logo

logo

logo

logo

logo

الحياة (أصل-)

حياه (اصل)

Origin of Life - Origine de la vie

الحياة (أصل -)

 

يتعلق الموضوع بذلك الخيط الجوهري الضام الذي نُسِجَ في طبيعة نظامية، إنه الحياة، ولابد لفهمه من معالجة السُّدى، واللُحمة والتلوين، والصياغة، بل الصور في هذا النسيج الحيوي المتطور، ولفهم عملية النسج، لابد من وجود النسّاجين، وخيوط النسيج معاً. وهو علم يتسم بالنضج، ولا يحمل أي اتجاهـات أنانيــة، كعلم الحياة (الحياتيات)، الطفل الحدث القوي الذي لم يبلغ من الكبر عتياً بعد. إن الصفة الفريدة المميزة لهذا العلم بالمقارنة بأشقائه، الأكبر منه سناً، هو أنه علم تبنّى التكامل فعلاً، ولم يكن منذ نشأته منغلقاً على نفسه.

كل ذلك في سبيل الوصول إلى خيط الحياة ومعرفة كيفية منشئه وتكوينه لنسيج الحياة بكل معانيها، ومعرفة القوى النظامية التي ساعدت على نسجه بهذه الحكمة والدقة والانتظام والإبداع، يريد العالم أن يصل إلى الحقيقة لأن الحقيقة ليست زيفاً ولا خداعاً.

أصل الحياة

يعد أصل الحياة واحداً من أكبر الأسئلة التي طرحها الناس على أنفسهم منذ إدراكهم. ولآلاف من السنين، كانت الإجابات الممكنة لمثل هذا السؤال أسطورية (خيالية) أو دينية. ومع ظهور الحضارة الإغريقية، كان رد الفعل العلمي القائم يعتمد على الملاحظة. فقد تصور أرسطو عملية توالد تلقائية، وطبقاً لها، ومن وجهة نظره، فإن الضفادع وُلدت من الطين. وفي هذه الأيام إن مقولة من هذا النوع تكون مدعاة للابتسام (أو السخرية)، ويجد الإنسان نفسه مدفوعاً أن يرى فيها برهاناً على الافتقار إلى حسن استخدام ملَكَة التمييز. وبدلاً من ذلك، يجب أن يراها المرء برهاناً على الصعوبة الكبيرة في مباشرة الطريقة التجريبية، حينئذ واليوم. وعلى الرغم من ذلك، فإن أرسطو كان واحداً من أعظم العلماء في تاريخ البشرية، و كان في مقدرته أن يجري تجربة يأخذ فيها عينة من الطين الذي لا يوجد فيه بيض ضفادع مخصب ويتأكد أنه لفترة ممتدة من الزمن، لن تأتي ضفدعة لتضع بيضها على العينة. وفي القرن السابع عشر، كان التوالد التلقائي للضفادع والعقارب مازال مقبولاً بحسب «فان هلمونت». وبمرور الوقت، فإن التوالد التلقائي طبـق بعد ذلـك فقط على «الجراثيم»، وكان على الإنسان أن ينتظر حتى القرن التاسع عشر  بمجيء باستور Pasteur ليبرهن على أن التوالد التلقائي للكائنـات الدقيقة كان في حد ذاته نتيجة لخطأ تجريبي.

وغالباً ما قيل إن نظرية التوالد التلقائي قد ذهبت بعيداً بالتأكيد نتيجةً لتجارب «باستور». لا شيء يمكن أن يكون أبعد من الحقيقة، فقد هجرت نظرية أن الكائنات الدقيقة تتوالد تلقائياً، من الهواء أو البخار غير المرئي، بالفعل بعد «باستور»، لكن تجاربه مع كل ذلك أوضحت أن الانتقال التلقائي من اللاحي إلى الحي، كان أمراً مستحيلاً، أو أنه لم يحدث أبداً على أي حال. إن رفض مثل هذا الفرض يقود بالضرورة إلى استحالة طرح السؤال عن أصل الحياة على الأرض بطريقة علمية. وإذا ما رفض التوالد التلقائي فسيكون هناك فقط شرحان ممكنان لوجود الحياة على الأرض هما الشروح الأسطورية (الخيالية) والدينية، التي تقول إن الحياة جاءت نتيجة خلق طوعي من قبل كائن فوق الوجود المادي. والشرح مختلف كيفياً في كونه يؤدي إلى السؤال نفسه، ويقرر بأن الحياة موجودة على الأرض، لأن الحياة كالمادة كانت دائماً موجودة في الكون.

في هذه الظروف، فإن الحيـاة على الأرض تكون نتيجة لعملية بذر بذور الحياة التي جاءت في الأصل من مكان آخر. وقد دافع عن هذه النظرية التي تسمى بانسبيرميزم Panspermism كل مـن «ارهينيـوس» و «كلفن» في نهاية القرن التاسع عشر. ولا يمكن الدفاع عن هذه النظرية اليوم لأن كل شيء قد أدى إلى استنتاج أن الكون قد مر في ماضيه الغابر بأطوار تميزت بشروط فيزيائية لا تتفق مع وجود أي شكل من أشكال الحياة.

يدافع بعض الباحثين المعاصرين من أمثال هويل Hoyle، وكريك Crick، وأورجل Orgel عن شكل حديث لنظرية البانسبيرميزم إذ مازالوا يعتقدون أنه كان هناك إخصاب أولي للأرض، ولكنهم لا يرفضون فكرة أن الحياة نفسها كان لها أصل. وبالنسبة لهؤلاء الباحثين، فإن هذا الأصل لم يحدث على الأرض ولكنه حدث بمكان آخر في الكون. إن نظرية البانسبيرميزم في صورتها الحديثة لا يمكن دحضها، ولكن هذا لا يبرهن بأي طريقة على أنها ذات أساس جيد. على أي حال فإن الوجود غير المحتمل لبانسبيرميزم ابتدائي لا يغير جوهرياً طبيعة المشكلة. لقد ظهرت الحياة على الأرض أو في مكان آخر من تأثير آلية تتضمن أن الحياة إذا لم تكن خلقت من قبل الخالق، فإنها يمكن أن تكون فقط نتيجة توالد تلقائي. وبهذه الطريقة سوف يؤخذ التوالد التلقائي من وجهة نظر مختلفة تماماً عن طريقة  أرسطو أو فان هيلمونت. لفهم الانتقال التدريجي من اللاحي إلى الحي. وفي أثناء تناول هذا الموضوع، تتضح السمات المفاهيمية المصاحبة لدراسة مشكلة من هذا النوع.

في هذه الأزمان المبكرة عندما كانت الأرض آخذة في التشكل، فإن مقادير هذه الظواهر الديناميكية كانت أكثر بكثير مما هي عليه اليوم، خاصـة، أن الانفجارات البركانية كانت عنيفة جداً. ونتيجة لذلك انبعثت الغازات البركانية من الوشاح، وساعدت على تكوين الغلاف الغازي حول الأرض. وفي هذه المرحلة المبكرة  (في الخمسة بلايين سنة الأولى) كان التنامي بالالتحام يأخذ مجراه ولكن بمعدل أبطأ. إن الأرض شأنها شأن الأجسام الصلبة كافة (الشمس والكواكب الأخرى، والأقمار الكبيرة) جذبت الأجسام الأصغر التي كانت في مدارات غير مستقرة حول الشمس. ونتيجة لذلك كان هناك قذف شديد (مكثف) للأرض الصغيرة. وقد تميز هذا القذف بدفق من الكويكبات والنيازك والمذنَّبات. وقد طمست علامات هذه التصادمات تدريجياً نتيجة عملية التعرية (التآكل)، والعمليات التكتونية. ويكفي أن يلاحظ الإنسان فقط سطح القمر أو المشتري ليتصور ما كان عليه هذا القذف الابتدائي.

إن الكويكبات والنيازك والمذنّبات التي اصطدمت بالأرض قد تحللت وانبعثت منها غازات وأتربة، وأسهمت هذه الغازات أيضاً في تكوين الغلاف الغازي حول الأرض الذي كان يبرد بالتدريج. وهكذا فإن الضغط السطحي ودرجة الحرارة أصبحا متوافقين مع وجود الماء السائل. ولقد تكاثف الماء الذي كان حتى هذا الوقت في صورة بخار موجود في الغلاف الغازي. وهكذا تكونت المحيطات والبحيرات البدائية، التي حَوَت، على هيئة محلول أو معلّق، الكثير من المعادن المكونة للقشرة الأرضية، وتشكيلة كبيرة من الجزيئات التي كانت موجودة في الغلاف الغازي. وكانت هذه الجزيئات المتعددة أساساً لمواد عضوية أي جزيئات تحتوي على ذرات الكربون مصحوبة بذرات أخرى أهمها الهدروجين، والأكسجين، والنتروجين، والكبريت. وتكونت هذه الجزيئات العضوية نفسها من تفاعلات حدثت في لب الجو الغازي تحت تأثير الأشعة فوق البنفسجية القادمة من الشمس ومن الرياح الشمسية (وهي في الأساس بروتونات معجّلة بشدة)، وأيضاً تحت تأثير التفريغ الكهربي أو الإشعاعات المصاحبة لتحللات النشاط الإشعاعي. كل هذه الجزيئات العضوية تعد باطنية (داخلية) النمو، لأنها جاءت من تفاعلات حدثت في الغلاف الجوي الأرضي. وفي الوقت نفسه، فإن المحيطات البدائية احتوت أيضاً على جزيئات عضوية خارجية النمو، أي تلك التي جاءت أصلاً من الكويكبات والمذنّبات والنيازك. وبهذه الطريقة، فإن البحيرات والمحيطات البدائية أصبحت أماكن خاصة، تتفاعل فيها تشكيلة كبيرة من الجزيئات الداخلية النمو والخارجية النمو. وحتى هذا الوقت، فإن نحو أربعمئة أو خمسمئة مليون سنة قد مرت منذ بداية عملية الالتحام. وتكونت المحيطات البدائية، واستمرت الانفجارات البركانية الشديدة في هز القشرة الأرضية، وتساقطت من السماء، بأعداد أقل، أجسام آتية من بين النجوم والكواكب، ونشطت ظاهرة التعرية من خلال دورة الماء في التبخر والتكاثف، وظهرت حادثة الترسيب.

وعندما كان عمر الأرض بضع مئات الملايين من السنين، كانت الأرض أسخن مما هي عليه اليوم، وكانت الانفجارات البركانية أكثر شدة، وكان سقوط الكويكبات والنيازك والمذنّبات أكثر تواتراً، وكانت المحيطات تحوي عدداً من الجزيئات المذابة، كما كانت مسرحاً للكثير من التفاعلات الكيميائية، وكان الغلاف الجوي يحوي النتروجين الثنائي N2، وثاني أكسيد الكربون CO2، وبخار الماء، وغازات أخرى بكميات أقل. ويجب أن يلاحظ الإنسان غياب الأكسجين، ونتج من هذا عدد أقل من العناصر الكيميائية في سطوح الصخور البدائية والبركانية، وفي الترسبات الناتجة من تعرية هذه الصخور. إن الإمكانات الكيميائية في المحيطات الأصلية أو الأولى، وفي الجو الأصلي، وفي المصادر الهدروحرارية الأصلية، يمكن محاكاتها مخبرياً. إن قوانين الكيمياء الفيزيائية منذ أربعة بلايين سنة جرت بالطريقة نفسها التي تعمل بها اليوم، وعليه يمكن أن يفترض المرء أن المحيطات الأصلية يحتمل أنها احتوت أغلب الجزيئات المكونة للكائنات الحية أو على الأقل، احتوت على «اللَّبِنات الأولية» التي تكونت منها في البداية هذه الجزيئات. ولتحري الدقة عن طبيعة هذه «اللَّبِنات الأولية»، يجب الرجوع إلى الأحماض الأمينية، والسكريات، وقواعد البيورين والبيريمدين، والأحماض الدهنية والكثير من المواد العضوية الأخرى داخلية وخارجية النمو. فعلى سبيل المثال في نيزك ميرشيسون Murchison، تبرهن الجزيئات العضوية المتعددة التي وجدت فيه على تأثير التخليق اللاحيوي. إن المراحل المتأخرة من التكوين، تجمع اللَّبِنات في جزيئات كبيرة (ماكرو)، والجزيئات الكبيرة في حويصلات أو أكياس صغيرة (مثلاً microsphère لجدرانـها البروتينية) التي يمكن أيضاً محاكاتها في المختبر، ومثل هذه المحاكاة تمنح درجة مرضية من المعقولية في هذه المراحل. وهكذا يمكن للمرء أن يتخيل دونما صعوبة كبيرة، البحيرات الأصلية والمحيطات المحتوية على القطيرات الصغيرة والحويصلات العضوية في صورة معلَّق. ويمكن أن يتخيل المرء كذلك وجود مواد طبقية كالطين أو المواد المسامية الصغيرة مثل الزيوليت (مجموعة من السيليكات المائية) المحتوية على المادة العضوية ممتصة فيما بين الطبقات أو في المسام.

وتكتسب بعض هذه النظم خصائص الكائنات وحيدة الخلية في عملية التنظيم الذاتي. وقد تحقق الانتقال من اللاحي إلى الحي.

لقد قُصد الإيجاز في الفقرة الأخيرة لتجعل الناس يقفزون كلياً القفزة الشاسعة في التعقيد (التركيب) التي تفصل النظم اللاحية الشديدة التعقيد (التي يتم تحضيرها في المختبر) عن أبسط الكائنات الحية وحيدة  الخلية التي عاشت في المحيطات القديمة، إلا أن بعضاً منها يتم بوساطة عامل مساعد، أي إنها تحدث بمساعدة جزيئات أخرى موجودة بالفعل. ومن ناحية أخرى فإن نتيجة المصادفة تتميز بدرجة عالية من التنظيم الفراغي والزمني.

فالتحول من الشكل اللاحيّ للمادة إلى الشكل الحيّ يتضمن بالتأكيد عمليات مساعدة أشد تأثيراً. وغالباً ما تعمل الإنزيمات في الكائنات الحية المعاصرة عوامل مساعدة. والإنزيمات نفسها موجودة لأن المعلومـات الضرورية لتخليقها موجودة هنـاك أيضاً في صورة الدنا (DNA Desoxyribo Nucleic Acid). وأي اعتبار للتحول من اللاحيّ إلى الحيّ لا يمكن أن يمنع السؤال الخاص بالبيضة والدجاجة على المستوى الجزيئي! وبتعبير آخر: هل الإنزيمات سابقة على الدنا أم أن الدنا سبقت الإنزيمات؟ إن السؤال معقد جداً لأنه في الكائنات الحية المعاصرة، يتطلب تخليق الدنا نفسه وجود الإنزيمات. وهناك جزيء آخر يعمل رسولاً ويسمى الرنا (RNA) أي الحمض الريبي النووي، يؤدي دور الحامل، الذي ينقل المعلومات من الدنا إلى الجسيمات الريبية ribosomes، وهي عضيات خلوية تحدث فيها عملية تركيب (تخليق) الإنزيمات. وفي حالات معينة فإن أجزاء من الرنا يكون لها خواص العامل المساعد. وعلى أساس هذه الملاحظات، فإن بعض الكتّاب يتخيلون عالماً حياً سالفاً أدى الرنا في داخله دور الشفرة الجينية والإنزيم في آن واحد، وعلى الرغم من جاذبية هذا الحل فإنه ليس مقبولاً على وجه العموم.

وحتى إذا أخذ في الحسبان هذا الدور التكافئي للرنا، وحتى إذا أخذ المرء في الحسبان أيضاً أن الأزمنة الجيولوجية تسمح باستكشاف عدد من الإمكانيات بسبب طولها، فإن القفزة التي ذكرت سابقاً في عملية التعقيد تظل قفزة كبيرة، بل وكبيرة جداً في رأي الكثير من العلماء. وإذا كان المرء يتعامل مع مولد الشفرة الجينية أو حتى مع الطاقة الجزيئية، أو إذا كان يتعامل مع ظهور الأغشية الدهنية أو مع اكتساب النظم لنمط التمثيل الضوئي، كل هذه المراحل تفرض مشكلات صعبة جداً. ومن الممكن (بل حتى من الضروري) ألا ينظر للعمليات التي أدت إلى ظهور كل هذه الإمكانات آنياً. إن الآنية الكاملة غير محتملة. وعلى الرغم من  ذلك، إذا كانت هناك بعض هذه الإمكانات فقط في لحظة معينة في مكان معين في قلب عضو ما قبل حي، لكان من الضروري أن ينقسم هذا العضو الافـتراضي «قبل الحي» وينقل إمكانياته إلى المتحدرين من سلالته.

وهكذا، يحتمل الاعتقاد بأن تكوين الشفرة الجينية الأولية هو مرحلة مبكرة لا مفر منها. ومع ذلك، فما هي فائدة استخدام مثل هذه الشفرة إذا كانت الطاقة لم تتم السيطرة عليها، ولا يمكن تخزينها واستعادتها عند الضرورة؟ ماذا سيكون العائد من مثل هذه الشفرة من دون عامل مساعد من النوع الإنزيمي؟ وهكذا يعود المرء سريعاً إلى الضرورة المباشرة لآلية آنية ما في ظهور عدد من الخواص الأساسية للحياة.

وإذا كان المرء يوافق على مواجهة مشكلة الآنية، فيجب أن يكون مستعداً، على الأقل جزئياً، أن يدع جانباً الطريقة المختزلة، هذه العبارة الأخيرة أكثر قسوة مما يعتقد المرء. إن جوهر التقدم العلمي في القرن العشرين يتصل بالسيادة الأعظم والأبدية للطريقة المختزلة. ومن الضروري أيضاً ملاحظة أن الطريقة الشاملة (القدسية) قد اكتسبت اعترافات جديدة بمكانتها الرفيعة في السنوات الأخيرة وتأخذ هذه العناصر في الحسبان، ليبدو من المؤكد اليوم أن السؤال عن أصل الحياة لا يمكن إجابته من الطريقة المختزلة على وجه التحديد.

إن الانتقال من اللاحيّ إلى الحيّ يتضمن بوضوح تطوراً في الزمن. إن أيّ استفهام عن أصل الحياة، يجب بالتالي أن ينحصر في أفق تطوري، ويمكن للمرء بحق أن يجعل داروين Darwin مرجعاً هنا، فهو الذي تصور بوضوح تطور ما قبل البيولوجي، وقد حدث ذلك قبل  أوبارين Oparine أو هالدان Haldane بكثير.

يمكن أن يوصف هذا التطور ما قبل البيولوجي بأنه تطور فيزيائي - كيميائي، وكيفيات حدوثه مختلفة عن تلك الخاصة بالتطور البيولوجي. ويأتي دور التطور البيولوجي عندما يكتسب عضو أو كائن حي شفرة بدائية قابلة للتعديل بوساطة التغير الإحيائي أو لبعض الآليات الأخرى. إن التطور البيولوجي يبدأ مسرعاً عندما يعمل الاصطفاء الطبيعي لصالح الكائنات ما قبل الحية التي تكيفت بطريقة أفضل. وإذا قبل المرء الانتقال من اللاحيّ إلى الحيّ بعملية تنظيم ذاتي، فبالطبع يكون من الضروري أن يقبل حلاً يحوي استمرارية بين تطور فيزيائي-كيميائي يعمل وحده عنـد مسـتوى «اللاحي المطلق»، والتطور البيولوجي الذي يعمل وحده عند مستوى «الحي المطلق». وليس هناك صعوبة فكرية في تصور هذا الانتقال على أساس المعرفة المعاصرة لعلم الأحياء الجزيئي والآليات الجزيئية للتطور البيولوجي.

إن التطور الفيزيائي- الكيميائي والتطور البيولوجي هما من سمات تطور المادة على الأرض، ومن هذا اللانظام الابتدائي ولدت المادة والطاقة.

إن نظاماً مفتوحاً بعيداً عن الاتزان يمكن أن يظل في حالة مستقرة لزمن طويل، ولكنه يمكن أيضاً أن يغير حالته بسرعة بعد حدوث اضطراب صغير. إن التحام النظام الشمسي، والانتقال من اللاحيّ إلى الحيّ، وبعض المراحل في التطور البيولوجي الكبير، ربما يكون قد نتج من عمليات من هذا القبيل.

إن نظاماً مفتوحاً في حالة عدم اتزان يظهر تصرفات من النوع اللاخطي. وهذا يعني، أولاً وقبل كل شيء أنه إذا عدَّل المرء، ولو تعديلاً صغيراً فقط، انسياب المادة والطاقة بين النظام وبقية الكون، فإن النظام الذي كان حتى هذه اللحظة في حالة تسمى مستقرة، يمكن أن يمر فجأة بحالة أخرى تكون أيضاً مستقرة ولكنها مختلفة عن الأولى. بل إن المرء يعجز عن التنبؤ بما ستكون عليه هذه الحالة الجديدة، فهناك عدم اتصال في التطور. وبعبارة أخرى، فإن التغير يحدث في مدة زمنية قصيرة جداً بالمقارنة باستمرارية الحالة الابتدائية المستقرة.

ولكن السؤال المطروح: هل العلاقة بين الجزيئات البسيطة التي شوهدت، وبين الجزيئات المركبة، مثل الحموض الأمينية والأسس النووية التي تم التعرف عليها في بعض الأجرام السماوية، هي علاقة سببية حقيقية أي علاقة علة ومعلول؟.

تعد الإجابة على هذا السؤال مفتاح كل تطور في المستقبل بشأن نشأة الحياة وتطورها. وهي التي ستوضح تشكل المركبات البروتينية (بذرة الحياة الأولى) في الماء الذي كان قد احتوى على المركبات العضوية المختلفة، والنشادر، والذي خضع لمفعول الضوء والحرارة والكهرباء، تلك الفكرة التي عرفت باسم : فكرة استمرار الظاهرة الطبيعية المتطورة التي تؤدي من الجزيء إلى مستوى الحياة العضوية، والتي تنطوي ضمناً على معنى الأخوة التي تضم تحت جناحها المادة الحية والمادة غير الحية وبالأحرى أضحت المادة الواحدة لها شكل حيّ وآخر غير حيّ كلاهما يؤول للآخر. لا مجال هنا لمناقشة أصل الحياة ولكن تكفي الإشارة إلى تجربة تدل على مدى النجاح العلمي التجريبي في توضيح بعض الحقائق في هذا المجال. فقد استطاع كورنبرج Kornberg ورفاقه عام 1970 اصطناع جزيئات حمض الدنا في أنبوبة اختبار تعكس صورة بناء النسيج الحيوي الأصلي، كما تمكَّن الفريق نفسه في سنة واحدة باستخدام الفيروس عاملاً مساعداً أو وسيطاً ( يمكن اعتباره حالة انتقالية بين شكلي المادة ) من إنتاج حمض نووي. وليس معنى هذا أنهم توصلوا إلى تكوين صبغي، أو كائن حي، لكنهم قد خطوا خطوة في المسافة الانتقالية بين المادة الحية وغير الحية.

ومع ذلك، فلا يجب أن يستنتج المرء أن طفرات التطور السريعة (عملية التحام النظام الشمسي، الانتقال من اللاحيّ إلى الحيّ، التطور الكبير البيولوجي) متماثلة فيما عدا بعض التفاصيل. إن «الفجأة» على المقياس الكوني و«الفجأة» على المقياس البيولوچي تمثلان فترتين مختلفتين من الزمن. فمقدار الطاقة المطلوبة، في التطور الكوني تختلف عنها في الانتقال من اللاحيّ إلى الحيّ. والطريقة الاختزالية فقط تمكّن المرء أن يقفز فوق هذه الاختلافات. ومن الضروري أن يحتمي المرء ضد اتجاه التخليق وجعل الأشياء كلية. وبالمقابل لا يمكن أن يتعامل الإنسان مع مشكلة أصل الحياة بوسائل ترجع كلية للمنهج الاختزالي، دون أن يهتم بالبحث اللانهائي عن مرحلة إضافية، فالرغبة في إيجاد الاستمرارية حيث اللااستمرارية هي بالتأكيد القاعدة وليست الاستثناء.

سعيد محمد الحفار 

مراجع للاستزادة:

 

ـ سعيد محمد الحفار، الحياة كيف نُسِجَتْ في نظام الطبيعة، ولماذا ظهر الإنسان بعد النبات الأخضر؟ (وحدة الدراسات البيئية، جامعة قطر 1996).

ـ سعيد محمد الحفار، كتاب الطبيعة والنفس البشرية (هيئة الموسوعة العربية 2002).

ـ سعيد محمد الحفار: هندسة الأحياء وبيئة المستقبل (قطر 1985).

- Paul  Duvigneau. Marcel Homes, Germain Van Schoor. L‘Origine de la vie (1996).

 


التصنيف : الزراعة و البيطرة
المجلد: المجلدالثامن
رقم الصفحة ضمن المجلد : 688
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 519
الكل : 29641464
اليوم : 21474

سيفاك (باروير-)

سيفاك (باروير ـ) (1924 ـ 1971)   باروير غازاريان Barouyr Ghazarian هو الاسم الحقيقي للشاعر والناقد والمترجم الذي  اشتهر باسمه المستعار باروير سيفاك Barouyr Sevag، وهو من أشهر وأبرز الشعراء الأرمن. ولد في قرية سوفيداشين التي سميت تيمناً باسمه سيفاكافان Sevagavan.
المزيد »