إيران (الأدب)
ايران (ادب)
Iran - Iran
إيران
إيران
الأدب في إيران
تبلورت اللغة الفارسية الحديثة بعد مرورها بمراحل تفاعل استمرت أكثر من قرنين منذ الفتح الإسلامي 21هـ حتى 250هـ وما وصل من شعر هذا العصر لا يعدو أن يكون محاولات للإنشاد بالفارسية في قالب العروض العربي. من ذلك أبيات منسوبة إلى شاعر الدولة الطاهرية حنظلة البادغيسي وشعراء الدولة الصفارية من أمثال محمد بن وصيف، وفيروز المشرقي، وأبو سليك الجرجاني.
وظهرت تجارب شعرية متكاملة باللغة الدرية التي اقترنت بظهور الدولة السامانية (350-450هـ) لدى شعراء من مثل أبو الحسن الشهيد البلخي، وأبي عبد الله جعفر بن محمد الرودكي، وأبو الحسن الكسائي.
وفي عصر الدولة السامانية تطوّر الشعر كما تطوّر النثر، وبدأت الحركة الأدبية سنة ( 346هـ) بجمع ما يرتبط بتاريخ إيران من روايات وقصص وتدوينها في مجموعة واحدة بالفارسية سميت «الشاهنامه»، وهي مدوّن نثري بالفارسية الحديثة. ولم يلبث الشاعر أبو منصور الدقيقي الطوسي أن بدأ بنظم هذه الشاهنامة، وبعد مقتله تولى المهمّة الشاعر أبو القاسم الفردوسي فأتمّ نظمها خلال ثلاثين عاماً.وما وصل من نثر هذا العصر إضافة إلى «الشاهنامة» المنثورة، ترجمة «تفسير الطبري»، و«تاريخ البلعمي» لأبي علي البلعمي وزير منصور بن نوح الساماني، وكتاب «الأبنية عن حقائق الأدوية» لأبي منصور موفق الهروي، و«هداية المتعلمين في الطب» لأبي بكر البخاري، و«حدود العالم من المشرق إلى المغرب» لمؤلف مجهول.
انتقلت حاضرة الأدب الفارسي في عهد محمود الغزنوي من بخارى إلى غزنة ، فتوجهت همم الشعراء إلى استدرار صلات السلاطين الغزنويين، وكثر شعر المديح وتسجيل وقائع الانتصارات، ومن أكبر شعراء هذا العهد، الفرّخي السيستاني شاعر السلطان محمود الغزنوي، وأبو القاسم حسن بن أحمد العنصري الذي لقب بملك الشعراء، وكان من المقربين في بلاط الغزنويين، وإضافة إلى ديوان أشعاره نظم قصة «وامق والعذراء» من مصادر يونانية، وكذلك الشاعر أحمد بن قوص المنوجهري الدامغاني، وكان هذا الشاعر عالماً بالعربية والطب والفلك والموسيقى، وهو أول من أنشد في الشعر الفارسي على وزن «المسمّط». ويعد محمد بن عبد الملك المعزّي النيسابوري من كبار شعراء المديح في بلاط الغزنويين.
وفي عصر اعتلاء الثقافة الإسلامية في القرنين الرابع والخامس الهجريين راجت الأفكار والعقائد، وتعدّدت النحل، واتسعت المدارس وانتشرت المكتبات، وراج العرفان والتصوف. ومن شعراء العرفان في هذا العصر بابا طاهر عريان، وله رباعيات باللهجة المحلية اللّرية. ومن أعلام هذا العصر ناصر خسرو القبادياني الذي عاصر الحكم السلجوقي، وأخذ العلم والمعرفة من حكماء خراسان، وثار على الأوضاع القائمة، وسافر إلى مصر واعتنق المذهب الاسماعيلي وأصبح من دعاته في خراسان. أودع ثورته العاطفية في ديوان شعره كما دوّن أفكاره وعقائده في كتب هامة مدونة بالفارسية مثل : «خوان الأخوان» و«زاد المسافرين» و«جامع الحكمتين» وكتب رحلاته في «السفرنامه».
في بداية حكم السلاجقة اتسع التأليف باللغة الفارسية في شتى مجالات المعرفة وفنون الأدب، وتنوعت مهام النثر الفارسي بين الكتابات العلمية مثل كتاب «دانشنامه علايي» أو «حكمت علايى» الذي ألفه أبو علي ابن سينا (ت428هـ) لعلاء الدولة كاكويه من أمراء الديلم «التفهيم لأوضاع صناعة التنجيم» لأبي ريحان البيروني (ت 440هـ)، وألفه بالفارسية، ثم كتبه ثانية بالعربية، وبين النثر الأخلاقي والاجتماعي مثل كتاب «قابوس نامه» لعنصر المعالي كيكا ووس بن اسكندر بن قابوس وشمكير من أمراء الدولة الزيارية، وكتاب «سياستنامه» لنظام الملك وزير السلاجقة (ت 485هـ).
راج في هذا العصر نثر تاريخي مدون بلغة أدبية، مثل «تاريخ بيهق» لأبي الفضل البيهقي الذي يمثل أفضل أسفار هذا العصر من حيث القدرة الأدبية والدقة في عرض التفاصيل. كما راج أيضاً نثر فارسي في تفسير القرآن الكريم، وأوسع منه رواجاً كان النثر العرفاني (الصوفي)، ومن ذلك كتاب «كشف المحجوب» في التصوف لأبي الحسن الهجويري (ت465هـ). ومن أدباء العرفان في هذا العصر عبد الله الأنصاري، من أحفاد الصحابي أبي أيوب الأنصاري، له شعر ورسائل وكتاب «طبقات الصوفية»، وهو شرح لكتابٍ بهذا الاسم لأبي عبد الرحمن السّلمي النيسابوري (ت 412هـ). ويمتاز نثره بتناسب الجمل والسجع.
في العصر الثاني من حكم السلاجقة الذي استمر في النصف الأول من القرن السادس الهجري حتى هجوم الغُزّ وسقوط السلطان سنجر (548هـ)، برز أمير الشعر أوحد الدين علي بن محمد الأنوري، وعده البعض ثالث ثلاثة من «أنبياء الشعر» الفارسي وهم: الأنوري والفردوسي وسعدي، ويحتل المدح القسم الأعظم من شعره، وله أيضاً قصائد في وصف الطبيعة، وأيضاً مسعود بن سعد سلمان (ت 515هـ) الشاعر اللاهوري الذي اشتهر بالحبسيّات، أي الأشعار التي قالها في السجن.
بلغ النثر الفارسي ذروته في جميع الموضوعات بين منتصف القرن السادس إلى منتصف القرن الثامن الهجري. ففي النثر العرفاني تبرز رسائل عين القضاة الهمداني ورسائل شهاب الدين يحيى السهروردي (ت 587هـ). وللسهروردي أيضاً مؤلفات بالعربية أشهرها «حكمة الإشراق». وهناك أيضاً كتب التفسير بالفارسية وأشهرها «كشف الأسرار وعدة الأبرار» لأبي الفضل رشيد الدين الميبدي، وهو شرح لتفسير عبد الله الأنصاري. وتفسير «روض الجنان وروح الجنان» للشيخ حسين بن علي الخزاعي النيسابوري المعروف بأبي الفتوح الرازي.
وفي فن القصة ثمّة آثار مهمة من هذا العصر أشهرها «سمك عيار» وفيه قصص العيّارين (الشطّار) لصدقة بن أبي القاسم، و«السندبادنامه» للحكيم الهندي السندباد، وأعاد كتابته ظهيري السمرقندي بنثر فارسي جيد في القرن السادس.
وفي علوم اللغة ألفت كتب بلاغية شاكلت كتب البلاغة العربية مثل كتاب «ترجمان البلاغة» لمحمد بن عمر الرادوياني وكتاب «حدائق السحر في دقائق الشعر» لرشيد الدين الوطواط شاعر القرن السادس المعروف. وكتاب «المعجم في معايير أشعار العجم» لشمس قيس الرازي، في العروض والقافية ونقد الشعر. ومن أشهر كتب التاريخ بالفارسية «راحة الصدور» لنجم الدين الراوندي.
ومن كتب النثر الأدبي في هذا العصر كتاب «كليلة ودمنة» وهو مترجم من الهندية إلى الفارسية في عصر كسرى أنو شيروان، ثم ترجمه ابن المقفع إلى العربية، ونقله إلى الفارسية الحديثة أبو المعالي نصر الله كاتب بهرامشاه الغزنوي، وكتاب «چهار مقاله» ويتألف من أربع مقالات، في بيان طبقات الندماء، ألفه النظامي العروضي السمرقندي في حدود 551هـ، وكتاب «مرزبان نامه» الذي ألفه مرزبان بن رستم على طريقة «كليلة ودمنة». وبلغ النثر الفارسي ذروته في هذا العصر على يد سعدي الشيرازي في كتاب «گلستان روضة الورد».
عندما أصبحت إيران ساحة للغزاة وساد الفساد الاجتماعي والسياسي بل والفكري، ظهر الشعراء الذين ترفعوا عن الخوض في المستنقع، وحلّقوا بأرواحهم إلى الفضاء الرحب، وأطلقوا أصواتهم ينادون بتحرر الإنسان من عوامل الانحطاط الداخلية والخارجية. إنه عصر جلال الدين الرومي الذي ظهر فيه كبار الشعراء مثل الحكيم عمر الخيام النيسابوري صاحب «الرباعيات» المترجمة والمغنّاة. وأبو المجد، مجدود بن آدم السنائي، الشاعر والمتصوف (ت 532هـ)، وآثاره الباقية كثيرة أشهرها «حديقة الحقيقة» و«سير العباد إلى المعاد» و«طريق التحقيق» وكلها في الشعر العرفاني على طريقة المثنوي (الشعر المزدوج). ومن أمراء الشعر في هذا العصر أفضل الدين بديل الخاقاني (ت 595هـ)، وله إضافة إلى شعره نثر تحت عنوان «منشآت"، وأهم ما يتميز به شعره الدقة في بيان العواطف الإنسانية.
ولئن بدأت القصة المنظومة في الفارسية في القرن الخامس الهجري على يد أسعد الجرجاني بنظمه «ويس ورامين»، فقد بلغت ذروتها على يد النظامي الگنجوى (جمال الدين أبو محمد بن الياس بن يوسف ت 608هـ) في آثاره المعروفة وأشهرها «پنج گنج» (الكنوز الخمسة)، وهي خمس منظومات شهيرة: «مخزن الأسرار في الزهد والحكمة والعرفان»، وقصة العشق الأسطوري «خسرو وشيرين»، «وليلى ومجنون» وهي مقتبسة من قصة «قيس وليلى» العربية، مع إضفاء طابع الحياة الفارسية عليها. و«هفت پيكر» (الأجساد السبعة)، وتسمى هفت گنبد(القباب السبع)، و«اسكندرنامه» في قصة الاسكندر وفتوحاته. ومن عمالقة هذا العصر أيضاً فريد الدين العطار النيسابوري الذي ولد سنة 540هـ في كدكن من قرى نيسابور، اشتهر بكتابه «منطق الطير»، وهو ملحمة عرفانية، وفيه يتحدث عن ثلاثين طيراً (سي مرغ) يرمزون إلى الباحثين عن الله، فيجتازون المراحل السبع للسلوك وهي: الطلب، والعشق، والمعرفة، والاستغناء، والتوحيد، والحيرة، والفقر، والغنى، ثم يجدون الحقيقة في ذواتهم. وله أيضاً: «الهي نامه» و«مصيبت نامه» و«تذكرة الأولياء»، والأخير في تراجم الصوفية. وأمير العشق والعرفان في هذا العصر هو جلال الدين محمد البلخي المعروف بالمولوي، ولد في بلخ بحدود 604هـ. وله في الشعر كتاب «مثنوي معنوي» و«غزليات شمس». وفي النثر: «فيه ما فيه» و«المجالس السبعة» و«مكاتيب». وقد بلغ شأواً في «المثنوي» و«الغزل» لم يبلغه أي شاعر في الفارسية، ولجلال الدين منظومة فكرية قائمة على أساس القرآن والسنة وسبر أغوار النفس الإنسانية.
وفي عصر سقوط بغداد وسيطرة المغول، وهو أيضاً عصر انتشار الأدب الفارسي واللغة الفارسية في آسيا الوسطى وشبه القارة الهندية والإقبال على أدب الحكمة والتأمل لما اعترت العصر من هزّات سياسية واجتماعية عنيفة، يقف الشاعر سعدي الشيرازي (ت 690هـ) على قمة عالية، بل إنه اعتلى أرفع قمم الأدب الفارسي.ولد في شيراز ورحل إلى بغداد ومنها إلى بلاد الشام ثم عاد في أواخر حياته إلى مسقط رأسه حيث توفي هناك، يطفح شعره بحب البشرية وبالعواطف الإنسانية وبالحِكَم وأشهر آثاره: «بوستان» أو «سعدي نامه» في الشعر و«گلستان» في النثر الفارسي، إضافة إلى قصائد عربية وفارسية مجموعة في كتاب «كليّات سعدي».
ثم ظهرت بجلاء آثار الغزو المغولي متمثلة في الانحطاط وفساد الذوق وضعف الهمة في الإبداع والاتجاه إلى التقليد، ثم أعقب ذلك هجوم تيمورلنك، والنزاع بين أبنائه وأحفاده على الحكم. ولكنّ الروح الحضارية الإسلامية وسط هذا الخضمّ المتلاطم كانت تبحث عن مرتع هادئ لفاعليتها، ووجدت ذلك في عهد السلطان شاه رخ ميرزا من أبناء تيمور في المناطق الشرقية من إيران، حيث أصبحت هراة مثابة العلماء والأدباء في عصره، وأيضاً في عهد ابنه بايسنقر ميرزا، وفي ظل الهدوء النسبي الذي استعادت فيه كثير من الحواضر الأدبية نشاطها في الأدب والفن كانت فيه شيراز عاصمة الأدب الفارسي. ومن أدباء هذا العصر فخر الدين العراقي (ت688هـ)، وسمّي بالعراقي بسبب إقامته في عراق العجم. طاف ديار الهند وآسيا الصغرى وتعرّف على أفكار ابن عربي وجلال الدين الرومي، وتوفي في دمشق. ومن أهم آثاره «الديوان» و«عشّاق نامه» وكلاهما في الشعر، وله في النثر كتاب «اللمعات» وموضوعه العرفان وسلوك العارفين، وعليه شروح كثيرة أهمها شرح الجامي باسم «أشعة اللمعات»، وأيضاً الخواجوي الكرماني (ت 750هـ)، محمود بن علي، من أشراف كرمان، كانت تربطه علاقة وثيقة بحافظ الشيرازي، له ديوان شعر، ومثنوي، وآثار منثورة. كذلك ظهر الشاعر ابن يمين الذي ولد في خراسان وعاصر السربدارية، وموضوع شعره المدح ومناقب أهل البيت، وأيضاً سيف الدين الفرغاني الذي ولد في فرغانه، وله سجالات شعرية مع سعدي الشيرازي، ويرثي أهل البيت ويدعو إلى ترفع الشعراء عن الوقوف على أبواب السلاطين. واشتهر الشاعر الساخر عبيد الزاكاني (ت772هـ)، من بني خفاجة الساكنين في قزوين، ونقد الأوضاع السياسية والاجتماعية بلغة ساخرة لاذعة، وقصيدة «موش وگربه» (الفأر والقط) حكاية تمثيلية تصور الوضع الاجتماعي في عصره. ومن آثاره الساخرة المعروفة «أخلاق الأشراف» و«صد پند» (مئة موعظة) و «رساله دلگشا» (رسالة الإنشراح).
ويعد شمس الدين محمد الشيرازي (ت792هـ) الملقب بـ «حافظ» أو «لسان الغيب» عميد الأدب الفارسي، ثار على الوضع الاجتماعي والأدبي في عصره فقدم للأدب عالماً جديداً في الشكل والمضمون. قدم العرفان ضمن مزيج لم يسبق له شاعر أو عارف واستلهم أفكاره من القرآن وعلوم الكلام والفلسفة والتصوف، وله شعر بالعربية وملمّعات. ومن أمراء الشعر في هذا العصر عبد الرحمن الجامي (ت898هـ)، الشاعر الصوفي الذي أقام في حلب ودمشق وتوفي في هراة ومن آثاره ديوانه ومزدوجاته (مثنوياته) السبع المعروفة باسم «هفت اورنگ» (القباب السبع). وهي على الترتيب: «سلسلة الذهب في العرفان»، و«سلامان وأبسال» في الأدب التمثيلي الوعظي، و«تحفة الأحرار» في النصيحة والحكمة، و«سبحة الأبرار» في مراحل السلوك وتربية النفس، و«يوسف وزليخا» منظومة في قصة يوسف مع امرأة العزيز، و«ليلى ومجنون» مستلهمة من الأدب العربي، و«خردنامه اسكندرى» (رسالة العقل الاسكندرية) في حِكَم اليونانيين. ومن آثاره المنثورة «بهارستان» في الحكايات ويحاكي فيها «گلستان» لسعدي. و«نفحات الانس» تراجم العرفاء والصوفية حتى زمانه.
كان ثمة أكثر من دافع في عصر المغول والتيموريين ثم في عهد الصفويين لكتابة التاريخ وتدوين الأحداث التي مرّت على إيران في تلك العهود. والمدونات التاريخية هذه تعد في أهم أدبيات التاريخ في الفارسية ، وأشهرها: «تاريخ جهانگشا» لعلاء الدين عطا ملك الجويني (ت681هـ)، في شرح ظهور جنگيزخان وتاريخ الخوارزمشاهية وفتح قلاع الاسماعيلية وحكومة خلفاء حسن الصباح، و«جامع التواريخ» لرشيد الدين فضل الله الهمداني (ت718هـ). وفيه تصوير دقيق للأوضاع الاجتماعية في عصر المغول، و«تجارب السلف» لهندوشاه النخجواني (انتهى من تأليفه سنة 724هـ) في ذكر تاريخ الخلفاء حتى سقوط بغداد، و«تاريخ گزيده» (التاريخ المنتخب) لحمدالله المستوفي (ت بعد 740هـ) في التاريخ العام والإسلامي حتى عصر المؤلف، و«روضة الصفا» لمحمد بن براهان الدين البلخي المعروف بـ ميرخواند، في تاريخ إيران والإسلام، و«حبيب السير» لغياث الدين محمد الشيرازي الملقب بـ خواندمير (ت 942هـ)، و«عالم آراي عباسي» لاسكندربيك من كتّاب بلاط الشاه عباس الصفوي (انتهى تأليفه سنة 1308هـ).
انقسم الأدب الفارسي في عهد الدولة الصفوية إلى هندي وإيراني. فالسلاطين البابريين في هذا العصر شجعوا الأدب الفارسي، وظهر في شبه القارة الهندية شعراء وأدباء، وبقيت اللغة الفارسية في الهند حتى عصر الاستعمار البريطاني، وباستمرار الاحتلال ضعفت بالتدريج لتحل محلها اللهجات المحلية واللغتان الأردية والإنكليزية.
والشعر في هذا العصر أقرب إلى لغة عامة الناس ويسوده التقليد، وأهم شعرائه: شمس الدين محمد البافقي، المعروف باسم وحشي بافقي (ت 991هـ)، اشتهر بالغزل الذي يعكس تجربة حقيقية للشاعر، وكمال الدين محتشم الكاشاني، وله مجموعة غزل باسم «جلالية»، والميرزا أبو طالب كليم الهمداني (ت1061هـ) الذي رحل إلى الهند في عهد جهانشاه، وأصبح شاعر بلاط شاه جهان ونَظَمَ «فتوحات شاه جهان» على طريقة المثنوي. وأمير شعراء هذا العصر محمد علي صائب التبريزي الذي ولد سنة 1016هـ في أصفهان أثناء حكم الشاه عباس الكبير، وهو شاعر مكثر يروى أن ديوانه كان يزيد على مئتي ألف بيت، ووصلنا منه نصف هذا العدد، وغزله عرفاني ينحو منحى الحكمة. وفي شعره شيء من الغموض في المعنى والتعبير.
بدأ الارتباط بين إيران والغرب منذ أواخر الدولة الصفوية واستمرّ في العهد الافشاري، وزاد التحسّس بتخلف الأوضاع القائمة في إيران، وانبرى الكتاب والمثقفون لنقد هذه الأوضاع، بلغة يفهمها القرّاء دونما تعقيد أو ترصيع.
![]() |
بلغ سعدي في «گلستان» الذروة في النثر الفني السلس، لكن الصنعة غلبت في العصور التالية، وأصبح التعقيد صفة غالبة على النثر حتى حدث التحوّل على يد ميرزا أبو القاسم الفراهاني الذي استطاع بذوقه الرفيع أن يدفع بالنثر إلى السلاسة وصراحة البيان والإيجاز والنضج، ودليل ذلك كتابه المسمى «منشآت». ومن الكتب التي ظهرت في هذا العصر بهذا النثر الجديد كتاب «حاجي بابا اصفهاني» (1239هـ) للكاتب الفرنسي الأصل البريطاني الجنسية جيمس موريه الذي انتقد الأوضاع الاجتماعية في العهد القاجاري. وكتاب «مسالك المحسنين» ويدور حول قصة خيالية لمجموعة تحاول صعود قمة دماوند (أعلى قمة جبلية في إيران)، مؤلفه كاتب من جماعة المثقفين المتغربين هو عبد الرحيم التبريزي المعروف باسم طالبوف (ت 1329هـ)، وكتاب «سياحتنامه ابراهيم بيك»، للحاج زين العابدين المراغه.أي (ت 1328هـ).
استطاع نادر شاه الافشاري (1148-1160هـ) أن يعمل على استتباب الأمن والاستقرار في إيران بعد هرج ومرج مرت به البلاد منذ أواخر العصر الصفوي، ونشطت في ظل هذا الاستقرار الحركة الأدبية، وتأسست جمعيات الأدباء، ومن تلك الجمعيات «انجمن مشتاق» (جمعية مشتاق) التي أسسها مجموعة من الأدباء الأصفهانيين على رأسهم مشتاق الأصفهاني بقصد الدعوة إلى تطوير الشعر الفارسي الذي ظلّ منذ الشاعر «صائب» يدور حول محور الغزل والحبيب والهجر والفراق، ودفع الشعر إلى عصر حافظ وجلال الدين الرومي إذ كان يعبّر عن تجربة أصيلة دون تكرار أو تقليد. وقد ظهر على أثر هذه الدعوة تطور في الشعر. ويلاحظ أن شعراء هذا العصر انفتحوا على الشعر العربي القديم أيضاً، في محاولة للعودة إلى عمالقة الشعر، ولأكثرهم شعر باللغة العربية، ومنهم :الميرزا نصير (ت 1191هـ)، الشاعر والطبيب والفلكي والرياضي الذي أطلق عليه لقب «الفيلسوف الأعظم» وله مؤلفات في شتى العلوم، وله شعر بالعربية والفارسية. وحاول لطف علي بيك آذربيكدلي (ت 1195هـ) أن يحذو حذو سعدي وحافظ في شعره، وجمع مقتطفات لثمانمئة وخمسين شاعراً فارسياً في كتاب «تذكرة آتشكده».
وبلغت عملية تطوير الشعر ذروتها على يد سيد أحمد هاتف الأصفهاني (ت1198هـ). الذي كتب بطريقة القدماء الكبار. وأصبح ديوانه موضع اهتمام الأدباء والمتأدبين، وله شعر بالعربية ذو نكهة جميلة. ومن شعراء هذه المرحلة أيضاً ميرزا عباس فروغي البسطامي (ت1274هـ) الذي اتخذ من سعدي وحافظ مثالاً لشعره، واشتهر شعره بين العرفاء والصوفية.
وظهرت في عصر الإرهاصات السياسية والاجتماعية والأدبية للحركات الاجتماعية المطالبة بالإصلاحات تيارات فكرية متعددة تقدم مشاريع الإصلاح وتدعو لمقاومة الأوضاع القائمة. وفي هذا الجوّ الفكري والثقافي الساخن راج الشعر وازداد عدد الشعراء، وانضمت طهران بعد أن أصبحت عاصمة إلى أصفهان وشيراز لتكون من الحواضر الأدبية، ومن شعراء هذه المرحلة: فتح علي صبا الكاشاني (ت 1238هـ) الذي يعد حلقة اتصال بين الشاعر هاتف الأصفهاني وهذا العصر. يمتاز شعره بالمتانة وقوة الألفاظ وله ديوان شعر ضم ما يقارب ستة عشر ألفاً وخمسمئة بيت، و«خداوندنامه» في الشعر الديني و«عبرت نامه» في المدح والحكمة. وله شعر يقلد فيه شعر سعدي بعنوان «گلشن صبا»، وشعر الفردوسي بعنوان «شهنشاه نامه».
ومن شعراء هذا العصر أيضاً سيد حسين الأصفهاني الذي قلّد كبار الشعراء القدامى، والميرزا عبد الوهاب نشاط الأصفهاني، ومجموعته الشعرية مطبوعة تحت عنوان «گنجينه نشاط». ويعد الشاعر ميرزا شفيع الشيرازي الملقب بـ «وصال» (ت 1162هـ) من كبار شعراء عهد فتح علي شاه وله ديوان شعر في الغزل والمدح والرثاء، وله مثنوي «بزم وصال» على طريقة «بوستان» سعدي. وأكمل بمهارة مثنوي «فرهاد وشيرين» الذي لم يكمله وحشي البافقي. ومنهم أيضاً يغمائي الجندقي (ت 1276هـ) وله هجاء لاذع للأوضاع الاجتماعية، ويستعمل أحياناً الألفاظ المبتذلة للإمعان في هجائه. وميرزا حبيب قاآني (ت 1270هـ) من كبار شعراء شيراز في هذه المرحلة، تتبّع طريقة القدماء كالأنوري والمعزّي والخاقاني. والميرزا محمد علي سروش الأصفهاني (ت 1285هـ) لقب بشمس الشعراء في بلاط ناصر الدين شاه القاجاري ويضم ديوانه قصائد في المدح والرثاء.
ومع تبلور الحركة الدستورية في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري اشتدت حركة المطالبة بالإصلاح وفق معايير إنسانية إسلامية تارة، ووفق معايير غربية تارة أخرى، كما ظهرت التيارات اليسارية المدافعة عن الكادحين والمحرومين، وتأثر الأدب بكل هذه التيارات واتسع نطاق الشعر الوطني وشعر المقاومة، ومن أشهر شعراء هذه المرحلة الشاعر والصحفي أديب الممالك الفراهاني (ت 1376هـ) ويصوّر ديوانه الحوادث والمشكلات السياسية والاجتماعية في عصره، ولمعرفته الواسعة بالأدب تكثر في شعره الأمثال والعبارات العربية، ومحمد تقي بهار (ت 1371هـ)، شاعر خاض ميدان الصحافة والعمل السياسي، وكتب في الأدب وتاريخ الأحزاب السياسية، ويقع ديوانه في مجلدين، والعلامة علي أكبر دهخدا (ت 1375هـ) الذي درس العلوم القديمة والحديثة، وخاض أيضاً غمار العمل الصحفي، وناصر الدكتور محمد مصدق في حركته السياسية، له ديوان أشعار في الأغراض السياسية والاجتماعية، وله أكبر موسوعة في اللغة الفارسية باسم «لغت نامه» ومن مؤلفاته أيضاً «أمثال وحكم» و«چرند وپرند» (الخزعبلات) وهي مجموعة مقالات ساخرة، وسيد أشرف الدين الحسيني الجيلاني (ت 1354هـ)، شاعر الشعب الذي تحدث عن آلام الناس وبؤسهم وفقرهم وآمالهم وطبعت أشعاره البالغة أكثر من عشرين ألف بيت تحت عنوان «نسيم شمال»، وعارف القزويني، أبو القاسم (ت 1393هـ) انخرط في زمرة ثوار الحركة الدستورية وتغنى بالثورة والثوار، شعره مفعم بالحرارة والألم، ويغلب عليه الطابع الغنائي، وميرزاده عشقي، سيد محمد رضا (ت 1344هـ) الذي خاض الصراع السياسي ومارس المجال الصحفي، يدور شعره حول التمييز الطبقي والكادحين وانتشار الجهل والخرافة في المجتمع، وفرّخي يزدي، محمد (ت 1359هـ)، انتمى إلى الديمقراطيين اليساريين وانتقد الأوضاع بشدة، مما دفع بحاكم يزد أن يلقيه في السجن بعد أن خيّط شفتيه مع بعضهما وسجن مرات وقتل في سجنه، له مقالات سياسية ثائرة وله ديوان شعر طبع عدة مرات. واللاهوتي أبو القاسم (ت 1377هـ) الذي قضى أكثر حياته في المنفى، ومات في موسكو، ساهم في الحركة السياسية اليسارية، وقضى ردحاً من حياته في طاجيكستان معلماً وعضواً في الحزب الشيوعي ورئيساً لأكاديمية العلوم.
بدأ عصر الحداثة مع الحركة الدستورية. فبعد الحرب العالمية الأولى، وسقوط الحكم القاجاري. عصفت بالمجتمع تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية كان لابدّ للغة الأدبية أن تواكبها، واشتد الصراع بين القديم والجديد على أعمدة الصحف، وظهرت حالات انفعالية في الهجوم على القديم ورفضه، كما برز التيار المتمسك بالقديم، وبرز إلى جانب هؤلاء وأولئك من يحاول تطوير القديم ليواكب متطلبات العصر.
يعتبر تقي رفعت، وجعفر خامنئي، والسيدة شمس كسماني من رواد التجديد، لكنهم لم يبلغوا الشأو الذي بلغه علي اسفندياري الملقب بـ «نيما يوشيج» في تطوير الشعر الفارسي الحديث قالباً ومضموناً. رحل الشاعر مع أسرته إلى طهران، وتعلّم اللغة الفرنسية، وتفتق الشعر على لسانه في صباه، وأنشد على الطريقة العمودية القديمة، ولكنه كان يتطلع إلى التغيير، فبدأ بنشر قصائده على طريقة الشعر الحرّ، فأثارت ضجّة بين المدافعين والمعارضين. وتقوم مدرسة نيما على أساس أن الشعر حياة، والشاعر يعبّر عن عصارة تجربته الحياتية فيما ينشده، ولا يجوز للشاعر أن يقلّد ويكرر مفاهيم الأقدمين، كما يجب أن تكون الأوزان والقوافي في خدمة بيان عواطف الشاعر، لا أن يكون الشاعر مقيداً في بيان عواطفه بالوزن والقافية. غير أن شعراء هذا العصر لم يتخلوا بأجمعهم عن الشعر العمودي، بل ظهر شعراء كبار التزموا بالإنشاد العمودي منهم : پروين اعتصامي (ت 1361هـ) التي درست اللغة العربية والفارسية على يد والدها، ثم انتقلت إلى طهران لدراسة اللغة الإنكليزية. تدفق الشعر على لسانها وهي في الثامنة، توفيت وهي في الخامسة والثلاثين. اشتهرت بقصائد الحوار، أو أدب المناظرة، ويدور شعرها حول المسائل الاجتماعية والأخلاقية. ومحمد حسين شهريار (ت 1408هـ) من كبار الشعراء المعاصرين، يسود شعره التأمل العاطفي، والولاء لأهل البيت وله شعر بالتركية الأذربيجانية لغته الأم.
ومن عمالقة الشعر العمودي المعاصر سيد كريم أميري فيروزكوهي (ت1404هـ)، وكان ينظم على أسلوب الشعراء العظام، ويكثر في ديوانه الشكوى والتألم، ومحمد حسين رهي معيّري (ت1388هـ) الذي يُعد من كبار الغزليين المعاصرين، طبعت مجموعة أشعاره تحت عنوان «سايه عمر» (ظلال العمر)، ومهدي حميدي شيرازي (ت 1406هـ) الذي يميل أسلوبه الشعري إلى ناصر خسرو مع خلوّه من التعقيد اللفظي وكان معارضاً بشدة للشعر الحرّ، ومهرداد اوستا، واسمه الأصلي محمد رضا رحماني (ت 1411هـ)، درّس في الجامعة، وتولى مسؤولية رئاسة شورى الشعر في وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، وله إضافة إلى أشعاره دراسات أدبية.
اتجه نيما ومن حذا حذوه من أنصار الحداثة إلى التعبير عن تجاربهم الشعورية الذاتية، وعواطفهم الداخلية، لكن تصاعد الصراع مع النظام المدعوم من أمريكة دفع شعراء الحداثة إلى التفاعل مع آلام مجتمعهم، وإلى المساهمة في إشعال نار الثورة. وفي هذه المرحلة ظهرت تجارب في قصيدة النثر. ومن أهم شعراء هذا العصر: أحمد شاملو وهو صاحب مدرسة شعرية تقوم على أساس التفكير الاجتماعي الفلسفي والاستفادة من الأساطير الغربية وخاصة من التراث الديني المسيحي. وهو ممن أنشدوا على طريقة الشعر المنثور دونما تقيد بوزن أو قافية، ومهدي أخوان ثالث، من أنصار الحداثة والرمزية، وشعره ينتقد الوضع الاجتماعي، وله دراسات في شعر نيما يوشيج، وفروغ فرخزاد، (ت 1386هـ) بدأت شعرها متمردة على كل شيء، وتحللت من كل التزام خلقي، ثم عادت إلى نبذ التحلل، واتجهت إلى لون من التفكير الاجتماعي الفلسفي. ومن كبار شعراء هذا العصر سهراب سپهرى (ت 1400 هـ) الذي درس فن الرسم في كلية الفنون الجميلة، واحترف الرسم والشعر معاً، سافر كثيراً واطلع على الثقافات المختلفة، وكان لذلك أثر في شعره، وأعجب بشكل خاص بفلسفات الشرق الأقصى. نشرت مجموعاته الشعرية تحت عنوان «هشت كتاب» (ثمانية كتب). واجه انتقادات لاذعة عند نشر قصائده، واتهم بأنه سلبي ومعرض عن الحوادث الاجتماعية؛ لكنه أصرّ على طريقته التي جمع فيها بين الأصالة والمعاصرة، والابتعاد عن اللهث وراء المدارس الغربية. لقي شعره بعد الثورة الإسلامية اهتماماً خاصاً، وطبعت أشعاره مرات عدة.
مرّت الثورة الإسلامية بأحداث جسام بعد انتصارها، كالحرب ووفاة المؤسس والمواجهة مع أمريكة، وبرز في خضم هذه الأحداث شعراء شباب سجّلوا ملاحم ذات طابع عرفاني، كما واصل شعراء الجيل السابق عملهم الأدبي متأثرين بالتحول الاجتماعي والثقافي الجديد، مثل أميرى فيروزكوهي، ومهرداد أوستا، ومحمد حسين شهريار. ولابد هنا من الإشارة إلى نشاط الإنتاج القصصي في هذا العصر، ومن أبرز الأسماء في هذا المجال إسماعيل فصيح، ومن أهم أعماله المترجمة إلى العربية: «شتاء 84» و «ثريا في غيبوبة». ومحمود دولة آبادي، وأهم عمل تُرجم له إلى العربية رواية «كليدر».
وبرز جيل من الشباب اهتمّ بالشعر الملحمي أو المسمى بالفارسية غزل حماسي وهم كثيرون أشهرهم: محمد علي بهمني، حسين منزوي، منوچهر نيستاني، سيمين بهبهاني، قيصر أمين پور، حسين اسرافيلي.
وجدير بالذكر أن الإمام الخميني يُعد من أبرز شعراء العرفانيين المعاصرين، وله ديوان غزل، وكذلك خليفته الإمام الخامنئي الذي يُعد أيضاً من نقّاد الشعر البارعين ومن المتذوقين للشعر العربي.
محمد علي آذرشب
الإيرانيون ذوو اللسانين
دُهش الفرس منذ دخولهم في الإسلام بأمرين: أولُهما سهولة كتابة الألف باء العربية، والآخر حرية الإنسان بتعلم اللغة والكتابة بها. فقد كانت الكتابة البهلوية محظورة على العامة، ومقصورة على الموبدين (رجال الدين)، وعلى خاصة الخاصة من رجال القصر. فأقبل مَن دخل الإسلام من الفرس على تعلم العربية كتابةً وقراءةً وحديثاً، ولا سيما أنهم رأوا القرآن مكتوباً باللغة العربية. ولايمكن فهمه إلا بتعلم العربية والكتابة بألف بائه.
ولم يمض قرنان من الزمان حتى ازداد الإقبال على العربية، بازدياد امتزاج الأمتين المتجاورتين العرب والفرس منذ مطلع العصر العباسي. وقد كان للعناصر الفارسية يد في مساندة العباسيين لدى قيام دولتهم.
وظهرت طبقة مثقفة تحسن اللغتين بقصد المشاركة في الحكم، والتقرب من الخليفة العباسي، وللمباهاة بمعرفتهم العربية. واشتهر بين الفرس شعار «أن العالِمَ هو الذي يحسن اللغتين» ومازال هذا الشعار قائماً حتى اليوم. وسرعان ما أقبلوا على التأليف وقرض الشعر بالعربية إلى جانب اللغة الفارسية، أو الاكتفاء بالعربية لغة العصر العلمية والأدبية. وزاد من إقبالهم على تعلم العربية احتكاكهم بالأسر العربية عن طريق التزاوج، والإماء، واستقرار كثير من العرب في عواصم بلاد فارس كالري وأصفهان وبعض مدن خراسان. ودعي من يحسن اللغتين ويؤلف فيهما، أو يقرض الشعر بهما بـ «ذوي اللسانين». وتميز هؤلاء من غيرهم بما حفظوا من القرآن والحديث والشعروالمقامات والنوادر، إضافة إلى اطلاعهم على تراث العرب ومصنفاتهم ودواوينهم.
وقد تهيأت لذوي اللسانين أعلى المناصب في البلاط وإدارة الحكم، كالحسن بن سهل، والصاحب إسماعيل بن عباد، وعطا ملك الجويني الذي كان يجيد العربية والمغولية إلى جانب الفارسية في عهد هولاكو. وحظيت فئة منهم برضى الخلفاء والأمراء. كما فتحت لهم أبواب الشهرة في العراقين وما بعد العراقين شرقاً وغرباً.
وبدأت علائم ظهور فئة ذوي اللسانين منذ أيام أبي جعفر المنصور، عندما احتاجت الدولة إلى الحضارة الجديدة فشجعت على نقل علوم الأمم المجاورة إلى العربية، كالهندية والفارسية واليونانية؛ إذ تبارى العارفون بهذه اللغات في نقل شتى العلوم إلى العربية، وكان للترجمة من الفارسية الحظ الأوفى، وقد أسهم هؤلاء المترجمون بتعريب كثير من المفردات والمصطلحات أو بنقلها إلى الفارسية عن طريق التقارض اللغوي.
وسرعان ما غدا تباهي الفرس بالعربية أساساً في إظهار براعتهم التأليفية بالعربية،ولاسيما منذ القرن الرابع الهجري، عندما أخذ التأليف بالعربية يزدهر في بغداد وفي معظم الأمصار العربية والإسلامية. وبدأ العلماء الفرس يسابقون علماء العرب في كل ميادين التأليف، وأسماء سيبويه ونفطويه والطبري والثعالبي والعماد، لامعة في صفحات تاريخ الأدب العربي، لكننا لانُعنى بهؤلاء لأنهم لم ينظموا ولم يؤلفوا إلا بالعربية، وإن كانت جذورهم فارسية، وقصدنا العلماء الفرس الذين ألفوا باللغتين معاً، وقرض بعضهم الشعر العربي كما نظموا الشعر الفارسي، والذين دعوناهم بذوي اللسانين، وكان لهم ميادين نجمل أهمها:
1ـ في الأدب: لعل ابن المقفع يعد في طليعة الأدباء من ذوي اللسانين، فهو الذي ترجم «كليلة ودمنة» و«خدا ينامه: كتاب الملوك». وصاحب المؤلفات العربية مثل الأدب الصغير، والأدب الكبير، ورسالة الصحابة. وأبان بن عبد الحميد اللاحقي الذي مدح البرامكة، ونظم كليلة ودمنة شعراً، وترجم عدداً من الكتب مثل «سيرة أنوشروان» و«مزدك». وموسى بن سيار الذي وصفه الجاحظ بأنه «كان قصاصاً من أعاجيب الدنيا»، وكان من البراعة أنه كان يشرح القرآن للعرب بالعربية، وللفرس بالفارسية. وسعدي الشيرازي أحد أشهر أدباء الفرس، فقد كان ذا ثقافة عربية واسعة نهلها من عيشه في بلاد الشام، والحجاز، ومصر قرابة ثلاثين سنة، فألف ونظم بالعربية والفارسية، حتى إن كتابه «كلستان: روضة الورد» الذي ألفه بالفارسية كان معظم محتوياته من نوادر العرب وأخبارهم وأمثالهم، إضافة إلى شعره العربي، ومثل الأديب الشاعر الجامي (ت 817ه) الذي أمضى عمره بتعلم العربية، حتى إذا أستدَّ لسانه بها راح يؤلف باللغتين أكثر من أربعين ديواناً وكتاباً، قسم كبير منها بالعربية مشهور عند العرب. كقصة « سلامان وأبسال»، و«الدرة الفاخرة»، كما أنه شرح بعض مؤلفات ابن عربي بالعربية «كفصوص الحكم»، و«القزويني» صاحب «لباب الألباب» أشهر كتب الفرس الأدبية نصفه عربي، وقد ألفه على غرار «عيون الأخبار» لابن قتيبة.
2ـ في التاريخ: سبق الفرس العرب في تصنيف كتب التاريخ بلغتهم لوجود الملكية عندهم، وفي عصر الترجمة شرعوا بترجمة كتب تاريخهم الملكي افتخاراً على العرب وتباهياً بما عندهم من ملكية ومراسيم وقواعد أميرية. وقد ترجموا عدداً من الكتب مثل سيرة أزدشير، وسيرة أنو شروان، وخدا ينامه، واشتهروا بمجموعة كتب باسم «كتب التاج»، وكانوا ينسبون بعضها إلى أعلام الأدب من العرب ليبينوا اهتمام العلماء بتاريخهم مثل كتاب «التاج» الذي ترجموه ونسبوه إلى الجاحظ. كما اشتهر الفرس بمجموعة كتب تحكي سير ملوكهم نثراً وشعراً والتي هي بعنوان «شاهنامة: كتاب الملوك» ،وأشهر هذه الشاهنامات شاهنامة الفردوسي الذي نظمها بأكثر من خمسين ألف بيت على البحر المتقارب، وترجمها إلى العربية الفتح بن علي البنداري الأصفهاني وكتب «الآيين: العادات والسلوك»، والبيهقي صاحب التاريخ الشهير الذي ألف باللغتين، وناصر خسرو صاحب «سفر نامه: كتاب الأسفار». وقد قضى زمناً يطوف في بلاد الشام والحجاز ومصر حتى عد أحد الأعلام من ذوي اللسانين.
3ـ في الشعر: لم يعرف الفرس الأوزان العربية والنظم عليها إلا بعد أن أتقنوا العربية، وقرؤوا الشعر العربي. فأحبوا أن يقلدوا العرب في شعرهم، فمنهم من قصر نظمه على الشعر العربي كبشار ومهيار وأبي العتاهية وأبي نواس، وفي شعرهم الكثير من الثقافة الفارسية. ومنهم من نظم بالعربية من غير أن يأتي إلى بلاد العرب، لكن قرض الشعر الفارسي لم يبدأ إلا في مطلع القرن الرابع الهجري، وسرعان ما ظهر منهم شعراء أعلام من ذوي اللسانين ينظمون الشعر باللغتين مثل «منوجهري» الذي قلد العرب في وصف الأطلال،وهو من صميم خصائص الصحراء العربية. وسعدي الشيرازي صاحب القصائد العربية المشهورة، وأهمها ملحمته في رثاء بغداد إثر تدمير هولاكو لها. والشاعر «أسعدي» المعاصر لمسعود الغزنوي صاحب المناظرات بين العرب والفرس. والشاعر أبو عبد الله الجنيد الذي كان ينظم باللغتين ببراعة فائقة، وهو أحد مادحي الوزير الفارسي ابن عباد. والباخرزي مؤلف «دمية القصر»، له ديوان عربي وفارسي، وهو مطبوع. وقد بلغ ببعضهم أن نظموا القصيدة الواحدة بلغتين. وهم الذين ندعوهم بأصحاب الملمعات. وألف شمس الدين الرازي كتاباً حسناً في العروض والقافية أسماه «المعجم في معايير أشعار العجم» كما ألف مثيلاً له بالعربية. وكان إلى جانب ذلك راوية للشعر العربي، ومترجماً بارعاً.
وقد أدرك مؤرخو الأدب من الفرس أهمية هذه الفئة من الشعراء، وخصوهم بالدراسة، فما من كتاب في الأدب عندهم إلا وفيه فصل بعنوان «تازي كويان: المتكلمون بالعربية» وفصل آخر بكتاب النثر بالعربية. والعنوان نفسه. وذلك في كل قرن على حدة.
4ـ في اللغة: أهمل علماء اللغة الفرس تأليف الكتب والمعجمات اللغوية الفارسية، وأقبلوا على التصنيف بالعربية، فكان منهم علماء النحو كسيبويه، وعلماء اللغة كالزمخشري والفيروزآبادي، ولم ينتبهوا إلى وجوب الاهتمام بلغتهم إلا في مطلع القرن العشرين، ومع أن هؤلاء اللغويين لم يكتبوا شيئاً له علاقة باللغة الفارسية، إلا أن الروح الفارسية كانت ظاهرة في كتبهم، ولاسيما «القاموس المحيط» للفيروزآبادي المفعم بالثقافة الفارسية وشرح الألفاظ المعربة.
لم تنقطع ظاهرة التأليف باللغتين معاً تباهياً بمعرفتهم للعربية أصل حضارتهم الإسلامية، بل استمرت حتى اليوم. ولعل أشهر من برع بها وألف اليوم: جعفر شهيدي، ومهدي محقق، وعبد المهدي يادكاري، وغيرهم من أساتذة الجامعات، والعلماء، وآيات الله.
وتجدر الإشارة إلى أن ظاهرة ذوي اللسانين كانت تطلق كذلك على الأدباء العثمانيين وشعرائهم، ممن كانوا يؤلفون وينظمون باللغتين معاً. بل إننا نرى ظاهرة مهمة في العصر العثماني، هي أن بعضهم يؤلف بثلاث لغات. وكان النقاد يطلقون عليهم كذلك لقب «ذوي اللسانين» من باب التغليب.
الملمعــــات
نوع من القريض على الأوزان العربية عرف بعد القرنين الخامس والسادس، وتوسع أفقه في العصر العثماني. وقد أقبل عليه الشعراء العرب ممن يجيدون اللغة الفارسية أو التركية، أو الشعراء الفرس أو الترك ممن يعرفون العربية. وكان الهدف من نظم هؤلاء الشعراء للملمعات تفاخرهم بمعرفتهم للغة الأخرى، وتباهيهم بالقريض المتعدد اللغة، إضافة إلى كون الملمعات نوعاً من أدب التسلية والسمر، يمضي الشعراء جلساتهم الأدبية في تبادل هذا اللون الطريف من الشعر. كما أنه من شعر الإخوانيات، والحواريات، والمساجلة، وقصائد الود، وحل الألغاز، والتهنئة بالمناصب ووجدت ملمعات مدحية لأمير أعجمي.
وسبب اشتهار شعر الملمعات في العصر العثماني انتشار اللغة الفارسية في البلاد العثمانية، وجعلها لغة الحوار فيما بينهم. وإقبال الشعراء الترك على تعلم العربية لأنها لغة الدين، والشعر، والأدب، وإقبال الشعراء على تعلم الفارسية والتركية لأن الفارسية لغة البلاط والحضارة، والتركية لغة الحاكم والسائدة (بإكراه أحياناً) بين العامة والخاصة. والملمعات نوع من القصائد ينظم بلغتين أو ثلاث، بحيث يكون الشطر الواحد عربياً والآخر فارسياً أو تركياً، أو يكون البيت الأول عربياً، والثاني فارسياً، والثالث تركياً، إلى آخر القصيدة. وليس في البيت الآخر ترجمة لسابقه، إنما يتابع المعنى المتساوق، وكأنه ينظم ما ينظم بلغة واحدة.
ويشترط في الملمعات أن تكون القصيدة على بحر واحد. وروي واحد، إلا إذا كانت القصيدة مزدوجة، أي كشعر الطرديات والأرجاز بحيث يكون روي كل شطرتين واحداً. وليس بالضرورة أن يكون روي شطرتي البيت التالي مشابهاً لسابقه. وقد كان هذا النوع من الشعر جسراً لنقل المعاني من أدب إلى أدب، ووسيلة لتبادل المفردات والمصطلحات، مما كان له أثره في كثرة التقارض اللغوي بين الأمم. كما ظهرت فئة أخرى من شعراء المشرق، ولاسيما في الهند والسند (باكستان) كانت تنظم الملمعات بين الأوردية والفارسية، أو بين الأوردية والعربية. وكان هؤلاء الشعراء يتباهون بأنهم من الشعراء ذوي اللسانين.
مجمد ألتونجي
- التصنيف : الآداب الأخرى - المجلد : المجلد الرابع، طبعة 2001، دمشق - رقم الصفحة ضمن المجلد : 375 مشاركة :