آخر الأخبار
الغنوصية
غنوصيه
Gnosticism - Gnosticisme
الغنوصية
الغنوصية Gnosticism كلمة يونانية الأصل تعني المعرفة أو العرفان، ثم تطورت واتخذت معنى اصطلاحياً «العرفانية»، وصارت تعبّر عن تذوق المعارف مباشرة أو التوصل بنوع من الكشف والإلهام إلى المعارف العليا، ومثلت الغنوصيَّة نزعة فلسفية صوفية دينية معاً، غايتها معرفة الله بالحدس لا بالعقل، وبالوجد لا بالاستدلال، أي بالذوق والكشف. لهذا تطلق أيضاً على المذاهب الباطنية. ويذهب بعضهم إلى أنها ترجع بأصلها إلى إلهام إلهي منذ البدء وتناقله أهل العرفان (المريدون) سراً.
جوهر الغنوصية وفلسفتها
تعدّ الغنوصية مذهباً تلفيقياً، بوصفها مزيجاً غير أصيل من أفكار دينية متباينة الأصول، أساسها التوفيق بين مختلف العقائد التي سادت جميع أنحاء الامبراطورية الرومانية وانتشرت فيها قبل ظهور الديانة المسيحية وحين ظهورها. وقد نظر بعض آباء الكنيسة (أوريجين مثلاً) إلى النزعة الغنوصية على أنها وليدة تزاوج بين المسيحية وبين حركات روحية أخرى، أبرزها: اليونانية، والفارسية، واليهودية، وأن المذاهب الغنوصية نشأت من الديانات السرية ولاسيما (الفيثاغورية والأفلاطونية)، وجوهرها رفض العهد القديم وصبغ الأناجيل بالصبغة اليونانية وجعلها هيلينية، وهذا ما أكده أدولف فون هارنك A.V.Harnackحين زعم أن الغنوصية حركة إضفاء الطابع اليوناني على المسيحية. في حين نفى بعضهم أن تكون الغنوصية هيلينية تماماً، فهي شرقية الأصل، لكن شرقيتها كانت في ثوب هيليني، وحسب رأي بوست W.Bousset، الغنوصية ذات طابع شرقي فارسي. وقد أيد هانز ليزغانغ H.Leisegang رأي هارنك، بأن الغنوصية ضرب من التفكير اليوناني الصوفي، وعموماً تشغل الغنوصية مكاناً وسطاً بين الدين والفلسفة، وبين الشرق والغرب.
تميزت الغنوصية بخصائص عدة أبرزها القول بالثنائية[ر] dualism، وكشف الأسرار الإلهية أو تجلي الألوهية، وأخيراً تحقيق الخلاص أو النجاة، إذ تقول بوجود مبدأين (إلهين) للوجود هما الروح (الخير والنور) والمادة (الشر والظلمة)، وتجري أحداث الكون حسب ما بينهما من نزاع وتعارض، ودرجة تغلب الواحد منهما على الآخر، فإذا كانت الغلبة للمادة، كان الشر هو الغالب، وإذا كانت الغلبة للروح، كان الخير هو الغالب، وبهذا وضعت الغنوصية تخطيطاً عاماً للوجود أعلاه الله سبحانه وتعالى لأنه خير محض ووجود معقول - مفارق، لا يصدر عنه أي وجود مادي شرير، بل تصدر عنه أرواح زوجية (ذكر وأنثى)، سميت بالأيونات أو الأراكنة، وهي نماذج ومثل العالم اللامتناهي في صور مشخصة، تتدرج مراتبها وألوهيتها بتدرج بُعْدها عن مصدرها، وأحد هذه الأيونات واسمها الحكمة (صوفيا) فاض بها الشوق إلى الله، وامتلأت بالتفكير فيه، فتجرأت وتجاوزت حدودها ومرتبتها، فطردت من مملكة السماء ـ العالم المعقول، ونتيجة خطيئتها فاضت روح الشر أو إلهه الملقب أركون، وصدرت عنه أرواح شريرة مثله، وكذلك العالم المحسوس وما فيه من أجسام، وقد حبس ذلك الأركون الخاطئ النفوس البشرية في أجسامها، فكوَّن الإنسان. ولأن هذه النفوس تهفو إلى الخلاص والصعود إلى عالمها الأول؛ يحدث الصراع العارم في الإنسان بين قوى الخير وقوى الشر. فمن كانت فيه طبيعة الغنوص عاد إليها ربانياً، ومن تغلبت عليه طبيعة المادة بقي في عالمه الأدنى، أي إن الإلهي منها أو الغنوصي يصعد إلى السماء، والأرضي أو المادي يثبت على الأرض، ويتوسطها الحيواني، وهذه تتنازعها السماء والأرض، فصعودها إلى السماء مشروط بانتصارها على شهواتها.
الغنوصية في الفكر الشرقي
أول ما ظهر الغنوص في الأديان الفارسية التي جمعها الإسلاميون تحت اسم المجوسية، ويبدو أن أول مَنْ نُسبت إليه الغنوصية في الأساطير الفارسية كيومرت، وقيل إنه اسم آدم، وإنه أول من قال بأصلين للوجود هما يزدان وأهرمن. وتعد الزرادشتية[ر] أيضاً من الديانات الغنوصية الثنائية، وكذلك عُدَّت الديصانية (نسبة إلى ديصان)، والمانوية (نسبة إلى ماني بن فاتك)[ر] والمزدكية[ر] من الفرق الغنوصية. وفي العراق، ولاسيما في الجنوب، كانت المندائية أولى الفرق الغنوصية، ومن ثم مدرسة الحرنانية الغنوصية، والصابئة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم.
ويمكن الحديث عن غنوصية قبل قيام المسيحية، تلك التي تمثلت في الكتابات الهرمسية في صورتها الأولى التي وُجِدَتْ في الدوائر المصرية المتأغرقة (المتأثرة بالإغريق). وقد اعتقدت أغلب هذه الطوائف الغنوصية بالوجود السابق وبالتجدد الروحي للنفوس البشرية، ونظرية الروح السحرية.
أما الغنوصية المسيحية فقد ظهرت في بادئ الأمر في السامرة، ثم في الإسكندرية، وازدهرت في القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد. وانتشرت في أغلب بلاد الشرق الأوسط ولاسيما في مصر. وامتد أثرها إلى اليهودية والإسلام، فتمثلت في صور وأشكال مختلفة منها الغنوصية اليهودية والمسيحية والإسلام.
الغنوصية عند اليهود والمسيحيين
تجلت الغنوصية عند اليهود فيما يعرف باسم «القبالة»[ر]، فقد كانت القبالة أكبر غنوص عرفه تاريخ الأديان، حيث انتشرت بسرعة من فلسطين إلى الإسكندرية، واختلطت بالفلسفة اليونانية عن طريق فيلون اليهودي Philo الذي مهد لظهور المسيحية، وكان له أكبر الأثر في يوحنا الإنجيلي، وكان من أبرز الشخصيات الغنوصية المسيحية في القرن الثاني الميلادي، ثلاثة هم باسيليدس Basilides وفالنتينوس Valentinus ومرقيون Marcion. يعتمد مذهبهم على المعرفة الصوفية التي تهدف إلى الخلاص من العالم الحسي والاتحاد بالله، وذهبوا في تأويلهم لعقائد المسيحية مذهباً خاصاً بهم، ولاسيما في عدائهم للدين اليهودي، فرفضوا تعصب اليهود وادّعاءهم بأنهم شعب الله المختار، وعارضوا التوراة بالإنجيل وكرهوا إله العهد القديم، فقالوا بإلهين، واحد جبار للعهد القديم، وآخر محب للعهد الجديد، وعدّت الغنوصية الأول إلهاً شريراً خلق العالم المادي مصدر الشر والنقص، ونبذوا التوراة، وقدم الغنوصيون نظرية خاصة بالخلق تقول بوجود قوى روحانية بعد الله أو الإله الأعلى، وعددها 33 قوة ترمز إلى عمر السيد المسيح، منها ذكور ومنها إناث، وكلها مظاهر للإله يكوّن مجموعها الصفات الإلهية، سماها فالنتينوس بالأيونات، وبرأيه أن صوفيا، قوة الحكمة، أحد هذه الأيونات، قد ضلّت، فخلقت العالم بوساطة ابن ماكر لها هو إله اليهود، لكن أيوناً آخراً - وهو المسيح - بُعث ليعيد الحكمة إلى صوابها ويرجعها إلى زمرة المجموعة الروحانية الخيّرة، إذ يعتقد فالنتينوس أن العالم المحسوس هو من خلق يهوا إله اليهود والتوراة، وهو ابن عاق للحكمة الإلهية، غير أن الإله الأعلى الخير لم يترك لإله اليهود الحكم المطلق في العالم فأرسل ابنه في شخص المسيح ليحرر الناس من تعليمات موسى الخاطئة. بيد أن إيرينايوس Irenaeus- أحد المدافعين الأوائل عن المسيحية - حاول حماية العقيدة المسيحية من التضليل، مؤكداً أنه لا إله سوى واحد خيّر.
في حين ذهب باسيليدس في مذهبه الغنوصي إلى تعظيم الشيطان لدرجة التأليه، وربط بين البوذية والهندوسية في نطاق المسيحية، وسلّم بالتجدد الروحي وأنكر بعث الأجساد، فكان تفسيره للمسيحية بوذياً عميقاً. أما مرقيون فقد نادى بثلاثة مبادئ رئيسية للوجود، الإله المتعالي، والصانع، والمادة الخالدة. ورفض نظرية الفيض[ر]، وأنكر على المسيح الطبيعة البشرية، ورفض العهد القديم، ونبذ الشريعة اليهودية، والكتب العبرانية المقدسة، فأصدر عهداً جديداً غير العهد المعروف يتكون من إنجيل لوقا ورسائل بولس لكن الكنيسة حرمته.
الغنوصية عند العرب والمسلمين وموقف علماء الكلام
عرف العرب الغنوصية، وتزندق منهم كثيرون وقالوا بالثنائية. ويذكر النديم من الفرق الغنوصية في الإسلام المغتسلة بنواحي البطائح؛ الذين يزعمون أن الكونين ذكر وأنثى، والجنحيين في جوخي على النهروان (في العراق اليوم بين بغداد وواسط)، والأزرمقانيين نسبة إلى خسرو الأزرمقان؛ ومن الغنوصيين الجعد بن درهم، وابن طالوت، وعبد الكريم بن أبي العوجاء، وبشار بن برد، وإسحاق بن خلق، وأبو العباس الناشئ، والجبهاني محمد بن أحمد بن عبد الملك الزيات، ويحيى بن زيادة، وأبو العتاهية، وكلهم من المتكلمين أو الشعراء أو الحكام، ونفذت الغنوصية إلى غلاة الشيعة، وكانت أساس الشيعة الإمامية والإسماعيلية، لكن علم الكلام، الذي قام أساساً للرد عليهم، قاوم كل هذه الطوائف والدعوات الغنوصية.
الغنوصية في الفكر الصوفي الإسلامي
سيطرت الغنوصية على فلسفة التصوف في الإسلام. ومثلت نوعاً من المعرفة الصوفية، يحدث للصوفي بطريق مباشر، أشبه بالومضة، وهو من قبيل الإدراك المباشر الوجداني، في مقابل الإدراك الحسي المباشر والإدراك العقلي المباشر. ودخلت فكرة الثنائية الغنوصية بين الله والمادة في عقائدهم، فأصبح محمد r هو العقل الأول، ومنه خرج النوس (النفس) ثم اللوغوس (الكلمة) ثم الأنتروبوس (الإنسان الكامل)، ثم عدد من الكائنات الروحية (الأيونات) في تدرج تنازلي، وصولاً إلى المادة أصل الشرور في العالم. لكن الإنسان يصعد إلى العقل ثانية بمنهج العرفان (الغنوص). وقد كان الحلاج، والسهروردي، وعين القضاة الهمذاني، وابن سبعين، ومحيي الدين بن عربي من ضحايا الغنوص، حتى ادعى ابن عربي والشلمغاني حلول روح الله فيهما.
وقد عرف الإسلاميون، من المذاهب الهندية الغنوصية، «البددة» جمع «بد» تحريف بوذا، حتى إن ابن سبعين كتب كتابه «بد العارف» وكان يقصد البوذية وانقسم الهنود إلى السمنية المعطلة التي تقول بالتناسخ[ر]، والبراهمة الملحدة. وقد نفذت هذه المذاهب الهندية إلى التصوف الإسلامي، ومن ثم كان هذا التصوف على أحد أمرين، إما أنه تصوف فلسفي متلق عن هؤلاء، وإما تصوف سني نشأ في رحاب القرآن والسنة. ومما لا شك فيه أنه كان للإسلام موقف عدائي من الغنوص الشرقي، كموقفه من الغنوص الغربي (الأفلاطونية المحدثة).
الغنوصية وانتشارها في الزمن الحاضر
ظلت الغنوصية قوية حتى القرن الخامس الميلادي، وذلك من خلال صلتها بالأفلاطونية الجديدة، وفيما بعد حُكم على تعليماتهم بالهرطقة، ومع هذا ما تزال الغنوصية حتى اليوم منتشرة في الهند وباكستان وإيران والعراق وسورية ولبنان والكويت والخليج العربي، وقد تم اكتشاف النصوص الأصلية لكتابات المؤلفين الغنوصيين أنفسهم، ويقارب عددها 51 كتاباً، كان قد عرف القليل منها، لأول مرة في عام 1945/أو 1946 بالقرب من مدينة نجع حمادي بصعيد مصر، أو ناحية قصر الصياد، ضمن مجموعة من المخطوطات القبطية وعددها 13 مخطوطاً كُتبت على ورق البردي ووضعت في جرة. وقد تمكن المتحف القبطي بالقاهرة عام 1952 من الاستيلاء على الجزء الأكبر منها، بعد أن بيع بعضها إلى معهد يونغ Jung في زيورخ (مخطوط يونغ).
وقد أسهم بعض المصريين في نشر هذه النصوص عام 1956 من أمثال ياهور لبيب وعيسى عبد المسيح، إلى جانب فئة من الأجانب من أمثال بويش Puech، وكويسبل Quispel، وكراوزه Krause، وبولينغ Bohling، وتُرجم بعضها إلى لغات أوربية عدة.
سوسن بيطار
الموضوعات ذات الصلة: |
التصوف ـ الزرادشتية ـ القبالة ـ الكلام (علم ـ) ـ المانوية ـ مرقيون ـ المزدكية ـ وحدة الوجود.
مراجع للاستزادة: |
ـ إميل برهييه، تاريخ الفلسفة: المرحلة الهلنستية والرومانية، ترجمة جورج طرابيشي (دار الطليعة، بيروت 1983).
ـ يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية (دار القلم، بيروت، د.ت).
- Zeller (ed.), The Philosophy of Greeks in its Historical Development, 1877-1897, 6 vol.; Outlines of the History of Greek Philosophy(Oxford 1931).
- التصنيف : الفلسفة و علم الاجتماع و العقائد - المجلد : المجلد الرابع عشر، طبعة 2006، دمشق - رقم الصفحة ضمن المجلد : 28 مشاركة :
متنوع
البحوث الأكثر قراءة
هل تعلم؟
- - هل تعلم أن الأبلق نوع من الفنون الهندسية التي ارتبطت بالعمارة الإسلامية في بلاد الشام ومصر خاصة، حيث يحرص المعمار على بناء مداميكه وخاصة في الواجهات
- - هل تعلم أن الإبل تستطيع البقاء على قيد الحياة حتى لو فقدت 40% من ماء جسمها ويعود ذلك لقدرتها على تغيير درجة حرارة جسمها تبعاً لتغير درجة حرارة الجو،
- - هل تعلم أن أبقراط كتب في الطب أربعة مؤلفات هي: الحكم، الأدلة، تنظيم التغذية، ورسالته في جروح الرأس. ويعود له الفضل بأنه حرر الطب من الدين والفلسفة.
- - هل تعلم أن المرجان إفراز حيواني يتكون في البحر ويتركب من مادة كربونات الكلسيوم، وهو أحمر أو شديد الحمرة وهو أجود أنواعه، ويمتاز بكبر الحجم ويسمى الش
- هل تعلم أن الأبسيد كلمة فرنسية اللفظ تم اعتمادها مصطلحاً أثرياً يستخدم في العمارة عموماً وفي العمارة الدينية الخاصة بالكنائس خصوصاً، وفي الإنكليزية أب
- - هل تعلم أن أبجر Abgar اسم معروف جيداً يعود إلى عدد من الملوك الذين حكموا مدينة إديسا (الرها) من أبجر الأول وحتى التاسع، وهم ينتسبون إلى أسرة أوسروين
- - هل تعلم أن الأبجدية الكنعانية تتألف من /22/ علامة كتابية sign تكتب منفصلة غير متصلة، وتعتمد المبدأ الأكوروفوني، حيث تقتصر القيمة الصوتية للعلامة الك
- عدد الزوار حالياً 1079
- الكل 83366705
- اليوم 36470
اخترنا لكم
أونغاريتي (جوسيبي-)
أونغاريتي (جوسيبي ـ) (1888ـ1970) جوسيبي أونغاريتي Giuseppe Ungaretti شاعر إيطالي ينحدر من أسرة توسكانية مهاجرة، فقد ولد في الاسكندرية بمصر وتوفي في ميلانو بإيطالية. يُعدّ من كبار شعراء إيطالية في القرن العشرين. كان صحفياً وناثراً، كما كان رجل ثقافة وأدب وتأمل، إلى جانب كونه رجل مقاهٍ وحوارات وأسفار. وكان مواطناً عالمياً: فهو مصري المولد، فرنسي الثقافة والفكر، إيطالي الأصل، جذوره ضاربة في أرض أجداده ومرتبطة بعاداتها وتقاليدها ارتباطاً لاتُفصم عُراه. استقر في باريس منذ عام 1910، وتابع في الكولّيج دي فرانس College de France محاضرات الناقد الأدبي الفرنسي غوستاف لانصون Gustave Lanson، ومحاضرات جوزيف بدييه[ر] Joseph Bedier أستاذ أدب العصر الوسيط، كما واظب على حضور محاضرات الفيلسوف الفرنسي هنري برْغُسن[ر] Henri Bergson. وقد تردّد أونغاريتّي مدَّة إقامته في باريس على أكثر الأوساط الثقافية والفكرية والفنية الطليعية نشاطاً آنذاك. كما اطلع على أعمال ثُلَّةٍ من الشعراء الفرنسيين الذين أثّروا تأثيراً بالغاً في مسيرته الشعرية، أمثال شارل بودلير [ر] Charles Baudelaire، وستيفان مالاّرميه[ر] Stéphane Mallarmé، وأرتور رامبو[ر] Arthur Rimbaud، وجول لافورغ[ر] Jules Laforgue وكثير غيرهم كانوا مايزالون مجهولين في إيطالية. كما التقى أونغاريّتي في باريس شاعراً إيطالياً مولوداً في الاسكندرية وهو فيليبو تومّاسو مارينيتّي Filippo Tommaso Marinetti الذي برزت في شعره النزعة «المستقبلية» Futurisme ومؤداها: الثورة على الماضي بكل أساليبه الفنية، ومحاولة ابتكار موضوعات وأساليب فنية وأدبية تتمشى مع عصر الآلة. وبعد أن ترك أونغاريتّي باريس واستقر نهائياً في رومة، احتفظ بصداقة وثيقة العرى مع كل من الأديبيَن الفرنسيَين جان بولهان Jean Paulhan ، وبنيامين كريميو Benjamin Crémieux. تأثّر أونغاريتّي تحديداً بالشاعر الفرنسي مالاّرميه، فنظم شعراً على منواله فاشتهُر أمره، واندرج اسمه في الرباعي الإيطالي الكبير إلى جانب الشعراء أومبرتو سابا[ر] Umberto Saba ومونتالي وكوازيمودو. وقد بشّر هذا الرباعي، الذي ظهر في مرحلة مابين الحربين العالميتين، بنهضة شعرية في إيطالية. نفخ أونغاريتّي في بواكير إنتاجه روحاً جديدة في الشعر الإيطالي، وانطلق صوته غريباً عن قضايا الشعر الإيطالي السائد آنذاك، وتجاوز جميع محاولات ردود الفعل ضد المدرسة الدانّونزية المسيطرة التي أسسها وتزعمها الإيطالي غابرييله دانّونزيو[ر] Gabriele D'annunzio. كما خالف نهج الشاعر جوفانّي باسكولي[ر] Giovanni Pascoli، وبلور أسلوباً شعرياً جديداً في مبناه وفي معناه يمكن تلمس صداه فيما بعد عند الشاعر الفرنسي رنيه شار[ر] Rene Char. نظم أونغاريتّي ستة دوواين شعرية جمعها في خمسة مجلدات وهي على التوالي: 1ـ «غبطة الغرقى«L'Allegria dei naufragi نظمه بين عامي 1914 و1916 ويحتوي بين دفتيه على ديوان صغير بعنوان «المرفأ الغائر» Il porto sepolto. وصف أونغاريتّي في ديوانه هذا أهوال الحرب ومآسيها، وعبّر فيه عن فرحة البقاء بعد انتهائها. ويُلمس في هذا الديوان شفافية التشاؤم البطولي الذي يطبع بطابعه مجموعة قصائد الديوان. 2ـ «الشعور بالزمن» Sentimento del tempo: نظم قصائده في الأعوام 1919-1937. عبّر فيه عن ضيقه بالعيش وتبرّمه به، واستحواذ فكرة الموت وهاجسه على نفسه، فبحث عن وطن حقيقي ضائع ومختبئ في ليل الزمان السحيق. كما بحث عن «البراءة الأولى». وتُظهر هذه الأحاسيس كلّها أن جرح النفي والاغتراب الذي كان يشعر به على الدوام لم يندمل بعد عنده. وقد زاد من حدة اغترابه عن وطنه آنذاك معارضته للفاشية وأفكارها، فشدّ الرحال من جديد وسافر إلى البرازيل ليدرّس فيها الأدب الإيطالي الحديث من عام 1937 حتى عام 1942. وقد بحث أونغاريتّي في ديوانه هذا عن أسلوب أكثر إتقاناً، وعن شكل شعري أكثر اتباعية. 3ـ «الألم» Il Dolore: نظم قصائده في الأعوام 1937-1946. في المدة التي درّس فيها أونغاريتّي في سان باولو وقعت أحداث جسام تركت بصماتها المأساوية على قصائد هذا الديوان. فقد توفي ولده في عام 1937 وكان له من العمر تسع سنوات، وأدمى قلبه احتلال النازيين رومة فصبّ أحزانه في قصائد فيها نُواحٌ يمزق القلوب. 4ـ «الأرض الموعودة» Terra Promessa:نظم قصائده في الأعوام 1947-1950. شعر أونغاريتّي طوال حياته بأنه منفي؛ منفيٌّ في الأرض، هائم على وجهه، دائم التنقل والترحال، يحث السير أبداً نحو آفاقٍ جديدة. فقد وُلد في مصر التي تعجّ بشتى الأساطير، وبالسحر الذي يفتن الغرب. وقد بقي طوال حياته داعياً لهذه الازدواجية التي تجري في عروقه بين أصله الإيطالي ومولده المصري، ممزقاً بينهما؛ فبين بَهْرِه وهَلَعِه من الصحراء وتعلُّقه بسحر السراب وبحثه الدائم عن الواحات وترصده إياها، يتنازعه حنينه الذي ورَّثته إياه أمّه إلى أرض توسكانة Toscana. وقد اندمج هذان العالمان المتناقضان في ذهنه وروحه، فأبدع من وحيه ديوانه «الأرض الموعودة». وقد عبّر عن نفيه واغترابه في قصيدته القصيرة التي أهداها إلى صديقه العربي محمد شهاب، قرينه في الاغتراب وتوأم روحه. بحث أونغاريتّي بدأب وإصرار عن تلك الأرض السراب التي كلّما ظن أنه وجدها تلاشت من تحت قدميه واختفت. وقد عبّر عن ذروة اغترابه في قصيدته «الأنهار» التي يتحدث فيها عن نهر سيركيو Serchio الإيطالي، والنيل المصري، والسين Seine الفرنسي. ثلاثة أنهار تحمل في جريانها ثلاثة منابع ثقافية، كان قلب أونغاريتّي يخفق بها ويرتوي منها. لقد وصل أونغاريتّي في ديوانَيه «الألم» و«الأرض الموعودة» إلى حدّ الإبهام والغموض وإلى مرحلة «الشعر الصرف». 5 ـ «صراخٌ ومناظر» وهو آخر دواوينه، نظم أشعاره في الأعوام 1950- 1954. تضم هذه الدواوين الخمسة قصائد عروضها أحد عشر مقطعاً. ولأونغاريتّي كتابات نثرية. فقد كتب مجلدات كثيرة عن ذكرياته، وكتب مقالات ودراسات شرح فيها تجربته في الهرب من «قلق العصر» عن طريق الصفاء التقني في النظم الشعري، واللوذ بالأحلام، والتلاشي في الأحاسيس. وهذه كلّها منابع للخلاص الإنساني يمكن أن يبلغ الشعر فيها شأواً بعيداً لايخلو من غموض وانسجام. كما كتب أونغاريتّي دراسات في التصوير والمصورين ولاسيما كتاباته عن المصور والرسام والنحات الفرنسي جان فوترييه[ر] Jean Fautrier. وله كتابان: «الفقير في المدينة» Il povero nella città نشره في عام 1949، و«مفكرة شيخ» Il Taccuino del Vecchio وقد نشره في عام 1960. كما نشر كتاباً في عام 1961 عن ذكرياته بعنوان «انطلاقاً من الصحراء» Il Deserto e dopo. وله ترجمات مهمة. فقد ترجم سونيتات Sonnets شكسبير[ر]، وقصائد للشاعر الإسباني غونغورا[ر] Gongora، كما ترجم للشاعر الفرنسي راسين[ر] Racine، وللشاعر والمصور الإنكليزي بليك[ر] Blake، وبعضاً من قصائد مالاّرميه، وقصائد للشاعر الروسي يِسّينين[ر]. شعر أونغاريتّي بأكمله وبعمقه مرآة لسيرته الذاتية والمناسبات التي عاشها. فهو لم يترك مناسبة أو تجربة إلاّ ونظم فيها شعراً. ويُعدّ هذا الشعر اعترافات متلاحقة، لكنه تمالك فيها نفسه وكبح جماحها من شطط الحقيقة وخفاياها اللاذعة أحياناً. وقد أغرب أونغاريتّي في نظم قصائده وعزف فيها عن كل ماهو ثانوي واحتفظ بالجوهري، فأسقط من شعره كل ماهو تزييني وسهل. يُعدّ أونغاريتّي رائداً من رواد المدرسة الهرمسية أو الإبهامية Hermétisme التي اختارت الإبهام والغموض منهجاً لها. وشعره رصينٌ دقيق المعنى والفِكرة، ليس فيه تكلّف، وليس فيه حشو ولا إسفاف، وهو يعيد القارئ في شعره إلى ماضٍ بعيد، ماضي ماقبل الولادة، ماضي الإنسان البدائي، فيصل بذلك في شعره إلى مرحلة الأسطورة. لقد انزوى أونغاريتّي في أشعاره في «عزلة ساطعة» يهيمن عليها إحساس حاد بالصمت. وكان يغوص في الأزمنة السحيقة، وفي السكون المطلق، وفي الفراغ الذي ملأ كل شيء ولاشيء يملؤه. نبيل اللو مراجع للاستزادة: - G.OSSOLA,Giuseppe Ungaretti, Mursia, (Milano 1975). - P. BIGONGIARI, la congiuntura Ungaretti-Breton-Reverdy,in LApprodo letterario, nº17, (1972). - Y. CAROUTCH,.Ungaretti (Paris 1980).
ابن عراق (منصور بن علي-)
ابن عراق (منصور بن علي ـ) (…ـ 427هـ/… ـ 1036م) أبو نصر منصور بن علي بن عراق، رياضي وفلكي من أهل خوارزم. كان من أساتذة أبي الريحان البيروني. لايكاد يعرف عن حياته سوى أنه رافق البيروني إلى غزنة سنة 408 هـ/1017م وأرسل إليه بعض الرسائل العلمية. من أهم مؤلفاته، رسالة في إصلاح كتاب منلاوس في الكرويات وقد طبعها (كراوس) في برلين سنة 1936م. وذُكر من مؤلفاته أيضاً «المجسطي الشاهي» و«الدوائر التي تحد الساعات الزمانية». ومن أعماله المهمة تلك المتعلقة بعلم المثلثات الكروية التي كتبها ابن عراق ردّاً على أسئلة موجّهة إليه من قبل البيروني.