logo

logo

logo

logo

logo

الاتصالات الحيوانية

اتصالات حيوانيه

Animal communications - Communications animales

الاتصالات الحيوانية

 

تتضمن الاتصالات الحيوانية animal communications إطلاق أحد الأفراد إشارة كيمياوية أو فيزيائية يتلقاها فرد آخر فتبعث فيه سلوكاً ما. ولا تعد استجابة البعوضة مثلاً لجسم الإنسان اتصالاً، لأن الإنسان لا يطلق الحرارة بهدف جذب البعوضة، في حين أن انجذاب ذكر البعوض إلى أنثاه يتم لأن الأنثى تطلق رائحة بهدف جذب الذكور؛ كما أن رائحة الزهرة تعد إشارة كيمياوية لأنها تجذب النحلة إليها، على الرغم من أنها لم تولد إشارة بالمعنى الحقيقي، لأن الرائحة موجودة فيها أصلاً.

غايات الاتصال في العالم الحيواني

سيقتصر الأمر هنا على حالة «التآثر» interaction التي يكون فيها مرسل الإشارة ومستقبِلُها من النوع الحيواني نفسه، ولعل الآلية التالية توضح ذلك:

يقوم الحيوان المرسِل، بتأثير عوامل أو منبهات داخلية أو خارجية، بإصدار إشارة فيزيائية أو كيمياوية تستقبلها أعضاء حساسة نوعية لدى الفرد الذي يتلقاها، فتحدث فيه تبدلات داخلية يكون من نتيجتها تبدل في سلوكه الخارجي.

إن حاجة الحيوانات إلى تعرف أفراد نوعها تستوجب استخدام إشارات اتصال لهذا الغرض بقصد تأليف تجمعاتها. ولئن كان الكثير من الحيوانات يعيش حياة انفرادية، فيما عدا أزمان التزاوج، فإن أي حيوان من هذه الحيوانات يستخدم الإشارات للتعريف بنفسه لدى بقية الأفراد من نوعه بقصد بقائه منفرداً ضماناً لمورده الغذائي.

أما الحيوانات التي تقيم فيما بينها علاقات اجتماعية فإن إشارات الاتصال لديها تستخدم لأغراض عدة، منها: تنبيه أقرانها من أفراد النوع إلى وجود خطر ما، كما أن هذه الإشارات قد تفيد في ردع الضواري المحتملة بالصراخ الجماعي بقصد إخافة الأعداء.

ولئن كان معظم الحيوانات يأكل منفرداً، فإن المعروف عن الحيوانات الراقية أنها تتقاسم الأكل، وفي حالة كهذه قد تستخدم إشارات اتصال للدلالة على مصادر الطعام. ويمكن أن يجري ذلك بإشارات الهداية المعقدة كالإشارات التي تستخدمها الحشرات الاجتماعية لهداية أقرانها في العش نحو مصادر الغذاء البعيدة.

ولعل أهم إشارات الاتصال الحيوانية يُستخدم في عملية التزاوج، وحينما تتشابه ذكور الأنواع المختلفة وإناثها، تزداد أهمية تحديد النوع. فالنطاف لا يجوز توجيهها نحو بيوض لاتستطيع إخصابها. وهنا تؤدي إشارات الاتصال دور كلمة السر لتعريف أفراد النوع الحيواني الواحد بعضها ببعضها الآخر أولاً ولتلاقي الجنسين المناسبين ثانياً. وما إن يلتقي الذكر الأنثى حتى تُستخدم إشارات الاتصال في الغزل والاقتران بينها. فالإشارات الجاذبة الأولية لاتوفر إلا تحديداً بدئياً للهوية. وقبل أن يجري الاقتران الحقيقي لابد من التحديد الإيجابي والقطعي لتلك الهوية. وما رقصات الغزل عند العناكب والحركات الاستعراضية عند الطيور إلا إشارات اتصال تفيد في تحديد هوية الذكور لدى الإناث استعداداً للجمع بينهما في عملية الاقتران الأخيرة، التي ينبغي أن تكون في غاية الدقة، والتي تتطلب تعاون الذكر والأنثى في أدائها.

وعندما ينتهي الاقتران ويجري إلقاح البيوض يبدأ الاستعداد لخروج النسل الصغير إلى الحياة. صحيح أن بعض الحيوانات لا يولي صغاره أية رعاية، لكن الكثير منها يرعى الصغار، أو حتى البيوض والصغار كليهما، وهذا ما يتطلب وسيلة للإيعاز بين الأبوين فيما يخص مكان الغذاء ومكمن الخطر. وحيثما يرعى الكبار الصغار، كما هي الحال عند الطيور والثدييات مثلاً، تقوم حياة «أسرية»، وتكتسي إشارات الكبار الاتصالية أهمية إضافية لدى الصغار، وحينما يكبر الصغار فإنهم يطورون إشاراتهم الخاصة التي يتأثر بها سلوك الأبوين. ومن ثم فليس غريباً أن تكون الحيوانات ذات الحياة الأسرية الأرقى في التنظيم الاجتماعي قد طورت أكثر جمل الاتصال إتقاناً.

آليات الاتصال الحيواني

تُسَخِّر الحيوانات جميع حواسها تقريباً من أجل الاتصال. ويستخدم كثير من الحيوانات أكثر من قناة حسية، وعلى نحو متكامل، لضمان التقاط الإشارة الاتصالية. ويتناول البحث فيما يلي جميع القنوات الحسية الممكنة مع أمثلة عن كل منها.

الجمل اللمسية: يمكن للحيوان أن يكتشف الأشياء التي تقع على تماس معه (مصادفة أو إرادياً) بفضل حاسة اللمس لديه. ويصعب، حتى في الإنسان، الفصل بين المستقبلات المختلفة الموجودة في الجلد والتي تتنبه بالأشياء التي تلامسه. ولابد، في مجال الاتصالات الحيوانية بحاسة اللمس، من قيام التماس المباشر بين الأفراد، وهذا يعني أن الاتصال الحيواني باستخدام هذه القناة لا يتعدى المسافات القصيرة للغاية بين الأفراد.

أنماط الاتصال اللمسي: تتفاوت أنماط التماس كثيراً في طبيعتها وتوقيتها. فالإشارات اللمسية يمكن أن تتبدل بسرعة في شدتها وطبيعتها، كما يسهل تشغيلها وإيقافها. ولذلك تنفع الإشارات اللمسية بوجه خاص في نقل المعلومات الكمية، إذ تلزم إشارات متغيرة باستمرار لنقل عناصر معلوماتية متغيرة باستمرار.

يقوم الحيوان المرسل للإشارات اللمسية بإنتاج هذه الإشارات من حركات خاصة يُذكر منها: القبض والمسك بفضل المخالب واللواقط والأذرع، وكذلك الصدم بكامل الجسم وغير ذلك. فالنحلات مثلاً تجوب أرجاء خليتها مصطدمة بأجسام أقرانها لإشعارها بالإشارة الاتصالية. وهنا يجري استقبال الإشارة بوساطة مستقبلات للتماس واقعة على سطح الجسم.

الاستقبال اللمسي: تُعْرَفُ بعض الحيوانات بمستقبلات لمسية خاصة شديدة الحساسية، فنحل العسل مثلاً له مستقبلات للحركة في أرجله على جانب كبير من الحساسية تمكنها من كشف حركة الكريات في دماء الحشرات، وكذلك فإن «الشوارب» الطويلة في وجه القطة يكفيها أن تتحرك جزءاً بسيطاً من الملمتر حتى يستشعر الحيوان بفضلها الحركة التي تلامسه.

وتوجد قنوات الاتصال اللمسي في جميع المجموعات الحيوانية. فبعض معائيات الجوف Coelenterata البحرية يعيش في مستعمرات من بولبات polyps دقيقة، يحتفظ كل بولب منها باتصال عضوي مع البولبات الباقية. فإذا لُمِسَ أحدُها فإنه ينكمش، ولكن لا تلبث البولبات الباقية أن تستشعر المنبه وتنكمش هي أيضاً على الرغم من أن المنبه لم يتناولها مباشرة. وبالانتقال من هذه الجملة الاتصالية اللمسية البسيطة إلى جملة نظيرة راقية، كتلك التي لدى نحل العسل، يرى أن النحلة، إذا ما اكتشفت مصدراً للرحيق، فإنها تدل على موقعه وبعده وقيمته بفضل ما تقوم به من الجري بنسق محدد داخل خليتها. وهنا تلتقط النحلات الأخريات المعلومة الاتصالية باستشعار إيقاع حركات النحلة الكشافة وتوجهاتها.

ومن أمثلة استخدام المنبهات اللمسية في الاتصال عند الثدييات ما تقوم به الخنازير من دفع بالجسم وحك بالأنف في سلوكها الغزلي، وما يقوم به ذكر الزراف من إثارة لأنثاه في عملية «معانقة"، إذ تلتوي رقبتاهما الطويلتان الواحدة حول الأخرى وتفرك كل رقبة رقبة شريكها، وما تقوم به ذكور القطط والخيول من عض حقيقي للإناث يثيرها ويحثها على التقبل الجنسي من جانب الذكر. وإذا ما أخذ بالحسبان دور الشفاه «تلمظاً وتقبيلاً» لدى الرئيسات Primata، كما عند القردة في عمليتي الغزل والاقتران، تبينت أهمية القنوات اللمسية في لغة الاتصال الجنسي لديها.

الجمل الكيمياوية: تعد الحواس الكيمياوية أكثر قنوات الاتصال استخداماً في عالم الحيوان. ومن المعروف أن للإنسان حاستين كيمياويتين هما الشم والذوق. ولكن يصعب، بل يستحيل فصل هاتين الحاستين الواحدة عن الأخرى في العديد من الحيوانات. وعلى العموم تعد خاصة الاستقبال الكيمياوي البعيد أو حاسة الشم هي الحاسة الأهم شأناً في الاتصال الحيواني.

ويمكن أن تؤثر الإشارات الكيمياوية من مسافات بعيدة، لكنها قد لا تعطي إلا القليل من المعلومات عن جهة مصدرها، ما لم يكن هناك حركة للماء أو الهواء الذي يحملها. ولما كانت مثل هذه الحركة متوافرة في كثير من الأحيان، فإن تلك الإشارات الكيمياوية تستخدم استخداماً واسعاً في جذب الأقران من الذكور والإناث بعضها إلى بعضها الآخر.

وتتصف الروائح بخاصة الديمومة مدة من الزمن فلا يمكن استخدامها مؤشراً لتواتر الإشارة الكيمياوية (حضوراً أو غياباً) مثلما هي حال اللمس والضوء والصوت.

إصدار الإشارات الكيمياوية: قد تصدر الإشارات الكيمياوية عن جسم الحيوان، بمعنى كونها رائحة الجلد نفسه. ولكن ما يعد إشارات كيمياوية حقيقية في الاتصال الحيواني هو تلك المواد الكيمياوية التي تفرزها غدد خاصة لهدف معين، كالروائح الجنسية لدى بعض الحيوانات، فهذه الغدد تفرز كيمياويات نوعية specific تدهن بها الحيوانات أجسامها، ثم تتبخر هذه الكيمياويات أو تُطْلَق في الهواء أو الماء مباشرة.

ويُذْكَر على سبيل المثال أن بعض الأساريع caterpillars تُخرج عند الإنذار «قروناً» تنفث  حولها روائح خاصة. قد يدوم إنتاج الرائحة طويلاً، كما في الروائح المميزة للأنواع الحيوانية، أو يقتصر إنتاجها على اندفاعات قصيرة، كما في الروائح الجنسية وروائح الإنذار.

استقبال الإشارات الكيمياوية: يتم استقبال الإشارات الكيمياوية بما يسمى المستقبلات الكيمياوية chemical receptors التي تؤلف أعضاء الشم والذوق. وغالباً ما تقع أعضاء الذوق في الفم أو بالقرب منه، كما هو متوقع، ما دامت تُستخدم في الغالب في تعرف الطعام قبل ابتلاعه. ولكن بعض الأسماك يضم، إلى جانب أعضاء الذوق حول الفم، نظائر لها على الزعانف والذيل. كما أن بعض الحشرات تحوي أعضاء للذوق على قرون استشعارها حتى على أرجلها. قد يصعب في كثير من الحالات، التفريق بين أعضاء الذوق وأعضاء الشم. فاللافقاريات المائية تتحسس بالكيمياويات على امتداد أجسامها دونما تفريق بين أعضاء للشم وأعضاء للذوق. ولئن كان للحشرات، في الغالب، أعضاء للشم على قرون الاستشعار المتحركة، مما يتيح لها إدراك الروائح على نحو مجسم (إذا جاز التعبير)، فإن أعضاء الشم هذه لا تقتصر في الحشرات على تلك القرون، إذ إن لبعض أنواع الحشرات نظائر لها بالقرب من الفم أو في أجزاء أخرى من الجسم.

وأما في الفقاريات فإن أعضاء الشم تقع داخل الأنف، وفي بعض الحالات بالقرب من الفم. ولا يغرب عن البال أن أعضاء الشم أكثر حساسية من أعضاء الذوق في الاستقبال الكيمياوي، فذكور بعض أنواع العث mohtes تكتشف رائحة إناثها من مسافات بعيدة قد تبلغ ثمانية كيلومترات بأعضاء الشم في قرون استشعارها.

انتشار الاتصالات الكيمياوية في العالم الحيواني: ستذكر هنا أمثلة قليلة عن استخدام الحواس الكيمياوية في الاتصال بين الحيوانات، مع العلم أن الروائح ربما تؤلف أهم قناة لتحديد هوية النوع لدى معظم الحيوانات. وهنا لا تُستثنى من المجموعات الحيوانية الكبيرة سوى الطيور التي تفتقر، كما يعتقد، إلى حاسة نامية للشم. ولكن مع ذلك لاشك في أن بعض أنواع الطيور تعرف برائحة خاصة يشعر بها حتى الإنسان الذي يتصف بضعف حاسة الشم. ويذكر في هذا الصدد أن طائر الحميمق long- legged bizzard يتمتع بحاسة قوية للشم مثلما هي حاسة الإبصار عنده.

أما الحشرات فقلما يوجد منها ما لا يستخدم الشم في الجذب الجنسي أو لتحديد الهوية؛ حتى ما كان منها يعتمد الإشارات الضوئية الوامضة (كاليراعة fire fly) أو الإشارات الصوتية الغنائية (كالجنادب)، فإنه يستخدم الروائح في بعض مراحل العملية التناسلية. فالفراشات، التي تعد أقرباء نهارية للعث الليلي، تضم أنواعاً لذكورها حراشف على أجنحتها تفوح منها رائحة تفيد في تعرف الأنثى هوية الذكر بعد أن تكون قد جاءته من بُعد من إشارات إبصارية. ولعل من الممتع حقاً أن ترى مجموعة من ذكور الصراصير العادية تقف ساكنة بلا حراك عند تحريك قطعة نظيفة من ورق النشاف فوقها، في حين تشرع بهز أجنحتها عند استخدام قطعة من ورق نشاف كانت قد وقفت عليها إناث الصراصير. ولقد أمكن عزل المادة الجاذبة للجنس من إناث الصرصور الأمريكي، وجرى تحديد صيغتها الكيمياوية. وفي بعض أنواع النمل تلقي النملة الكشافة في رحلة العودة، بعد عثورها على مصدر غذائي، سلسلة من قطيرات ذات رائحة تؤلف أثراً خطياً ذا رائحة؛ تتبعه العاملات وتهتدي به إلى الغذاء، (على الرغم من بقاء النملة الكشافة في العش). وهناك عدد من التجارب يشير إلى أن الأثر الخطي ذا الرائحة الذي يكونه النمل يتصف بقطبية اتجاهية يتعرف النمل بها طريق الذهاب وطريق الإياب، ويرى فوريل Forel (الباحث الكبير في سلوك النمل) أن للنمل حاسة كيمياوية خاصة تتيح له أن يميز الرائحة وأن يميز في الوقت نفسه شكل القطيرة التي تنشرها. وتفتقر هذه الفكرة إلى البرهان، ذلك أنه يعرف عن النمل استخدامه الشمس لتعرف طريق العودة إلى العش. وهكذا ربما يفضل قبول استخدام النمل للأثر ذي الرائحة في معرفة المسار، مع استخدامه الشمس في معرفة الاتجاه. وليس الذباب بأقصر باعاً من غيره من الحشرات في استخدام الإشارات الكيمياوية في هداية بعضه بعضاً إلى مكان الغذاء. فالذباب مع كونه لا يعيش حياة اجتماعية فإنه يسم الطعام الذي يعثر عليه برائحة خاصة تجتذب باقي الذباب إليه.

أما استخدام الحشرات للإشارات الكيمياوية بهدف الإنذار، فإنه يشاهد لدى نحل العسل الذي يثير باقي المستعمرة بالطواف جرياً وبإطلاق رائحة هي نفسها رائحة لسعة النحل فتهيج هذه الرائحة النحل ولكنها لا تحثه على اللسع.

ولا يستخدم الروائح بوجه عام للجذب الجنسي من الفقاريات غير الثدييات، مع أن الكثير من المجموعات الأخرى في الفقاريات يستخدم الروائح في تعرف النوع. وإذا كان معروفاً عن بعض السمك أنه يطلق مواد كيمياوية تحدد هوية النوع، أو حتى الفرد من النوع الواحد، فليس هناك دليل على استخدامه لها في تلاقي الجنسين حتى اليوم، وإن كان لا يستبعد ذلك ولاسيما لدى بعض أسماك القوبيون gobies. وبالمقابل فإن كثيراً من أنواع الثدييات تطلق إناثه روائح مميزة عندما تكون مستعدة للتزاوج في فصل الوداق أو الشبق oesturs وتجذب هذه الروائح ذكور تلك الأنواع. حتى عندما يجري استخدام الوسائل الأخرى للجذب فإن تعرف النوع في معظم الثدييات غالباً ما يجري عن طريق اكتشاف الذكر لرائحة الأنثى .

 وهناك من الثدييات ما يستخدم الذوق عوضاً عن الشم. فذكر الزراف مثلاً يتذوق بول الأنثى لمعرفة حالتها الجنسية.

 ويحدث في بعض الثدييات أن يطلق الذكر رائحة متميزة تجذب الإناث إليه أو تتيح لها تعرف هويته. فذكر الشمواه Chamois (من الظباء) مثلاً يسم الشجر في منطقته بعلامات ذات رائحة، عن طريق فرك تلك الأشجار بقرونه التي تمتلك غدداً للرائحة في قواعدها. وتنجذب إناث الشمواه إلى هذه المناطق الموسومة حيث تلاقي الذكور.

أما تعرف الأبوين صغيرهما عند الثدييات فيبدو أنه شمي بالدرجة الأولى، خلافاً لتعرف الصغير أبويه، فهو من طبيعة بصرية وسمعية.

الجمل البصرية: تقوم الحيوانات المزودة بعيون نامية بإصدار إشارات بصرية (ضوئية). ولئن كانت هذه الإشارات تعمل عن بعد، فإن ذلك البعد لا يكون كبيراً في معظم الحالات. ومن الواضح أن المسافة المجدية للإشارة البصرية إنما تعتمد على حساسية الواحدة المستقبِلة البصرية (المستقبِلة الضوئية). ثم إن الإشارات الضوئية تعطي أفضل دلالة على الاتجاه، كما أنها تتغير بسرعة مع الزمن وتستخدم مجالاً كبيراً من الشدة، الأمر الذي يمنحها قدراً كبيراً من المرونة.

وأخيراً تتصف هذه الإشارات الضوئية بسرعة تشغيلها وإيقافها مما يسمح بالترميز الدقيق للمعلومات.

طبيعة الإشارات البصرية: يتمثل أكثر الإشارات البصرية تخصصاً في الوميض الذي تولده متعضيات مضيئة مثل اليراعة والبق المضيء بوساطة أعضاء خاصة مولدة للضوء، انطلاقاً من تفاعلات كيمياوية معقدة لا تنشر حرارة. ولكن ليس لمعظم الحيوانات مع ذلك جمل خاصة لتوليد الضوء. يضاف إلى ذلك أن الأعضاء المولدة للضوء، إن وجدت، لا تعمل إلا في الظلام، من ثم يكون استخدامها محدوداً.   

   تتصف جميع الحيوانات بأجسام محددة الأشكال، كما يتصف الكثير منها بألوان نوعية، وهذا يعد بحد ذاته إشارات بصرية (ضوئية). ولعل الطراز اللوني المميز في ذكور الطيور يوضح إمكان استخدام الشكل واللون في تعيين هوية النوع الحيواني وفي تحديد جنسه ذكراً كان أو أنثى. ولكن كثيراً من الحيوانات لا يتصف بألوان نوعية، ومع ذلك يمكن تحديد هويته بصرياً بما يقوم به من أنساق حركية تختلف من نوع لآخر، وتكفي لنقل معلومة الهوية والجنس.

استقبال الإشارات البصرية: تتفاوت إمكانات استقبال الضوء، ولاسيما حس الألوان والنماذج، إلى حد كبير. فباستثناء المفصليات التي تضم القشريات والحشرات، وباستثناء الرخويات التي تضم الأخطبوط والحبار، هناك ضعف في نمو العيون لدى اللافقاريات، إذ إن لهذه الأخيرة عيوناً لا تستجيب إلا لمجرد الضياء والظلام فحسب.

وكذلك الأمر لدى بعض الفقاريات الدنيا التي عيونها ليست أفضل حالاً من سابقتها. ولكن لمعظم الفقاريات عيوناً نامية راقية لا تمكن من التمييز بين الضياء والظلام فحسب بل بين الأشكال المختلفة أيضاً، حتى الألوان المتباينة في كثير من الأحيان. ولايخفى ما تتيحه هذه الإمكانات المختلفة من سبل متنوعة للاتصال الحيواني. ولعل الأمثلة القليلة التالية توضح مدى استخدام الحيوانات للإشارات البصرية في اتصالاتها. فلقد طور العديد من ذكور السرطان مخالب وأرجلاً ساطعة الألوان تُرْهِب بها منافسيها، كما تغري بها إناثها أيضاً. وكذلك تستخدم ذكور العناكب والطيور لواحقها في أوضاع متقنة ومناورات راقصة بقصد تحديد هوياتها وجنسيتها. ولا تقل الثدييات في هذا المضمار براعة، فالكلاب والقرود تستخدم تعابير الوجه في الإعلان عن استعداداتها العدوانية مثلاً. ويمكن استخدام كامل الجسم إشارة بصرية، كما هي حال بط الرنكة herring duck الذي يحوم فوق مصدر الطعام معلناً للأفراد الأخرى عن وجود الغذاء.

الاتصال الضوئي لدى الحيوانات ذات النشاط الليلي: يتطلب استخدام الإشارات البصرية، فيما تقدم من أمثلة وغيرها، شيئاً من الضوء حول الحيوان بحيث يقتصر جدواها على النهار.

أما الحيوانات ذات النشاط الليلي والحيوانات التي تعيش في أعماق البحار والمحيطات فقد طورت أعضاء مولدة للضوء تصدر ومضات ضوئية (ملونة أو غير ملونة) محددة التوزيع في مواقعها من الجسم والإيقاع في انبعاثها، مما يجعلها صالحة لاستخدامها إشارات اتصالية.

فهناك كثير من الحيوانات البحرية، ولاسيما تلك التي تعيش في الأعماق، تأتي إلى السطح ليلاً وتولد ضوءاً ينبعث من أعضاء ضوئية متطورة ذات عدسات تركز الضوء وتزيده سطوعاً. وقد تومِض هذه الأعضاء بإيقاعات مميزة لأغراض التعريف بالنوع والجذب للجنس.

ومن أمثلة ذلك بعض الحشرات التي تعيش على اليابسة والديدان البحرية والأسماك العظمية، مع العلم بأن هذه الأسماك لا تصعد إلى السطح بل تولد الضوء وتستخدمه في الأعماق.

والمعروف أن الضوء الذي تنتجه الأعضاء المولدة للضوء إنما ينجم عن فعل إنظيم يدعى «لوسيفراز» luciferas في ركيزة substrate تدعى «لوسيفرين» luciferine في حال وجود الأكسجين والماء. وقد أمكن تحديد البنية الكيمياوية للوسيفرين، على الأقل، فوجد أنها تختلف من حيوان إلى آخر، كما تختلف كذلك طبيعة العناصر الأخرى المشتركة في التفاعلات الضوئية.

الجمل السمعية: تشارك الإشارات السمعية (الصوتية) الإشارات اللمسية بعض خصائصها. ولما كان الصوت يمثل حركة آلية في الوسط فإنه يمكن للأعضاء اللمسية عند بعض الحيوانات أن تستقبله. ولكن ما يسمى صوتاً حقيقياً هو ذاك الذي يجري استقباله في أعضاء خاصة للسمع. وتعتمد الحيوانات ذات الأعضاء السمعية الراقية على الأصوات في اتصالاتها إلى حد كبير. ولعل ما يميز الأصوات أنها تُستقبل من بعيد، وأنها اتجاهية المسار بحيث توفر إمكانية التعريف بموقع مصدر الصوت إلى جانب مدلوله. ويمتاز الصوت من الضوء بقدرته على الالتفاف حول الحواجز، فلا تعيقه تلك الحواجز. وتكون الاتجاهية الصوتية على أشدها في التواترات العالية. كما تتمتع الأصوات بطيف واسع من التواتر والشدة والطراز. ويسمح هذا التنوع بفروق نوعية هائلة يمكن استخدامها في الاتصال الحيواني على نحو كبير الجدوى. ويمكن للأصوات، علاوة على ذلك، أن تكون مرحلية عابرة، بمعنى أنها تظهر فجأة وتختفي فجأة، ومن ثم تسمح بتوقيت دقيق يصلح لترميز المعلومات ترميزاً دقيقاً.

إصدار الأصوات: هناك عدة طرائق تولد بها الحيوانات الأصوات التي تستخدمها في الاتصال. ولئن كانت كل فعاليات الحيوان، من بلع ومشي وطيران، تولد أصواتاً عابرة، إلا أن هذه الأصوات لا تزيد على كونها تسهم في الضوضاء العامة للوسط، وقلما تحمل سمات بيولوجية بمعنى الإشارة الاتصالية. ولكن مع ذلك، هناك حيوانات تستخدم هذه الأصوات لأغراض اتصالية. فمثلاً يجذب صوت أجنحة أنثى البعوض ذكورها بهدف التزاوج. أما معظم أصوات الحشرات فإنها أصوات قرع يولدها النقر على جسم ما أو حك بنى مشطية الشكل بعضها ببعض. وفي هذه الحالة الأخيرة يمكن لبعض الحشرات أن تولد أصواتاً ذات جرس موسيقي نوعاً ما. أما في الفقاريات فإن بعض الأسماك يولد الصوت باهتزاز كيس مملوء هواء، وبعضها الآخر يفرك أجزاء من هيكله العظمي ليولد صوتاً. كما أن الثدييات تستخدم حبالاً صوتية تهتز بفعل تيار هوائي متحرك، وأن الطيور تستخدم حجرات وأعمدة هوائية تتجاوب بالطنين. ويجري تحوير الأصوات في أثناء مرورها في حجرات جوفاء، أو في الفم الذي يقويها أو يضعفها فيتيح تنوعاً هائلاً في نماذجها.

استقبال الأصوات: يتم استقبال الأصوات في تشكيلة كبيرة من الأعضاء. فهناك العديد من الحيوانات الدنيا تستقبل الأصوات بالأعضاء اللمسية في الجلد. إلا أن الحيوانات التي تستخدم الأصوات في الاتصال على نحو مميز فإنها تمتلك مستقبلات خاصة بالصوت وحده.

فذكور البعوض مثلاً تستخدم قرون استشعارها المكسوة بأشعار دقيقة، إذ يقوم عضو خاص بصلي الشكل عند قواعدها يدعى عضو جونستون Johnston's body باستقبال الاهتزازات الصوتية. كما أن للجنادب grasshoppers آذاناً على جانبي الجسم، في حين يمتلك الزيز cicada والجدجد cricket آذاناً مشابهة في الأرجل، ويمتلك العث moth آذاناً راقية متخصصة على صدره، وربما أمكن عد هذه الأعضاء آذاناً بحق، إذ إنها لا تكتفي بالتقاط الصوت فحسب، بل تميز أجزاءه المهمة من ضوضاء الوسط.

وإذا استعرضت الفقاريات وجد أن لها كذلك آذاناً متخصصة تمكن من تمييز تواتر الصوت وأنساقه الزمنية بحيث تستفيد من تشكيلة واسعة من الإشارات الصوتية لغرض الاتصال.

أغراض الاتصال الصوتي: يستحسن البدء بأمثلة من الطيور والثدييات فيما يخص استخدام الإشارات الصوتية في الاتصال الحيواني لما هو مألوف منها. فكثير منا يعد تغريد الطير شكلاً ابتدائياً من الموسيقى يعبر به الطائر عن سعادته وابتهاجه. ولكن صداح الطيور له من الأغراض ما هو أكثر جدية من ذلك بكثير، شأنه في ذلك شأن أصوات الثدييات التي لا تعد أغاني. ففي أغنية ذكر الطير إعلان لباقي الذكور من نوعه في الجوار عن منطقته التي يحميها ويدافع عنها، ودعوة للإناث من نوعه للتزاوج معه. وكذلك الحال مع ذكر للفقمة (من الثدييات) الذي يخص نفسه بأرض في إقليم ملائم للتكاثر ويعلن استعداده للدفاع عنها بزئير مرتفع، وذكر للرئيسات، ولاسيما الغوريلا الذي يضرب بقبضة يده على صدره أو على الأرض ويزمجر زمجرة قوية معلناً عزمه على الدفاع عن حماه.

وفي غرض آخر من أغراض الاتصال يُطْلِق الطائر أصوات تحذير لباقي أفراد النوع إذا ما رأى خطراً، أو يشترك أفراد المجموعة في صياح جماعي لإرباك الحيوان المفترس. وليست الثدييات أقصر باعاً في استخدام الأصوات للتحذير، من بعيد. فالموظ moose والإلكة elk والأيل تُطْلِق خُواراً قوياً عندما تفلت من ساحة الخطر، كما يبعث الشمواه الأوربي بصفير تحذيري، وكذلك العديد من الرئيسات مثل القرود ومنها البابون baboon التي تنبح عند الطوارئ، حتى الزرافة التي تلزم عادة الصمت تعلن عن حالة الخطر بصهيل أو مأمأة حادة. أما الجرذان والفئران التي تعيش في مجموعات كبيرة متخلخلة التماسك فإنها، وإن بقيت منفصلة (فيما عدا وقت التكاثر)، تطلق عند الخطر نداء كرب من طبيعة فوق صوتية لا يسمعها الإنسان بل يسمعها أفراد نوعها فتعدو إلى أوكارها مسرعة.

وفي غرض ثالث من أغراض الاتصال يطلق نورس الرنكة herring gull والحجل المقوقي أو شقر chukar partridge وقرد الجيبون gibbon وغيرها نداءات خاصة للدلالة على موقع الطعام.

وفي غرض رابع وحيوي يستخدم ذكر الطير الغناء في اجتذاب الإناث. ولما كانت نماذج أغاني الطيور عاملاً محدداً في لقاء الجنسين، فإنها تؤسس مجموعات منفصلة ضمن النوع الواحد، فتؤدي دوراً مهماً في تطور الطيور وتنوعها. أما بين الثدييات فيذكر ذكور الهر والنمر والأسد والعديد من الحافريات Ongulata التي تستخدم الأصوات في اجتذاب الجنس الآخر.

ولئن كان المقام لا يسمح بالخوض في تفاصيل استخدام الإشارات الصوتية عند باقي المجموعات الحيوانية فإنه يكتفى بذكر نقيق الضفادع بأنواعه المختلفة وقباع بعض أنواع السمك وزئير بعض التماسيح وفحيح بعض العظايا. كما يذكر صرير الزيز والجندب والجدجد الذي يعد لغة للاتصال تعتمد تواتر النبضات الصوتية في الأغراض السلوكية المختلفة.

الجمل الكهربائية: إن لبعض الأسماك مستقبلات تستشعر بها الوسط بالاستناد إلى خصائص الإشارة الكهربائية. وتستطيع هذه الأسماك المولدة للنبضات الكهربائية أن تتعرف ما يدور في الوسط الذي تعيش فيه من اختلاف الناقلية الكهربائية لعناصر ذلك الوسط، كما تستطيع استخدام تلك الأعضاء المولدة للكهرباء والأعضاء المستقبلة الكهربائية في أغراض الاتصال فيما بينهما. فالمعروف أن الأنقليس الكهربائي electric eel يطلق أرتالاً من التفريغات الكهربائية تجذب إليه الأقران من نوعه. فإذا وضعت مثل هذه السمكة بمعزل عن أقرانها فإنها تبث إيقاعاً معيناً من النبضات الكهربائية ساعات طوالاً وربما أياماً، ولكن الإيقاع سرعان ما يتغير بوضوح عندما يدخل الوسط قرين يقترب منها حتى مسافة 20ـ30 سنتمتراً. وما هذا التآثر بينهما إلا وسيلة لتبادل المعلومات بينهما، وكأنه يمكن القول بأن مثل هذه الأسماك إنما يتصل بعضها ببعض بالإشارات الكهربائية، ولإيضاح هذا القول يذكر أن سمكة المورميريد mormyrid مثلاً تطلق نسقاً نمطياً من التفريغ الكهربائي في أثناء الأكل، فإذا ما تلقت سمكة أخرى من نوعها هذه الإشارة فإنها سرعان ما تبدي استجابات حركية وكهربائية خاصة بتناول الطعام.

تطور الاتصالات الحيوانية مع التطور النوعي phyllogenic والتطور الفردي ontogenic: من الواضح أن إشارات الاتصال بين الحيوان تطورت على نهج تطور البنى والفعاليات المختلفة لدى الحيوانات. لكنه لا يعرف إلا القليل عن هذا التطور لعدم إمكان العثور على مستحاثات للسلوك مثلما أمكن العثور على مستحاثات للأسنان والعظام قدمت بدورها إطاراً لأفكارنا عن الماضي البنيوي للحيوانات. فلا يملك المرء إذاً إلا أن يؤول ما يراه حاضراً من السلوك. وباستقراء مايراه، يبدو أن إشارات الاتصال تنشأ عادة على شكل حركات غرضية متحورة؛ بمعنى أن الحيوان عندما يقوم بحركة ما فإنه يهدف إلى غرض ما، ثم تغدو هذه الحركة بالتدريج إشارة يستفيد منها أقرانه، كما يغدو تسلسل الحركات وطرازها نموذجاً نمطي التجسيم هادفاً وقابلاً للتوريث على مستوى النوع الحيواني الواحد. إلا أن ما يرثه الصغير من هذه النماذج الاتصالية والسلوكية مرهون في أدائه بالتوقيت  المناسب الذي تكتمل عنده أسباب الأداء. فأساريع الفراشات مثلاً لابد أن تنتظر ظهور الأجنحة حتى تقوم بأداء الإشارات الجنسية التي تؤديها الفراشات البالغة. ولئن أمكن توريث نماذج الترميز الاتصالي النمطية النوعية، فهناك جانب يتعلمه فرد الحيوان في أثناء نموه ويكون غير قابل للتوريث. وهكذا يسهم في الأداء الاتصالي مُكَوِّنان اثنان: أولهما مبدئي وراثي، وثانيهما فردي اكتسابي. ويختلف وزنا هذين المكونين بين نوع وآخر، أو بين مجموعة حيوانية وأخرى. فالسمك البالغ يؤدي إلى نموذج سلوك النوع بشكله الكامل حالما تتوافر الأسباب البنيوية لهذا الأداء دونما مران أو تعلم، في حين يتدخل عامل الاكتساب في صوغ الأداء الاتصالي عند بعض الطيور على نحو ملحوظ.

زياد القطب

مراجع للاستزادة:

- Klaus Immelmann, Geizmek's Encyclopedia of Ethology (English Edition, Van Nostrand Reinholde Ltd, London 1977).


التصنيف : علم الحياة( الحيوان و النبات)
النوع : علوم
المجلد: المجلد الأول
رقم الصفحة ضمن المجلد : 254
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 557
الكل : 29621120
اليوم : 1130

كارلفلت (إريك-)

كارلفِلت (إريك ـ) (1864 ـ 1931)   ولد الشاعر إريك آكسِل كارلفِلت Erik Axel Karlfeldt في بلدة فولشِرنا Folkärna في مقاطعة دالانا Dalarna وسط السويد، إحدى أجمل مناطق البلاد وأغناها بالفن والتاريخ، لعائلة من البرجوازية الصغيرة ومالكي الأراضي أعلنت إفلاسها عند تخرج ابنها الشاب في المدرسة الثانوية ما ترك أثراً باقياً في نفسه. درس بعد ذلك في جامعة أُبسالا (1892ـ1898) Uppsala وكانت أطروحة تخرجه عن الكاتب الإنكليزي هنري فيلدنغ H.Fielding.
المزيد »