logo

logo

logo

logo

logo

ميكلانجلو بوناروتي

ميكلانجلو بوناروتي

Michelangelo Buonarroti - Michel-Ange Buonarroti

ميكلانجلو بوناروتي

(1475 ـ 1564)

 

ميكلانجلو بوناروتي Michelangelo Buonarroti نحات ومصور ومعمار وشاعر إيطالي. ولد في كابريزي Caprese بالقرب من أريتسو Arezzo وتوفي في روما Rome.

لا يقف ميكلانجلو عند حدود إطار حياته بين مولده على مشارف فلورنسا وموته في روما، كما أنه لا يظل عند نطاق عصره، عصر النهضة الإيطالية، وإنما هو يتخطى حدود العصر والمكان محلقاً في أفق الإنسانية كلها رمزاً لعبقرية أبدعت في أربعة فنون كبرى: النحت والتصوير والعمارة والشعر، وصورةً من صراع الإنسان ضد قدره ونزاعه الدائم معه. كان ابن الأسى والصراع، كلماته تنطق به: «إن راحتي في الأحزان، وآلاف المسرات لا تساوي عندي عاصفة من عواصف الروح».

اسمه وحده يستحضر النبوغ الفني، ومآثره الباهرة في أكثر الميادين تنوعاً ارتقت به إلى مصاف الخالدين، ففي أعماله الأصيلة تجلت وحدة الفكر والفن، وفي قدراته الإبداعية ومزاياه التعبيرية وحميا أعماله تجسدت رؤيته للعالم صورة للحرية، وفي باكورة إنجازاته التي أثقلها مع الأيام قلق متعاظم يتبدى الصراع الدائم بين الفكر والمادة.

كان ميكلانجلو ابن أسرة تزعم أنها تتحدر من محتد نبيل جار عليها الزمن، فجاءت لتقيم في فلورنسا. رضع ميكلانجلو «الأزاميل والمطرقة» مع حليب مرضعته ـ زوجة عامل في محاجر الرخام ـ كما كان يقول، وترعرع الطفل وكبر شغوفاً بالرخام. أدرك الأب ميول ابنه إلى النحت والرسم، فأرسله مرغماً للتعلم في مرسم غيرلاندايو Ghirlandaio أشهر مصوري الجداريات Fresquiste في فلورنسا، وعمره لما يتجاوز الثالثة عشرة. وفي فلورنسا تلقى من التعليم ما مكّنه فيما بعد من أن يكتب الشعر. لم يخضع ميكلانجلو كل الخضوع لسحر العهود القديمة كما خضع كثير من الآخرين، بل كان ذا نزعة عبرية، وكان ـ وهو في روما ـ بروتستنتياً أكثر منه كاثوليكياً. اكتشف لورنزو دي ميديتشي Laurent de Médicis التلميذَ المتدرب، ففتح له أبواب حدائق قصره وأكاديميته، ووضعه على احتكاك بمجموعاته الفنية القديمة، وأتاح له مخالطة كبار المثقفين والمتنورين من أمثال بوليسيان Politient ومارسيل ڤيتشين Marsil Ficin وبيك دو لاميراندول Pic de la Mirandole، أولئك الذين كان لهم أكبر الأثر في تكوينه الروحي وفي طموحه فناناً مبدعاً. وكان يدير الأكاديمية وقتئذٍ النحات برتولدو دي جوڤاني Bertoldo di Giovanni المختص بمادة البرونز. وظل الفنان الشاب عامين كاملين يقيم في قصر آل ميديتشي، ويطعم دوماً على مائدة واحدة مع لورنزو، ويستمع إلى أكثر الأحاديث استنارة في السياسة والأدب والفلسفة والفن. وفي الوقت ذاته كان ساڤونارولا Savonarola ينشر تعاليمه النارية ويدعو إلى الإصلاح والصلاح، وكثيراً ما كان ميكلانجلو يستمع إليه ليبقى شيء في نفسه من روح ساڤونارولا بعد موته: الرعب مما يراه حوله من فساد خلقي، وكراهيته الشديدة للاستبداد، وشعوره الحزين من سوء المصير. فاجتمعت هذه الذكريات والمخاوف فكانت من العوامل التي أثرت في أخلاقه ووجهت نحته وفرشاته… ومن دراسته أعمال القدامى ولاسيما تمثال لاوكون Laocoon، استمد علم التكوين science de la composition وتجميع الأشخاص، وانسجام جمال الجسد الإنساني، وتعابير الجهاز العضلي وتحولاته، ولكنه أضاف إليها الحركة والعمق السيكولوجي والفكري، فصار الجسد الإنساني لغة، يشعر الفنان من خلالها وبها بانفعالات الإنسان وأهوائه، وليرتقي بها إلى المستوى الميتافيزيقي، معبراً عن مأسوية القدر الإنساني ومصيره لدن خالقه.

ميكلانجلو: «تمثال الشفقة» (1499)

تعرض المهتمون بأعماله وبإسهاب لمغزى هذه الأعمال ولما تتضمنه من معانٍ أفلاطونية جديدة، فبالغوا في تفسير أدق التفاصيل اعتماداً على هذه الفلسفة. كان ميكلانجلو مدركاً لأهميته ومكانته ولقيمة رسالته. وكان على يقين بأنه سيظل طوال حياته عميق الإيمان حريصاً كل الحرص على إيمانه على الرغم مما كان يراوده في أحلامه التلفيقية.

كان ميكلانجلو يعيش العالم القديم في أعماله وفكره، ولم يكن يخشى الجمع بين العناصر الوثنية وعالمه المسيحي، وكان العصر الذي هو فيه عصر اضطراب وقلاقل، وكانت تتعاور مدينَته التي يحب نظمٌ سياسية سريعة التقلب، وعلى عرش القديس بطرس استولى أحبار وزعماء دين فاسدون، والطامعون الجشعون؛ ما أدى إلى زعزعة إيمان كثيرين، وإلى تراجع مبدأ السيادة وتهافت استقامة الرأي، حتى إن بعضهم اتهمه بالهرطقة. صحيح أن ميكلانجلو كان يتردد على الأوساط المثيرة للريب، ولكنه لم يساوم أو يتساهل فيما كان يؤمن به على الرغم مما تحمله أعماله من تمزقات وندوب، ومع ذلك كان لابد لهذه الأحداث المضطربة من أن تؤثر في مشروعاته وسيرته، فطبعه الصعب وكبرياؤه وارتيابه وتقلبات مزاجه المفاجئة كانت تنقله من حال إلى حال، فتراه متحمساً تارة ومحبطاً يائساً تارة أخرى؛ ما أثر في إنتاجه، ووقف حائلاً دون الوصول بعمله إلى نهايته أحياناً، وهو الذي جعل من النحت ملحمة للتعبير عن أعماق الكون وفكرة الأبد: «إن عيني لا ترى الأشياء الفانية، ولو لم تكن روحي قد صيغت على غرار الخالق لقنعت بالجمال الخارجي الذي يبهر الأبصار، ولكن هذا الجمال باطل، فروحي إذاً تتجه نحو الكمال الكوني». فأمام كتلة الرخام التي كان عليه أن يستخرج منها شكلاً حياً عرف ميكلانجلو أن الصراع المأسوي للمبدع لا يرتوي أبداً، ومع شعوره بالإخفاق كان يتوقف عن النحت من دون أن يصل إلى النهاية: مرحلة صقل الرخام وجلوه ليضفي عليه لمعانه ومظهره الثمين، تاركاً في بعض أجزائه أثراً للإزميل، أو بقعة صماء كامدة اللون، وكان في بعض الأحيان لا يستخرج الشكل المأمول إلا بصعوبة بالغة؛ ما دفع بعضهم إلى أن يرى في هذه الأعمال نوعاً من الرومانسية بوصفها أعمالاً تعبر عن أكثر عذابات هذا المعلم سرية وغموضاً، وأنها مشحونة بمعانٍ سامية، في حين أن الحقيقة واضحة وبسيطة، وهي أن ميكلانجلو بدافع التعب والضجر، أو الغضب من عجزه وإخفاقه في بلوغ مبتغاه كان يرفض المضي إلى أبعد مما وصل إليه. إن هذا النفور الذي ازداد وبلغ حده الأقصى في سنيه الأخيرة صار رمزاً لصراع دائر لا يهدأ أواره بين العبقرية الإنسانية والقدر المحتم، وصورة من صور سيزيف Sisyphe.

ميكلانجلو: «سقف السيستينا» (1508ـ1512)

أنتج ميكلانجلو عمله الأول حينما كان في «الأكاديمية» وهو نحت بارز يشوبه بعض التشويش، ويجمع بين الوثنية والمسيحية، بعنوان «معركة القنطورس» (وهي مخلوقات أسطورية متوحشة) وكان عمله الثاني نحتاً بارزاً لـ«عذراء السلّم» وفيه يظهر بوضوح ما يدين به لدوناتللو Donatello. ويبدو جلياً أن ميكلانجلو في هذه الأثناء كان ينوس بين الحميَّا والمأسوية ونقيضيهما الطلاوة وبعض العذوبة التي تُلمس عند ليوناردو.

توفي لورنزو دي ميديتشي في عام 1492، فعاد ميكلانجلو إلى بيت أبيه، وواصل عمله في النحت والتصوير، وتعلّم التشريح من جثامين الموتى. وفي عام 1494 هرب ميكلانجلو إلى بولونيا Bologne (الإيطالية) في إحدى نوبات اضطرابه، وزار البندقية. وعند عودته إلى فلورنسا عام 1495 نحت للكاردينال تمثال «كيوبيد النائم» وقد ظن كثيرون أنه تمثال لأحد النحاتين القدامى.

صعب على ميكلانجلو ـ على الرغم من كفاياته المتعددة ـ أن يكسب قوته بأعماله الفنية في مدينة يكاد عدد الفنانين فيها يبلغ عدد سكانها. وحين استدعي للذهاب إلى روما، انتقل إليها عام 1496 وقلبه مفعم بالأمل. وفي روما أنجز ميكلانجلو أثره العظيم الأول؛ أحد أكثر أعماله شعبية: تمثال «الشفقة» في سان بيير. الموضوع والتكوين غريبان وغير مألوفين، وتعود أصولهما إلى شمالي أوربا وليس إلى إيطاليا، ولكن الفنان استخرج من الرخام قصيدة مؤثرة ورائعة. الوجه الصافي للعذراء، وقد بدت صغيرة السن مثل المسيح المعذب، تميل بعذوبة باتجاه الجسد المسجى لمسيح جميل في الموت مثل أدونيس Adonis، وقد برز تشريح جسده المتآلف فوق نسيج معطف فضفاض رائع الطيات يفصله عن الأم الحزينة، وكأن الفنان يريد أن يجعل من المعطف كفناً للجسد.

إن هذا العمل الذي يعود إلى مرحلة الشباب، وفيه تفجرت موهبة النحات وبراعته وحساسيته هو أيضاً العمل الوحيد الذي مهره الفنان بتوقيعه فوق القدَّة التي تعترض على نحو مائل صدر العذراء. وفي الوقت نفسه كان ميكلانجلو يعمل في أكثر الأشكال وثنية، إنه تمثال «باخوس الثمل»: فتى يافع يترنح ثملاً ومن خلفه ساتير (إله خرافي له قدما تيس وقرناه وذيله)، وإلى هنا يكون الفنان ـ بعد أن أضفى على أعماله اضطرام الحياة وغلواءها ـ قد تجاوز نحت الماضي البعيد.

ميكلانجلو: «تمثال موسى الرهيب»

لم يكن نجاح «الشفقة» سبباً في شهرة ميكلانجلو فحسب، بل إن هذا النجاح قد درّ عليه مالاً كثيراً، وأغلب الظن أن اضطراب أحوال أسرته المالية هو الذي دعاه إلى فلورنسا، فعاد إليها في عام 1501 حيث عُهد إليه بعمل تمثال من رخامة كبيرة ارتفاعها ثلاث عشرة قدماً ونصف القدم، ظلت مطروحة على الأرض مئة عام كاملة لعدم انتظام شكلها. وظل ميكلانجلو يكدح فيها عامين ونصف العام، حتى انتزع منها بجهده وجده وبراعته تمثال داود، مستثمراً كل إصبع فيها، وقد تطلب نقل التمثال من المحترف القريب من الكنيسة إلى القصر أربعين رجلاً، وتطلب رفعه في مكانه واحداً وعشرين يوماً. وظل التمثال قائماً في فراغ مدخل القصر المكشوف معرضاً للجو، وعبث الأطفال، وللثورة عليه لأنه كان بمعنى ما إعلاناً صريحاً للتقدمية المتطرفة، ورمزاً للجمهورية، وتهديداً صارماً للمغتصبين.

كان هذا التمثال من أعمال البطولة، تغلب فيه الفنان بحذق كبير على الصعاب الآلية. فالهيكل العام الرائع الذي لم يضخمه ميكلانجلو، وبنية الجسم المصقول، والخياشيم المتوترة من الاهتياج، والتجهم المنبعث من الغضب، ومظهر العزيمة المشوبة بشيء من الرهبة حين يواجه الشاب جالوت الرهيب ويستعد لملء مقلاعه والقذف به؛ كل هذه الأشياء تجعل داود واحداً من أشهر التماثيل وأجملها في العالم كله. ويرى ڤازاري Vasari أنه «يفوق كل ما عداه من التماثيل قديمها وحديثها لاتينية كانت أم يونانية».

كثيراً ما كان ميكلانجلو يقول: «ليس التصوير هو العمل الذي أبرع فيه»؛ ولهذا فإنه لم يكن مسروراً حين استدعاه سُدريني Soderini  ت(1504) ليرسم على الجدار في ردهة المجلس الكبير، في حين كان بغيضه ليوناردو يصور جداراً مقابلاً له. لم يكن ميكلانجلو واثقاً وهو المثّال من أنه يستطيع منافسة ليوناردو في التصوير، ولكنه قرر أن يجرب حظه، وكانت الصورة التخطيطية الأولية عبارة عن لوحة من الورق على قماش مساحتها (88)م2. ولكنه لم يكد يتقدم في رسم الصورة الأولية حتى تلقى دعوة من روما. كان موضوع اللوحة معركة كاسكينا Cascina التي دارت إبان الحرب بين بيزا وفلورنسا عام 1364، لم يختر ميكلانجلو من فصولها إلا لحظة غير مألوفة وهي لحظة إعلان النفير حينما كان الجنود الفلورنسيون يستحمون في نهر الأرنو، لإيمانه بقدرة الجسد البشري العاري على حمل جميع الأفكار والعواطف والتعبير عن مختلف الانفعالات، ومن المؤسف أن الرسم التمهيدي الكامل لهذه اللوحة الكرتون لم يترفق به الزمن، فقد فُقد بعد أن وصفه الفنان تشيلليني Cellini بأنه كان أعظم عمل قدمه ميكلانجلو، وأنه يمثل بحق «أكاديمية الرسم العالمية»، بل إنه يفوق في عظمته سقف مصلى سيستينا Sixtine. وقد عكف عشرات الفنانين على استنساخ رسوم وتصاوير شتى نقلاً عن هذا المخطط، وعلى رأسهم رافايلو Raffaello وأندريا دل سارتو Andrea del Sarto ودا سانغالو Da Sangallo، ويذهب ڤازاري إلى أن المخطط كان يضم عدداً لا حصر له من الجند على صهوات جيادهم وقد شرعوا في القتال.

ميكلانجلو: «يوم الدينونة» (1535ـ1541)

حينما بلغ ميكلانجلو الثلاثين من عمره استدعاه البابا يوليوس الثاني Jules II إلى روما، وكلفه عمل ضريح له يكون أفخم بناء في تاريخ المسيحية، كما أمر أن تبنى كنيسة صغيرة جديدة ملحقة بكنيسة القديس بطرس، لتضم ذلك اللحد.

قَبِلَ الفنان بهذا العمل، وظل على مدى ثمانية شهور متنقلاً للإشراف على قطْع كتل الرخام التي سيقوم بنحتها. لكنه حينما عاد إلى روما ليعرض مشروعه على البابا رفض مقابلته. اغتاظ ميكلانجلو ورحل إلى فلورنسا مغادراً روما التي لم يعد إليها إلا بعد أن هدد البابا بإرسال قواته المسلحة لغزو مدينة فلورنسا.

اصطدم مشروع ضريح الحبر الأعظم مع مشروع كنيسة القديس بطرس التي كان البناء فيها جارياً على قدم وساق، كما كان هذا المشروع سبباً للبغضاء بين ميكلانجلو والمعماري العظيم برامانتي Bramante. صرف الحبر الأعظم النظر عن الضريح نزولاً عند نصائح برامانتي، وكلف ميكلانجلو أن يصنع لشخصه تمثالاً ضخماً من البرونز، يزين به واجهة سان بترونيو في مدينة بولونيا Bologne رمزاً لخضوع المدينة للبابا.

في عام 1508 لاحت في ذهن البابا (يوليوس الثاني) فكرة جديدة، فعهد إلى ميكلانجلو بتنفيذها، ومؤدى هذه الفكرة تزيين سقف السيستينا وقمريات النوافذ والسطوح المثلثة بالجداريات (لوحات جدارية fresques). كان على الجدران رسوم جدارية سابقة تمثل مشاهد من الإنجيل وحياة موسى. وقد تضمن برنامج ميكلانجلو تاريخ الإنسانية منذ الخلق حتى موسى، أي العالم قبل الخطيئة، ثم الانتظار الطويل للفداء مع القلق، وعلى السقف نفسه تسع لوحات مستطيلة كبيرة تمثل الخلق، والخطيئة الأصلية، وتاريخ نوح، وخلق الرجل والمرأة (آدم وحواء). تبلغ مساحة السقف (328)م2، وعدد الأشكال التي رسمها ميكلانجلو 343 شكلاً.

ظل ميكلانجلو أسير العمل في سقف السيستينا حتى عام 1512، وفي عام 1513 توفي البابا يوليوس الثاني وحلّ محله ليون العاشر Léon X الذي لا يكنّ لميكلانجلو حباً ولا مودة لتشككه بميوله الجمهورية.

انكب الفنان على العمل في ضريح الحبر المتوفى. كان المخطط في البداية يقضي بأن يكون المبنى مستقلاً، وعلى شكل هرم، وأن تحتل مستواه الأدنى تماثيل الأسْر والانتصار، رموزاً لصراعات الحياة والفنون الحرة (مصطلح يطلق على الفنون السبعة، وقد سميت كذلك لأنها تعد طلابها للمهن الحرة)، وفي الوسط يجلس موسى والقديس بطرس رمزاً للقانونين القديم والجديد، وفي القمة البابا المسجى تحمله الملائكة لترقى به إلى ملكوت الخالدين. ولكن ورثة الحبر الأعظم بسّطت المشروع وقللت من عدد التماثيل، وأرادت أن يُسند المبنى إلى جدار، وإلى هذه النسخة الثانية يعود تمثالا العبدين في متحف اللوڤر، مثَّلهما الفنان وهما يتخبطان بقيودهما ويحاولان التخلص منها ومظاهر الألم الجسدي والمعنوي بادية عليهما. إن في هذين التمثالين قوة تعبيرية يندر مجاراتها. وفي الفترة نفسها بدأ الفنان العمل في تمثال موسى الرهيب المعروف بهيكله العضلي الضخم ونظرته الساحرة الغضوب، وقوته الآمرة التي تفوق القدرة البشرية.

ميكلانجلو: «توبة القديس بولس» (1542ـ1545)

وفي عام 1520 عهد إليه ليون العاشر بتشييد المصلى المأتمي وتزيينه وضمه إلى الكنيسة التي ستضم بدورها صرحين تذكاريين: جوليان دي ميديتشي Julien دوق نيمور، ولورنزو Laurent دوق أوربينو؛ والاثنان من كبار المدافعين عن عرش البابوية. تجاوز الفنان برنامج تمجيد آل ميديتشي بأن أضفى على الضريح معنى أشمل وأعظم، ففيه تجلت الأفكار الأفلاطونية الجديدة التي تشربها إبان حداثته، وتطلعه إلى التغلب على معضلات الإنسانية الكبرى. يحتل الصرحان الجنائزيان زاويتين من الأضلاع الأربعة، وفي المشكاة المستطيلة يربض تمثالا الأميرين المحتفى بذكراهما، وقد أسبغ الفنان الكمال المثالي على وجهيهما وسيماء البطولة بادية عليهما، وألبس كلاً منهما عدة قائد روماني، فبدا جوليان حدثاً قوياً يمثل «الفعل»، والضوء يسقط على كامل وجهه، في حين أغرق عيني لورنزو في الظل الذي ترسمه الخوذة، ويده تسند أسفل وجهه المهموم، الذي تكتنفه الأسرار، رمزاً للأفكار التي يطويها الإنسان في دخيلته. وفي أسفل كل منهما تابوت حجري يتألف غطاؤه من زخرفين ملتفين، وعلى منحدرات التابوتين أربعة تماثيل عارية ترقد بطريقة بعيدة كل البعد عن الاسترخاء والراحة وكأن أعضاء الجسم مقطعة أوصالها، أو أنها تتصالب في أوضاع غير مريحة، والوجوه مجعدة بالتغضنات وبالكآبة والألم، تمثل عذاب الروح الإنسانية في رحلة الحياة. إن هذه التماثيل في الواقع ما هي إلا رموز للزمن العابر أو للـ «يوم» بأجزائه الأربعة: النهار والليل والغروب والشروق، وقد صاروا أشخاصاً من ذكر وأنثى وبالتناوب… وفي القسم الثالث من الكنيسة تنتصب عذراء ميديتشي وهي تحاول الإمساك بالطفل يسوع المشاغب الجالس على ركبتيها.

قامت الحرب فعطلت أعمال الفن. ولما سقطت روما في أيدي الجيوش الامبراطورية (1527) لم يعد في وسع رعاة الفن مناصرة الفنون، وانقطع معاش ميكلانجلو، وفي عام 1529 عينته فلورنسا عضواً في لجنة العشرة للدفاع عن المدينة… يقول ڤازاري إنه حتى في هذه الشهور المضطربة وجد متسعاً من الوقت ليواصل العمل سراً في قبور آل ميديتشي حتى مغادرته فلورنسا عاقداً العزم على عدم العودة إليها، وفي روما أيضاً كان ينتظره صرح يوليوس الثاني وقد غدا كابوساً ينغص عيشه، فتدبر أمر البناء بأن أشرك معه تلامذة متواضعي الكفاءة لإنجاز المشروع، فجاء البناء والتماثيل دون تطلعات ميكلانجلو وطموحاته.

تجلى مزاج الفنان المتجهم ونزوعه المتعاظم إلى التشاؤم في الجداريات العظيمة ليوم الدينونة التي أنجزها بين عامي 1536ـ 1541 بناء على طلب بولس الثالث Paul III، لتزيين الجدار في صدر كنيسة السيستينا؛ فبدت الدرجات اللونية قاتمة قياساً بلوحات السقف، واتخذ المسيح مظاهر أبولو وسماته مع شيء من الكثافة والضخامة، والقسم الأكبر من الخليقة غارق في مصير ملعون، والتكوين المضطرب والمبهم يرزح تحت وطء مجاورته لأثر فني ناضج. والحال نفسها في تماثيل الشفقة، إذ نقف أمام موضوع من موضوعات القرون الوسطى، وقد تناوله ميكلانجلو من جديد وتوسع فيه، وفي نفسه ذكريات من دانتي والعصور القديمة. عذابات جهنم تنم على تنوع وابتكار مَرَضيين يذكران بلوحات الجبهات الرومانية المثلثة الرائجة في القرن الثاني عشر، فالمختارون بحاجة إلى عون الملائكة والقديسين ليصعدوا إلى الفردوس بعد طول معاناة.

ومع ذلك لا يمكن القول إن كهولة الفنان المديدة غارقة في كرب وغم مستديمين، فنشاطه وهمته المعهودة لم يفارقاه حتى النهاية، فكان دوماً المشارك الفعال في الحياة الفنية، ينصح ويأمر هذا أو ذاك من تلامذته، وكان رب عمل مرهوب الجانب، وأسطورة زمانه بلا منازع.

وثّق ميكلانجلو عرى الصداقة مع الجماعة الرومانية التي اجتمعت حول الشاعرة ڤيتوريا كولونا Vittoria Colonna ت(1491ـ1547) فوجد في ذلك عزاءه وسلواه، وبعث في نفسه ذكريات الماضي البعيد في حدائق الأكاديمية، والأفكار العظيمة لرجال الفكر، وكان هو نفسه يكتب منذ زمن بعيد قصائد ورسائل رائعة، فهو لم يتألق في النحت والتصوير والعمارة فحسب، بل تألق في سماء الشعر أيضاً، وكان واحداً من أعظم خمسة شعراء في عصره ولكنه ـ والحق يقال ـ كان أصدقهم وجداناً وأقلهم مهارة في الصنعة الشعرية.

وفي تلك الفترة أضاف إلى أعماله النحتية جذع «بروتوس» المنحوتة المثال لقتل الطاغية. وباشر العمل في جداريتين كبيرتين في كنيسة بولين (الڤاتيكان)، وهما «توبة القديس بولس» وهو يسقط من على صهوة جواده، و«صلب القديس بطرس»، وهنا أيضاً شاركه العمل في التنفيذ كثير من التلاميذ.

راحت مسائل العمارة ومشروعاتها تأخذ من وقته كثيراً. وكان بهو المكتبة الفلورنسية في فلورنسا ودرجها من أكثر أعماله نجاحاً في هذا الميدان، وكان ميكلانجلو قد بدأ العمل فيهما منذ عام 1523، ولم يتم إنجازهما وفق خطته إلا بعد عام 1560 على يد المعمار بارتولوميو أماناتي Bartolomeo Ammannati. وفي روما واعتماداً على مخططاته بدئ بتحويل حمامات ديوكليتيان إلى كنيسة، وببناء الطابق العاشر الأخير لقصر فرنيزي Farnèse… وفي بداية عام 1538 بوشر العمل وبإشرافه في تنظيم ساحة الكابيتول، تحفُّ بها ثلاثة قصور زُينت بدعامات عملاقة تبعث الحياة والإيقاع في واجهات محفورة ذات ظلال حادة، وقد أدى هذا الصرح الديناميكي إلى ارتياد العمارة سبلاً قادتها إلى الباروك Baroque وإلى تبني التأثيرات المسرحية فيها واستقدام عناصر منحوتة إليها.

عُين ميكلانجلو مهندساً ومشرفاً رسمياً على كنيسة القديس بطرس في عام 1546، ولكن معارضة أصدقاء سلفه أنطونيو دا سانغالو الابن Da Sangallo ودسائسهم حالت دون إكماله لها. وفي زمن لاحق أُعيد بناء المظهر الخارجي وفق مقطع (رسم قطع عمودي للبناء) مختلف، فلم يبق مما صممه ميكلانجلو إلا الشكل المتصالب La croisée الهائل والمهيب، دليل عبقريته.

لم يكف ميكلانجلو يوماً عن حبه للنحت وشغفه به، ولقد ظل في صراع ملحمي مع الرخام حتى النهاية. وكانت فكرة الموت تراوده، بل تسكن فيه، وكان هذا التأمل المنسجم تماماً مع إيمانه المسيحي يزداد حدة مع الأيام، وسرعان ما لجأ من جديد إلى التمثال الذي أنعم عليه بمأثرته الفنية الأولى «الشفقة» أو ـ على نحو أدق ـ «الإنزال من على الصليب» الذي بدأ العمل فيه نحو عام 1550، وخصصه في البداية لضريحه، وفيه جاءت الأشكال كلها أصيلة وفريدة، فهذا الجسد المقطع الأوصال، وعلى نحو متعرج للسيد المسيح، والمرأتان اللتان تحفان به من الجانبين، والوجه الشبحي لنيكوديم (تلميذ يسوع) الواقف خلفه مثل الآب في الأقانيم الجرمانية الثلاثة لا توجد أصولها إلا في بلاد الشمال. وفي محاولته الأخيرة أيضاً يُعثر من جديد على رجل تقطعت أوصاله من الألم وقبالته تجلس العذراء في وضع مؤثر. لقد هدأت روح هذا الفنان العاصفة التي صيرت فن النحت رموزاً عملاقة جياشة بالعواطف التي مهدت الطريق لعبقرية «رودان» Rodin لتستقبل مرحلة الأسى الدرامي. فالفنان الذي كان يقف بمطرقته محتدماً أمام عذراء الدوما الآسية ها هو ذا يلغي ساق المسيح ويحطم ذراعيه، ليختزله، بعد أن يئس من الحصول على الشكل المروم، ويحوله إلى شبح صيغ من الندم والوسواس والإخفاق والعدم، مع ذراع معلقة نافلة، وكأنها تسبح في فراغ مثل نَذْر ذي عاهة.

وليست صورة العجز الأخيرة هذه - والتي أطنب في مدحها المعاصرون - ما ينبغي الوقوف عندها، وإنما مآثر شبابه ومرحلة نضجه هي التي تستوقف المشاهد، فهي التي قلبت فن زمانه رأساً على عقب، بتوترها وحدّتها وطاقتها الجموح، فمن هذا الفن المضطرب والمهموم والقلق، ومن عبقريته في ابتكار الأشكال خرج التيار التكلفي Maniériste وولد في فلورنسا على يد هذا المعلم لينتشر في أوربا كلها. وميكلانجلو هو أيضاً من ابتكر «الخط الأفعواني» أحد أهم ما في التكلفية من سمات وخصائص.

وأخيراً، وليس آخراً، فإنه من الميكلانجلوية ولدت الباروكية Baroque أيضاً، التي يعترف معلموها بأن ميكلانجلو هو الأب الروحي لهم.

مات ميكلانجلو وعلى شفتيه ـ ساعة احتضاره ـ صدى كلماته الأخيرة: «إنني أشعر بالأسى؛ لأنني أموت قبل أن أقدِّم كل شيء من أجل سلام نفسي، ولأنني أموت حينما بدأت أتهجّى فني».

فائق دحدوح

 الموضوعات ذات الصلة:

 

رافايلو (سانتي ـ ) ـ ليوناردو دا فنتشي ـ النهضةالأوربية (عصر ـ).

 

 مراجع للاستزادة:

 

ـ ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة محمد زيدان (جامعة الدول العربية، مصر 1967).

ـ بدر الدين أبو غازي، محيط الفنون، الفنون التشكيلية (دار المعارف، مصر 1970).


التصنيف : العمارة و الفنون التشكيلية والزخرفية
النوع : أعلام ومشاهير
المجلد: المجلد العشرون
رقم الصفحة ضمن المجلد : 271
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 659
الكل : 32270008
اليوم : 13902

الأحسائي (أحمد-)

الأحسائي (أحمد) (1166 - 1241هـ/ 1753 - 1826م)   أحمد بن زين الدين الأحسائي، عالم ديني ورئيس مدرسة «الشيخية» الشيعية في إيران. ينتمي الأحسائي إلى قبيلة عربية استقرت في منطقة الأحساء، وكانت أسرته حتى الجد الخامس من الشيعة الأثني عشرية. ولد الأَحسائي في بلدة المطيرفي بمنطقة الأحساء في وقت انتشر الجهل فيه وعم منطقته، وقد نبغ بين أقرانه والتفت إلى الدرس عازفاً عن حياة اللهو، وكان ميالاً إلى التأمل في الموت وتقلب الأحوال منذ طفولته، وقد نزح عن مسقط رأسه في سن مبكرة إلى بلاد فارس ومكث في يزد ثم في كرمان، ويظهر أنه عاش بعد ذلك متنقلاً ما بين كربلاء والنجف وقزوين.
المزيد »