logo

logo

logo

logo

logo

شرنوبل (كارثة مفاعل-)

شرنوبل (كارثه مفاعل)

Chernobyl disaster - Catastrophe de Tchernobyl

شرنوبل (كارثة مفاعل ـ)

 

يعتمد توليد الكهرباء من الطاقة النووية في الاتحاد السوفييتي السابق على مفاعلات الماء المضغوط pressurized water reactor ومفاعلات RBMK، والتسمية هذه مأخوذة من الحروف الأولى من Reactor Bolshoi Moschnosti Kipyashy أي المفاعلات المغلية ذات الطاقة العالية، لأن قدرتها التوليدية للكهـرباء تراوح بين 1000ميغاواط حراري أو 1500ميغاواط حراري. 

الشكل (1) مخطط المفاعل

يتميز هذا النوع من المفاعلات بالدارة المباشرة والدوران القسري، وهي مبردة بالماء المغلي والمهدأة بالجرافيت، وقودها من نوع ثاني أوكسيد اليورانيوم المنخفض التخضيب والمغلف بخليطة الزركونيوم. ويتألف المفاعل من كتلة هائلة من الجرافيت وزنها 1700 طن وفيها 1872 قناة تحوي 1661 قناة منها أنابيب الوقود تحت ضغط مرتفع، و211 قناة الباقية تستقر فيها قضبان التحكم. يبين الشكل (1) رسماً تخطيطياً لهذا النوع من المفاعلات.

تقسم دارة التبريد في هذا النوع من المفاعلات إلى حلقتين تغذي كل منهما نصف المفاعل، يفصل البخار المتولد عن الماء في أسطوانة البخار ويغذي مباشرة زوجاً من العنفات (التوربينات) لتوليد الكهرباء. يتميز هذا النوع من المفاعلات أيضاً بأنه يمكن إعادة شحن الوقود واستبداله من دون الحاجة إلى إيقاف المفاعل عن العمل، مما يساهم في الاستفادة القصوى من الوقود مخفض التخضيب. ويساعد تصميم الأقنية بهذه الطريقة على مراقبة كل قناة وقود على انفراد، ويسهل تصليح الأعطال عند حدوثها. وحتى وقوع الحادث كانت ميزة هذا المفاعل التي يفتخر بها المصمم، تعتمد على استقلالية أنابيب الوقود بعضها عن بعض مما يعني استحالة فقدان ماء التبريد من قلب المفاعل.

الشكل (2) خريطة أوكرانيا وموقع شرنوبل

 

تقع محطة شرنوبل لإنتاج الطاقة الكهرنووية في منطقة بريبيات Pripyat التي تبعد 16كم إلى الشمال الغربي من مدينة شرنوبل، وعلى بعد 120كم شمال مدينة كييف عاصمة أوكرانيا (الشكل رقم 2). وتتألف المحطة من أربعة مفاعلات، تبلغ استطاعة كل منها 3200 ميغاوات حراري، وينتج كل منها استطاعة كهربائية قدرها 1000 ميغاوات، والاستطاعة الكلية للمحطة من الطاقة الكهربائية تساوي 4000 ميغاوات. وتؤمن المفاعلات الأربعة في المحطة 10% من حاجة أوكرانيا من الكهرباء.

بدأ بناء هذه المفاعلات في شرنوبل عام 1970 (أنجز المفاعل الأول عام 1977 والثاني عام 1978 والثالث عام 1980 والرابع عام 1983) وكان هناك مفاعلان إضافيان قيد الإنجاز في الموقع عند وقوع الحادث.

عند الساعة 13.05 من يوم 25 نيسان 1986 كانت الوحدة الرابعة من المحطة تعمل بانتظام، وكان من ضمن الخطة إجراء اختبار على مجموعة المولد ـ العنفي بهدف التحقق من كفاءة تعديلات أدخلت على دارة التحكم بالمولد. يفيد هذا التعديل في استمرار إنتاج الطاقة الكهربائية أثناء فترة تباطؤ العنفة نتيجة انقطاع التغذية من شبكة التوزيع، وهذا يعني إمكانية الاستفادة من هذه الطاقة في تشغيل مضخات الطوارئ ريثما تقلع مجموعة التغذية الاحتياطية (العاملة بالديزل) في الموقع. وكان الاهتمام منصباً أثناء الاختبار على المولدة والنظام الكهربائي من دون الاكتراث بأمان المفاعل والإجراءات الاحترازية التي تحتاج لترخيص من سلطات الأمان النووي.

في أثناء التجربة طلبت إدارة كهرباء كييف الدعم بالتغذية، فتوقف الاستمرار بالاختبار لعدة ساعات نظراً لهذا الطلب مع بقاء طاقة المفاعل عند مستوى أدنى من التشغيل النظامي. في الساعة 23.10 عاد المشغلون إلى متابعة الاختبار. وتم، حسب البرنامج، تخفيض الطاقة الحرارية إلى 700-1000ميغاواط (الطاقة الحرارية لمثل هذا المفاعل هو 3200ميغاواط) ولكن بسبب خطأ ارتكبه أحد المشغلين انخفضت الطاقة إلى 30ميغاواط حراري. ولما كان  هذا النوع من المفاعلات يتميز بعدم الاستقرار وصعوبة الإدارة عند الطاقة دون 700 ميغا واط حراري، حاول المشغل عند السـاعة الواحدة من صباح 26 نيسان 1986 تحقيق استقرار الطاقة يدوياً حول 200ميغاواط، وللوصول إلى هذا الحالة تم رفع قضبان التحكم من القلب إلى مستوى أعلى من المسموح به، فأدى هذا الإجراء إلى مزيد من عدم الاستقرار، وإلى تخفيض كفاءة نظام إيقاف تشغيل المفاعل. وكان يجب في مثل هذه الحالة عدم الاستمرار في التشغيل، غير أن عدم توافر نظام آلي يمنع الاستمرار في مثل هذه المفاعلات لم يوقَف المفاعل. ونتيجة لذلك ولامتصاص الحرارة الزائدة جرى ضخ كمية كبيرة من ماء التبريد مما أدى إلى تغير النسبة المقبولة (بخار/ماء) في دارة المفاعل. وللتخلص من الماء الفائض زيد في سرعة الجريان فنقص الحمل الحراري لماء التبريد وارتفعت درجة حرارة قلب المفاعل.

في الساعة 1.23.04 تمكن العاملون من عزل دارة البخار وتخفيض جريان سائل التبريد، مما أدى إلى بدء تشكل البخار ضمن دارة الوقود، ونتج عنه زيادة التفاعلية، وبدأت الطاقة بالازدياد المفاجئ عند الساعة 1.23.31، فتشكل المزيد من البخار. وعند الساعة 1.23.40 ضغط المشغل على زر الإيقاف القسري اليدوي ولكن الاستجابة لم تكن فورية لأن  قضبان التحكم تحتاج إلى زمن للوصول إلى مواقعها.

عند الساعة 1.23.44 وصلت طاقة المفاعل، وخلال أربع ثوان،ٍ إلى قيمة تزيد 100 مرة على طاقته الأساسية، وأدى ذلك إلى تصدُّع العبوات الحاوية على الوقود وتضعضع غلافها نتيجة للحرارة العالية واختلاط الماء مع جزيئات الوقود مولداً بخاراً أدى إلى الانفجار. وكان الانفجار من الشدة بحيث قذف غطاء المفاعل الثقيل بعيداً وأدى إلى انتقال نواتج الانشطار النووي المشعة والملوثات المشعة إلى الجو المحيط في غمامة استمرت عدة أيام.

لابد هنا من التوضيح بأن المفاعل لم ينفجر بمعنى الانفجار النووي كما هي حال القنبلة النووية، بل كان ضغطاً هائلاً أدى إلى انطلاق محتويات القلب المشع إلى البيئة. وقد تمت السيطرة على التفاعل المتسلسل في قلب المفاعل في وقت لاحق بإلقاء كميات من المواد الماصة للنترونات، بالإضافة إلى إلقاء مواد تحيط بقلب المفاعل للحماية من الإشعاعات الصادرة عنه.

النظير

العنصر عمر النصف النشاط الإشعاعي (تيربيكرل)

n137Cs

سيزيوم n30 سنة n85000

n134Cs

سيويوم n2.1 سنة n54000

n131 I

يود n8 يوم n1.760.000

n133Xe

كزينون n5.3 يوم n6.500.000

n99Mo

موليدبلوم n2.8 يوم n168.000

n95Zr

زوركونيوم n64 يوم n196.000

n103Ru

روثنيوم n39 يوم n168.000

n106Ru

روثنيوم n368 يوم n73.000

n140Ba

باريوم n12.7 يوم n240.000

n141Ce

سيريوم n32.5 يوم n196.000

n144Ce

سيريوم n284 يوم n116.000

 n89Srn

سترونتيوم n59.5 يوم n115.000

n90Sr

سترونتيوم n29.2 سنة n10.000

n139Pu

بلوتونيوم n6.600-24.000 سنة n72

الجدول (1) كميات المواد المشعة المطروحة في العينة نتيجة الحادث

كان قد مضى عامان على تشغيل الوحدة الرابعة وقت انفجارها، وحسب مصادر الوكالة الدولية للطاقة الذرية أنه تم إطلاق كميات هائلة من المواد المشعة، (الجدول ـ 1).

يبلغ نشاطها (IEBq=1018 Bq) 1-2 EBq أي ما يعادل (50 مليون كوري (MCi)) عدا الغازات الثقيلة، وتتألف هذه المواد من 30% يود 131 و15% تيليريوم 132 و10% سييزيوم 134 و13% سيزيوم 137 و30% نواتج انشطار أخرى و2% أكتيدات مصدرات جسيمات ألفا.

 

بذلت مساعٍ هائلة وشجاعة لاحتواء انطلاق المواد المشعة إلى الجو والمياه الجوفية، فأسقطت الحوامات ما يزيد على 5000 طن من كاربيد البور والغضار والرمل والرصاص فوق المفاعل مما أدى إلى انخفاض الانطلاق في اليوم الخامس من الحادث بمعدل 90% من قيمته الأولية. ثم ازداد الانطلاق قليلاً بعد ذلك لأن تفاعل الوقود المتبقي أوصل هذه الكتلة إلى درجة حرارة تفوق 2000 درجة مئوية واختراق منتجات التفاعل للطبقات المتراكمة، وظلت الإصدارات المشعة حتى 5 أيار منخفضة، وعلى الرغم من تمكن العاملين من تبريد القلب وتوقيف الإصدارات، فقد بقيت كميات صغيرة جداً من المواد المشعة قابلة للقياس تنطلق لمدة 3 أشهر وتنتشر في أوربا.

لقد كانت الأحوال الجوية أثناء فترة الحادث معقدة نوعاً ما ومتغيرة مما أدى إلى نقل النشاط الإشعاعي إلى معظم أجزاء أوربا، ولاحقاً إلى أجزاء أخرى من العالم. وأدى الضغط الجوي العالي المسيطر على شمال غرب روسيا في اليوم الأول للحادث إلى توجه الجزء الأعلى من الغمامة المشعة إلى البلطيق والدول الاسكندنافية، ثم انقسمت الغمامة المشعة عند وصولها إلى اسكندنافيا إلى ثلاث شعب، تحركت واحدة منها إلى الشرق متجهة إلى الجزء الشمالي من روسيا فاليابان والصين. واتجهت الثانية نحو النرويج وبحر النرويج إلى شمال أمريكا. وأدت الأمطار الغزيرة يوم 28 نيسان إلى هطل جوي مشع كبير في الدول الاسكندنافية، أما الغمامة الثالثة فاتجهت نحو الجنوب والجنوب الغربي. وقد أثرت  الإصدارات اللاحقة في وسط أوربا وألمانيا والنمسا متجهة جنوباً وأدَّت إلى هطل مشع أينما تقاطعت مع مناطق ممطرة.

كان النشاط الإشعاعي للهواء والمواد المنبعثة من التربة في مدينتي بريبيات وشرنوبل يوم 26 نيسان يقضي الاختباء في الملاجئ. وتم توزيع حبوب أملاح البوتاسيوم على السكان للوقاية من اليود 131 وبلغ مستوى التعرض الإشعاعي في بريبيات بعد ظهر السبت درجة عالية جداً (10 msv/h) لذا تقرر إخلاء المدينة ذات الـ 45000 نسمة واستكمل الإخلاء بعد ظهر الأحد.

وخلال أسبوع تم إخلاء المنطقة المحيطة بالمحطة بقطر 30كم إذ بلغ عدد السكان الذي تم إخلاؤهم 35000 نسمة، وأنشئت في مراكز التجمع وحدات طوارئ طبية مؤهلة لأعمال إزالة التلوث الشخصي، وكان قياس الجرعات الشخصية إجبارياً، كما أخذت عينات من الدم واستبدال الملابس الملوثة، وبشكل خاص تم فحص الغدة الدرقية للأطفال، كما تم إخلاء آلاف الأبقار والحيوانات من منطقة قطرها30كم وشملت البيانات التي جمعت من منطقة الحادث أعداد السكان وتوزعهم العمري ومعدل جرعة غاما ومقدار السيزيوم 137 والسترنسيوم 90 الساقط على التربة، كما تم قياس تركيز السيزيوم 137 في الحليب والجرعة الداخلية والخارجية والمتوقعة وبيانات حول جرعة كامل الجسم وجرعة الغدة الدرقية لدى الأطفال والبالغين. وقسمت المنطقة في ضوء ذلك وحسب سقط السيزيوم 137 إلى ثلاث نطاقات، وهي الملوث بأكثر من 40 كوري/كم2 (n1.84MB/qm2) الثاني ملوث بتركيز يراوح بين 14 ـ 15 كوري في الكيلو متر المربع (n555KBq/m2) والثالث ملوث بتراكيز تراوح بين 5 ـ51 كوري/كم2 و(n185-555KBqlm2).

وتم تصنيف المتعرضين للإشعاع من هذا الحادث إلى خمس مجموعات:

ـ عدة مئات من الأشخاص تعرضوا لجرعات إشعاعية عالية مباشرة بعد الحادث.

ـ عمال الطوارئ والمقدر عددهم بـ 8000 عامل.

ـ نحو 100.000 من السكان الذين تم إخلاؤهم من مدينة بريبيات بعد 36 ساعة والمناطق الريفية والواقعة في نطاق المنطقة الممنوعة التي قطرها 30كم.

ـ عدد كبير من السكان بما فيهم العديد من الأطفال الذين تعرضوا لسويات عالية من اليود المشع في المراحل الأولى بعد الحادث.

ـ الناس الذين تعرضوا بشكل مستمر في المنطقة الملوثة وخاصة من السيزيوم المشع.

وقد ظهرت الأعراض الحادة للإشعاع عند 134 عامل من المتعرضين لجرعات عالية، توفي منهم 29 خلال أسابيع كما توفي 14 آخرين في أوقات متباينة بعد ذلك.

إن القلق الرئيسي بعد حادث نووي كبير كهذا هو الزيادة في حالات السرطان بين المجموعة المتأثرة بالحادث، لذا ليس من المستبعد أن يشير العديد من التقارير إلى زيادة الوفيات في المنطقة نتيجة لحادث شرنوبل، ولكن هذه التقديرات تعتمد على المعطيات الأولية والفرضيات التي ليس بالضرورة أن تكون دقيقة، يضاف إلى الإصابات الجسدية ما يمكن أن يعانيه السكان من القلق والضغط النفسي والمعاناة الاقتصادية نتيجة التهجير إلى مناطق أخرى. وإن الأهم هو الدروس المستفادة من هذا الحادث والتي تشمل تطوير نظم الأمان ليس فقط لمفاعل RBMK بل كل أنواع المفاعلات المعروفة، وكذلك تطوير أسس واستراتجيات الحماية الإشعاعية مع الأخذ بالاعتبار المخاطر الإشعاعية والآثار الاقتصادية والاجتماعية والنفسية في السكان.

إبراهيم عثمان

 

 الموضوعات ذات الصلة:

 

الاندماج النووي، المفاعل النووي.

 

 مراجع للاستزادة:

 

- IAEA, Safety series, INSAG-7, the Chernobyl Accident (1992).

- Chernobyl, Assessment of Radiological and Health Impacts, Nuclear Energy, (OECD,2002).

- One Decade after Chernobyl, (IAEA, EC, WHO 1996).

- The Chernobyl Accident and Its Implications for the United Kingdom, Report No.19, (the Watt Committee on Energy 1988).

- The International Chernobyl Project, Technical Report, International Advisory Committee (IAEA,1991).


التصنيف : التقنيات (التكنولوجية)
النوع : تقانة
المجلد: المجلد الحادي عشر
رقم الصفحة ضمن المجلد : 674
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1075
الكل : 40522300
اليوم : 52115

تقي الدين محمد بن معروف

تقي الدين محمد بن معروف (نحو 932 ـ 993هـ/1525 ـ 1585م)   تقي الدين محمد بن معروف بن أحمد، عالم فلكي، وراصد رياضي ومهندس ميكانيكي، اشتهر أوائل الحكم العثماني. ورد اسمه كاملاً ومدوناً بخط يده على مخطوط له عنوانه «الطرق السنية في الآلات الروحانية». يرجع في نسبه إلى الأمير ناصر الدين منكويرس، ابن الأمير ناصح الدين خمارتكين. أشارت معظم المراجع إلى أنه من مواليد مدينة دمشق، ثم انتقلت أسرته إلى مصر، حيث استقرت فيها. نشأ تقي الدين في بيت علم ودين، فقد كان والده قاضياً في مصر. ودرس هو علوم عصره، وأصبح قاضياً مثل أبيه. تحدث عن نفسه في أحد مؤلفاته، وهو «سدرة منتهى الأفكار في ملكوت الفلك الدوار» فقال: «ولما كنت ممن ولد ونشأ في البقاع المقدسة، وطالعت الأصلين «المجسطي»، و«كتاب إقليدس في الأصول» أكمل مطالعة، ففتحت مغلقات حصونها، بعد الممانعة والمدافعة. ورأيت ما في الأزياج المتداولة (الجداول الفلكية) [ر] من الخلل الواضح، والزلل الفاضح، تعلق البال والخلد بتجديد تحرير الرصد». وهذا يدل على أن تقي الدين قد اطّلع على الكتب العربية التي وردت فيها الأرصاد والحسابات الفلكية والأزياج فسعى لإصلاحها. واستخرج زيجاً وجيزاً مستعيناً بأبحاث أَلُغ بك، كما ذكر في كتابه «الدر النظيم في تسهيل التقويم». ويبدو من أقوال تقي الدين، التي وردت في كتابه «الطرق السنية في الآلات الروحانية» أنه زار اصطنبول، مع أخيه عام 953هـ/1546م. وربما كان ذلك بحكم وظيفته، أو رغبة في طلب العلم.  وفي تلك المدينة قام بمشاركة أخيه بتصميم آلة لتدوير سيخ اللحم على النار، فيدور من نفسه من غير حركة الحيوان. عمل تقي الدين في خدمة الوالي علي باشا، الذي كان يحكم مصر من قبل السلطان سليمان القانوني، بدءاً من عام 956هـ/1549م. فأهداه كتابين من مؤلفاته وهما «الطرق السنية في الآلات الروحانية»، و«الكواكب الدرية في البنكامات الدورية». وجاء في كتاب «كشف الظنون» أنه في عام 975هـ/1568م ألف تقي الدين كتاب «ريحانة الروح في رسم الساعات على مستوى السطوح» في قرية من قرى نابلس. ثم شرحها العلاّمة عمر بن محمد الفارسكوري شرحاً بسيطاً بإشارة من المصنف، وسماها «نفح الفيوح بشرح ريحانة الروح»، وفرغ منها في ربيع الأول 980هـ، ولها ترجمة إلى اللغة التركية موجودة نسخة منها في المكتبة الظاهرية بدمشق. رحل تقي الدين بعد ذلك إلى اصطنبول، حيث تقرّب من الخواجه سعد الدين، معلّم السلطان، وصار من خواصه الملازمين. ونظراً لبراعة تقي الدين في العلوم الفلكية دعمه الخواجه سعد الدين ليكون رئيساً للمنجمين في أواخر حكم السلطان سليمان، وكان ذلك عام 979هـ/1571م. كان تقي الدين يرغب في إنشاء مرصد في اصطنبول، على غرار مرصد مراغة، الذي أنشأه أَلُغ بك، لذلك قدّم تقريراً للسلطان، عن طريق الصدر الأعظم محمد باشا، ووساطة الخواجه سعد الدين، وشرح في تقريره أن الجداول الفلكية الموجودة صارت غير قادرة على إعطاء معلومات صحيحة، لذلك صارت الحاجة ملحة لعمل جداول فلكية تستند إلى أرصاد جديدة. استجاب السلطان لطلب تقي الدين، وبدأ بإنشاء المرصد أوائل عام 983هـ/1575م، وانتهى بناؤه وتجهيزه بالأجهزة والأدوات بعد ذلك بعامين. وحدث في ذلك الوقت ظهور مذنب في سماء اصطنبول، ولما شاهده تقي الدين في مرصده تقدم بالتهنئة للسلطان، متنبأ له بالنصر على الفرس، الذين كانوا في حرب مع الدولة العثمانية. وقد تحقق ذلك النصر، لكنه لم يكن مجرداً من الخسائر الفادحة. كما أن وباء الطاعون انتشر انتشاراً واسعاً في ذلك الوقت. فانتهز الفرصة قاضي زاده شيخ الإسلام هو وجماعته المنافسون للصدر الأعظم وللخواجه سعد الدين، وشنوا حملة معادية لإنشاء المرصد، ونجحوا بإقناع السلطان بهدمه، فتم لهم ذلك في عام 1580م. كان السلطان مراد قد كافأ تقي الدين، عقب إنشائه المرصد، فمنحه راتب القضاة، كما منحه قطائع درت عليه دخلاً كبيراً. إلا أن هدم المرصد كان له تأثير سيء في نفس تقي الدين، وقد توفي بعد ذلك بخمس سنوات، ودفن في مدينة اصطنبول. كان تقي الدين، كما يقول عن نفسه، في كتابه «الكواكب الدرية في البنكامات الدورية»، مغرماً منذ حداثته بمطالعة كتب الرياضيات، إلى أن أتقن الآلات الظلية والشعاعية علماً وعملاً، واطلع على نسب أشكالها وخطوطها. كما اطّلع على كتب الحيل الدقيقة والميكانيك، ورسائل علم الفرسطون والميزان وجر الأثقال. وكان يتقن معرفة الأوقات ليلاً ونهاراً، معتمداً على عدة أشكال من الآلات، وخاصة البنكامات الدورية (الساعات). وقد دوَّن فن الساعات الميكانيكية ومبادئها، وذكر عدداً من الآلات التي اخترعها. ولكي يبرهن على مدى تقدمه في العلوم الرياضية، ورغبته في نشر المعرفة، وضع عدة مؤلفات، منها رسالة «بغية الطلاب في علم الحساب»، وكتاب في الجبر عنوانه «كتاب النسب المتشاكلة». وكتاب في الفلك عنوانه «سدرة منتهى الأفكار في ملكوت الفلك الدوّار». وسجل في كتابه الأخير المشاهدات الفلكية التي حققها في مرصد اصطنبول. ووصف الآلات التي استعملها فيه، وماكان منها من مخترعاته، محتذياً في ذلك حذو العلامة نصير الدين الطوسي الذي كان يعدّه المعلم الكبير. كان تقي الدين وافر الإنتاج العلمي، قام بتصنيف عدد من الرسائل والكتب، ولما يزل أكثرها مخطوطات محفوظة في عدة مكتبات عالمية. وفي عام 1976 قام أحمد يوسف الحسن بتحقيق ودراسة مخطوط «الطرق السنية في الآلات الروحانية»، ونشره مصوراً في كتاب عنوانه «تقي الدين والهندسة الميكانيكية العربية»، وبين بالرسم والشرح شكل وعمل الآلات التي وردت في هذا الكتاب، وقال: «إن أهمية كتاب الطرق السنية في أنه يكمل حلقة مفقودة في تاريخ الثقافة العربية، وتاريخ الهندسة الميكانيكية». أما موضوعات الكتاب فتشمل مقدمة وستة أبواب. تكلم تقي الدين في مقدمة هذا الكتاب على الآلة المعروفة بحق أو علبة القمر، وهي مشابهة في تركيبها للساعات الميكانيكية. وفي الباب الأول: تكلم على أربعة أصناف من البنكامات، وهي ساعات رملية أو مائية، مما عرفه العرب في مطلع حضارتهم. وفي الباب الثاني: ذكر ثلاث آلات لجر الأثقال. وفي الباب الثالث: وصف أربع آلات لرفع الأثقال ومثلها لرفع الماء. وفي الباب الرابع: تكلم على عمل آلات الزمر الدائم والنقارات (ثلاثة أنواع) والفوارات المختلفة الأشكال (أربعة أنواع). وفي الباب الخامس ذكر أنواعاً شتى من آلات طريفة (أحد عشر نوعاً). وفي الباب السادس: وصف لسيخ اللحم الذي يدور بصورة آلية على البخار.   محمد زهير البابا   مراجع للاستزادة:   ـ بنو موسى بن شاكر، الحيل، تحقيق أحمد يوسف الحسن (معهد التراث العلمي العربي، حلب). ـ تقي الدين، الطرق السنية في الآلات الروحانية، تحقيق أحمد يوسف الحسن (معهد التراث العلمي العربي، حلب).
المزيد »