logo

logo

logo

logo

logo

النصرانية (المسيحية)

نصرانيه (مسيحيه)

Christianity - Christianisme

النصرانية (المسيحية)

 

النصرانية تسمية إسلامية للديانة المسيحية، وردت في نص القرآن الكريم أربع عشرة مرة صفةً لأتباع المسيح عيسىu [ر] ابن مريم [ر]، بمعنى نَصَرَ حسبما ورد في (سورة الصف14) ]يا أَيُّها الَّذين آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَمَا قالَ عِيْسَى ابنُ مَرْيَمَ للحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إلى اللهِ قَالَ الحَوَاريُّونَ نَحْنُ أَنصْارُ الله[، علماً أن تسمية المسيحية لم ترد في القرآن الكريم إطلاقاً. وثمة تفسير آخر يحيل تسمية النصرانية إلى يسوع الناصري، نسبة إلى بلدة الناصرة في منطقة الجليل حيث نشأ ودعا وبشَّر إضافة إلى أن التسمية العبرية للمسيحية (نَتْسَروت) تحيل النسبة أيضاً إلى أتباع يسوع الناصري. والمسيحية هي ثاني الديانات السماوية بين اليهودية والإسلام، وهي الأوسع انتشاراً في العالم حالياً؛ إذ يبلغ عدد أتباعها نحو 2.1 مليار نسمة مقابل 1.3 للمسلمين ونحو 800 مليون للهندوسيين.

ظهرت المسيحية ونشأت بداياتها بين بني إسرائيل في بعض مناطق أرض فلسطين في الربع الثاني من القرن الأول الميلادي، وفي سياق تطورها وانتشارها تأثرت بالديانة اليهودية[ر] من جهة وبالحضارة الهِلِنيستية[ر] السائدة آنئذ من جهة ثانية وبنظام حكم الامبراطورية الرومانية [ر. الرومان] المهيمنة حينذاك من جهة ثالثة. ولم تطلق تسمية مسيحي على من اتبع يسوع الناصري إلا لاحقاً في أنطاكية التي لجأ المسيحيون إليها بسبب اضطهاد اليهود لهم في فلسطين، وأول من استخدم هذه التسمية هو الأسقف السوري إغناطيوس الأنطاكي في إحدى رسائله. والتسمية اليونانية مشتقة من IneQΘús XpiQΘtós (يثوس خريثتوس) = يسوع المسيح = يشوع الممشوح = يشوع المخلِّص عن العبرية. وهذا يعني أن كلمة المسيح ليست جزءاً من اسم يسوع الناصري؛ وإنما صفة تبجيلية أسبغها عليه أتباعه الذين عبدوه رباً تمييزاً له من إله بني إسرائيل يهوِه [ر. اليهودية]، وتمييزاً لأنفسهم من الوثنيين الهلنيستيين. أما تسمية يسوع الناصري فهي المعتمدة في الأناجيل الأربعة وأسفار «العهد الجديد» [ر. الإنجيل] الذي يُعدّ المصدر الوحيد عن حياة عيسى ابن مريمu وتعاليمه وأعماله ومعجزاته، والذي كتبه بعد وفاته بسنوات بعض حوارييه (متى، يوحنا) وبعض أتباعه: (بطرس، مرقص، بولس).

والحواريون الرسُل Apostles حسبما ورد في إنجيل لوقا (6: 13) هم الذين اختارهم المسيحu من تلامذته، وأرسلهم للتبشير بالدعوة الجديدة. وقد ورد ذكرهم مع بعض الاختلافات في إنجيل مرقص (3) وإنجيل متى (10) وإنجيل لوقا (10)، وهم: 1ـ بطرس 2ـ يعقوب بن زبدي 3ـ يوحنا 4ـ أندراوس 5ـ فيليبس 6ـ برتلماوس 7ـ متى 8ـ توما 9ـ يعقوب بن حلفي 10ـ تدّاوس 11ـ سمعان 12ـ يهوذا الأسخريوطي. وعند سقوط الأخير سرعان ما انتخب الآخرون متيّاس بديلاً لسد الفراغ في تمثيل أسباط اليهود الاثني عشر حسب بعض المراجع. كما أُطلق لقب الرسول على بولس[ر] لاحقاً، فهو أهم شخصية بعد المسيح في «العهد الجديد»، فمعظم سفر أعمال الرسل يتحدث عن أعماله التبشيرية، إضافة إلى رسائله الأربع عشرة التي تشغل حيزاً كبيراً من «العهد الجديد» والتي كانت متداولة باليونانية بين المسيحيين منذ مطلع خمسينيات القرن الأول للميلاد.

ورد في مراجع تاريخ الكنيسة أن عدد الأناجيل والأسفار كان كثيراً في القرنين الأول والثاني للميلاد، ولاسيما باللغة الآرامية (السريانية المسيحية) في شرقي تركيا وسورية ومصر، وهي تمثل وجهات نظر غير هلنيستية وتأويلات لاهوتية مشرقية في المسيح والمسيحية[ر. الكتاب المقدس]، لكن المؤسسة الكنسية في مجمع نيقيا المسكوني الأول في عام 325م برئاسة الامبراطور الروماني قسطنطين[ر] لم يُسبغ الصفة الرسمية إلا على الأناجيل الأربعة التي ضمها «العهد الجديد»، وأمر باستبعاد كل ما عداها من التداول حفاظاً على وحدة الكنيسة في إطار الامبراطورية. ومن دون الخوض في تفاصيل مشكوك في صدقيتها تاريخياً يمكن القول: إن أناجيل متى ومرقص ولوقا المتشابهة من حيث المحتوى والتوجه قد دُونت بين عامي 65ـ90م، وإن إنجيل يوحنا قد وضع نحو 110م؛ وهو يحتوي مذكرات الرسول يوحنا المقرب جداً من المسيح ومشاهداته الذاتية، كما يتضمن شروحات لتعاليم المسيح، وقد كتبه في مدينة إفسوس متأثراً بالفلسفة اليونانية ومقتبساً منها أسلوب البحث اللاهوتي. أما «سفر أعمال الرسل» الذي كتبه القديس لوقا فهو محاولة لترتيب وقائع الكنيسة المسيحية تاريخياً منذ تأسيسها عقب قيامة المسيح وعلى مدى ثلاثين عاماً. والمهم هو أن كل ما تضمنه «العهد الجديد» دون استثناء قد كتب باليونانية، وتُرجم لاحقاً إلى السريانية بهدف تسهيل تداوله بين غير المتهلينين، وبالغرض نفسه تُرجم إلى اللاتينية اللغة الرسمية للامبراطورية الرومانية.

إضافة إلى «العهد الجديد» ثمة مرجعان تاريخيان وردت فيهما إشارتان موجزتان تؤكدان وجود شخصية تاريخية باسم يسوع المسيح. وردت الإشارة الأولى في «حوليات» Annales المؤرخ الروماني الشهير تاكيتوس[ر] عندما تحدث عن اضطهاد نيرون[ر] للمسيحيين عقب احتراق روما في عام 64م، فقال: «إن اسم هؤلاء الناس مشتق من المسيح الذي عوقب بالإعدام في عهد الحاكم الروماني بيلاطس بنطيوس». ووردت الإشارة الثانية في «عاديات اليهود» Antiquitates Judaicae للمؤرخ اليهودي يوسِفوس فلافيوس والذي نشر في روما نحو 93م؛ إذ قال: «إنه في عهد الحاكم بيلاطس البنطي عاش يسوع الإنسان الحكيم، وقام بأعمال خارقة»، ثم يسميه صراحة المسيح. لكن المؤرخين يشككون بنسبة هذه الجملة إلى يوسفوس اليهودي المحارب المحافظ، ويرجحون أن أحد النساخ المسيحيين قد أضافها إلى النص الأصلي.

وهنا لابد من الإشارة أيضاً إلى أن الذين أسهموا بالتبشير بالمسيحية كتابة من رسل وتلاميذ وأتباع لم يفكروا بالتأريخ للأحداث بدقة؛ إذ كان هدفهم نشر دعوة المسيح وتبليغ بشارته. ولهذا السبب تركز اهتمامهم على وصف المعجزة الإلهية في ولادة الطفل يسوع من مريم العذراء وعلى سرد الأحداث الغريبة في حياته والمعجزات التي اجترحها، مثلما حرصوا على تكرار رواية أعماله وتفسير أقواله، ودعوا إلى الإيمان برسالته واتباعها بالأفعال الصالحة، وقد أسبغوا على هذه الأمور كلها هالة من القدسية والتبجيل والاحترام، ولكن من دون أن يضبطوا بدقة التواريخ وأسماء الأماكن والأشخاص.

تتفق الأناجيل على أن ولادة يسوع كانت في بلدة بيت لحم سنة 4ق.م، وأن أسرته سرعان ما انتقلت إلى بلدة الناصرة حيث أمضى الشطر الأكبر من حياته مع أمه السيدة مريم، فعُرف على جري العادة حينذاك بصفة (الناصري). كما تُجمع روايات الأناجيل على أن يسوع قد حصل على شيء من التعليم الأولي وأنه كان يتردد إلى الكنيس[ر]، ويستمع إلى تلاوات «التوراة»، ويختلط بالناس عامة، وأنه مارس مهنة النجارة سبيلاً للرزق.

في تلك المرحلة سادت الأجواء في فلسطين وجوارها حماسة دينية، ظهرت في فرق وشيع كثيرة بين اليهود وبوجود دعاة يعظون بضرورة التوبة والتكفير عن الخطايا والفساد الذي انتشر بين الناس؛ ولاسيما الحكام والأثرياء، وكان أبرزهم يوحنا المعمدان؛ أي النبي يحيى بن زكرياu واليصابات خالة مريم العذراء. وعندما قارب يسوع الثلاثين من عمره عمَّده يوحنا في نهر الأردن. وبعد فترة قصيرة اعتقل الملك هيرودس أنتيباس يوحنا، ثم قتله بتهمة تطاوله على العائلة المالكة، عندها بدأ يسوع المسيح رسالته، وبدأ يتجول معلناً بشارة الرب.

يتركز جوهر الديانة المسيحية في بداهة حب الرب غير المشروط لأبنائه البشر الذين خلقهم على صورته من نسل آدم وحواء. وفي هذه المحبة التي تتجلى بها حكمة الرب تتوضح العلاقة بين البشر والعالم والخالق. وكمعظم الديانات السابقة التي أعلنت امتلاك الحقيقة المطلقة ترى المسيحية أنها الموئل الوحيد الذي توجه فيه الرب إلى البشر قاطبة، أو أنها كحد أدنى ذلك الموئل الذي جاء فيه خطاب الرب في الصورة الأكثر عدالة ووضوحاً وقطعية. ومن الموقع الأول تعدّ الأديان الأخرى محاولات أراد بها الإنسان بجهوده أن يحظى برضا الرب ـ أو ما يظنه رباً ـ وقربه؛ ومن الموقع الثاني تبدو هذه المحاولات غير كافية. في حين أن الجلاء المتبدي في وحي الرب للسيد المسيح هو نعمة الرب على البشر ورحمته بهم من دون جهد من قبلهم.

فحسبما ورد في تعاليم «العهد الجديد» تجسد الرب في المسيح بقوة الروح القدس موجهاً كلمته إلى البشرية الخاطئة، وموت المسيح على الصليب ـ كما يروى ـ هو افتداء للبشرية من خطيئتها الأصلية التي تجلت بمعصية آدم وحواء أوامر الرب وأكلهما من شجرة المعرفة، وتحولهما إلى كائنين فانيين خارج الفردوس الخالد. وبفعل المسيح المخلِّص رُفع الذنب والخطيئة عن البشرية جمعاء. لكن هذا العفو يتعلق على صعيد الفرد بقبوله إياه قبولاً نابعاً من الإيمان. وتنطلق بادرة الإيمان المسيحي من إدراك حقيقة العفو، وذلك في يوم الفصح ـ اليوم الثالث بعد الصلب ـ عندما قام المسيح من موته، فكان أول بني البشر الذي بُعث إلى «ملكوت السماوات»، وهذه الحقيقة هي الدعامة (الواقعة) الرئيسية التي بنيت عليها «الكنيسة» المسيحية.

وتتلخص رسالة المسيحu في أن «ملكوت السماوات» للبشرية كلها، وليس لشعب مختار، وأن هذا الملكوت يهبه الرب للبشر بإرادته، وبقبول الإنسان التوبة والنزول عن متاع الدنيا. والإيمان أمر روحي داخلي ينمو في النفس، ولا يتم بالانتساب إلى مملكة على هذه الأرض (إذ قال اليهود: إن المسيح المخلِّص المنتظر سيقيم دولة على هذه الأرض مواطنوها من اليهود).

ينسب متى في إنجيله إلى المسيح أقوالاً عدة توحي أن المسيح قد وجّه رسالته إلى بني إسرائيل حصراً، كما في «لم أُرسَل إلا إلى الخراف الضالة من بيت إسرائيل.» (متى 15/25) أو «لا تظنوا أني جئت لأبطل كلام الشريعة والأنبياء. ما جئت؛ لأبطل؛ بل لأكمِّل.» (متى 5/17)، لكن متى نفسه ينهي إنجيله بقول المسيح: «فاذهبوا، وتلمذوا كل الأمم، وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا كل ما أوصيتكم به» (متى 28/19- 20). والحق أن يسوع قد لاقى من اليهود المتشددين الأمرّين، فانتقل يبشر خارج المناطق اليهودية، ولاحظ أن المستعدين للإيمان برسالته من الوثنيين كثيرون، لحاجتهم إلى المحبة والعدل والرحمة، فعارض كثيراً مما ورد في الشريعة اليهودية وأهمل تقاليدها ومراسمها، فقال: «أحبب ربك بجميع قلبك وجميع نفسك وجميع ذهنك. تلك هي الوصية الكبرى والأولى. والثانية مثلها: أحبب قريبك حبك لنفسك. بهاتين الوصيتين يرتبط كلام الشريعة والأنبياء.» (متى 22/34 ـ 40). كما عارض جوهر الشريعة اليهودية في التعامل بين اليهود والأغيار عندما قال في «موعظة الجبل»: «سمعتم أنه قيل للأولين: العين بالعين والسن بالسن. أما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرير. من لطمك على خدك الأيمن فاعرض له الآخر.» (متى 5/38ـ 39).

حاول كثير من المؤرخين واللاهوتيين التدليل على العناصر اليهودية في المسيحية. ولا سبيل إلى إنكار الصلة بين الديانتين، فلقد قبلت المسيحية بعض الآراء اليهودية شكلاً. لكن المهم في آخر المطاف هو أن المسيحية كانت ثورة روحية على قيود المجتمع اليهودي وصرامته وابتعاده عن الجوهر الإنساني. فقد اهتمت المسيحية بالطهارة القلبية والإيمان بالروح أكثر من الاهتمام بالطقوس، فألغت الختان، وتجاهلت حرمة السبت لأن العمل إيمان. كما نظرت المسيحية إلى جميع الناس على أنهم سواسية.

 في المرحلة التي ظهرت فيها المسيحية كانت المنطقة السورية خاضعة للامبراطورية الرومانية. وكان قد تعاقب على حكمها الفراعنة والآشوريون والكلدانيون والبابليون والفرس واليونان (بطالمة وسلوقيون) والرومان، مما أدى إلى جعلها بوتقة لاختلاط الشعوب وتمازج الحضارات وتعدد الديانات. وفي عهد المسيح كانت الحضارة الهلنيستية هي السائدة لغة وفكراً، وهي التي وحدت بين الشرق والغرب، ومهدت السبيل لظهور ديانة عالمية تشمل الامبراطورية الرومانية، وتحل مكان الديانات القبلية والقومية المحدودة. وقد حاولت روما فرض عبادة الامبراطور على الجميع، ولكن أكثر الشعوب التابعة لها رفضت ذلك. وشاعت في تلك المرحلة في بعض أجزاء الامبراطورية عبادة الإلهة المصرية «إيزيس» وعبادة إله الشمس الفارسي «ميثراس»، لكن الديانتين لم تنتشرا كما يُشتهى بسبب تعقد طقوس العبادة في كلتيهما.

  وعلى الرغم من تنعم السكان بالسلم الذي فرضته روما بعد مذابح عديدة، فقد كانوا يتذمرون من وطأة الحكم الاستبدادي المطلق ومن فقدان الحرية والكرامة الشخصية ومن ثقل الضرائب والامتيازات الطبقية وضياع الحقوق العامة. وعلى الرغم من تعدد ثورات المضطهَدين والعبيد فقد أخفقت جميعها، مما أدى بالضرورة إلى شيوع روح الاستسلام واللامبالاة، وهيمن اليأس على الجماهير. وساد اعتقاد أنه لا خلاص في هذا العالم للمضطهَدين والمحرومين، ومن ثمة لا سبيل أمام الفرد إلا بالسعي الشخصي إلى النجاة الروحية في «ملكوت السماوات» الذي كانت تبشر به الحركات الدينية المختلفة؛ ولاسيما المتهلينة منها في مصر وبابل (مانيتو Manetho في مصر وبيروسوس في بابل اللذان حاولا التوفيق بين الأديان المحلية والأديان اليونانية). لكن أهمها كانت حركة تيموثيوس Timotheos في كتابه «التأويل الإغريقي» Interpretatio Graeca في عهد بطليموس الأول؛ إذ درس الأديان الآسيوية، وتوصل إلى أن الآلهة أتيس وأدونيس وأوزيريس - إيزيس ما هي سوى صور متشابهة لآلهة الأسرار الدينية الإغريقية في إلويزيس Eleusis، مما جدَّد الفرصة أمام انتشار واسع عالمياً لمثل الديانة الإلويزية والديونيسية[ر. ديونيسوس] والأورفية [ر. أورفيوس] في إهابٍ أكثر إنسانية. وجذرُ جميع هذه الحركات الدينية يستند إلى وحيٍ إلهي يتجسد في «الكلمة المقدسة» Hierós Lógos التي تشمل سيرورة البشرية في العالم المخلوق وآلام الحياة والموت وانبعاث الرب المتجسد للبشر من الموت ومعراجه إلى ملكوت السماء. وتؤكد هذه الديانات الصور المروعة لموت الرب المتجسد بشراً، فأوزيريس يموت غرقاً، وأتيس نتيجة جرح متعفن، وأدونيس يقتله خنزير بري، وديونيسوس تمزقه نسوة مخمورات غضباً وتعبداً في الوقت نفسه. وكلما ازداد الانزعاج من طريقة موته تعمق الإيمان به بعد انبعاثه ومعراجه بصفته مخلصاً للبشر من ذنوبهم.

وفي كثير من الحالات أدى توق البشر إلى الجلالة الإلهية إلى إسباغ بعض صفات الألوهة على إنسان تبدت في أفعاله هذه الصفات. ولم يعد هذا الإله ـ الإنسان Theios Aner بطلاً كما هرقل[ر]، بل إنسان حقيقي أثبت كونه محسناً ومصلحاً تجاه البشر، فأُلحقت به سمات أسطورية كولادته بمعجزة، وأحيط بهالات التبجيل، ومن هؤلاء هوميروس [ر] وأفلاطون[ر] وأبقراط[ر]، ولكن أغلبهم كانوا حكاماً أسبغوا على أنفسهم بمساعدة الحاشية والكهنة صفات الألوهة. وفي بعض الأحايين حمل الحكام إلى جانب أسمائهم صفة «الرب» Theos أو «الرب المتجلي» Epiphanes، وغالباً «المخلِّص» Soter أو «المحسن» Euergetes؛ كيلا ينفصلوا كلياً عن كونهم بشراً فانين. لكن لم يحدث في أي زمان ومكان أن تحولت عبادة الإنسان ـ الإله إلى ديانة ذات أركان وتعاليم.

ومن الأهمية بمكان الاهتمام بتحول الفلسفة إلى دين منذ نهاية القرن الرابع ق.م حين ظهر في البلاطات وساحات المدن وقاعات الأعمدة نوع من الفلاسفة كوعاظ ومبشرين بهدف إرشاد الرعية إلى طريق الحقيقة، ولاسيما إلى طريق الخلاص.

وكانت الأفلاطونية[ر. أفلاطون] من المدارس الفلسفية التي تحولت بعد قرنين من انتشارها إلى التأويل الديني الذي بلغ ذروته في القرن الثاني الميلادي في أعمال بلوتارخُس[ر] كبير كهنة معبد دلفي في اليونان والذي كان جسراً نحو الأفلاطونية الجديدة.[ر. أفلوطين] في الإسكندرية في القرن الثاني الميلادي والتي كان لها أثر عميق في اللاهوت المسيحي لاحقاً.

أما على صعيد الحركات الدينية اليهودية في مرحلة السيد المسيح في فلسطين، فقد كانت هناك عدة فرق تدعو إلى التمسك حرفياً بالشريعة حسب «توراة» أورشليم وتفسيرات «التلمود» الجديدة؛ ومنها: 1ـ حركة الصدوقيين المؤلفة من كبار الكهنة والشرائح الأرستقراطية، 2ـ حركة الفريسيين التي طالبت بتفسيرات جديدة لنص «التوراة» حسب ضرورات الحياة وظروفها المتغيرة، 3ـ حركة الأسينيين أصحاب مخطوطات قُمران والتي تضم الزهاد المشتركين في نظام حياة متشدد قرب البحر الميت، 4ـ حركة الوطنيين المتعصبين المتحمسين من دعاة الثورة على الظروف السائدة، الذين يسمون «زيلوت». وإضافة إلى ذلك كانت هناك جماعة الكتّاب من جميع الحركات المذكورة، كان أفرادها يحترفون التعليم وتفسير الشرائع وإصدار الفتاوى، ويتمتعون بنفوذ كبير. كانت هذه الفرق والجماعات تناهض سيطرة الرومان، وأقدمت على الثورة المسلحة مرات متعددة، ولما أخفقت توجهت بآمالها روحانياً نحو العبادات بانتظار قدوم «المشيح» (بالآرامية) الذي تحدثت عنه أسفار «العهد القديم» مبشراً بخلاص «الشعب المختار» في دولتهم الأرضية الخاصة حيث ستسود العدالة والسلام. وبين هذه وتلك من الفرق والجماعات اختلفت صورة «المسيح المخلِّص»، فتصوره بعضهم ملِكاً من نسل داود أو بطلاً محارباً يرفع عن اليهود ظلم الرومان. وهو في رأي آخرين زعيم روحاني تتجسد فيه «كلمة الرب» أي الحكمة، وسينشر المحبة والعدالة والسلام على الأرض. وكان بعضهم يلقبه «ابن الإنسان»، لكنه سيهبط من السماء، ويُخضِع الكفار، ويفرض شريعة موسىu على جميع البشر.

  لكن هذه التصورات لم تنطبق على يسوع الناصري الذي بشَّر الناس بالآرامية، فتجمهر حوله كثيرون من اليهود وغيرهم، وآمنوا بأنه «المسيح المخلِّص». وقد أنكر يسوع أنه من نسل داود أو أنه قد جاء ليعيد المُلك إلى «إسرائيل»، ويبدو أنه كان يقصد بـ«ملكوت الرب» حالة روحانية أو مجتمعاً سعيداً يتحقق في قادم الأيام وحكامه هم الحواريون. وهو لم يؤيد الثورة على الرومان، وعندما اختبره الفريسيون في موضوع أداء الضرائب إلى الحكومة أجابهم بأن يعطوا لقيصر ما لقيصر ولله ما لله.

أجمع المؤرخون على أنه كان للمسيحية بعد انتشارها الأول اتجاهان: المسيحية اليهودية والمسيحية الهيلينية. إذ كان المسيحيون في أورشليم وجوارها يعدّون فرقة يهودية جديدة لتبنيهم بعض الطقوس اليهودية على الرغم من إيمانهم بأن يسوع هو «المسيح المخلص». ولأن اليهود المتشددين رفضوا قبول يسوع «مخلصاً» فقد كانوا يرون في المسيحيين خوارج على أصول الدين اليهودي فاضطهدوهم، لكن هؤلاء تحملوا ونظموا أنفسهم في كنيسة أورشليم الأولى التي خرج منها كثير من الرسل والمبشرين الأوائل.

أما المسيحية الهيلينية فقد بدأت أيضاً في أورشليم، لكن خصائصها سرعان ما ظهرت في أنطاكية، فمسيحيو أنطاكية لم يروا أنفسهم طائفة يهودية أو فئة يهودية، وهذه المسيحية رأت في نفسها ديانة جامعة عامة، تخلت عن الطقوس اليهودية منذ البداية، ويعدّ القديس بولس أبرز المبشرين بها وأكبر المنظرين لها، علماً أنه ليس رسولاً.

«والمهم أن كلا الاتجاهين اللذين امتد انتشارهما في اتجاهات مختلفة قد اتفقا على الأصول؛ أي: قبول المسيح المخلص الذي ولد من مريم العذراء وصُلب وقُبر وقام من بين الأموات. واعترف الجميع بالروح القدس وبالعماد وقبول العشاء السري المقدس (الذي تمثله الشراكة)، وهي تناول الخبز والخمر ممثلين لجسد المسيح ودمه، وذلك في أثناء القداس الإلهي».

وعلى الرغم من اكتمال نصوص «العهد الجديد» في بدايات القرن الثاني للميلاد بقي المسيحيون قاطبة يقرؤون «العهد القديم»[ر. الكتاب المقدس] ويرون فيه جزءاً لا يتجزأ من تراثهم الديني، لما تحتويه أسفاره من نبوءات عن «المشيح المنتظر» ورسالته والعالم الذي يبشر به، ويدعو إليه. ومع ظهور المذاهب اختلفت الآراء، وتباينت المواقف في موضوع أي الأسفار يجب أن تبقى في «العهد القديم» وأيها يجب أن تُستبعد لكونها لا تخدم الدعوة المسيحية أو لأنها منحولة apocrypha، وما زال هذا الخلاف قائماً حتى اليوم ومتجلياً في اختلاف طبعة «الكتاب المقدس» الأرثوذكسية عن الكاثوليكية عن البروتستنتية ولاسيما عن الكاثوليكية الأمريكية التي تضم جميع الأناجيل والأسفار المنحولة تقريباً. وقد كان لحركة الإصلاح الديني اللوثرية [ر. لوثر] في القرن السادس عشر والانشقاق عن المؤسسة الدينية الكاثوليكية في روما[ر. الانشقاق الكبير] تأثير كبير في تعميق وجهة نظر المنشأ اليهودي للمسيحية بصفتها حركة إصلاح لانحرافات اليهود عن تعاليم موسى والشريعة. ومع انتشار الحركة البروتستنتية إلى إنكلترا وأمريكا الشمالية صارت فكرة أن عودة المسيح لنشر العدالة والسلام لن تتحقق إلا بعد عودة يهود الشتات إلى أرض الميعاد فكرة أساسية من العقيدة البروتستنتية، مما يفسر السلوك الديني ـ السياسي لإنكلترا والولايات المتحدة الداعم لدعاوى دولة إسرائيل المزعومة. وفي عام 1966 في عهد البابا بولس السادس Paul VI اتخذ الفاتيكان قراراً بتبرئة اليهود من دم المسيح.

يُشار عادة إلى القرن الأول للميلاد بوصفه عصر الرسل والتبشير وكتابة الأناجيل والأسفار والرسائل وتأسيس الكنائس، وفيه عرفت دمشق المسيحية، وانتقلت منها إلى بلاد العرب في الاتجاهات كافة ولكن بالآرامية، في حين أن انتشار المسيحية في آسيا الصغرى غرباً واليونان وبقية الولايات الرومانية كان باليونانية واللاتينية. وبمرور الوقت استعارت الكنيسة المسيحية تفاصيل الإدارة الرومانية وتنظيمها، لكنها عانت عداء شديداً من جهات ثلاث: اليهود والهيلينيين الوثنيين والدولة الرومانية حتى إعلان قسطنطين المسيحية ديانة رسمية. ومنذ أواخر القرن الأول الميلادي بدأت تظهر في إطار الكنيسة بدع ومذاهب متأثرة بالثقافات السائدة في محاولة للتوفيق ما بين الجهتين بدءاً بالغنوصية[ر] والمانوية[ر] والآريوسية[ر]، وغيرها كثير.

لقد عرفت المسيحية الرهبنة منذ البدايات، إما فردياً وإما جماعياً، وكان هدفها الزهد والتنسك ونبذ الحياة الدنيا. ويبدو أن المناطق المعزولة في فلسطين وبلاد الشام ومصر واليونان وسواها كانت دوماً تصلح ملجأ للرهبنة، وقد قويت هذه النزعة في القرن الرابع الميلادي احتجاجاً على طبيعة العلاقات بين المؤسسات المسيحية والدولة. فمنذ مجمع نيقيا المسكوني 325م نزلت الكنيسة عن كثير من حريتها لتكون تحت حماية الدولة. وتدريجياً أدت حركة الرهبنة الجماعية إلى إنشاء الأديرة، ومن مشاهير النساك السوريين المترهبنين سمعان العمودي[ر] ومار مارون[ر].

بمرور الزمن تفرع من المسيحية الأصلية عدة مذاهب انتشرت في جميع أرجاء العالم مع حركات التبشير والهجرات الإرادية والقسرية، وأبرز هذه المذاهب هي: الكاثوليكية؛ الأرثوذكسية: وتقسم إلى غربية مثل كنيسة اليونان، وشرقية مثل الكنيسة القبطية والسريانية؛ والبروتستنتية. وقد عرفت الكنيسة كيف تتبنى كثيراً من التعاليم والتقاليد والطقوس السائدة في مختلف البلدان، فصار من السهل أن تعتنق الشعوبُ المسيحية، فأضحت ديانة عالمية وقوة فعالة في حياة الأمم يحسب الحكام حسابها.

النصرانية ـ المسيحية في القرآن

النصرانية هي التسمية القرآنية للديانة المسيحية، كما ورد في بداية البحث. وقد منح القرآن الكريم عيسىu ألقاباً متعددة، وردت نحو خمس وثلاثين مرّة إما بصيغة عيسى، وإما عيسى ابن مريم وإما المسيح ابن مريم، وإما المسيح، وإما المسيح عيسى ابن مريم، إضافة إلى النبي والرسول والمبارك وعبد الله وكلمة الله وروح الله. وهناك تقارب كبير بين ما ورد في روايات «العهد الجديد» عن ولادة المسيح من مريم العذراء وبين رواية القرآن ]إنَّما المسِيحُ عِيْسَى ابنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وكَلِمتُهُ أَلْقَاها إلى مَرْيَمَ ورُوحٌ مِنْهُ[ (المائدة 171). ورسالة عيسىu حسب القرآن موجهة إلى بني إسرائيل تحديداً: ]وإِذْ قَالَ عِيْسَى ابنُ مَرْيَمَ يَا بنِي إسْرَائِيْلَ إنِّي رَسُولُ اللهِ إِلِيْكُم[(الصف 6) و]يُعَلِّمُهُ الكِتَابَ والحِكْمَةَ والتَّورَاة والإنْجِيلَ ورَسُولاً إلى بَنِي إِسْرَائِيل[ (آل عمران 48). ومثلما تنبأت التوراة بمجيء المسيح المخلص تنبأ عيسىu بمجيء النبي محمدr: ]وإذْ قالَ عِيْسَى ابنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ إنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مُصَدِّقاً لِمَا بيْنَ يديَّ مِنَ التَّورَاةِ ومُبَشِّراً برَسُول يأتِي مِنْ بَعْدِي اسمُهُ أَحْمَدُ[ (الصف 6). لكن القرآن يلوم المسيحيين لعدِّهم المسيح ابن الله أو ربَّاً يُعبد: ]قاَلَ إِنِّي عَبْدٌ الله آتَانِيَ الكتَابَ وجَعَلَنِي نَبِيّاً* وجَعَلَنِي مُبَارَكاً[ (مريم 30-31)؛ وأثبت القرآن معجزات المسيحu مع التشديد على عبارة ]بإذن الله[ (آل عمران 49). واختلف القرآن مع «العهد الجديد» في مسألة صلب المسيح: ]وَقَوْلِهِم إنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُم وإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ومَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ٭ بَل رَفَعَهُ اللهُ إليهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً[ (النساء 157ـ851). كما لا يعترف القرآن بالكتاب المقدس لليهود والمسيحيين «العهد القديم» و«العهد الجديد»؛ لأنه محرف، كتبه بشر، ولا يمثل الكتابين المنزلين على موسىu وعيسىu، وقد وردت إشارات إلى ذلك في سورتي: (البقرة 57)  و(المائدة42ـ49).

نبيل الحفار

 الموضوعات ذات الصلة:

 

الأرثودكسية (الكنيسة ـ) ـ الإصلاح الديني ـ البابوية ـ الرهبنة ـ الهلينستية.

 

 مراجع للاستزادة:

 

ـ نهاد خياطة، الفِرق والمذاهب المسيحية منذ البدايات حتى ظهور الإسلام (دار الأوائل، دمشق 2004).

ـ يوسف إلياس الدبس الماروني، تحفة الجيل في تفسير الأناجيل (بيروت 1877).

ـ نيقولا زيادة، المسيحية والعرب (دار قُدْمُس، دمشق 2000).

- CHARLES PATTERSON, The New Testament (Cliffs Notes, Inc., USA 1992).


التصنيف : الفلسفة و علم الاجتماع و العقائد
النوع : دين
المجلد: المجلد العشرون
رقم الصفحة ضمن المجلد : 687
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 527
الكل : 29621697
اليوم : 1707

حاملات الأنابيب

حاملات الأنابيب   حاملات الأنابيب Siphonophora صفيف من الهدريات Hydrozoa تضم حيوانات بحرية تعيش طافية بشكل مستعمرات على سطح البحار. ينتمي إليها جنس فيزالية Physalia وجنس فيليلا Velella. تتألف مستعمرة حاملات الأنابيب من مجموعة من الميدوزات medusae  والأفراد (بولبات) polyps، المتحورة كثيراً والمرتبة على محور عمودي أو رِئْد stolon.
المزيد »