logo

logo

logo

logo

logo

أنطاكية في العصر الإسلامي

انطاكيه في عصر اسلامي

City of Antioch in the Islamic age -

 أنطاكية

أنطاكية (مدينة -)

أولاً - في العصور الكلاسيكية

 

أنطاكية Antioch (واسمها بالإغريقية Antiochia) هي واحدة من أشهر مدن العالم القديم، ولا تقارن بها إلا روما والإسكندرية وأثينا. تقع في الشمال الغربي من سورية عند الطرف الجنوبي لسهل العمق، يحدها شمالاً جبل سيلبيوس Silpios وغرباً نهر العاصي. أنشأها سنة 300 ق.م مؤسس الأسرة السلوقية سلوقس[ر] الأول نيكاتور (312-280ق.م)، وأطلق عليها اسمها أنطاكية تخليداً لوالده أنطيوخس [ر] Antiochos، وتعد المدينة الأشهر من بين 16 مدينة حملت هذا الاسم، وكان يقرن باسم كل منها اسم الموقع القريب منها للتفريق فيما بينها. وتتميز هذه المدينة بكونها العاصمة السلوقية بعد سلوقية بيريه Seleucia Pieria، كما تتميز بأن أطلق عليها عدة ألقاب، أشهرها اثنان: أنطاكية على العاصي، وأنطاكية قرب دفنة Daphne، والثاني أكثر شيوعاً.

وقد أقيمت المدينة في الركن الغربي من سهل العمق عند النقطة التي يدخل فيها نهر العاصي وادياً شقه وسط الجبال لمتابعة تدفقه من الشمال إلى الجنوب في رحلته إلى البحر.

وكانت ضفة النهر إلى شمال المدينة وغربها سهلاً يستخدم عادة للتدريب العسكري، في حين كان الطريق إلى مدينة سلوقية بيريه المجاورة على مصب العاصي يتبع الضفة اليمنى للنهر ويخرج من المدينة عن طريق قنطرة ما زالت باقية حتى الآن، وتؤدي إلى مدينة اسكندرونة وباقي أقاليم الأناضول عبر ممر بيلان Pilan.

طريق روماني قديم كان يصل أنطاكية بقنسرين

أما الجزء الرئيسي من المدينة الواقع على ضفة العاصي اليسرى فقد بني على أرض مستوية نسبياً بين النهر والجبل، وكان يشكل مستطيلاً طرأت عليه تغييرات في الشكل خلال تاريخ المدينة. ويحد جبل سيلبيوس الطرف المستطيل الشرقي من المدينة، في حين يشكل الطرف الموازي الغربي ضفة النهر. ومن الطرف الشمالي كان يخرج الطريق الرئيسي إلى مدينة بيرويا Beroea (حلب) وغيرها من المدن السورية، أما الطرف الجنوبي فكان الطريق منه يؤدي إلى ضاحية دفنة واللاذقية على البحر. وكان للمدينة مدخل آخر أقل استخداماً يقع عند الأخدود الذي يقسم جبل سيليبيوس إلى شطرين، ويؤدي طريقه إلى أفامية ومدن شرقي سورية وجنوبيها.

جانب من سور المدينة القديم

وقد هيأت منحدرات الجبل القريبة من المدينة مواضع على شكل مدرجات سمحت بتشييد فيلات وحمامات عامة تطل على المدينة، في حين بدت المنحدرات العليا الوعرة جداً وكأنها سور يحمي المدينة من هذا الطرف، ولكن المنحدرات البعيدة عن موقع المدينة والتي كانت أقل انحداراً هيأت لأعدائها فرصة اختراقها من هذا الجانب، كما حصل عندما تمكن الفرس من احتلال المدينة من هذا الموقع مرتين؛ الأولى في القرن الثالث والثانية في القرن السادس الميلاديين.

بقايا حوانيت عند مدخل المدينة

ولا شك أن موقع المدينة بمميزاته الكثيرة قد لفت نظر سلوقس الأول مؤسس المدينة الذي عايش أوائل الفترة التي طغت فيها شهرتها على المدن الثلاث الأخرى التي أنشأها بالقرب منها حتى أصبحت هذه المدن تتبعها باللقب عندما كانت المصادر تطلق على منشآت سلوقس الأربع أنطاكية وسلوقية بيريه ولاوداكية وأفامية لقب (أنطاكية وأخواتها). وتابعت المدينة تطورها وبخاصة بعد اعتمادها عاصمة للامبراطورية السلوقية في عهد أنطيوخس الأول ابن سلوقس الأول.

وفي عهد سلوقس الثاني، وعلى مر الزمن ازداد عدد سكانها مما اقتضى إضافة حي بعد آخر إلى مركز الاستقرار الأهلي، وقد بلغت أنطاكية في عهد أنطيوخس الرابع (175-163ق.م) أزهى فتراتها؛ فقد كان هذا الملك معنياً من دون كلل بتجميل المدينة لدرجة تضارع عناية مؤسسها، فأصبحت هذه العاصمة في مصاف أرقى مدن العصر القديمة، مما جعل شيشرون (القرن الأول ق.م) يصفها بأنها مدينة "ذائعة الشهرة وافرة السكان ومركز للعلم الباهر والفن الرفيع"، ولكن تدهور حال المدينة بعد وفاة أنطيوخس الرابع أصبح مشهوداً، واستمرت كذلك حتى منتصف القرن الأول ق.م.

قناة رومانية

عرفت أنطاكية ازدهاراً معمارياً مع إلحاق سورية بروما، وأصبحت عاصمة ولاية سورية، واتخذها الرومان قاعدة رئيسة لحملاتهم ضد أعدائهم في الهضبة الإيرانية، وأطلق عليها يوليوس قيصر لقب "عاصمة آسيا".

وفي عهد الامبراطور أغسطس (27ق.م -14م) Augustus - وبفضل تدخل كل من أغريبا Agrippa وهيرود Herod - تم إحاطة الشارع الرئيسي بالأرصفة. وقام الامبراطور تيبريوس (14-37م) Tiberius بإنشاء الأعمدة، كما قام ببناء سور كان يحيط بكل الأحياء القديمة. ويقول استرابون في وصفه للمدينة إنها تتألف من أربعة أحياء، وهي محاطة بسور عام، وكل حي محاط بسور خاص؛ فالحيّان الأول والثاني بناهما سلوقس الأول نيكاتور، ويضمان الكتلة السكانية، والحي الثالث بناه سلوقس الثاني كالينيكوس (246-226ق.م) Seleucos II Callinicos، أما الحي الرابع فقد أقيم في عهد أنطيوخوس الرابع إيبيفانيوس Antiochus IV Epiphanes (175-164ق.م).

بقايا بناء كنيسة بيزنطية

وكان الشارع الرئيسي يتقاطع مع ممرات ضيقة ويتصل مع الحوانيت، على الأقل في طرفها الشرقي، وقد دمرت المدينة في زلزال عام 115م، حيث كان الامبراطور تراجان Trajanus في المدينة واحتمى في مضمار السباق Hippodrome. بعد ذلك خطط تراجان لإعادة إعمار المدينة وفق مقياس كبير، وتم إكمال البناء في عهد الامبراطور أنطونينوس التقي (138-161م) Antoninus Pius. كانت الأرض مشغولة على طرفي الشارع، وقد بني شارع واسع وكبير وصرحي أكثر من الشارع السابق، وبلغ عرضه 9 أمتار، وعمق المحلات على طرفيه نحو 6م، وهو أحد الشوارع الأكثر إدهاشاً في سورية مع شارع أفامية. إن أعمال البناء التي حصلت بعد زلزال عام 115م أدت إلى توحيد الصورة عن المدينة وهذا يشرح التناقض في معلومات المصادر.

فسيفساء الصيد موجودة فوق أرضية متحف ورسيستر للفنون

وشاركت المدينة في الصراع على السلطة في الامبراطورية الرومانية؛ فساعدت بسكينيوس نيجر Pescennius Niger (193-194م) على تسلم دفة الحكم واتخذ نيجر من أنطاكية قاعدة رئيسة له، مما دفع منافسه سبتيميوس سفيروس [ر] Septimius Severus (193-211م) إلى معاقبة المدينة بحرمانها من تميزها بوصفها عاصمة ولاية سورية، وأنزلها إلى مرتبة قرية تابعة لمنافستها اللاذقية على البحر.

شهدت مدينة أنطاكية لاحقاً زيادة في عدد السكان وفي عدد الأبنية، ولم يقطع نمو المدينة سوى احتلال المدينة من قبل الفرس (256م و260م) وتهجير عدد من سكانها في الحالتين. وفي نهاية القرن الرابع تم بناء عدد من الضواحي خارج أسوار المدينة، وبعد مرسوم ميلانو عام 313م - الذي نص على التسامح الديني - تم بناء عدد من الكنائس بما فيها الكنيسة المثمنة المشهورة بمساحتها الكبيرة وبقبتها الخشبية المذهبة. وقد عزي بناؤها إلى الامبراطور قسطنطين الكبير (306-337م) Constantinus I وسميت ببيت الذهب. وكانت الشوارع مضيئة في الليل، وعرف سكانها بأنهم صاخبون ومحبون للمتعة والمحاجة.

ولم تتخلف أنطاكية عن اللحاق بركب المسيحية، بل أصبحت أكبر مراكزها في المشرق. وكان برنابا وبولس أشهر المبشرين الذين بشروا بالمسيحية وتبعهما كثير من سكان أنطاكية.

كأس من أنطاكية يعود تاريخها إلى النصف الأول من القرن السادس الميلادي (متحف المتروبوليتان)

وبعد زيارة بطرس الرسول الشهيرة لهذه المدينة تأسست كنيسة أنطاكية، وعدَّ الرسول بطرس أول أساقفتها (بغض النظر عن المعنى الدقيق للكلمة)، وكانت تعاليمه تحظى بإجلال خاص، وعدت هذه التعاليم إضافة إلى تعاليم برنابا وبولس دستوراً لمدرسة اللاهوت التي أنشئت في المدينة. ورغم الأحداث الدينية التي شهدتها مدرسة هذه المدينة في عهود ڤاليريانوس (284-305م) Valerianus ودقلديانوس (253-260م) Diocletianus ويوليانوس (361-363م) Julianus أصبحت أنطاكية آخر حلقة وصل بين العالمين الوثني والمسيحي، وغدت مسرحاً لدعاة الغنوسطية وتعاليم بولس السميسطائي التي مهدت السبيل لظهور الأريوسية. وبعد ذلك النزاع بين المونوفيزية والأرثوذكسية أو أتباع المذهب الخلقدوني زارها في سنة 362م الامبراطور يوليانوس Julianus المرتد (361-363م) واختارها لتكون مركز حملته ضد المسيحية. كما اختارها الامبراطور ڤالنس Valens (364-378م) - عندما ارتقى عرش بيزنطة - مركزاً رئيساً لحكمه. لقد قام هذا الأخير بمبادرة عمرانية حيث قام ببناء ساحة السوق (فوروم Forum) مع ملحقاتها، وعلى الأغلب تم ذلك إثر زلزال عام 365م. يتحدث ليبانيوس Libanius عن وجود بيوت بطوابق، وبيوت عادية. إن وجود البيوت الطابقية في مدينة أنطاكية يتطابق معمارياً مع أروقة الشارع المعمد وحوانيته المرتفعة، وهذه الأبنية كانت منتشرة في قرى شمالي سورية.

ويعد عهد ثيودوسيوس الأول Theodosios (379-395م) من أشهر العهود التي ميزت تاريخ أنطاكية في الفترة المسيحية؛ فظهر فيها زعيمان روحيان شهيران جداً هما ليبانيوس الوثني (314-393م)، وثانيهما يوحنا خروسوستوم Jean Chrysostome (فم الذهب) (344 أو 349-407م)، وهو أحد آباء الكنيسة.

وكانت خلافاتهما المتداولة بين الأنصار والمعتدلين بداية انتقال الأهمية الفكرية لأنطاكية إلى القسطنطينية حين بلغت الحضارة الإغريقية المسيحية أوج ازدهارها في بلاط يوستنيانوس Justinianus (527-565م)، وتولت القسطنطينية بعد هذا التاريخ مهمة صيانة التراث الإغريقي المسيحي حتى عصر النهضة.

انطبعت حياة المدينة في القرنين الخامس والسادس بالمنافسات بين حزب الخضر والزرق في مضمار السباق، وأيضاً بالخلافات الدينية بين الخلقدونيين وأصحاب الطبيعة الواحدة، كما عرفت المدينة زلازل عديدة سنة 526، 528 وزلزال عام 551م، إضافة إلى الزلزال الذي ضرب دفنة 577م. في عام 528م استولى عليها المنذر اللّخمي حليف الفرس ودمرها وقام بتهجير جزء كبير من سكانها.

ولا شك أن الحظوة التي تمتعت بها أنطاكية في الفترة السلوقية والرومانية والبيزنطية كفلت لها عدداً من المنشآت العامة التي جعلتها تنافس أعظم مدن العالم القديم.

ولكنها في مقابل ذلك عانت من قسوة الطبيعة فنكبت بسلسلة من الزلازل المروعة في القرن الثاني والرابع والسادس الميلادي؛ أشهرها زلزال سنة 115م، وعدَّها بعض المؤرخين جزاءً وفاقاً لما شاع في أنطاكية من ضروب المباهج واللهو التي انغمس فيها كثير من أبنائها وزوارها الذين كانوا يقصدونها لهذا السبب. كما نكبت أنطاكية بغزوتين مدمرتين للفرس الساسانيين؛ كانت الأولى بقيادة شابور الأول في سنة 256 و260م، وكانت الثانية بقيادة كسرى أنوشروان سنة 540م الذي احتل المدينة ونهبها واقتاد قسماً كبيراً من سكانها أسرى إلى بلاد الفرس ثم أمر بإحراقها، وكانت هذه من أكبر النكبات التي أصابت المدينة وقوضت مكانتها.

وعندما شرع المسلمون بفتح سورية كانت أنطاكية مركز قيادة الامبراطور هرقل [ر] Hercules، ومنها انسحب إلى القسطنطينية بعد موقعة اليرموك سنة ٥١هـ/636م.

الحفريات التي جرت في أنطاكية

لم يبقَ من آثار المدينة القديمة سوى بقايا قليلة من السور، وقد تم تعرف الطبوغرافية القديمة بفضل كتابات المؤرخين من العصرين الروماني والبيزنطي، وقام الألماني مولر Müller بوضع المخطط الطبوغرافي وتحديد المباني المذكورة في عام 1839م، ولكن الدراسات الأهم والأدق كانت لداوني Downey الذي نشرها في كتابه "تاريخ أنطاكية" في عام 1962م. ورغم ذلك فإنه من الصعب وأحياناً من المستحيل مطابقة النصوص مع المعطيات الأثرية.

وقامت جامعة برنستون Princeton بين عامي 1932 و 1939 بإجراء حفريات بإدارة جاك لاسوس Lassus في مدينة أنطاكية وفي ضاحيتها يقطو (دفنة)، وهذه خلاصة المصادر المشار إليها:

إن معظم موقع أنطاكية القديمة كان مدفوناً تحت طبقة كبيرة من التراب؛ ففي مركز المدينة تقع طبقة القرنين الحادي عشر والثاني عشر (مرحلة إعادة الغزو البيزنطي والغزو الصليبي) على عمق أربعة أمتار، وتقع المدينة من فترة الامبراطور جستنيانوس على عمق 7 أمتار، والمدينة من الفترة الرومانية على عمق 8 إلى 10 أمتار، والمدينة من الفترة السلوقية تنخفض حتى عمق 11 متراً. وقد اعتمد في الحفريات على إجراء أسبار بلغ طول أحدها - على سبيل المثال - 30 متراً وعرضه 10 أمتار. ويرجع ذلك إلى أن المدينة تعرضت عبر تاريخها لعدد كبير من الكوارث الطبيعية، وخصوصاً الزلازل التي أدت إلى تدمير المدينة في مرات عدة، إضافة إلى أن المعماريين لم يترددوا بعد كل تدمير في إعادة استعمال بعض العناصر المعمارية من الأبنية المتهدمة.

كشفت البعثة الأمريكية عن السور، وقنوات المياه، والمكان القديم للشوارع، ومكان جزيرة العاصي، وفي قلب المدينة كشف عن بقايا من المدينة المتراكمة بعضها فوق بعض وتعود هذه البقايا إلى عهود مختلفة، كما كشف عن مبانٍ في الجزيرة وأيضاً في دفنة. علاوة على ذلك وجدت البعثة آلاف القطع النقدية التي تعود إلى العصور الكلاسيكية المختلفة، ومجموعة كبيرة من الفخار والمسارج (الفخارية والمعدنية)، وأيضاً مجموعة من المنحوتات (تيجان، تماثيل نصفية) والأختام، ومجموعة قليلة من النقوش اليونانية واللاتينية، وعدداً كبيراً من لوحات الفسيفساء.

وكشفت الحفريات الأثرية أيضاً مكان الجزيرة الواقعة في شمال المدينة، وقد عثر في هذا المكان على سرك وملعب بيزنطي استخدم في النصف الثاني من القرن الخامس، وحمامات وبيوت من العهد الروماني، ومعبد لا يُعرف الإله المخصص له، كما عثر على برج وأبنية غير محددة. وربما كانت كنيسة قسطنطين المثمنة تقع قرب القصر الملكي في الجزيرة، كما تظهر في لوحة فسيفساء ميغالوبسيشيا Mégalopsychia، وهناك أكثر من مثال على بناء كنيسة بقرب القصر الملكي في فترة قسطنطين، ولكنها لم تظهر في الحفريات التي تشير إلى أن هذه الجزيرة قد هجرت في فترة جوستنيان Justinian، وأن الناس استخدموا أنقاض بعض الأبنية كالحمامات من أجل استخراج حجارتها، كما أن الكنيسة بعد أن هدمت في زلزال عام 526م فقدت أهميتها ولاسيما بعد أن بنى جوستنيان كنيسة جديدة وسماها كنيسة "أم الله" في حي إبيفانيا Epiphania، لذلك من المنطقي أن تختفي أثار الكنيسة مع مرور الزمن.

وكانت أنطاكية- عاصمة سورية في الفترات الكلاسيكية - المركز الأساسي لانتشار فن الفيسفساء ليس فقط في سورية وإنما في الشرق الأوسط كله. كشفت الحفريات التي أجريت في المدينة وضواحيها في ثلاثينيات القرن الماضي عن عدد كبير من لوحات الفسيفساء التي كانت تبلط أرضيات البيوت في المدينة نفسها والفيلات والحمامات والكنيسة في ضاحيتها التي كانت تسمى دفنة، وقد أرخت هذه اللوحات اعتماداً على الدراسة التحليلية وبمساعدة المعطيات الأثرية بين القرنين الثاني والسادس الميلاديين، وقد نقل قسم منها إلى متحف اللوڤر، ولكن معظمها معروض في متحف أنطاكية.

وقد سمحت هذه اللوحات بتتبع تطور فن الفسيفساء ليس في أنطاكية فحسب، وإنما في سورية أيضاً عبر المراحل الزمنية المختلفة. كما أنها قدمت معلومات مهمة عن مختلف جوانب الحياة ولاسيما الدينية والثقافية، إضافة إلى الناحية الاجتماعية والاقتصادية.

وتتميز لوحات القرنين الثاني والثالث بالأسلوب التصويري المستخدم في اللوحات الجدارية في بومبي Pompei بإيطاليا منذ القرن الأول قبل الميلاد. أما المواضيع المصورة فهي مستمدة على نحو أساسي من الأسطورة اليونانية ومحاطة بأطر زخرفية هندسية. إن اختيار هذه المواضيع يظهر عمق التأثر بالثقافة الهلنستية، وقد تأثر فن الفسيفساء في تلك الفترة بالخطوط العامة للفن الروماني حيث تم في القرن الثاني اعتماد الأسلوب الكلاسيكي- المستخدم في فترة حكم هادريان Hadrian- في التصوير الذي يتميز باستخدام الألوان على نحو متناسق ومتوازن والتطبيق المتقن للبعد الثالث الذي يظهر جلياً في فسيفساء أوقيانوس Océanus.

أما في الفترة التالية الممتدة من نهاية القرن الثاني حتى منتصف القرن الثالث فإن فن الفسيفساء تأثر بالنزعة الواقعية التي سادت أثناء حكم العائلة السيفيرية (نسبة إلى سبتميوس سفروس) التي حكمت بين عامي 193 و 335م، حيث تتميز الأشكال المصورة باستخدام تقنية التظليل الذي يعتمد التباين الحاد بين منطقة الظل والضوء. وفي الوجوه يُلاحظ أن حركة العيون دائماً مائلة وتظهر شعوراً عميقاً بالحزن. وفي هذه الفترة بدأ يزداد استخدام المفردات الزخرفية الهندسية والنباتية على نطاق أوسع خصوصاً في الأطر. كما أن الفسيفسائي استخدم خلفيات معمارية مزخرفة، وهناك عدة أمثلة من هذه الفترة، مثل فسيفساء ديونسوس Dionysos وأريادن Ariadne ومسابقة الشراب.

وفي النصف الأول من القرن الرابع انتشرت مشاهد منوعة، كالصور التي تجسد دورة الطبيعة مثل فصول السنة ومشاهد من الحياة الرعوية (فيلا قسطنطين). إن اللوحات المكتشفة في النصف الثاني من القرن الرابع تتميز بالقطيعة شبه الكاملة مع التقاليد الزخرفية التي سادت فن الفسيفساء في أنطاكية لثلاثة قرون، فقد استخدم في هذه اللوحات برنامج زخرفي يعتمد على الزخارف الهندسية على نحو كامل، وهي تمتاز بتنوعها وغناها بالألوان، ويستخدم هذا البرنامج أشكالاً هندسية منوعة يعتمد على تكرارها من أجل زخرفة لوحات ذات حجم كبير، وأكثر ما يميز لوحات الفسيفساء من تلك الفترة هو استخدام ما اصطلح على تسميته تقنية قوس قزح من أجل ملء الفراغات الهندسية، ومثاله فسيفساء كنيسة قوسية وبعض الحمامات.

أما لوحات القرن الخامس فيُلاحظ إدخال عناصر زخرفية جديدة، ففي اللوحات المؤرخة من الربع الأول من هذا القرن توجد زخارف نباتية كزخارف الأزهار المنوعة (فسيفساء بيت طاولة السفرة). وأما في اللوحات المؤرخة بعد منتصف القرن الخامس فهي تصور مشاهد حيوانية، بعضها متأثر بالفن الساساني كاللوحة التي تمثل أسداً مع شريط ملتف حول رقبته، والأكباش النصفية ذات القرون المتباعدة فوق جناحين (إطار لوحة طائر الفينيق) والطيور ذات الأشرطة الملتفة حول رقبتها (فسيفساء الببغاء ذي الأشرطة). إضافة إلى انتشار مشاهد حيوانية منوعة ومشاهد صيد (فسيفساء صيد هونولولو Honolulu وفسيفساء صيد ورسيستر Worcester). وقد مثلت أيضاً صور نصفية لنساء في وسط بعض اللوحات تمثل أفكاراً مجردة (لوحة ميغالوبسوشيا)، وفي إطار اللوحة نفسها تمثيل معماري لبعض المباني في مدينة أنطاكية وضاحيتها دفنة تعطي معلومات مهمة حول طبوغرافية المدينة.

إن المعطيات الأثرية في أنطاكية تبقى مجزأة وغير محددة، ولا تمكّن من رسم صورة واضحة عن أنطاكية بوصفها مركزاً حضرياً كبيراً؛ فالتنقيبات الأثرية التي حصلت فيها لم تكن منهجية، وكانت سريعة وتوقفت عند بداية الحرب العالمية الثانية. أظهرت الحفريات التي قام بها لاسوس نتائج مهمة فيما يتعلق بالستراتيغرافيا (علم الطبقات الأثرية) stratigraphy، حيث كشفت عن عشرات الطبقات المتوضعة بعضها فوق بعض، ولكنها لا تعطي معلومات محددة عن امتداد المدينة أو عن النواحي المتعلقة بالسكن، باستثناء شارع الأعمدة الطويل، ذلك أن الامتداد السكاني المعاصر يجعل من القيام بحفريات أمراً مستحيلاً.

وقد تم التعرف من خلال تحليل الصور الجوية المأخوذة في عامي 1920 و 1930م إلى مكان تموضع الشارع الرئيسي، وهو في المكان نفسه الذي ظهر في الحفريات، كما ظهر أن الشارع الرئيسي الحالي في وسط المدينة مقام فوق الرواق الغربي للشارع القديم. وتم تحديد مبنى مع ضلع دائرية قد يكون المسرح الذي لم تعثر عليه البعثة الأمريكية على سفح جبل سيلبيوس، وهذا المكان يتطابق مع وصف المؤرخين مثل ليبانيوس الذي يذكر وجود المسرح على سفح الجبل.

كما تم تحديد منطقة سكنية مثلثة الشكل في جنوب غرب الشارع الطويل، وإلى الشرق منه تم تحديد جزء من سور مع ثلاثة أبراج، وبقربها قناة مياه تجلب المياه من دفنة. وخارج المدينة آثار نصف دائرية تتوافق مع خط قناة المياه، ويمكن أن يكون هذا البناء معبد حوريات المياه أو خزان مياه كبيراً، تتمحور وظيفته في توزيع المياه على الأحياء المختلفة.

وتم داخل المدينة القديمة أيضاً تحديد ساحة دائرية قريبة من النهر، في المكان نفسه الذي اقترحه ولبر Wilber في مخططه، وضمت الساحة العمود الذي كان يعلوه تمثال الامبراطور تيبريوس الذي كرس له تكريماً لأعماله التي قام بها في المدينة، وهناك أيضاً قناة مياه مقببة بالقرب من وادي بارمينيوس Parménios.

وفي دفنة الواقعة إلى الجنوب من أنطاكية تم تحديد المسرح الذي كشفت عنه البعثة الأمريكية، ومازالت بعض درجاته قائمة حتى اليوم. وإلى الغرب من المسرح بناء مستطيل قد يكون منصة - ومن الصعب التحقق على الأرض - كما يوجد بقربها منصة ثانية أيضاً.

وإلى الشرق من طريق أنطاكية حلب بناء طويل يتجه من الشمال إلى الجنوب، وهو محفور في الهضبة، ويبدو فيه ضلع نصف دائرية، وهو غير معروف، ومن الممكن أن يكون الملعب المرسوم في فسيفساء ميغالوبسوشيا المكتشفة في أحد بيوت دفنة.

مفيد العابد، كميت عبد الله

 
 

التصنيف : آثار إسلامية
المجلد: المجلد الثاني
رقم الصفحة ضمن المجلد :
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1080
الكل : 45637247
اليوم : 37930