logo

logo

logo

logo

logo

بوسيدونيوس

بوسيدونيوس

Posidonios -

بوسيدونيوس

(نحو 135-51ق.م)

 

 

 

بوسيدونيوس Poseidonios فيلسوف رواقي شهير، وأحد كبار المؤرخين والجغرافيين وعلماء الفلك والطبيعة في العصور القديمة. ولد في مدينة أفامية] ر[ Apameia السورية في عصر سادت فيه الفوضى والاضطرابات والصراعات السياسية والاجتماعية على العرش السلوقي مما دفعه إلى مغادرة مسقط رأسه والتوجه إلى أثينا للدراسة وتحصيل العلم فتتلمذ للفيلسوف الرواقي الكبير بانايتيوس Panaitios (نحو 180-110ق.م)، وصار أعظم تلامذته. ثم استقر به المقام في جزيرة رودوس Rhodos أحد المراكز الفكرية الرئيسة للعالم الهلنستي آنذاك التي كانت ترعى العلم والثقافة فمنحته حقوق المواطنة، وهكذا أصبحت وطنه الثاني فصار يعرف أيضاً بالرودوسي ثم قام برحلات كثيرة قادته إلى إيطاليا وبلاد الغال وإسبانيا وصقلية للبحث والدراسة، وأظهرت اهتمامه الشديد بالطبيعة وأجناس الشعوب، وقد أمضى في مدينة قادس Cadiz في إسبانيا أكبر مركز تجاري في الغرب ثلاثين يوماً ليجمع من هناك معلومات عن المحيط الأطلسي والمناطق المطلة عليه.

بوسيدونيوس الأفامي
(متحف نابولي - إيطاليا)

زار مرات عديدة مدينة روما واتصل بعلية القوم والمثقفين وكان له مثل أستاذه تأثير كبير في نشر الفلسفة الرواقية في الأوساط الأرستقراطية الرومانية عند الرومان. وقد توجه عام 86ق.م في مهمة رسمية إلى روما للدفاع عن مصالح رودوس وموقفها وما عانته من الحرب المثيريداتية (88-85ق.م)، كما ترأس سفارة رودوس إلى روما عام 51ق.م من أجل تجديد التحالف بينهما وقد مات في العام نفسه.

أسس في رودوس مدرسة فلسفية شهيرة نشر من خلالها تعاليمه في الفلسفة الرواقية (الوسطى) التي أصبحت محجة للطلاب والشخصيات المرموقة من شتى الأرجاء، ومن أشهر الأدباء الرومان الذين تأثروا به الخطيب الروماني الكبير شيشرون Cicero   ر(106-42ق.م) الذي يعترف بفضله عليه في كتاباته الفلسفية. كما زاره القائد الروماني الكبير بومبيوس]ر[ Pompeius مرتين الأولى عام 67ق.م، بعد انتهاء حربه ضد القراصنة والأخرى بعد عودته من سورية عام 63ق.م، مظهراً احترامه وتقديره الشديد بأن أمر حراسه بخفض فؤوسهم أمام بيت الفيلسوف الكبير وكم كان سروره عظيماً عندما أبدى بوسيدونيوس استعداده لأن يكتب ترجمة عن حياته وأعماله في تاريخه الكبير. وكان بوسيدونيوس وهو ابن أفامية يتمنى من كل قلبه أن يتم على يده إحياء الروح الهلنية في مدن سورية، وهو ما سعى إليه بومبيوس من خلال تحريره المدن الهلنستية ومنحها الحكم الذاتي وتشجيعها على إقامة اتحاد الديكابوليس]ر[  Décapole لرعاية مصالحها المشتركة.

كان بوسيدونيوس غزير الإنتاج، تناول في كتبه وأبحاثه شتى فروع المعرفة السائدة في عصره، ولكن لم يبق من مؤلفاته الفلسفية والتاريخية والطبيعية مع الأسف إلا النزر اليسير على شكل شذرات واقتباسات لدى الكتاب المتأخرين.

اشتهر بتاريخه الموسوعي المؤلف من 52 كتاباً تناول فيه أحداث عصره وتاريخ الشعوب الشرقية والغربية التي خضعت للرومان أو كان لهم صلة بها، وأكمل به تاريخ بوليبيوس Polybios (نحو 200- 120ق.م) وذلك بدءاً من عام 146ق.م وهو من الأعوام الحاسمة في تاريخ الرومان؛ إذ تم فيه القضاء على منافستهم القديمة قرطاجة وإزالتها من الوجود، وكان ذلك في رأيه بداية الانهيار الأخلاقي وتجدد الصراعات الاجتماعية والسياسية فيما بينهم التي يُعد ظهور الأخوين غراكوس Gracchus أهم مؤشر لها، وكذلك أيضاً انهيار المملكة السلوقية والدول الهلنستية بوجه عام. ومن أهم الأحداث التاريخية التي عالجها حروب العبيد (الرومانية) التي امتدت من الأعوام 136 حتى عام 99ق.م (ولعله تناول أيضاً حرب العبيد الثالثة بقيادة إسبارتاكوس) وفيها تبرز شخصية الزعيم أونيوس Eunus  ذلك الأسير السوري الذي قاد ثورة العبيد في صقلية ونصب نفسه ملكاً عليهم بحسب التقاليد السورية الهلنستية. ومن الأحداث الطريفة التي يرويها بوسيدونيوس في الكتاب الثالث من تاريخه الكبير تلك الحرب التي قامت بها مدينته الأم أفامية ضد مدينة لاريسا (شيزر) التابعة لها عام 142ق.م ولكن لم يبق من روايته إلا شذرات قليلة نقلها الأديب أثنايوس Athenaios في مؤلفه «الليالي الأتيكية» لطرافتها التي يصف فيها استعدادات الأفاميين لتلك الحرب قائلاً: «أخذوا سيوفهم القصيرة المعلقة ورماحهم الصغيرة الصدئة المتسخة ووضعوا الخوذ أو القبعات الواقية التي تمنح الظل ولكنها لا تمنع الريح عن رقابهم، وجروا معهم حميرهم التي حملوها بمختلف أنواع الخمور والأطعمة، وحملوا الآلات الموسيقية وكأنهم ذاهبون إلى وليمة عيد وليس إلى معمعة حرب».

وقد وصل بوسيدونيوس في استعراض أحداث عصره حتى دكتاتورية سولا Sulla عام 78ق.م الذي يبدو أنه رأى في إصلاحاته الرجعية حلاً لأزمات الدولة الرومانية. وعلى العموم فإن تاريخه يتصف بالميل إلى طبقة النبلاء ومعارضة الحركات الشعبية الثورية، وقد رسم فيه لوحة عظيمة بألوان قاتمة لعصره وأخلاق عصره راعى فيها أيضاً الأوضاع الاجتماعية.

وهو يتفق مع سلفه بوليبيوس في نظرته الإيجابية إلى الامبراطورية الرومانية وأحقية سيادتها على العالم ولكن من غير أن تخفى عليه الجوانب المظلمة فيها. وقد وجدت هذه الأفكار عن فساد الرومان وتخليهم عن فضائلهم وقيمهم القديمة صدى قوياً لدى المؤرخ الروماني سالوست في كتاباته. لقد كان لتاريخ بوسيدونيوس بشموله ودقته وحرصه على الحقيقة التاريخية وصياغته الأدبية الرفيعة تأثير واسع وعميق في كثير من المؤرخين الاغريق وعلى رأسهم ديودور الصقلي واسترابون وبلوتارخوس والمؤرخين الرومان وفي مقدمتهم سالوست وتيتوس ليفيوس وبلينيوس الأكبر وتاكيتوس.

وظف بوسيدونيوس علومه الموسوعية في خدمة فلسفته الرواقية التي طعمها بأفكار أفلاطون وأرسطو، وهو يرى أن الفلسفة تهدف إلى تثبيت علاقة الإنسان بالعقل logos. وكان يقول بوحدة الكون الحي الذي يتحرك فيه كل كائن ليس تبعاً لقوانين الطبيعة  فحسب وإنما عبر التشابه والتجاذب sympathia الذي هو التأثير المتبادل اللا منتهي. ويعود إليه الفضل في أنه أدخل مختلف العلوم الطبيعية في تعاليم الفلسفة الرواقية، وفي تأكيده على ضرورة التوفيق بين حياة التأمل والحياة العملية. وتفسر هذه الفلسفة الانتقائية الشاملة عظمة تفكيره وقوة تأثيره.

كما كان لبوسيدونيوس باع كبير في علوم الرياضيات والفلك والجغرافية؛ إذ مكنته أسفاره البعيدة وملاحظاته العلمية من إعطاء وصف دقيق للحياة وظاهرات المحيط والبحار وحساب محيط الأرض وبعد الشمس عنها كما أنه ربط بين ظاهرة المد والجزر وأدوار القمر وغير ذلك. ومع أنه كان نظرياً في أبحاثه فإن بعض إنجازاته المهمة تشهد له بالمقدرة العلمية، ومع كل هذا فإنه كان يعتقد بالأرواح والتنجيم والتخاطر وقدرة الروح على التسامي باتحادها الصوفي مع الإله الذي كان يرى أنه يمثل قوة الحياة في هذا الكون، وكل هذه الأفكار تنم على تأثير الشرق الروحي في الحضارة الهلنستية.

وأخيراً فإن بوسيدونيوس بأفكاره وتعاليمه كان أعظم الفلاسفة الرواقيين تأثيراً في العصر الهلنستي والأوساط الأرستقراطية والفكرية الرومانية، وكان كما يقول أحد مؤرخي الفلسفة المعاصرين أعظم عقلية موسوعية في تاريخ الفكر الإغريقي بعد أرسطو.

محمد الزين

 

مراجع للاستزادة:

- K. Reinhardt, Poseidonios (1921) .

- A. Lesky, Geschichte Der Griechischen Literatur. 3. Aufl. (Bern 1971).

- The Oxford Classical Dictionary, 2nd Edition (Oxford 1970).

 

 


التصنيف : آثار كلاسيكية
المجلد: المجلد الثالث
رقم الصفحة ضمن المجلد :
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 499
الكل : 31182631
اليوم : 7788