تعود تسمية «يهود» تاريخياً إلى سكان مملكة «يهودا» في وسط فلسطين، والتي كان يقطنها السبط «يهوذا» من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر

"/>
يهوديه
Judaism - Judaïsme

اليهودية

اليهودية

 

تعود تسمية «يهود» تاريخياً إلى سكان مملكة «يهودا» في وسط فلسطين، والتي كان يقطنها السبط «يهوذا» من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر. وبعد السبي البابلي أطلقت التسمية على جميع المتحدرين من أسباط بني إسرائيل من قبل الشعوب المجاورة، إلى أن التصقت هذه الصفة بهم وصارت من ثم هويتهم في مرحلة الشتات (الهجرة القسرية).

أما مصطلح «اليهودية» (Judaism بالإنكليزية Judaïsme بالفرنسية Judentum بالألمانية) فيشير تاريخياً إلى العقيدة الدينية التي كان يعتنقها سكان مملكة يهودا في القرن الأول للميلاد. وكان المؤرخ اليهودي يوسفوس فلاڤيوس[ر] أول من وضع هذا المصطلح واستخدمه مقابل مصطلح «الهيلينية»[ر] الوثنية لشعوب هيلاس Hellas (منطقة الحضارة الإغريقية بعد فتوحات الاسكندر المقدوني).

تّعد اليهودية أقدم الديانات التوحيدية السماوية المرتبطة بنبي مرسل[ر. موسى النبيu وكتاب مقدس[ر. التوراة] قبل المسيحية[ر. النصرانية] والإسلام[ر]. وعلى الرغم من أن عدد اليهود اليوم في العالم كله ـ بغض النظر عن طبيعة معتقدهم الديني وانتمائهم القومي ـ لا يتجاوز 13.5 مليون نسمة، لكنهم منتشرون في جميع أركان المعمورة ـ وينتمون إلى العروق كافة ـ ولاسيما في الأرض الفلسطينية المحتلة «إسرائيل» وفي الولايات المتحدة الأمريكية.

ـ من تاريخ اليهودية

ترى اليهودية حسبما ورد في «التوراة» أن التوحيد قد بدأ مع جد العبريين[ر] الأول إبراهيم (أبرام)uالذي عاهد ربه الواحد الأحد ألا يعبد وذريته سواه مقابل أن يمنحه الرب الجنة في أرض كنعان (فلسطين). وقد استمر عهد الرب مع إسحاق بن إبراهيم ثم مع يعقوب بن إسحاق الذي صار اسمه «يسرائيل» (في حمى الرب) منذ معركته مع الملاك على الضفة الشرقية لنهر يبوك. وأنجب يسرائيل اثني عشر ولداً صاروا آباء أسباط (قبائل) بني إسرائيل الذين غادروا أرض كنعان بسبب المجاعة إلى مصر، حيث استعبد فرعون أحفادهم إلى أن حررهم النبي موسىu، وقادهم عبر صحراء سيناء، حيث كلَّم الله موسىu ومنحه «الوصايا العشر» (أو التوراة الكتابية والشفهية). وعلى الرغم من عصيان بني إسرائيل أوامر الرب وعدم التزامهم بتعاليمه وعبادتهم آلهة أخرى إلى جانبه، واستهتارهم بتحذيرات الأنبياء وإنكارهم إياهم، حافظ الرب على عهده معهم لأنهم «شعبه المختار». وعقب اختفاء موسىu وإعلان موته قادهم خليفته يشوع بن نون عبر نهر الأردن إلى أرض الميعاد (فلسطين) بأمر ربهم «يهوه»، فأعملوا سيوفهم في سكانها، وأبادوا بعض مدنها في مجازر وحشية وصفت «التوراة» تفاصيلها، وتسللوا إلى مدنها الأخرى حتى استتب لهم الأمر، وحكموا البلاد والعباد، عدا منطقة الساحل حيث أقامت القبائل الفلستية[ر. فلسطين(تاريخ ـ)].

حكم بنو إسرائيل ـ كما ورد في التوراة ـ في أرض كنعان قبيل القرن التاسع قبل الميلاد، وكان من حكامهم القضاة شمشون، ومن ملوكهم الكبار داودu وسليمانu. وفي سياق وجودهم بين شعوب المنطقة وبسبب مواقفهم السياسية من الأحداث بين القوى العظمى تعرض بنو إسرائيل في مملكتيهم الصغيرتين إسرائيل ويهوذا للتهجير والسبي من قبل الآشوريين عام 722 ق.م ثم البابليين عام 597 ق.م وعام 587 ق.م. وعندما سمح لهم الملك الفارسي قورش[ر] بالعودة إلى أرض كنعان عام 539 ق.م لم يقبل بالعودة منهم سوى فقرائهم، في حين بقي أغنياؤهم وذوو النفوذ منهم في بابل، وانتشروا منها إلى المناطق المجاورة. وفي ظل الدولة السلوقية[ر] ثار المكابيون[ر] الناطقون بالآرامية ضد محاولات إحلال الآلهة الهيلينية مكان «يهوه» اليهودي، لكن حركة المكابيين لم تحل دون قيام ظاهرة «اليهودية الهيلينية» بين أغنياء اليهود وكهنتهم. وفي ظل امبراطورية روما قام تيتوس[ر] بتدمير الهيكل وإحراق أورشليم وطرد اليهود من فلسطين نهائياً؛ مما أدى إلى انتشار غالبيتهم في أنحاء مختلفة من الامبراطورية الرومانية، ولاسيما في الإسكندرية حيث كانوا يتكلمون اليونانية. وفي بدايات العصر الوسيط عاد ثقل الوجود اليهودي ليظهر مجدداً في بابل في ظل حكم الساسانيين[ر]. وفي أواخر العصر الوسيط توجه قسم كبير من يهود أوربا نحو شرقيها هرباً من الطاعون وبسبب طردهم من فرنسا وإنكلترا. وبعد سقوط غرناطة وطرد المسلمين واليهود منها لجأ قسم كبير من اليهود إلى شمالي إفريقيا وإيطاليا وألمانيا وغيرها من بلدان أوربا حيث أقاموا في تجمعات منعزلة أطلق عليها اسم «غيتو» ghetto، حافظوا فيها على عقيدتهم وخصوصيتهم، لكنهم تمكنوا في حالات متعددة أن يبرزوا، ويتبؤوا مكانة لافتة، ولاسيما في ألمانيا والنمسا في المجالات الاقتصادية والعلمية والفنية.

ـ بنية الديانة اليهودية

لقد مرت اليهودية في تاريخها الطويل بتطورات عميقة متعددة أدت إلى تغيير طبيعتها وتوجهاتها شكلاً ومضموناً، على الرغم من تواتر أطروحاتها الرئيسية، مثل فكرة «العهد» وفكرة «شعب الله المختار»، مما يمنحها نوعاً من الوحدة. بيد أن اليهودية في الواقع التاريخي غير متجانسة البنية؛ لأنه بسبب احتكاكها بالحضارات التي عاشت فيها أو جاورتها استوعبت عناصر كثيرة مختلفة من الحضارة المصرية والكنعانية والبابلية والفارسية والهيلينية، كما تأثرت إلى حد كبير بالديانتين المسيحية والإسلامية، ولاسيما في مرحلة الشتات بعد تدمير الهيكل، مما أدى إلى افتقار اليهودية إلى مركز ديني وزمني محوري وإلى ارتباطها بالكُنس[ر. الكنيس] في مختلف البلدان التي لجأ إليها اليهود. كما تأثر مؤلفو التلمود[ر] والقبّالا[ر] بالعقائد الشعبية والتصورات الخرافية المحيطة بهم. وقد شكل هذا كله في سياقه التاريخي تركيباً أشبه بتراكم الطبقات الجيولوجية بعضها فوق بعض، وولَّد من ثم إشكالية الهوية، أي: «من هو اليهودي؟»، وجواب الشريعة اليهودية التقليدي المتشدد هو أنه من وُلِد لأم يهودية، بمعنى أن اليهودي يبقى يهودياً، حتى إن أعلن إلحاده أو إسلامه أو مسيحيته أو بوذيته، وهذا حفاظاً على وحدة «شعب الله المختار» وحجمه. أما جواب الصهيونية العلمانية في رأي بن غوريون[ر] مثلاً فهو: «اليهودي هو من يرى نفسه كذلك»؛ والسبب هو أن قسماً كبيراً من سكان «إسرائيل» ليسوا يهوداً حسب تعريف الشريعة اليهودية، ولا يمتون بصلة إلى بني إسرائيل الذين شردتهم الامبراطورية الرومانية قبل ألفي سنة.

لهذه الأسباب كلها لابد من النظر إلى الديانة اليهودية بصفتها نسقاً دينياً وعقيدة، بعيداً عن تاريخ العبريين وتواريخ الجماعات اليهودية المختلفة. ومن هذا المنظور يمكن تقسيم تاريخ الديانة اليهودية إلى المراحل الآتية:

1ـ يهودية ما قبل السبي البابلي، من البدايات حتى عام 587 ق.م: يرى الباحثون في الدراسات النقدية لتاريخ اليهودية ـ منذ القرن التاسع عشر للميلاد ـ أن صفة اليهودية لا تنطبق على مرحلة ما قبل السبي البابلي؛ إذ لم يكن العبريون آنذاك قد صاروا يهوداً، كما لم تكن معالم الديانة اليهودية قد تبلورت بعد، قبل البدء بتدوين «التوراة» (العهد القديم). لذلك يُفضَّل عند تناول تلك المرحلة بالبحث استخدام مصطلحي «مرحلة عبادة يسرائيل» ثم «العبادة القربانية المركزية» بعد تأسيس الهيكل الثاني في أورشليم. وفي هذه المرحلة الرئيسية الأولى يسيطر العنصر الأسطوري على التاريخ الحقيقي للمنطقة، وتُسقَط ـ حسبما ورد في حكايات التوراة ـ مفاهيم فترات لاحقة على فترات سابقة.

وتتألف هذه المرحلة الأولى من:

أ ـ فترة الآباء، نحو (2100 ـ 1250ق.م) أي منذ إبراهيمu إلى يوسفu التي تغطي فكرة «العهد» بين الرب وإبراهيم وفكرة «الشعب المختار» وفكرة «أرض الميعاد». يستخلص الباحثون من النص التوراتي أن هذه الفترة قد تأثرت بالديانات السامية القديمة في المنطقة بتقديسها القوى الطبيعية والإيمان بالأرواح والشياطين والتحريمات (فكرة التابو) وتمييز الطهارة من النجاسة، مع وجود عناصر وثنية مثل الأصنام (التيرافيم).

ب ـ فترة موسىu والخروج من مصر إلى التيه، نحو (1275 ـ 1250ق.م)، ففي سيناء تلقى موسىu الوحي من الرب «يهوه» أو «ياهو» بأنه المختار لإنقاذ شعبه من أسر فرعون، والأمر بألا يعبد سواه وألا يجسده صنماً أو يُشبِّهه بشيء من خلقه، بمعنى أن «يهوه» هو خالق كل شيء وهو في الوقت نفسه منَزَّه عن كل شيء. رافقت هذا الوحي جملة من الطقوس والقوانين الاجتماعية التي حكمت القبائل العبرية في بيئتها الصحراوية، بمعنى وجود قانون ديني ينظم العلاقات بين أفراد المجتمع أنفسهم وبينهم وبين ربهم الذي جدد لهم عهده، وحققه بتسهيل عملية الخروج من مصر والتي تعدّ لحظة ولادة جماعة يسرائيل لكون العبريين قد صاروا الآن جماعة دينية متميزة.

جـ ـ فترة المواجهة بين بعل الكنعاني ويهوه العبري، نحو (1200 ـ 587 ق.م): كان العبريون قبائل بدوية من الرعاة الرحل عندما تغلغلوا في أرض كنعان ذات الحضارة الزراعية المتطورة، حيث تسود عبادة بعل الطبيعية الحلولية[ر. وحدة الوجود]. وفي سياق التمازج والتزاوج بين العبريين والكنعانيين وتبني اللسان الكنعاني المتطور حدث تمازج أيضاً بين عقيدة «يهوه» التوحيدية وعقيدة «بعل» الحلولية، وصار التناقض بين العبادتين التوتر الأساسي الذي حكم حياة العبريين الدينية حتى سقوط مملكتي إسرائيل ويهوذا، ونتيجة لذلك ظهر أنبياء بني إسرائيل دفاعاً عن عبادة يهوه. وفي ذروة مرحلة حكم الملوك المزدهرة تم تشييد الهيكل الأول وبدأت فيه وحوله مرحلة العبادة القربانية المركزية بإشراف الكهنة. بيد أن الإصرار على فكرة «الشعب المختار» وتأكيدها مع فكرة «أرض الميعاد» وربطهما بالرب «يهوه» بات يشكل ثالوثاً ينتقص من وحدانية الرب ويحد من عالميته، فإله البشر أجمعين لا يحتاج أرضاً بعينها وشعباً بعينه ليتحقق كمالُه، أما إله العبريين تحديداً فيحتاج شعباً يحمل لواء كلمته وحده وأرضاً يعبده هذا الشعب فيها، ويتحقق خلاصه عليها في الزمن التاريخي، وليس في العالم الآخر ثواب للأخيار وعقاب للأشرار. فحتى ذلك الحين لم تظهر فكرة العالم الآخر في التصور الديني لدى العبريين في أرض كنعان.

وظهرت في هذه المرحلة أيضاً بعض القوانين الأخلاقية والشعائر، مثل الختان وشعائر الأطعمة والزراعة والسبت وعيد الفصح وعيد الأسابيع وعيد المظال. ومن سمات هذه المرحلة أن الدين كان مرتبطاً ارتباطاً كاملاً بالجماعة الإثنية التي تحولت تدريجياً باندماجها مع الكنعانيين وغيرهم من الأقوام المجاورة إلى جماعة زراعية لها شعائرها الخاصة المرتبطة بالحضارة الزراعية، متخلية عن أصولها البدوية الصحراوية. وكان تهديم الهيكل والسبي البابلي نهاية حاسمة لهذه الفترة.

2ـ مرحلة ما بعد السبي البابلي، وهي المرحلة التي اكتسبت فيها العبادة القربانية المركزية الملامح التي جعلت منها «العقيدة اليهودية»، وفيها طرأت تعديلات على الشريعة، حدَّت من شمولها جوانب الحياة كافة لتقتصر على الدينية منها فحسب، مع قبول قوانين الدولة الحاكمة (بابل) بصفتها شريعة أيضاً. وتقسم هذه المرحلة إلى الفترات الآتية:

أ ـ فترة السيطرة البابلية والفارسية والهيلينية والرومانية، نحو (578 ـ 175 ق.م):

تفتتت في هذه الفترة وحدة بني إسرائيل الجغرافية، وانفتحوا تدريجياً على الأفكار الدينية الزردشتية، وتأثروا بها عميقاً. كما حل الكاهن الأعظم محل الملك في إدارة الشؤون الدينية من الهيكل الذي أعيد بناؤه، كما شهدت المرحلة إصلاحات النبيين عزرا ونحميا وبدأ تدوين «العهد القديم» بالعبرية والآرامية، وظهرت بدايات تفاسير التوراة (الشريعة الشفوية = التلمود)، كما ظهرت أسفار التوراة المنحولة (أبوكريفا) التي ثار الجدل لاحقاً حول ضمها إلى «التوراة». وفي ظل الامبراطورية السلوقية تأثر مفكرو اليهود بالفلسفات والديانات الهيلينية وتكيفوا معها، وسرعان ما نسوا العبرية والآرامية، ونقلوا «التوراة» إلى اليونانية فيما عرف بـ«الترجمة السبعينية». وفي هذه الفترة أيضاً ترسخت فكرة «المشيح (المسيح) المخلص» الذي سيأتي من نسل داود لينقذ اليهود من الاضطهاد الخارجي. وقد بقيت اليهودية في هذه الفترة حكراً على اليهود على الرغم من انتشار مجموعات كبيرة منهم خارج فلسطين، فهم لم يؤمنوا بالتبشير بها خارج نطاق «الشعب المختار».

ب ـ فترة ما قبل الحاخامية أو اليهودية الكلاسيكية، (حتى القرن السادس للميلاد): كان لظهور طائفة «الفريسيين» بين يهود فلسطين أهمية بالغة في انفتاح الديانة اليهودية على المؤثرات الدينية والفكرية العالمية. والفريسيون (المفسرون المنعزلون) كانوا حزباً دينياً وسياسياً في الوقت نفسه، تجلت فعاليته في محاربة الأرستقراطية الكهنوتية المرتبطة بالهيكل والتفسير الحرفي للتوراة حسب «الصدوقيين» المتشددين، فناصروا قيام الكُنس (المعابد) في كل مكان للتخلص من مركزية الهيكل وطقوسه القربانية، وطوروا مفاهيم الشريعة الشفوية (التلمود)، وشاركوا في بداية تمرد المكابيين، ووجدوا صدى إيجابياً لدى عامة الشعب بدفاعهم عن هوية دينية داخلية روحية منفتحة، ذات بعد إثني، ولكن ليس قومياً بالضرورة. لقد آمنوا بوحدانية الخالق وبـ«المشيح المخلص» وبخلود الروح في العالم الآخر وبالقيامة ويوم الحساب وبالملائكة وبحرية إرادة الإنسان التي لا تتعارض مع معرفة الخالق المسبّقة بكل شيء، في حين أنكر كهنة الهيكل هذه الأفكار، وعدّوها خروجاً على تعاليم «التوراة»، وبهذا يكون الفريسيون قد توصلوا إلى صيغة «اليهودية الكلاسيكية» التي انتصرت على الاتجاهات والمدارس الدينية الأخرى، وواكب ذلك انتشار القيم الهيلينية بين اليهود. ولذا كان تهديم الهيكل في أورشليم على يد القائد الروماني تيتوس Titus بمنزلة ترسيخ لتوجه ديني فكري موجود بالفعل. وقد أدى ظهور المسيحية في هذه الفترة إلى ضمور اليهودية، ولاسيما أن المسيحية قد مثلت فكرة الخلاص لجميع البشر، وليس لبني إسرائيل فحسب.

وفي القرن السادس دُوِّن «التلمود» ذو التوجه الحلولي والنزعة القومية الجلية، والذي ينسب إلى الإله صفات بشرية عديدة، وبدأ يحتل بين اليهود منزلة أهم من «التوراة». كما انتشرت المراكز الدينية اليهودية التي يقودها الحاخامات، بدايةً لظهور «اليهودية الحاخامية» التي هيمنت على الجماعات اليهودية في الشتات حتى نهاية القرن التاسع عشر. «ومن المشاكل الأساسية التي واجهتها اليهودية بدءاً من هذه الفترة أنها كانت ديانة توحيدية في تربة وثنية تكتسب هويتها من وحدانيتها، وتحارب ضد الأسطورة والحلولية، لكنها وجدت نفسها في تربة توحيدية، إسلامية أو مسيحية، ولذا عدَّلت استراتيجيتها، وأخذت تتوجه نحو الأسطورة والتعددية. ووصل هذا الاتجاه إلى قمته في القبّالا»، حسب رأي عبد الوهاب المسيري.

جـ ـ اليهودية الحاخامية (بعد تدوين التلمود حتى منتصف القرن السابع عشر): لم يعد اليهود في هذه الفترة يعملون بالزراعة، بل صاروا جماعات متفرقة وظيفية وسيطة، ولاسيما في العالم الغربي، وتدعمت مكانة الحاخامات وتفسيراتهم التلمودية. وفي حين ضمر الفكر الديني اليهودي في القرون الوسطى في الغرب عامة، فإنه قد تفتح وتطور نتيجة احتكاكه بالفكر الإسلامي، العقلاني والصوفي، ولاسيما في الأندلس حيث تجلى في كتابات موسى بن ميمون[ر] الذي صاغ أول مرّة أصول الدين اليهودي وأركانه. وبتأثير الإسلام أيضاً ظهرت حركة «القرائين» العقلانية في القرن الثامن الميلادي، وانتشرت في جميع أنحاء العالم، ولاسيما شرقي أوربا، وهي حركة ترفض «التلمود»، وتتمسك بـ «التوراة»، وتؤمن برسالتي عيسىu ومحمدr. لكن تأثيرها كان محدوداً في صفوف اليهود بسبب تمسكها بالتفسير الحرفي «للتوراة»، وعدم تغيرها مع المتغيرات الطارئة على روح العصر. وهناك بعض القرائين الذين أعلنوا إسلامهم.

لم تعد اليهودية في هذه الفترة مرتبطة بالمكان (أرض كنعان) على الرغم من وثوق ارتباطها بالجماعة الإثنية. وصارت فكرة العودة مفهوماً دينياً وحسب، كما صارت صهيون مجرد صورة مجازية دينية، ووجب على المؤمن التقي أن ينتظر حتى يشاء «يهوه» عودة شعبه إلى «أرض الميعاد» (فلسطين). وبسبب عزلة اليهود في معظم المجتمعات الأوربية، غربيها وشرقيها، ونتيجة لأسلوب حياتهم تكلست العقيدة الدينية، وباتت عاجزة عن تلبية حاجات اليهود الدينية والاجتماعية. ومع بداية الثورة العلمانية في الغرب في القرن السادس عشر تفاقمت أزمة الجماعات اليهودية، وازدادت الاحتجاجات على «اليهودية الحاخامية»، وكانت هذه الاحتجاجات قد اتخذت شكلاً مغايراً مع ظهور تراث «القبالا» الصوفي المفرط في الحلولية، مثل كتاب «الزوهار» (الإشراق) لشبتاي لاوي وكتابات إسحاق لوريا الذي تأثر على نحو مشوه ببعض المفاهيم المسيحية مثل «الثالوث المقدس» و«صلب الافتداء». وفي تلك الفترة أيضاً ظهرت حركة «الحسيديين» (الأتقياء) انطلاقاً من بولندا لتنتشر كالنار في الهشيم في البلدان الشرقية والشمالية والجنوبية، وهي حركة دينية صوفية حلولية أسسها بعل شيم طوف، ومعظم أتباعها من اليهود الشرقيين في أوربا (السفارديم). واللافت أن المؤسسة الحاخامية لم ترفض «القبالا» والحركات المتأثرة بها، بل استوعبتها بعد حين. وجعلت الإيمان بها واحداً من أركان العقيدة اليهودية، بيد أن التوتر بين المؤسستين الحاخامية والحسيدية ظل قائماً، على الرغم من توحيد صفوفها في مواجهة الحركات التجديدية والإصلاحية الحديثة.

3ـ العصر الحديث (منذ منتصف القرن السابع عشر): في سياق التطور المتسارع في أوربا الغربية على صعيد الحركة العلمية والعلمانية والقومية التي طالبت بفصل الانتماء القومي عن الانتماء الديني وجدت الجماعات اليهودية نفسها غير مهيأة لمواكبة هذا التطور. وكانت بدايات هذه التطورات قد بدأت في القرن السابع عشر في هولندا، وانتقلت منها إلى فرنسا وألمانيا في القرن الثامن عشر وإلى معظم بلدان أوربا في القرن التاسع عشر، وإلى العالمين العربي والإسلامي في القرن العشرين. وتسبب هذا الوضع في ظهور أزمة هوية عميقة بين اليهود، تمظهر في الحركات والفعاليات الآتية:

أ ـ حركة التنوير اليهودية واليهودية الإصلاحية، أواخر القرن الثامن عشر استجابة لمتطلبات العصر الحديث في محاولة لفصل الانتماء الإثني أيضاً، بحيث يصير «اليهودي يهودياً في منزله، مواطناً في مدينته» حسب رأي يهودا غوردُن.

ب ـ اليهودية الكلاسيكية والمحافظة: أخافت التطورات بعض قطاعات اليهود في أوائل القرن التاسع عشر، فانضووا في حركات دينية محافظة تتمسك بالصيغة الدينية الإثنية التقليدية، وكان محور الخلاف بين هذه الحركات موقفها من «الشريعة»، أهي ملزمة لليهودي في شروط حياته الحديثة، أم يمكنه تفسيرها وتأويلها حسب الظرف، أو حتى التخلي عنها؟

جـ ـ الحركة الصهيونية[ر] في أواخر القرن التاسع عشر: على الرغم من أن الصهيونية في جوهرها حركة علمانية لا دينية؛ فقد أثرت تأثيراً بالغاً في الفكر الديني اليهودي، حتى إن اليهودية الكلاسيكية التي بدأت بمعاداة الصهيونية صارت العمود الفقري للاستيطان الصهيوني في فلسطين. كما استفادت الصهيونية من الاتجاه القومي داخل اليهودية، وحولت كثيراً من المفاهيم الروحية إلى مفاهيم «فيزيقية»، فصارت «العودة» في نهاية الدهر هي الاستيطان في فلسطين العربية وقتل سكانها وطردهم.

د ـ اليهودية في أمريكا الشمالية: لما كانت الولايات المتحدة تربة علمانية في دستورها فقد نمت بين يهودها الاتجاهات الإصلاحية، وضعفت اليهودية الكلاسيكية، وصار الكنيس جزءاً من النشاط الاجتماعي، كما هيمنت الصهيونية بصورة شبه كاملة على الجماعات اليهودية وعلى فكرها الديني.

هـ ـ لاهوت موت الإله: بسبب موقف النازيين من اليهود ظهر بعد الحرب العالمية الثانية تيار قوي بين مفكري اليهود يصدر عن تقديسٍ «للشعب اليهودي» وتاريخه إلى درجة خلقِ ترادفٍ بين الديني والقومي، وكأن اليهودية قد سقطت ثانية وبحدة في الحلولية الوثنية القديمة، إذ تحل الذات القومية (الإثنية) محل الذات الإلهية. ويرى هؤلاء أن «الإبادة النازية» (الهولوكوست)، هي أهم حدث في التاريخ اليهودي المقدس، ولذلك تعدّ دليلاً على إخفاق «اليهودية الحاخامية» التي جعلت اليهود (الشعب المختار) يقف شاهداً على الشعوب الأخرى لا يشارك في السلطة السياسية ولا سيادة له.

والإبادة في ذاتها أكبر دليل على اختفاء الإله أو موته. وبموت الإله المطلق يبقى الشعب اليهودي هو المطلق، ويصير بقاؤه بأي ثمن هو القيمة الأخلاقية الكبرى، وتصير «دولة إسرائيل» التعبير الأمثل عن إرادة هذا الشعب وعن خلاصه من عجزه وتأكيده سيادته، وأهم واجب ديني يهودي هو الدفاع عن بقاء الشعب اليهودي والدولة الصهيونية (مهما ارتكبت من آثام). والتسمية الأخرى للاهوت موت الإله هي «لاهوت البقاء» أو «لاهوت ما بعد آوشڤيتس» Auschwitz، وهو تأليه متطرف للذات القومية لا علاقة له بالأخلاق الإنسانية أو الدينية، بل بشريعة الغاب «البقاء للأقوى».

و ـ إعادة تأكيد الانتماء الديني مقابل الإثني: ظهرت منذ سبعينيات القرن العشرين حركات بين اليهود لا ترفض الصهيونية علناً، لكنها تحاول التخلص منها مؤكدة الانتماء الديني مستقلاً عن الانتماء الإثني أو القومي أو السياسي خشية اقتران اليهودية بالصهيونية اقتراناً كاملاً قد يقضي عليها.

كما ظهرت حركة «لاهوت التحرير» التي يرفض أتباعها تقديس التاريخ اليهودي والمزاوجة بين القومي والمقدس، ويرفضون عدَّ الدولة الصهيونية مطلقاً يوجب الإقدام على أعمال لا أخلاقية بحق الآخرين. ويلاحظ أن التناقض بين «لاهوت التحرير» و«لاهوت موت الإله» يماثل التوتر القديم بين الأنبياء والكهنة أو بين دعاة الانفتاح الأخلاقي العالمي ودعاة الانغلاق الوثني، فكأن اليهودية لا تزال في حالة التوتر الأولى والمتكررة.

العقيدة اليهودية وأركانها

يذهب كثير من المفكرين إلى أن اليهودية تُعنى بالشعائر والأعمال، ولا تُعنى بالإيمان، وأنها في جوهرها أسلوب حياة ونظام سلوك، لا عقيدة تُعتقد، وأن مجال تفكيرها منحصر بالدرجة الأولى في هذا العالم، والجزاء يكون حسب الأعمال لا حسب الاعتقاد. وتميز «الموسوعة اليهودية» بين استخدام الجذر اللغوي (آمَن) ومشتقاته في «العهد القديم»، واستخدام كلمة (إيمان) أو (عقيدة) في «العهد الجديد»، وتقول: إن الكلمة في «العهد القديم» تحمل معنى الثقة في الإله والإخلاص له، لا الإيمان به أو بعقائد محددة، وإن استخدام الجذر (آمَن) ومشتقاته بمعنى العقيدة والإيمان لم يظهر إلا في العصر الوسيط في الغرب تحت تأثير المسيحية.

وفي «العهد القديم» لا يوجد أي تحديد لأركان الإيمان، وإن لم يمنع هذا وجود مفاهيم إيمانية عامة، مثلما يرد في دعاء «شْماع» الذي يتلوه المصلي صباحاً ومساءً كي يذكر «يهوه» دائماً، وضرورة الإيمان بوحدانية الإله وبالوصايا العشر. وعلى الرغم من هذه الأساسيات تحمل البنية اليهودية المركّبة كثيراً من التناقضات الجلية، فهناك في «العهد القديم» مواقف متضاربة حيال الأصنام، والخالق يرد مراتٍ بصيغة المفرد «يهوه» ومرات أخرى بصيغة الجمع «إلوهيم»، وكثيراً ما يذكر إلهاً ضمن آلهة أخرى. وثمة إشارات في «التوراة» إلى ملك اليهود بوصفه ابن الإله. أما مفاهيم القيامة ويوم الحساب فهي مبهمة من غير تحديد. وتنسب «التوراة» إلى شخصيات بمنزلة القُدوة مثل إبراهيم ويعقوب وموسى أفعالاً غير أخلاقية، مثلما يرتكب «شعب الله المختار» جرائم دنيئة كذبحه سكان «شكيم» على الرغم من اعتناقهم اليهودية وتختنهم. كما يبدو أن عهد الرب مع شعبه «المختار» مُلزم له بغض النظر عما يقترفه هذا الشعب من مذابح وأفعال لا أخلاقية.

وفيما يتعلق بالممارسات الدينية كالأوامر والنواهي فهي تستند في اليهودية إلى فتاوى الكهنة والحاخامات أو إلى قرارات السلطة الدينية المركزية. وقد ظلت اليهودية عبر تاريخها مجموعة من الشعائر والممارسات، ودون تحديد للعقائد والأركان، لكنها لم تخل من محاولات لذلك عندما كانت تواجه حضارات أكثر تركيباً أو أنساقاً دينية أكثر تحديداً وتجانساً، مثل محاولة فيلون السكندري[ر] ومحاولة كتاب السنهدرين (المحكمة العليا) لاستبعاد ما لا يدخل في حظيرة الدين، أو محاولة سعيد بن يوسف الفيومي اليهودي في القرن العاشر لتحديد أركان اليهودية باسم المؤسسة الحاخامية وللرد على حركة القرائين المتأثرة بالإسلام. لكن أهم المحاولات وأكثرها منطقية هي محاولة موسى بن ميمون لتحديد أركان الإيمان في ثلاثة عشر أصلاً، وذلك في سياق تعليقه على «كتاب السنهدرين» المتضمن في «التلمود». وأعقب ذلك محاولات عديدة غير ذات قيمة مؤثرة.

ويرى معظم مؤرخي اليهودية في العصر الحديث أن اليهودية دين شرائع بلا عقائد، كما بينت الدراسات النقدية لكتب اليهود المقدسة أنه من المستحيل التوصل منها إلى عقيدة جوهرية. وفي الفلسفة الدينية اليهودية الحديثة لم يعد الإيمان بالعقائد مسألة حيوية أو مهمة، إذ حل محلها ما يسمى «عملية المواجهة الشخصية بين الإله والإنسان اليهودي». وبعد الحرب العالمية الثانية صار الإيمان في الفكر الديني اليهودي مجرد وسيلة لإضفاء معنى على العالم بعد (الهولوكوست)، وبذلك تختفي العقائد والأصول، وتتحول إلى حالة شعورية.

الكتب المقدسة في اليهودية

في سياق التاريخ الطويل الذي مرت به اليهودية والتجارب الكثيرة التي خاضتها سواء في فلسطين أم في بلاد الشتات صار لديها عدد من الكتب التي حازت درجات متفاوتة من القداسة والتبجيل، وأصلها الأول هو «التوراة» (الكلمة تعني التعليم)، وهي تضم أسفار النبي موسىu الخمسة، وتعدّ عند اليهود عامة نصاً منزلاً من عند الرب يهوه، في حين يعتقد كثير من المفكرين اليهود وغيرهم من الباحثين أنها موضوعة من قبل عدد من المؤلفين المختلفين، وقد أُلفت وجُمعت في أثناء مرحلة طويلة، ثم دوُنت بالعبرية. أما «العهد القديم»[ر. الكتاب المقدس] فيضم تسعة وثلاثين سفراً معتمداً، منها أسفار «التوراة»، والأنبياء والكتب، أُلفت وجمعت بالعبرية والآرامية على مر مئات السنين منذ القرن الثالث عشر ق.م حتى العودة من السبي البابلي في القرن السادس ق.م. ويتفق الباحثون في الدراسات النقدية «للعهد القديم» أنه يحوي خرافات وأساطير وقصصاً وتأريخاً ونصوصاً قانونية وتأويلات تاريخية بفهم ديني وأمثالاً عن ألسن الأنبياء وشهادات دينية وأشعار غزل ومزامير وحكماً. على الرغم من أن «التوراة» تضم كثيراً من الروايات التاريخية؛ فإن التي عُرفت في صياغتها الحالية تحوي فقط ما تماشى مع الفهم الديني والاجتماعي والسياسي لجامعيها ومدونيها؛ أي إن النصوص العتيقة ـ المدون منها والشفاهي التي اعتمدت مرجعاً لتسجيل «التوراة» في صياغتها الحالية ـ قد استثني منها ما لم يناسب الموقف الديني السائد لواضعيها عند إنجاز عملية الجمع والتسجيل. وبسبب تعدد تلك الرؤى والمفاهيم الدينية وتباينها ظهرت للوجود نسخ مختلفة متعددة من حيث عدد الأسفار والمحتوى.

وفي القرن الثاني قبل الميلاد عندما حلت الآرامية مكان العبرية ترجم «العهد القديم» إلى الآرامية، وأُطلقت عليه تسمية «ترجوم». والجدير بالذكر أن بعض نسخ «الترجوم» ليس ترجمة حرفية، بل يحوي تفسيرات إضافية، ولاسيما أن صياغات «الترجوم» قد بلغ عددها عشراً.

إلى جانب «التوراة» المدونة هناك أيضاً «توراة شفاهية» تسمى «المِشْنا» (التثنية أو التكرار) وهي بمنزلة تفسير للنص المنزل. ويرى اليهود المتدينون أنها قد أنزلت أيضاً على موسىu مع النص المدون في سيناء، وتم تناقلها شفاهة عبر الثقات والكهنة حتى البدء بتدوينها في مطلع القرن الثاني ق.م حتى استكملت في مطلع القرن الثالث الميلادي. أما «التلمود» (التلمذة) فيضم «المِشنا» إلى جانب «الغمارا» وهي إضافات وتفسيرات وتعديلات شملت نصوص «المِشنا». والجدير بالذكر أن هناك «تلمودا» أورشليمياً جُمع في فلسطين وآخر بابلياً جُمع في العراق، وهما غير متطابقين من حيث المضمون والحجم. وقد اكتسب «التلمود» بين بعض المجموعات اليهودية منزلة تفوق منزلة النص التوراتي؛ لأنه يثبت مكانة الحاخامات وتأويلاتهم الدينية والدنيوية، وتعود أقدم مخطوطاته إلى القرن التاسع للميلاد.

ثمة مجموعة من النصوص المخصصة لتفسير «الكتاب المقدس» عُرفت باسم «مدراش» (مدرسة) وهي تتناول جانب الفتاوى الشرعية وجانب الأساطير من «الكتاب المقدس»، وهي تعود إلى القرنين الثاني والثالث الميلاديين.

أما مذهب التصوف في اليهودية فله أيضاً كتابه المقدس الخاص والمعروف بـ«القبالا» (المعرفة أو العرفان) الذي يضم مجموعة من الدراسات ظهرت في القرن الثاني عشر في الأندلس، وأوصاف الرب «يهوه» وأسماءه الخفية ويوم البعث والحساب. كما يتضمن الكتاب دراسات في القيم العددية لحروف اللغة وتأويلاتها الدينية واستخدامها في السحر.

أنبياء بني إسرائيل

يأتي «العهد القديم» على ذكر أسماء عدد كبير جداً من الأنبياء، منهم من ارتبط اسمه بسِفرٍ، مثل «سفر يشوع» و«سفر نحميا» و«سفر أيوب» وغيرهم، ومنهم من ارتبط اسمه بنبوءة، مثل «نبوءة هوشع» و«نبوءة يونان» و«نبوءة زكريا» وغيرهم، ومنهم من ارتبط اسمه بالمراثي، مثل «مراثي إرميا» أو بالمزامير، مثل «مزامير داود»، وغيرهم كثير. فما موقع الأنبياء في الديانة اليهودية؟

إن الناطق باسم الرب أو من يحمل رسالته إلى قومه يدعى في اللغة العبرية «نافيء»، وحسب قانون الإبدال اللغوي تصبح الكلمة في اللغة العربية «نبي». ويتميز النبي من غيره من البشر بكونه مصطفى زوده الرب بالقدرة على تلقي الوحي الإلهي والتبشير به بين الناس. لكن النبي ليس تجسيداً للكلمة الإلهية بحال من الأحوال، بل هو حاملٌ ومبلغٌ وحسب. وبسبب البنية التراكمية للديانة اليهودية وتاريخها المديد فإن مفهوم النبي فيها لا يتصف بالجلاء والتحديد الذي ورد في القرآن الكريم، فهو يختلط أحيانا ـ في «العهد القديم» ـ بمفهوم «الرائي» أي العراف المتنبئ بالغيب، وبمفهوم الحكيم الساحر الكاهن من جهة، وبمفهوم «إيش إلوهيم»= رجل الإله من جهة أخرى، إضافة إلى وجود من يُدعون «هانافيئيم» أي «أبناء الأنبياء»= الدراويش. وبهذا المعنى المختلط تُستخدم صفة «نبي» في السياق التاريخي الطويل لليهودية إشارة إلى من يُسمَّون:

1 ـ الأنبياء الآباء: أخنوخ، نوح، إبراهيم، يعقوب، هارون، موسى.

2 ـ الأنبياء القضاة: ديبورا، صموئيل.

3 ـ الأنبياء الشفويون والأنبياء الكتابيون.

والمقصود بالأنبياء الشفويين ـ حسب دلالة الكلمة ـ أولئك الذين نطقوا بنبوءاتهم شفاهة من دون أن يدونوها، في حين دون الأنبياء الكتابيون نبوءاتهم، أو دُوِّنت لهم، فصاروا من أصحاب الكتاب. وتضم قائمة الأنبياء الشفويين حسب الترتيب التاريخي: داود، ناتان، صادوق، جاد، آخيا، عدّو، شمعيا، عزريا بن عوديد، حناني، ياهو بن حناني، إيليا، إليشع، ميخا بن يمله، زكريا بن يهويادع، عوديد، يدوثون. وما يلفت النظر هو وجود عدد من النبيات الإناث مثل: خِلْدَة، نوعَدية، مريم أخت موسى، ديبورا، وزوجة أشعيا التي ذكرت في سفره من دون اسم.

أما الأنبياء الكتابيون فيقسمون أيضاً إلى أنبياء كبار، وهم: أشعيا، إرميا، حزقيال، إليا أو إلياهو؛ وإلى أنبياء صغار، وهم: يونان، يوثام، هوشع، ميخا، ناحوم، عاموس، صفنيا، حبقوق، دانيال، حجاي، عوبديا، ملاخي، يوئيل. وتمتد الحقبة التي وجِد فيها الأنبياء الكتابيون مابين 785ق.م ـ 450ق.م.

اليهودية في القرآن

أولى القرآن الكريم اليهوديةَ وبني إسرائيل ونبيهم موسىu اهتماماً كبيراً، لم يماثله موضوع آخر فيما يتعلق بأهل الكتاب، ولا أدل على ذلك من أن قصة موسى قد وردت بتفاصيلها في «سورة القصص» وفي مواضع أخرى من سور أخريات، وأن اسمه ورد مئة وستاً وثلاثين مرة في نحو خمسين سورة، إضافة إلى أنبياء بني إسرائيل الآخرين. ورسالة موسى موجهة حسب القرآن الكريم إلى بني إسرائيل تحديداً ]وآتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ وجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرِائِيلَ ألا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيْلاً[(الإسراء 2)، وتبرز آيات القرآن إيمان أتباع موسى بالله واليوم الآخر في سياق قولهم لفرعون ]إنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِر لَنَا خَطَايَانَا ومَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيهِ مِنَ السِّحْرِ واللهُ خَيرٌ وأَبْقَى`إنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوت فيهَا ولا يَحْيَى` ومَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ العُلَى[ (طه: 73 ـ 75). ولكن عندما يشير القرآن إلى مواقف اليهود من رسالة موسىu ومن سائر الأنبياء الآخرين ـ بمن فيهم عيسىu ومحمدrـ فإنه يتصدى لأقوالهم وأفعالهم ونياتهم بصرامة جلية، ويحذرهم المرّة تلو الأخرى من مغبة ما فعلوا وما يفعلون: ]لُعِنَ الَّذين كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُد وعِيْسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ[ (المائدة 78)، وقد ربط القرآن الكريم بين أفعال اليهود في عصر نبيهم موسىu وأفعالهم تجاه محمدrرسول الله إلى البشر أجمعين، وذلك في مواضع عدة، كما في: ]وجَاوَزْنا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ البَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَومٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُم قَالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لنا إِلهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قال إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون[ (الأعراف 138) ثم: ]أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوْتُوا نَصيباً منَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِاِلجبْتِ والطَّاغُوتِ ويِقُولُونَ لِلَّذينَ كَفَرُوا هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمنَوُا سَبِيلا`أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَن يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لهُ نَصِيراً[ (النساء: 51 ـ 52) ]يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكِتابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهم كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَر َمِن ذَلكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ[ (النساء 153). وقد اتهمهم القرآن بتحريف كلام الله في التوراة: ]أَفَتَطمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسمَعونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُوَنهُ مِن بَعْدِ ما عَقَلُوُه وَهُمْ يَعْلَمُون[(البقرة 75) كما اتهمهم بقتل الأنبياء: ]أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وفَرِيقاً تَقْتُلُونَ[ (البقرة 87) وبالدس الخبيث: [وَبِكُفرِهِمْ وقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيمَ بُهْتَاناً عظيماً`وَقَوْلِهِم إنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مِرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهْ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ[ (النساء 651 ـ 751)، وبتعاطي الربا: ]فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وبِصَدِّهِمْ عن سَبِيلِ اللهِ كثِيراً`وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِم أَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ وَأَعتَدْنَا لِلكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً ألِيماً[ (النساء 061 ـ 161)، وبالتآمر على المسلمين: ]لَتجِدََنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ والَّذِيَن أَشْرَكُوا[(المائدة 82) و]ولمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لما مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعَنةُ اللهِ عَلَى الكَافِرينَ[ (البقرة 89)، إضافة إلى صفات سلبية كثيرة أخرى.

ولم يذكر القرآن من أنبياء بني إسرائيل الآنف ذكرهم سوى عدد قليل وهم إسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وأيوب وداود وسليمان وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى عليهم السلام. وصفات هؤلاء وأخلاقهم وقصصهم في القرآن تختلف اختلافاً جلياً عنه في «العهد القديم»، وذلك لأن تدوين «العهد القديم» وتحرير أجزائه قد جرى في مراحل متباعدة، وخضع لتحريف أملته ظروف مراحل التدوين تاريخياً وسياسياً وعقائدياً، «فرغم الاتفاق في الأسماء وفي بعض تفاصيل القصص؛ فإن السياق والبناء العقائدي والديني والقصصي الذي ترد فيه هذه الأسماء يختلف اختلافاً جوهرياً» حسب رأي عبد الوهاب المس

نبيل الحفار

 مراجع للاستزادة:

 

ـ زياد منى، بنو إسرائيل ـ جغرافية الجذور (دار الأهالي، دمشق 1995).

ـ عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ـ نموذج تفسيري جديد (دار الشروق، القاهرة ـ بيروت 1999).

 ـGERHARD VON RAD, Old Testament Theology, 2 vol., (1962  x1965ـ).

 ـJULIUS GUTTMANN, Philosophies of Judaism, (1964).

 ـMANFRED HUTTER, Die weltreligionen (Beck Verlag, München 2005).

 ـS.A.TOKAREW, Die Religionen in der Geschichte der Völker (Dietz Verlag, Berlin 1968).


- التصنيف : الفلسفة و علم الاجتماع و العقائد - النوع : دين - المجلد : المجلد الثاني والعشرون، طبعة 2008، دمشق - رقم الصفحة ضمن المجلد : 570 مشاركة :

متنوع

بحث ضمن الموسوعة