحياة الروحية بحياة الإنسان منذ وجوده على سطح هذه الأرض، وما لبثت أن تبلورت هذه الحالة الروحية والطقسية مع تطور هذه الممارسات في العصور التاريخية. لقد تجسدت هذه الأعمال الدينية في مكانٍ مخصص لها سمي الهيكل ومن ثم المعبد، وأصبح وجوده من المسلمات في أي مدينة أو مركز استيطان. وانفردت بعض المراكز الدينية خارج المستوطنات المدنية مثل الزقورة، ربما لإبراز أهميتها. وفي كلتا الحالتين قدمت هذه المراكز الدينية من خلال بنائها واللقى التي احتوتها معلومات مهمة عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للموقع.

 -3 التلال الأثرية:

تشكلت التلال الأثرية فوق سطح الأرض الطبيعي نتيجة تعاقب الاستيطان فوق بعضه عبر العصور. وكلما كانت الاستيطانات أكثر وأطول زاد ارتفاع التل ومساحته.

وفي بعض الأحيان اقتصرت بعض التلال الأثرية على طبقة استيطان واحدة. ومهما يكن فإن كشف هذه الطبقات الأثرية في التل الواحد من الأعلى (وهي الأحدث) تبين طبيعة الاستيطان وتفاصيله من بنا ولقى وغيرها. وكلما كشفت طبقات أخرى أقدم فإن تاريخ استيطان التل يكون أوضح، حتى الوصول إلى التربة الحرة الطبيعية التي تشير إلى انتها الاستيطان عندها.

وتذخر الجزيرة السورية بالكثير من التلال الأثرية مثل تل براك وحموكار وليلان وموزان وبيدر، التي أعطت الكثير من النتائج المهمة لتاريخ سورية في العصور القديمة.

 -4 المدن الأثرية الأبدية:

تقف الكثير من المدن الأثرية بعمائرها الواضحة والكبيرة على سطح الأرض حتى هذه الأيام، وتعدّ نموذجاً فريداً من المواقع الأثرية بما تقدمه من معلومات معمارية وأثرية وتاريخية في الوقت نفسه. وتتوزع هذه التجمعات الكبيرة من المدن القديمة التي تعود بمجملها إلى الفترة الكلاسيكية إلى مركزين أساسيين، الأول، "المدن الميتة" شمال- غربي سورية والثاني في سيع والامباشي في جنوب غربي سورية. فضلاً عن مدن مركزية قائمة بذاتها كما في تدمر وبصرى وأفاميا.

علاقة علم الآثار بالعلوم الأخرى:

يهدف علم الآثار إلى دراسة ثقافة الأمم السابقة وحضارتها وتاريخها من خلال دراسة اللقى والعمائر الأثرية وتفسيرها. ولتحقيق هذا الهدف لابد من الاستعانة بعلوم أخرى للوصول إلى معلومات جديدة تساعدعلى بنا التاريخ. ويمكن تصنيفها إلى قسمين:

 - 1العلوم الإنسانية والاجتماعية:

أ - الآثار والاجتماع:

يحاول الآثاريون عند دراستهم لموقع أو منطقة تعرف طبيعة المجتمع الذي عاش فيه من خلال استنباطهم للمعلومات من دراسة المادة الأثرية المكتشفة. فلا يكفي أن اكتشاف بنا فخم في مدينة قديمة وتوثيقه، بل لابد من استنباط أفكار أخرى تدل على وجود هرم اجتماعي معقد في هذه المدينة وسيادة طبقة محددة له. وينطبق هذا على المعابد - في حال توثيقها- التي تدل على وجود عبادة الآلهة وممارسة عقائد محددة.

ب - الآثار والإثنوغرافيا:

علم الإثنوغرافياEthnography  يدرس الشعوب البدائية المعاصرة التي تعيش في مستوى ثقافي وحضاري مشابه للمستوى في العصور القديمة. فالدراسات الإثنوغرافية تدرس المجتمعات البدائية من خلال مؤسساتها الأسرية والدينية والاجتماعية والسياسية، والتي من الممكن أن تقود إلى فهم واقع مشابه من عصور قديمة.

ج- الآثار والإنثروبولوجيا الثقافية:

إن علم الإنسان من أهم العلوم المساعدة لعلم الآثار. وبملاحظة أن علم الإنسان ينقسم إلى: علم الإنسان الطبيعي physical anthropology الذي يدرس تطور الإنسان الطبيعي حتى الإنسان العاقل. وعلم الإنسان الثقافي cultural anthropology الذي يضم ثلاثة أقسام رئيسية هي: علم اللغات الحية linguistic وعلم الأعراق ethnology، وعلم الآثار. إذاً علم الآثار ينتمي إلى علم الإنسان الذي هو دراسة متداخلة تمتد منها جسور توصل فيما بينها وبين العلوم الطبيعية والحياتية والاجتماعية والإنسانية.

لقد أضاف التقصي الإنثروبولوجي وتطبيق طرق العلوم الحديثة أبعاداً جديدة حققت تقدماً هائلاً في القدرة على معرفة الماضي وفهمه. إن الاهتمام المتميز للإنثربولوجي بالأساليب التي عاش بها السكان وبتنظيمهم الاجتماعي وتحقيق ذلك بالتعميم، والاقتراب إليه عن طريق المقارنات، قد أثر عميقاً بالجوانب النظرية والتفسيرية لجميع فروع علم الآثار. ففي علم آثار ما قبل التاريخ تحول التركيز على التقنيات إلى استطلاع التغيرات في أنماط الصيد التي قد تعبر عن معرفة متزايدة وتنظيم اجتماعي أوثق ووسائل جديدة في استغلال البيئة.

د- بين الآثار والتاريخ:

يتكامل علم الآثار والتاريخ لبنا السيرة التاريخية المترابطة والواضحة، فالمؤرخون يدرسون النصوص التاريخية  والآثاريون يضيفون إليها المادة الأثرية المحسوسة والملموسة. ويمكن القول إن علم الآثار هو مختبر التاريخ مجازياً. فلولا اكتشاف ماري وأيبلا لما تمكن أحد من إثبات مكانتهما ودورهما الفاعل في التاريخ القديم.

 - 2العلوم التطبيقية:

يتقاطع علم الآثار مع غالبية العلوم التطبيقية، مثل الكيميا والبيولوجيا والجيولوجيا والفيزيا والرياضيات والهندسة والإنثروبولوجي الطبيعي، وكذلك علوم البيئة الأثرية [ر]. يمكن تقديم أمثلة موجزة عنها كما يلي:

أ- الآثار والكيميا :

إن معرفة التركيب الكيميائي للمادة المصنوعة منها الأدوات والأواني الأثرية مفيدة جداً في مجال علم الآثار، وتفيد في  تأريخ هذه اللقى بإحدى طرق التأريخ الحديثة مثل الكربون المشع C14 أو غيرها، وتجعل بالإمكان معرفة المكونات التي تتألف منها، وبالتالي يمكن ترميمها أو حفظها على النحو الأمثل.

ب - الآثار والجيولوجيا والجيومورفولوجيا:

تقدم الدراسات الجيولوجية معلومات مفيدة حول التاريخ الجيولوجي للمواقع الأثرية، وكذلك تحديد طبقة الترسبات ونوعيتها. ومن المعروف أن دراسات ما قبل التاريخ تركز على دراسة الزمن الرباعي [ر] Quaternary منذ ثلاثة ملايين سنة، وهو الزمن الذي ضم ظهور الإنسان ضمن الطبقات الجيولوجية.

وإن الجيومورفولوجيا [ر] geomorphology لها تأثير مباشر في الآثار؛ فهي تقدم صورة ما طرأ في مواقع عاصرت استيطان الإنسان مثل المصاطب النهرية والبحرية.

ج- الآثار والباليونتولوجيا :paleontology

ويقصد بها دراسة المستحاثات النباتية والحيوانية التي تحجرت مع مرور السنين، والتي يمكن من خلال معرفة أنواعها التوصل إلى استنتاجات مهمة على صعيد البيئة القديمة التي كانت سائدة، باعتبار أن لكل نبات أو حيوان بيئة خاصة يتلا م معها.

مدارس الآثار:

نشأت في ميادين البحث الأثري مدارس آثارية لكل منها أدواتها وأولياتها في البحث والتقرير. المدرسة الأقدم والأوسع انتشاراً هي المدرسة التقليدية traditional archaeology  التي تمثل النهج الذي سارت عليه الأبحاث الأثرية منذ انطلاقتها حتى اليوم. تعتمد مدرسة الآثار التقليدية المنهج الاستدلالي induction الذي يقوم على وصف المكتشفات الأثرية كما تظهر، سعياً إلى تحديد هوية المجتمعات المرتبطة بتلك المكتشفات وطبيعتها، وبالتالي تعرف تاريخها القديم.

بدأت منذ الستينات من القرن الماضي مدرسة أخرى عرفت باسم "علم الآثار الجديد"، انتقدت منهج المدرسة التقليدية وعدته قاصراً لا يقود إلى استنتاجات صحيحة. اعتمدت منهج الاستقرا deduction بدل منهج الاستدلال المعتمد في المدرسة التقليدية.

إن المنهج الاستقرائي لا يقف عند حدود الوصف التاريخي، بل يتخطى ذلك إلى محاولة تفسير هذا الماضي وفق فلسفة علمية محددة تقوم على مبدأ طرح فرضيات hypothesis  معينة تتعلق بحياة المجتمعات القديمة، ثم جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات والمعطيات وفحصها بهدف التحقق من صحة الفرضيات أو عدمها، وذلك قياساً على مناهج البحث في العلوم الطبيعية. المطلوب وفق هذه المدرسة ليس الجواب عن السؤال أين ومتى وكيف حصلت هذه الظاهرة أو تلك، كالزراعة مثلاً، وإنما الجواب عن سؤال لماذا حصلت هذه الظاهرة المعينة، مثل لماذا ظهرت الزراعة في بلاد الشام في الألف 8 ق.م وليس في وادي النيل أو غيره أو في زمن آخر. ينطلق أنصار المدرسة الجديدة من أن علم الآثار تحكمه أنظمة وقوانين ثابتة وطبيعية. كما في علوم الفيزيا والكيميا ، ومن هنا أطلق عليها أيضاً اسم "الآثار الطبيعية" Processual Archaeology  وخرجوا بنتائج ذات طابع مادي، اقتصادي- وظيفي- أكثر منها نتائج روحية- فكرية أو اجتماعية عن حياة الشعوب القديمة المدروسة.

وهناك أيضاً مدرسة الآثار الماركسية Marxist archaeology التي اعتمدت نظريات ماركس وإنجلز في التفسير المادي للتاريخ، ودور البنى التحتية في تشكل البنى الفوقية، والأفكار والأيدلوجيا، وهي تنطلق من حتمية الصراع الطبقي، ومبدأ الصراع التاريخي للمجتمعات من مرحلة الاقتصاد المشاعي  ¨←  الإقطاعي ¨← الرأسمالي. وخرجوا بنظريات الثورات المتتالية في التاريخ الإنساني، أولها الثورة الزراعية Neolithic Revolution ثم العمرانية Urban Revolution.

أخيراً تجدر الإشارة إلى منهج بدأ يتبلور في السنوات الأخيرة، وهو ليس مدرسة بالمفهوم السابق، وإنما طريقة في دراسة الماضي تركز على الجانب الاجتماعي social archaeology  وتعد العامل الاجتماعي هو الذي يحدد زمان ومكان الأحداث التاريخية التي تظهر على شكل مكتشفات أثرية، وهو نهج يتجاوز مجرد البحث التخصصي في الآثار ليتناول جوانب لها علاقة بالثقافة، والمعرفة والهوية والسياسة، وبالتالي يتقاطع مع علوم الإنثروبولوجيا والاجتماع والفلسفة.

إن مدارس الآثار المختلفة أغنت علم الآثار وكانت مصدر قوته وتطوره، وأبرزت أهمية الجوانب النظرية بوصفها منطلقاً للأعمال الحلقية وضابطاً لمكانها وزمانها وأهدافها ونتائجها. كما فتحت هذه المدارس أبواب اختصاص الآثار على العلوم الإنسانية الأخرى، وخاصة الإنثروبولوجيا، مما أخرجه من دائرته التخصصية الضيقة، وجعله أقرب إلى عقول الناس واهتماماتهم العلمية والثقافية.

تاريخ التنقيب عن الآثار في سورية:

إن سورية البلد الأغنى بالآثار العائدة إلى كل الحضارات والعصور. احتضنت الإنسان الأول منذ مليون سنة، وتتابعت التطورات على أرضها محققة إنجازات حضارية جعلت أغلب الباحثين يطلقون عليها "مهد الحضارات"، ففيها بدأت الزراعة واستقر الإنسان في بيتٍ أشاده بنفسه وسكنه طوال أيام السنة، واستأنس الحيوانات، وصنع الفخار والمعادن، وابتكر الكتابة والأبجدية، وبنى المدن والدول، وأشاد فيها المعابد والقصور والقلاع والمسارح، ودور العبادة، وغيرها الكثير.

هذا الزخم الحضاري تجلى في مواقع أثرية على أرض سورية، مثل ماري، وإيبلا وأوغاريت وتدمر وأفاميا وبصرى، وقلاع حلب ودمشق وصلاح الدين والحصن. وغيرها من الشواهد التي تركها القدما في سورية على اختلاف تسمياتهم من سومريين وأكاديين وبابليين وآشوريين وكنعانيين وأموريين وفينيقيين وآراميين ويونان ورومان وعرب.

توجهت الأنظار باكراً إلى آثار سورية، وخاصة قبل فترة الاستقلال وكانت أعمال التنقيب بالدرجة الأولى للفرنسيين، فقد قام إرنست رينان E. Renan في عام 1861م بأعمال تحرٍّ في الساحل السوري ونشر كتابه "بعثة إلى فنينقيا"، كما نشر ملكيور دو فوغه M. de Vogué مؤلَّفه المهم "سورية الوسطى" بين 1865 و1877م، وكان قد زار سورية في الخمسينيات من ذلك القرن. وعمل الأمريكي هوارد بتلر H. Butler في شمالي سورية، والإنكليزي روبرت وود R. Wood في تدمر.

وتبعتها أعمال الألماني ماكس ڤون أوبنهايم M. von Oppenheim في موقع تل حلف في حوض الخابور، والإنكليزي ديفيد هوغارت D. Hogarth وليونارد وولي L. Woolley  في كركميش قرب جرابلس. وكانت أعمال تيودور فيجند T. Wiegand في تدمر ذات أهمية خاصة.

وتولى عام 1929م هنري سيريغ  H. Seyrig إدارة الآثار السورية - اللبنانية، وأعطى مجالاً واسعاً لأعمال الكشف والتحري، وظهرت البعثات الأثرية الدائمة للعمل في القطر مثل ماري، وأوغاريت، حيث أتت مكتشفات أثرية ونصوص كتابية أكدت المكانة الحضارية المتميزة لسورية.

وفي عام 1946م، وبعد نيل سورية استقلالها أصبح الأمير جعفر الحسني المدير السوري الأول للآثار بعد الاستقلال، لاحقاً في عام 1950م تم تعيين سليم عادل عبد الحق مديراً عاماً، وبدأت أعمالَ التنقيب والترميم بعثاتٌ وطنية في تدمر وبصرى وأفاميا، وقلعة سمعان، وقلعة الحصن، وصلاح الدين، وغيرها.

الآثار بين أيدينا:

إن سورية البلد الأغنى بالآثار العائدة إلى كل الحضارات والعصور. ويترتب على هذا واجبات على عاتق الآثاريين بالدرجة الأولى بالتعاون مع الجهات المعنية، كي يتم الحفاظ على هذا التراث الحضاري.

ومن أهم الواجبات توعية الناس بأهمية التراث وضرورة صيانته، والتركيز على أنه من أهم الركائز الاقتصادية، في حال أُحسِن استثماره، ويمكن القول إنه أهم من النفط، بعده مصدراً لا ينضب.

ويجب وضع سياسات أثرية مدروسة تنطلق من سن قوانين وتشريعات تحمي هذا التراث إلى وضع أولويات للصيانة والترميم للأوابد الجاثمة على سطح الأرض، ومن ثم للعمائر التي يتم الكشف عنها بالتحريات الآثارية.

ويجب أن تتوج أعمال التنقيب الآثاري بالنشر العلمي، وإلا فلن يكون هناك فائدة ترجى من الأعمال الميدانية والحقلية. وأن يتحلى الباحث الآثاري بالعلمية والموضوعية عند دراسته للآثار وألا يتحيز لفكرة أو مبدأ شخصي.

مراجع للاستزادة:

 - زيدان كفافي، مدخل إلى علم الآثار (مؤسسة حمادة للدراسات الجامعية والنشر والتوزيع، إربد، الأردن 2004م).

- Lynn MESKELL, The Intersections of Identity and Politics in Archaeology, Annual Review of Anthropology, Vol. 31, (2002), pp. 279-301.

- L. SMITH, Archaeological Theory and The Politics of Cultural Heritage, (Psychology Press, 2004).

 


التصنيف : عصور ما قبل التاريخ
النوع : علوم
المجلد: المجلد الأول
رقم الصفحة ضمن المجلد : 201
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1115
الكل : 45687319
اليوم : 88002