يحيى بن محمود الواسطي مصور عراقي، ولد في بلدة واسط جنوبي العراق في بداية القرن الثالث عشر الميلادي، في عصر اجتمع فيه جيل من مفكري العراق وعلمائه كابن الأثير وابن الرزاز الجزري وياقوت الحموي وغيرهم.

"/>
واسطي (يحيي محمود)
Al-Wasiti (Yahya ibn Mahmoud-) - Al-Wassiti (Yahya ibn Mahmoud-)

الواسطي (يحيى بن محمود ـ)

الواسطي (يحيى بن محمود ـ)

(القرن الثالث عشر)

 

يحيى بن محمود الواسطي مصور عراقي، ولد في بلدة واسط جنوبي العراق في بداية القرن الثالث عشر الميلادي، في عصر اجتمع فيه جيل من مفكري العراق وعلمائه كابن الأثير وابن الرزاز الجزري وياقوت الحموي وغيرهم.

كان الواسطي مثقفاً واسع الاطلاع، عمل رساماً لدى الخليفة المستنصر بالله العباسي، وقام بترجمة الصور الذهنية إلى واقع، وقد عرضت أعماله في مكتبات الجامعة المستنصرية ببغداد، وتسابق المقتنون على اقتنائها في الأندلس والمغرب العربي؛ ولاسيما ملوك الموحدين في مراكش.

يعدّ الواسطي مؤسس مدرسة بغداد للمنمنمات، وهي مدرسة لم يول فنانوها اهتماماً بالطبيعة اهتمام فناني الشرق الأقصى بها. كما أنهم لم يهتموا بالتشريح، ولم يتقيدوا بالنسب الخارجية للأشكال المرسومة كما فعل فنانو الإغريق، ولم يهتموا بالمنظور، بل وزعوا أشكالهم على سطح ذي بعدين هما الطول والعرض، أما العمق فلم يبرز الاهتمام به إلا إبان القرن التاسع الهجري. ومن ميزات هذه المدرسة الجمع بين مشهدين في صورة واحدة، وإظهار الشخص الرئيس أكبر حجماً ممن حوله في إشارة إلى أنه المعني في اللوحة.

لوحة «نقاش قرب قرية»

كما أُثر عن هذه المدرسة قيام بعض فنانيها برسم هالة تعلو رؤوس بعض شخوصهم متأثرين في ذلك بكل من الفن البيزنطي والفن الصيني والآسيوي. وفي عهد الترك دَرَست هذه المدرسة، وجرت محاولات لإعادة إحيائها في القرن العشرين على يد الفنان العراقي جواد سليم[ر].

زوّق الواسطي أكثر من نسخة من مقامات الحريري [ر. الحريري (القاسم بن علي ـ)] وغيرها من أمهات الكتب العربية، وقد اختط نسخة من مقامات الحريري عام 1237م، وزينها بتسع وتسعين منمنمة من رسومه تعبِّر عن الخمسين مقامة (قصة). ويعدّ عمله هذا أول عمل في التصوير العربي يُعرف اسم مبدعه، وقد انفرد الواسطي بصفحة في نهاية المخطوطة ودوَّن عليها: «فرغ من نسخها العبد الفقير إلى رحمة ربه وغفرانه وعفوه يحيى ابن محمد بن أبي الحسن بن كوريها الواسطي بخطه وصوره آخر نهار يوم السبت سادس شهر رمضان سنة أربع وثلاثين وستمائة».

لم يخضع الواسطي لقواعد الفن التقليدي وأصوله، ولم يتقبل الأشكال والنماذج التي يعرضها الفن الإغريقي أو البيزنطي أو المسيحي أو الساساني حرفياً، فالتأثيرات الكلاسية القديمة لا أثر لها في خطوط الوجوه ولا في الرسوم المائجة التي تشير إلى طيات الثياب، ولكن هذا لا ينفي تأثره ببعض المؤثرات الإيرانية المأخوذة عن الأصول الساسانية والتي يمكن رؤيتها في الشخوص ذات الرؤوس الكبيرة، وفي معالجة الثياب بطريقة زخرفية، وكذلك في المفهوم الزخرفي للأشجار والنباتات، وبهذا يكون الواسطي قد جمع بين ما هو تقليدي وما هو منقول، وما هو مبتكر من أسلوبه الخاص، ففاض الأشخاص في رسومه حيوية مع أن نسبهم غير واقعية، وكذلك بدت الحيوانات في رسومه أقرب إلى طبيعتها.

وكثيراً ما كان الواسطي يعمد إلى تجزئة صوره إلى جزأين أو أكثر لبيان الفوارق الاجتماعية أو ازدواجية الموقف، ومثال ذلك ما فعله لدى تصويره للمقامة الحادية والعشرين؛ إذ صوّر الوالي في مستطيل يعلو الصورة متربعاً في مقصورته محاطاً بحرسه منعزلاً عن الجماهير الذين تجمعوا في مربع واحد أسفل الصورة خلف فرسان ثلاثة.

لوحة «الجارية والجمال العشرة»

أولى الواسطي للعمارة نصيباً مهماً في رسومه، واتسمت الخلفيات المعمارية التي رسمها بالواقعية والتعبيرية، واتجه إلى تصوير أبنية الأثرياء بما تحويه من زخارف وأرائك مزوقة ومفارش مرسومة. كما اهتم بتمثيل الشخوص والحيوانات وتضاريس الأرض؛ إلا أن اهتمامه بالشخوص كان أكبر، ولذلك لم يول أهمية للنِّسَب، فكان يرسم شخصياته بحجم أكبر من الأبنية والعمارات المحيطة بها.

وفي رسمه الأشخاص عمد الواسطي إلى رسم خط الأرض لإبراز ثبات الشخصيات في لوحته؛ فهي مستقرة ومتوازنة وتستند إلى الأرض بثقة وصلابة، بخلاف المنمنمات الهندية والفارسية التي رسمت الشخوص عائمة في الفضاء وتطوف في أرجاء اللوحة.

تنوعت الموضوعات التي تناولها الواسطي في تزويقه مقامات الحـريري بتنوع أحـداث كل مقامة، فصوّر مجالس القضاة وقوافـل الحـج والمساجـد والأسواق من جـهة، وصوّر مجالس الخمـر والأنس والطـرب من جهة أخـرى. ولما كانت المقامات تدور على شخصيتي أبي زيد السروجي ـ الشحاذ الذي لجأ إلى شتى أنواع الحيل ليستطيع تدبر أمر معيشته ـ والحارث بن همام الراوي لأحداث المقامات؛ كان من المنطقي أن يعمد الواسطي إلى التركيز على هاتين الشخصيتين؛ ولاسيما شخصية أبي زيد وإبرازهما في تصاويره ليعكس بواسطتهما حال فئة من المجتمع في ذلك العصر.

كما صوّر المرأة في نواح عدة من حياتها؛ فصوَّرها وهي تغزل الثياب، وتستجدي في المسجد، أو في الخيام، وصوّرها وهي تباع رقيقاً في سوق النخاسة، أو جارية ترعى الإبل… كما عاصرت رسوم الواسطي أغراضاً فنية وإبداعية أخرى كمسرح العرائس وخيال الظل، والقصص المأخوذة من سيرة أبي زيد الهلالي وعنترة.

استعمل الواسطي في تصاويره الحبر الأسود، وكان يخلطه ببقايا حرق ألياف الكافور، ويمزجها بزيت الخردل وبعض الألوان الأخرى التي كان يحضّرها بنفسه. كما استخدم ـ شأنه شأن الفنانين الكبارـ عدداً محدوداً من الألوان في رسومه، بيد أن من يشاهد هذه الصور يخيل إليه أن عدد هذه الألوان يتزايد إذا جاء كل لون منها في مكانه المناسب، فيلاحظ أن اللون نفسه يتغير إذا تغيرت الألوان المحيطة به، فاللون الأصفر مثلاً يبدو براقاً وشديد التألق إذا استخدمه وسط مساحة معتمة، أما إذا استعمله وسط مساحة بيضاء فإنه يخبو ويميل إلى اللون الرمادي.

لدى تصوير الواسطي للمقامة الثالثة والأربعين من مقامات الحريري والتي تروي لقاء أبي زيد والحارث في سفرهما بغلام (جعله الواسطي في المنمنمة شاباً ليرتقي به إلى بلاغة الحوار)، فيسأله أبو زيد: «أيباع هاهنا الرطب بالخطب»، فيجيبه الغلام (الشاب) بعد أن عرف أن أبا زيد أديب يريد أن يؤجَر على أدبه: «لا والله ولا البلح بالمِلَح ولا الثمر بالسمر ولا العصيدة بالقصيدة. أمَّا بهذا المكان فلا يُشترى الشِّعر بشعيرة ولا النثر بنثارة ولا القصص بقصاصة ولا حكم لقمان بلقمة ولا أخبار الملاحم بلحمة». اختار الواسطي للمنمنمة هذه لحظة وصول أبي زيد والحارث إلى القرية، وقسَّم اللوحة إلى ثلاثة مستويات تضم مشاهد ثلاثة، صور في أدناها الحارث وأبا زيد يمتطيان ناقتيهما وأمامهما يقف الغلام. نجح الواسطي في تصوير مشاعر الدهشة وخيبة الأمل في وجهيهما وفي حركة أيديهما، ونجح في الإبانة عن صراحة الغلام ووضوحه في ثبات نظرته، واختار الواسطي لهذا المستوى من الصورة خلفية مشرقة تسمح للتفاصيل بالظهور، وأحاط هذا المستوى بإطار زخرفي من النباتات تداخلت مع قوائم الراحلتين. أما المستوى الأوسط من الصورة فقد صور فيه بركة أحاطها بإطار نباتي زخرفي مطلقاً حولها أربع عنزات ترتع في خفة، وسجل في المستوى الأعلى حياة القرية وسكانها، وأظهرهم داخل بيوتهم وخارجها، ولم ينس قبة الجامع ومئذنته في أعلى يسار الصورة وإلى جواره جذع نخلة تتدلى أعذاقها، على حين بدا الديك المزهو فوق أعلى سطح في القرية كالتاج المتفرد وخلفه دجاجة تلتقط الحب محتمية بريش ذيله، وفي أقصى اليمين امرأة تغزل الصوف، يليها فرّان يحمل «مطرحة الخبز» يُدخلها في لهيب الفرن، ثم امرأة تطل من نافذتها، وأخرى تساوم بائعاً وخلفهما فتاتان صغيرتان في انتظار وترقب، ورأس بقرة تطل من الحظيرة ساعية إلى الخارج، وثمة رجل أدى فريضة الصلاة، وهمَّ بمغادرة المسجد، كذلك لم يغفل الواسطي أدق التفاصيل حتى طراز العمارة ذات العقود، وقد جاء الرسم - فضلاً عن جمالياته وإيقاعاته اللونية الجذابة، وخطوطه الدائرية الهندسية المتقابلة - أميناً أمانة كاملة مع النص، وما أبدعه الواسطي من خياله الخصب لا يتعارض مع النص بل يعمقه ويجلِّيه.

أثارت رسوم الواسطي إعجاب كثيرين، وتركت أثراً واضحاً في فنانين معاصرين كثر منهم جواد سليم الذي أشار إلى عبقرية الواسطي في التصوير؛ ولاسيما في صورة «الجارية والجمال العشرة» فقال عنها: «إنها صورة مجموعة جمال، وجمال العراق تعرفها جيداً لا يتعدى لونها لون التراب، ولقد صور هذا العبقري العظيم كل جمل بلون يتناسب مع اللون الذي بجانبه…». كما استطاع أن يتبوأ مكانة مرموقة في تاريخ الفن العالمي ما اتسع مثلها لغير عدد قليل من الفنانين الكبار، حتى إن المستشرق الفرنسي ماسينيون L.Massignon عدَّ أعماله «من أروع الأعمال الفنية الموجودة اليوم». وكانت له ثمة إضافات مهمة كتلك التي أطلق عليها المختصون اسم «تجمع الديدان» بسبب ميله إلى رسم أمواج المياه على شكل مجموعة من الديدان تتحرك في ذبذبات متجانسة؛ ما يعطيها تجسيداً إيقاعياً.

راما المعدني

 الموضوعات ذات الصلة:

 

الحريري (القاسم بن علي ـ) ـ المنمنمات (فن ـ).

 

 مراجع للاستزادة:

 

ـ ثروت عكاشة، فن الواسطي من خلال مقامات الحريري (دار المعارف، القاهرة، د.ت).

ـ ثروت عكاشة، التصوير الإسلامي الديني والعربي (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1977).

ـ ثروت عكاشة، موسوعة التصوير الإسلامي (مكتبة لبنان ناشرون، بيروت 1999).


- التصنيف : العمارة و الفنون التشكيلية والزخرفية - النوع : أعلام ومشاهير - المجلد : المجلد الثاني والعشرون، طبعة 2008، دمشق - رقم الصفحة ضمن المجلد : 99 مشاركة :

متنوع

بحث ضمن الموسوعة