logo

logo

logo

logo

logo

الحنابلة (جامع-) /دمشق/

حنابله (جامع) /دمشق/

-

 الحنابلة

 الحنابلة (جامع -)

 

 

يقع جامع الحنابلة عند سفح جبل قاسيون الشرقي في حي الصالحية بدمشق، في منطقة «أبو جرش»، وعلى زقاق الحنابلة المتعامد مع شارع الشيخ عبد الغني النابلسي، شمالي المدرسة العمرية [ر] وغربي مسجدي بظنا [ر] والطشتدار[ر]. ويُعدُّ من أهم المساجد الأثرية الباقية في بلاد الشام؛ فهو ثاني المساجد الجامعة بدمشق بعد المسجد الأموي.

وتكمن أهميته في أمرين:

أولهما: يُعدّ المسجد من الروائع الفنية والأثرية التي تمثل الهيكل المعماري الأصيل للعمائر الأيوبية، حيث الاهتمام بالواجهات الحجرية الفخمة. كما تظهر فيه روعة العناصر الجمالية والهندسية والزخرفية، وتتجلى روعة النقوش في اللوحات الفنية الجصية المنحوتة بالزخارف الأنيقة والرسومات التي تظهر دقة صنّاعها وأذواقهم.

ثانيهما: مكانة المسجد العلمية، فقال عنه ابن كنان: «كان محلاً للحُفّاظ والمُحدِّثين، واجتمع فيه منهم ما لا يجتمع في غيره».

الواجهة الغربية للجامع المئذنة
المحراب المنبر

ومن ثم فقد قُدِّر لهذا المسجد أن يحوي بين جنباته حلقات الدروس ومجالس لعلماء الحديث والحُفَّاظ والمؤرّخين والفقهاء وغيرهم في شتى النواحي العلمية، ومنهم - على سبيل المثال لا الحصر - أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية (ت728هـ/1327م)، صاحب «الفتاوى»، والمؤرخ إسماعيل بن عمر والمعروف بابن كثير الدمشقي (ت774هـ/1372م) صاحب «البداية والنهاية»، وأحمد بن علي بن محمد (ابن حَجَر العسقلاني) (ت852هـ/1448م) صاحب «فتح الباري»؛ حيث أسهم هذا الجامع في نهضة علمية شاملة في دمشق وبلاد الشام.

تسهب المصادر التاريخية في ذكر ملابسات بنائه؛ وإن اتفقت على أن الذي شرَع في بنائه هو الإمام محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي الذي نزح من القدس صوب دمشق، واستقر به المقام في منطقة الصالحية، ثم باشر ببناء الجامع سنة 598هـ/1202م، وذلك إثر انتهائه من بناء زقاق الحنابلة، وتمَّ اكتماله ببناء المنبر سنة 604هـ/1207م.

الحرم الزخارف النباتية في الشباك العلوي للجدار الجنوبي في الحرم

 

ويقال: إن الذي أنفق على بناء المسجد كان أحد التجار، ويدعى الشيخ أبا داوود علي الفامي، وأن ما أنفقه هذا التاجر على البناء لم يلبث أن نفد، فتوقف بناء المسجد، ولم يرتق بعدُ إلى مستوى القامة. فلما وصل هذا الأمر إلى مسامع صاحب أربيل الملك المظفّر أبي سعيد كوكبوري بن زين الدين علي بن بكتكين (ت360هـ/1232م) - وكان زوجاً لربيعة خاتون شقيقة السلطان صلاح الدين الأيوبي ومعروفاً بالكرم الزائد والشجاعة المفرطة - أرسل من فوره مع حاجب من حُجَّابه يسمى شجاع الدين الأربلي ثلاثة آلاف دينار حتى يتسنى لهم إتمام بناء المسجد، وخصص له الأوقاف. وأمر المظفّر أيضاً بحفر بئرٍ قريبة من المسجد، وظلت هذه البئر على حالها إلى اليوم، ولكن جف ماؤها.

 
سقف الحرم 
 

ويبدو أن موقف الأمير المظفّر من المسجد جعل الناس ينسبونه إليه؛ فعُرف المسجد بجامع المظفري. ولهذا الجامع أسماء أخرى، منها «مسجد الصالحاني» نسبة إلى أبي صالح الحنبلي أحد مؤسسي المسجد وممن شاركوا في بنائه. كما عرف كذلك بجامع الصالحية نسبةً إلى المكان الذي بني فيه المسجد، وهي منطقة الصالحية، وجامع الجبل؛ لأنه يقع عند مصعد جبل قاسيون. وتُعدّ تسميته بجامع الحنابلة من أكثر التسميات شيوعاً؛ لأنه كان وَقْفاً حنبلياً، وكان يدرِّس فيه ويتعاقب عليه مشاهير أئمة الحنابلة، كما أن أبناء الشيخ أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي كانوا ممن أسهموا في بناء هذا الجامع.

يظهر في هذا الجامع الاهتمام بالواجهات الحجرية والإيوانات والصحن، كغيره من العمائر الدينية الأيوبية، ويبدو من تصميم هذا المسجد مدى تأثر القائمين على بنائه بتصميم الجامع الأموي، فجاءت مساقطه مشابهة له إلى حد بعيد؛ إذ تبلغ مساحة المسجد نحو 925م2. وتقع واجهة الجامع الرئيسية ناحية الغرب، ويتوسطها باب رئيسي يفتح على زقاق الحنابلة، وقد وُضع على الباب لوحة التأسيس، وكتب عليها ما نصه: «بناه الأمير الملك المظفر كوكبوري صاحب أربيل سنة 599هـ» (1202م).

     
الواجهة الجنوبية للصحن  الواجهة الشمالية للصحن  الواجهة الشرقية للصحن 
 

ويقابل هذا الباب في الناحية الشرقية باب آخر كُتبت عليه: «{إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر} هذا ما أمر بعمله تقرباً إلى الله تعالى وطلب ثوابه العبد الضعيف الفقير إلى رحمته المعروف بذنوبه الراجي إمداد عفوه وتوبته كوكبوري بن علي بن بكتكين صاحب أربيل غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر بمحمد وآله بتولي الفقير إلى رحمة الله محاسن بن سليمان القلانسي سنة 599هـ ولله الحمد والمنة وصلى الله على محمد وآله».

تقع على جانبي الباب الغربي الرئيسي نافذتان كبيرتان تطلان على زقاق الحنابلة، يتوسطهما هذا الباب الذي يؤدي بدوره إلى رواق جميل ذي أربع قناطر كبيرة فوقها قبة صغيرة. يفضي هذا الرواق إلى صحن المسجد الذي تتوسطه بركة مياه مربعة الشكل للوضوء، ويبدو أن هذه الميضأة كان لها مظلة محمّلة على أربعة أعمدة، وما لبثت هذه البركة أن تحولت إلى فسقية مربعة الشكل مطوقة بعقد رخامي.

وصحن المسجد مفروش بالحجارة العادية، وتشبه تقسيماته إلى حد بعيد أجزاء صحن الجامع الأموي، وعلى جانبي الصحن أروقة محمولة على قناطر، وكذلك النوافذ القوسية فوق القناطر.

وقد طرأ على أرضية المسجد تغيرات، فصارت مفروشة بالرخام الأبلقي بديع الشكل ذي أشكال هندسية متداخلة، ويوجد على جانبي الصحن عدة أعمدة لم يطرأ عليها تغير إلى الآن، إضافة إلى الأقواس المبنية فوق الأعمدة المتعددة والتي يعلوها نوافذ قوسية الشكل.

 
دكة المبلغ 
 

وتجدر الإشارة إلى أن المسجد به عدة نوافذ، بعضها للتهوية والأخرى للإضاءة، ففي الناحية الجنوبية للمسجد يوجد أربع نوافذ تطل على الدُّور السكنية الموجودة بجوار المسجد، كما يوجد في الناحية الشرقية نافذتان، ونافذتان أخريان عند المدخل الرئيسي في الناحية الغربية، وفي الجهة الشمالية للمسجد نافذتان أيضاً.

يضم صحن الجامع أربعة إيوانات كبيرة في الجهات الأربع، ويقع بيت الصلاة في الجهة الجنوبية من صحن المسجد، ويتم الدخول إلى الحرم عن طريق باب كبير تعلوه دكّة المُبَلِّغ الخشبية، وإلى يمينه بابان صغيران وثالث أصغر، تفتح كل هذه الأبواب على صحن المسجد، وفوق هذه الأبواب توجد بعض النوافذ، وفوقها بعض اللوحات المنحوتة والغنية بالزخارف الجصية الأنيقة على هيئة نباتات زهرية، ولم يبقَ من هذه الزخارف إلا النزر اليسير.

ويتألف الحرم من ثلاثة أروقة موازية لجدار القبلة، يفصل بينها بائكتان من العقود المدببة التي تستند إلى الأعمدة الدائرية والدعامات المربعة.

ويتوسط المحراب الجدار الجنوبي للمسجد، وهو محراب حجري غاية في الأبهة يكتنفه عمودان من الرخام، وهو محفور في حائط القبلة يحيط به إطار مزخرف بشكل هندسي بديع ومزين ببعض الآيات القرآنية كتبت بعدة خطوط عربية، ومتوج بمقرنصات على شكل نصف قبة تقع أعلى العمودين. وتعلو المحراب آية: } إنَّ الصَّلاةَ كانَتْ على المؤمنينَ كتاباً موقوتاً{.

ويقع على يمين المحراب منبر خشبي بديع الصنع، يُعدّ آية من آيات الفن، فهو من أقدم المنابر الموجودة في بلاد الشام وأندرها؛ حيث يشير النص التاريخي المحفور في المنبر إلى أنه تمت صناعته سنة 604هـ/1207م، وهذا نصه «لا إله إلا الله محمد رسول الله أمر بعمارة هذا المنبر العبد الفقير إلى الله تعالى محاسن بن سليمان بن أبي محمد القلانسي في سنة 594هـ»، وقد زُيِّن المنبر بنقوش زخارف نباتية وهندسية محفورة ومفرغة.

 
نماذج تيجان الأعمدة في جامع الحنابلة 
 

ويوجد أعلى هذا المنبر- وراء ظهر الخطيب- لوحة خشبية، حولها كتابة، نصُّها: «اللهم أدم دولة مولانا الإمام ابن الإمام وصاحبها البرده والقضيب والحسام الذي ليس للمسلمين أميراً (أمير) سواه ولا خليفة/ أبو (أبي) العباس أحمد أدام الله أيامه أدم اللهم النعمة والتمكين ببقاء الملك العادل سيف الدنيا والدين خليل أمير المؤمنين أبو (أبي) بكر بن أيوب أدام الله أيامه ونشر في الخافقين أعلامه».

يبدو ممّا ذكرته بعض الروايات التاريخية أن هذا هو المنبر الثاني لهذا المسجد، وأن المنبر الأول كان بسيطاً وشبيهاً بمنبر مسجد النبي بالمدينة المنورة، وظل هذا المنبر بالمسجد مدة ست سنوات في الفترة من 598هـ/1201م حتى 604هـ/1207م.

وسقف هذا المسجد محكم الصنع، فهو مؤلف من ثلاثة جملونات خشبية تغطيها طبقة من الطين والكلس. وأما مئذنة الجامع فقد بنيت سنة 610هـ/1213م، ونُقش اسم المظفر عليها. وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن جامع الحنابلة كان له مئذنتان: جنوبية وشمالية؛ إلا أن زلزالاً ضرب بلاد الشام سنة 1173هـ/1756م أطاح بالمئذنتين؛ تم بعدها إعمار المئذنة الشمالية، وقد شُيِّدت تلك المئذنة على غرار الطراز الأيوبي؛ فهي مربعة الجذع بسيطة الشكل خالية من المقرنصات والعناصر الزخرفية مطلية بالجص الأبيض. والمئذنة شاهقة الارتفاع يتخلل جذعها المربع نوافذ ضيقة، وشرفتها تساير أضلاع الجذع، ولا تبرز عنه، وهي مسيجة بدرابزين خشبي جُدِّد مع المئذنة في العصر العثماني، ويغطي الشرفة مظلة مربعة الشكل بسيطة، يعلوها بدن دائري مكوّن من أنصاف الأعمدة والعقود، وقمة المئذنة على شكل خوذة يعلوها الهلال.

وقد حدثت تعديلات وترميمات نالت كثيراً من أجزاء هذا المسجد، إذ توالت عليه نكبات متتالية، وذلك من جراء الأحداث الجِسام التي مرت بها بلاد الشام؛ ابتداءً من الهجوم التتري الوحشي بقيادة غازان بن أرغون ملك التتار سنة 699هـ/1299م، حيث نال المسجد ما نال بلاد الشام من خراب.

ومن النوائب التي ألمّت بهذا المسجد الحريق الذي شبَّ بسفح جبل قاسيون سنة 744هـ/1343م واحتراق حوانيت كثيرة من سوق الصالحية، وأصاب الحريق أجزاء من المسجد. وفي سنة 928هـ/1521م حدثت فتنة، ونشب الخلاف بين العثمانيين والنائب المملوكي جان بردي الغزالي الذي أراد أن ينفصل بالشام عن الخلافة العثمانية إثر موت السلطان العثماني سليم الأول، فنال المسجد في هذه الفتنة قسط من التخريب.

والجامع اليوم معروف ومشهور بالصالحية، وقد جدد سنة 1408هـ/1987م، وطُلي بالدهان، وأدخلت عليه تعديلات جديدة.

فاطمة السليطي

 

مراجع للاستزادة:

- يوسف بن عبد الهادي، ثمار المقاصد في ذكر المساجد، تحقيق محمد أسعد أطلس (مكتبة لبنان، بيروت 1974م).

- محمد بن عيسى بن محمود ابن كنان، المروج السندسية الفسيحة في تلخيص تاريخ الصالحية (مديرية الآثار القديمة، دمشق 1947م).

- قتيبة الشهابي، مآذن دمشق تاريخ وطراز (منشورات وزارة الثقافة، دمشق 1993م).

- أكرم حسن العلبي، خطط الشام (دار الطباع، دمشق 1989م).


التصنيف : آثار إسلامية
المجلد: المجلد السادس
رقم الصفحة ضمن المجلد :
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1091
الكل : 45630839
اليوم : 31522