النحو (علم-)
نحو (علم)
Grammar - Grammaire
النحو (علم ـ)
ثمة تعريفات عديدة لمصطلح النحو لا يخلو أكثرها من ضوابط علم المنطق وحدوده، ولعل أقدمها ماجاء عن أبي علي الفارسي [ر] (ت377هـ) أنه «عِلْمٌ بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب، وهو ـ أي النحوـ ينقسم قسمين: أحدهما تغييرٌ يلحق أواخر الكلم، والآخر يلحق ذوات الكلم وأنفسها» وقد عوّل أكثر المتأخرين على تعريف أبي عليّ هذا، مع أن فيه أمرين، أوّلهما جَعل الصرف قسماً من أقسام النحو، والثاني هو العدول عن الغاية الأساسية التي وضع النحو لأجلها ـ وهي صيانة اللسان من اللحن ـ وقصره على دراسة التغيرات التي تلحق أواخر الكلم وتسمى في اصطلاح النحويين «إعراباً».
ولو عُرف كما أراد له الأوائل أن يكون لقيل: إنه التعبير العلمي عن القوانين التي يتبعها كل قومٍ في صوغ ألفاظهم وفي تركيب عباراتهم لأداء المعاني، وعَملُ النحويين إنما هو الاجتهاد في استنباط هذه القوانين ومحاولة تفسيرها وربطها بعضها ببعض، بحيث يتكون من مجموعة هذه القوانين نظام كامل يفسر ما يمكن أن يسمى ميكانيكية هذه اللغة.
ومما لا ريب فيه أن ظهور النحو العربي في المئة الأولى للهجرة يُعدّ لوناً من ألوان النشاط الذهني الذي تفرضه عادةً طبيعة الحياة وتطور المجتمعات، فما إن بسط العرب ظلالهم على الشعوب المغلوبة حتى غدت الجماعة الإسلامية تشعر بضعف السليقة اللغوية باختلاط الألسن، و أخذت تحس بالخطر الذي يتهدد لغتها، فلم يعد اللحن محصوراً بدائرة الأعاجم المسلمين بل تعداها إلى الفصحاء، أمثال الحجاج بن يوسف، والحسن البصري وصار العربي الخالص يتصوّن في كلامه ويجهد نفسه في الخطبة حتى لا يسرع اللحن إليه فيسقط في أعين الناس، وكان من المتوقع أن يظل النفور من اللحن في مجال ذاتي ضيق لو لم تكن العربية لغة القرآن والسنة النبوية، ولهذا رأى المسلمون أن يفعلوا أمراً ـ مهما يكن لونه ـ يحفظون به لغتهم ودينهم معاً ولاسيما أن العربية بدأت تكتسي على مر الأيام صفة القداسة الدينية.
ويرتبط بهذا الخوف على ضياع لغة القرآن حرصٌ على فهم الفئات غير العربية أمر ديانتهم الجديدة والوقوف على أغراضها ومراميها.
وقد زاد الخطرَ وضوحاً تلك الخلافاتُ اللغوية الأصيلة في لهجات القبائل، وتلك اللغات الطارئة على المجتمع الجديد ولاسيما مجتمع العراق ومجتمع البصرة خاصة.
تلك هي الأسباب العامة لظهور النحو، أما الأسباب الجزئية التي يذكرها الرواة فهي لا تعدو أن تكون تفسيراً لتنامي شعور الاستياء الذي لابس المسلمين آنذاك من جرّاء شيوع اللحن وكثرة الهجنة في الكلام، وليس معقولاً أن تكون حادثة واحدة لها من القوة ما يجعلها تهيئ الأسباب لظهور علم امتدت جذوره متينة في الحياة الفكرية، وتوالت عليه الأجيال تضيف إليه وتزيد فيه وتعتده من أصول الثقافة التي لا يمكن للإنسان المثقف أن ينصرف عنها.
وتسند الروايات إلى أبي الأسود الدؤلي (ت69هـ) من أصحاب الإمام علي بن أبي طالب أنه أول من تنبه لهذا الخطر وأنه أول من فكر في درئه عن لغة العرب وعن القرآن، ونقل الرواة أنه شاور في ذلك الإمام علياً، فألقى إليه علي أبواباً في النحو وقال له: «انحُ هذا النحو»، وقيل بل شاور زياداً أمير العراق، فأمره بنقط المصاحف، أي ضبط أواخر الكلمات في القرآن الكريم بنقطٍ تشير إلى الضمة والفتحة والكسرة، وقد سُمّي هذا العمل إعراباً لأنه تمييز أواخر الكلم بعلامات خاصة.
ولاشك أن صنيع أبي الأسود في نقط المصاحف من شأنه أن يوجه الانتباه لظواهر الإعرابية ولا يبعد أن يكون قد دفعه إلى وضع ملاحظات يسيرة تفسر رفع الأسماء ونصبها وجرها تفسيراً بسيطاً. وهذا يوافق ما يمكن أن يُستخلص من الكتب القديمة في ذكرها الأبواب النحوية التي وضعها، وهي :الفاعل والمفعول، المضاف، حروف النصب والجر والجزم، التعجب، الاستفهام، العطف، النعت، إن وأخواتها. متأملها يجد أنها لا تزيد على تلك الظواهر الإعرابية التي تكثر في الكلام وتلح على القارئ ولاسيما قارئ القرآن، ولاشك أن هذه الأبواب لم تكن نحواً بالمعنى الذي عرفه به خلفاء أبي الأسود، وإنما هي ملاحظات منثورة حول الرفع والنصب والجر والجزم.
ولم يقضِ أبو الأسود نحبه حتى ظهر من تلامذته من حمل العبء بعده، ولا يُعرف على وجه الدقة أي تلامذته كان أسبق الآخذين عنه، أهو عنبسة بن معدان الفيل كما تذكر بعض الكتب، أم ميمون الأقرن كما يذكر بعضها الآخر، ولم يصل إلينا شيء من آراء هذين الرجلين النحوية، ولم يؤثر عنهما أنهما ألفا في النحو أوراقاً.
وثمة اسم ثالث يذكر في مجال الحديث عن تلامذة أبي الأسود هو يحيى بن يعمر (ت129هـ) وهو أحد القراء التابعين المحدثين، وإليه أو إلى نصر بن عاصم ينسب أول إعجامٍ لحروف المصحف، إذ نقط الحروف المعجمة تمييزاً لها من المهملة.
وخلاصة القول أن النحو بقي لهذه الحقبة قائماً على ملاحظات أقرب إلى البساطة. وأما ابتداء وضع قواعد النحو الاصطلاحي فكان على يد رجلين من أئمة القراء في البصرة هما عبد الله بن أبي اسحاق الحضرمي [ر]، وأبو عمرو بن العلاء المازني التميمي[ر].
فقد استطاع ابن أبي إسحاق (ت117هـ) أن يتقدم بالنحو خطواتٍ فِساحاً، فلم يعد عنده مجرد ملاحظات عابرة، بل أخذت جذوره تمتد في حياة اللغة العربية، وبدأ يتسرب إليه شعاع من النشاط الفكري الذي ألم بالدراسات الفقهية، فظهر القياس على يديه، ولم يكن معروفاً من قبل حتى قيل عنه: إنه «أول من بعج النحو ومد القياس والعلل». وقد تعلق بهذا المنهج النحوي وأنس به ورأى فيه ما يفتق أكمام هذا العلم،، ولهذا غلب عليه القياس ولم يعد يجد في غيره من بحوث اللغة جدوى أو لذة، فقد سأله يونس بن حبيب: «هل يقول أحد «الصويق»؟ يعني «السويق»، قال: نعم، عمرو بن تميم تقولها، وما تريد إلى هذا؟ عليك بباب من النحو ينقاس ويطّرد»، ولهذه الرواية دلالة لا تخلو من أهمية، فالحضرمي يمثل انعطافاً كبيراً في الدرس اللغوي؛ لأن القوم قبله كانوا يعنون باللغة من جمع لها وفهم لغريبها وإحاطة بلهجاتها، أما هو فقد أخذ ينفذ إلى دقيق تعبيرها ويلمح إلى اطّراد أصولها، وراح يوجه طلبته ومريديه إلى هذا اللون من النظر في دراسة العربية وتعميق الأصول التي تطَّرِدُ وتنقاس. ومما يدل على قيمته النحوية أن سيبويه كان يعتمده ويسوق بعض آرائه ويعللها، وقد يضعه نداً ليونس والخليل، وهما أضخم علمين عرفهما النحو قبل سيبويه.
وهكذا يتقدم علم النحوعند هذا الرجل ويصبح الطريق إلى مرحلة الكمال واضحاً وإن يكن طويلاً، ولئن لم يكن علمه بالنحو ذا قيمة أيام يونس والخليل وسيبويه فقد استطاع أن يقدم لمن بعده منهجاً قويماً في استنباط الأحكام النحوية وتيسير السبل أمام الدارسين وتذليل العقبات أمامهم.
وأما أبو عمرو بن العلاء(ت154هـ) فكان ذهنه النحوي دون ذهن الحضرمي إلا أن له منزلة مهمة في تاريخ النحو، فقد كان حذراً في الأخذ عن الأعراب، إذ عاش حياته يجمع أشعار العرب القدماء ولاسيما أشعار أهل الجاهلية، وكانت عامة أخباره عن أعراب أدركوا الجاهلية، أو عن «أشياخ العرب حرشة الضباب في البلاد الكلدات، وجناة الكمأة في مغاني البداة».
وكان سيبويه شديد العناية بالنقل عنه، فهو أحد شيوخه الثقات الذين شافهوا الأعراب ورووا عنهم شعر الجاهليين الفصحاء، وعلى هذا النحو كان الحضرمي وأبو عمرو يمثلان ظاهرتين في النحو العربي ـ ولاسيما عند البصريين ـ هما ظاهرتا القياس والسماع، ولقد كانتا في بداياتهما، وكانتا إيذاناً بما سيجد عند رجل كالخليل يجمع بينهما في نفسه ويزيدهما عمقاً وغوراً، ويرتفع بهذا العِلْم الجديد إلى أعلى ذروة يصل إليها. ويلي هذين الإمامين في حركة تأسيس النحو البصري جماعة اشتهر منهم ثلاثة رجال تمّ على أيديهم استخراج جلّ قواعد النحو بتطبيق أقيسته وتعليل أحكامه، وهم: عيسى بن عمر (ت149هـ) [ر]، ويونس بن حبيب (182هـ) [ر] والخليل بن أحمد الفراهيدي (ت170هـ) [ر].
أما عيسى بن عمر فكان إماماً في النحو والصرف والقراءات، أخذ علومه عن الحضرمي وأبي عمرو، وهو صاحب الكتابين المعروفين في النحو «الإكمال» و« الجامع»، وهما مفقودان لايكاد يعرف عنهما شيء، وثمة روايتان لا تخلوان من تناقض، تزعم الأولى أن كتاب سيبويه نفسه هو «الجامع» زاد فيه سيبويه وسأل مشايخه عن مسائل منه أشكلت عليه، فذكرت له فأضافها، وتذهب الثانية إلى أن المبرد [ر] رأى أوراقاً من أحد كتابي عيسى وقرأها فقال: «إنهما كانا كالإشارة إلى الأصول».
وأما يونس بن حبيب البصري فكان إمام نحاة البصرة في عصره، أخذ النحو عن أبي عمرو، وكان أستاذ سيبويه، وقد نقل عنه هذا الأخير في كتابه آراء تبلغ مئتين، وله تصانيف وثيقة الصلة بالنحو، مثل «معاني القرآن الكبير»، و«معاني القرآن الصغير»، و«القياس في النحو»، وكان سيبويه يعتمد آراءه النحوية مثلما يعتمد روايته ونقله عن العرب، ويمكن القول إنه خطا بالنحو العربي خطوة تجاوزت به مرحلة الحضرمي وعيسى وهيأته لمرحلة الخليل وسيبويه.
وأما الخليل بن أحمد فكان أعظم نحاة البصرة شأناً وأبقاهم في العربية أثراً، استنبط من علم النحو مالم يُسبق إليه، وهو المصدر الأول في كتاب سيبويه وعامة الحكاية عنه، مما يدل على أن الخليل هو الموجه الأول لصاحب الكتاب في جميع الموضوعات، وإذا خالفه سيبويه فإنما يخالفه في الجزئيات، ولم يخالفه في الأصول إلا قليلاً جداً.
عمد الخليل إلى ما ترك الأسلاف له فعمقه وأصله بما أوتي من ذكاء وما وهب من حسّ لغوي ومادلته عليه الخبرة التي اكتسبها من معاشرة العرب الفصحاء، وأعظم ما يبدو في منهج الخليل هو ذلك القياس الذي نوّه به القدماء حتى ذكر ابن جني [ر] أن الخليل «كاشف قناع القياس» وإلى جانب القياس كان الخليل يحيل إلى تعليل الظواهر اللغوية تعليلاً منطقياً ذهنياً، وبذلك فتح الباب للرمّاني وأبي علي وابن جني وأمثالهم من فلاسفة النحو.
وكان للخليل فوق ذلك فضلٌ في تقييد السماع وتحري الفصاحة، وهو الذي اخترع ضبط حروف الكتابة بالحركات: الضمة والفتحة والكسرة، فأغنى الكتّاب عن الضبط الذي اخترعه أبو الأسود بالنقط.
وليس للخليل كتابٌ في النحو، وإنما أملى مسائله على سيبويه، فقد أخذ هذا الأخير علم الخليل في النحو ونقل عنه جمهور مسائله حتى قال القدماء إن الكتاب معقود بلفظ الخليل وسيبويه، وفيه أيضاً حكاية عن جماعة آخرين كيونس وأبي زيد الأنصاري وأبي عمرو والحضرمي وعيسى وغيرهم.
وكتاب سيبويه في النحو هو أعظم أثرٍ باقٍ يمثل آراء النحويين البصريين المؤسسين للمذهب البصري وبه تخرج نحويو البصرة كأبي الحسن الأخفش وأبي عُمر الجرمي وأبي بكر المازني وأبي العباس المبرد، وهؤلاء جميعاً هم شيوخ المذهب البصري وأركانه الذين وضعوا معالمه واستكملوا قواعده ونقدوا واستدركوا وصححوا ما في الكتاب من مآخذ وبسطوا ما فيه من إشارات، وأوضحوا مافيه من أصول وفروع وأذاعوه في الآفاق، حتى سُمّي كتاب سيبويه : «قرآن النحو».
وأما المذهب الكوفي في النحو فلم يظهر إلا بعد أن نضج النحو في البصرة وتوضحت مناهجه ومسالكه وتشعبت فيه أقوال البصريين.
وتذكر الروايات أن الكوفيين أخذوا يتوافدون على البصرة، فعرف في حلقاتها أبو جعفر الرؤاسي الكوفي (ت187هـ) الذي أخذ عن عيسى بن عُمَر ثم رجع إلى الكوفة فالتف حوله عددٌ من طلبة العلم تتلمذوا له، منهم الكسائي والفرّاء، وإلى الرؤاسي ينسب أول كتاب في النحو الكوفي يدعى «الفيصل»، وثمة رجل آخر يذكر إلى جانب الرؤاسي هو عمّه معاذ الهرّاء (ت187هـ أو 190هـ)، ولعل الكوفة عرفت في هذه الحقبة نحاةً أغفل أمرهم الرواة ولعلهم لم يكونوا قلة، كالعلاء ابن سيابة وهو من شيوخ الفرّاء، ثم راح معاذٌ نفسه يعلم الناس النحو والعربية، فأخذ عنه الكسائي والفراء وكانت له عناية بالصرف حتى إن بعضهم جعله مؤسس هذا العلم.
وقد عاصر الرؤاسي الخليل بن أحمد، وأغلب الظن أن الجيل الذي يمثله الرؤاسي والهرّاء وقف في النحو عند المرحلة التي يمثلها عيسى بن عمر وأبو عمرو بن العلاء من نحاة البصرة.
وتتلمذ الجيل الكوفي الثاني لسلفه فإذا بالكسائي والفراء يلتقيان الرؤاسي والهرّاء، وإذا النحو عندهما في بداية الأمر لا يزيد على ما عند أستاذيهما، فانتقل الكسائي إلى البصرة وجلس في حلقة الخليل ثم ارتحل إلى الصحراء يتلمس العربية عند فصحاء العرب، وعاد إلى الكوفة ليجد نفسه أعلم من الرؤاسي ولينكر عليه مسائل كثيرة.
ولزم الفرّاء الكسائي بعد سنة 170هـ ثم انتقل إلى البصرة واتصل بحلقة يونس بن حبيب وأخذ عنه علم البصريين، واطّلع على بقايا آثار علم الخليل، ثم اقتنى كتاب سيبويه وأكبّ عليه.
وبفضل الكسائي والفرّاء ارتفع نحو الكوفيين إلى منزلة النحو البصري وإن لم يساوه في المنهج والأسلوب، ويبدأ الخلاف النحوي في هذه الحقبة بين المذهبين، لكنه خلاف يسير لا حدّة فيه، ويكاد يخلو من عصبية مذهبية بالمعنى الذي آل إليه فيما بعد، وإن كان يشير إلى عصبية شخصية إن صح التعبير.
وأول مظهر من مظاهر الخلاف ما كان من أمر مناظرة سيبويه والكسائي، فقد أطالت المصادر في الحديث عنها وهي لا تعدو أن تكون مظهراً من مظاهر التنافس بين العلماء للوصول إلى الرزق وبلوغ منزلة عند السلطان، فقد جاء سيبويه إلى بغداد ليحل في بلاط الخلافة سيّداً للعلماء وبهذا يفقد الكسائي ما يشغله عند هؤلاء؛ إذ كان مؤدب أولاد الرشيد، ومهما قلّب الباحث الخبر وبحث في جوانبه فلن يجد فيه أثراً لعصبية مذهبية تشير إلى أن الكسائي وسيبويه كانا يصدران في هذه المناظرة عن موقف مذهبي في النحو، أو كانا يختلفان في المنهج والأسلوب العلمي الذي يتبعه كل منهما في مناقشته للمسألة المطروحة، وكل ما في الأمر أن الكسائي طرح السؤال وأن سيبويه أجاب بما يعرف، ولم يلجأ إلى علةٍ أو قياس أو سبب آخر من أسباب التعليل، بل حكم بينهما الأعراب وانتهى اللقاء.
ولم ينته القرن الثاني حتى طويت بعده بقليل حياة سيبويه والكسائي والفرّاء والأخفش، وحتى تبدل النزاع النحوي الذي أملته المنافسة بين هؤلاء العلماء، فاستحال في أذهان المتأخرين خلافاً بين طرفين ينتمي كل منهما إلى بلد، فسيبويه والأخفش على ما بينهما من فوارق في المنهج والرأي يصبح نحوهما عند مَنْ جاء بعدهما نحواً بصرياً مضافة إليه آراء الخليل ويونس، ويصبح ما خلفه الكسائي والفراء ممثلاً لمذهب آخر ينتمي إلى مدرسة الكوفة،وكما تجسد نحو البصريين عامة في كتاب سيبويه تجسّد نحو الكوفيين في كتابي الفرّاء «معاني القرآن» و«الحدود»، والذي جد في هذه المرحلة أن النحاة أخذوا يعممون في إطلاق نسبة الرأي إلى صاحبه، فما قاله الخليل ويونس والأخفش يُنسب إلى البصريين، وما قاله الكسائي والفرّاء يُنسب إلى الكوفيين.
وأغلب الظن أن ثعلباً (ت290هـ) [ر] رأس نحاة الكوفة في القرن الثالث أوّل من ألح على ذكر آراء الكوفيين والبصريين مقروناً بعضها ببعض، أما معاصره المبرد [ر] (285هـ) وهو رأس البصريين في زمنه فلم يكن يشير في مصنفاته إلى آراء الكوفيين صراحة، وربما أبهم في الإشارة إليهم، كأن يقول: «وزعم قوم»، أو «وقد كان قومٌ من النحويين»، ولم يذكر لفظ «الكوفيين» إلا مرة واحدة في كتابه «المقتضب».
ثم جاء تلامذة ثعلب كأبي بكر بن الأنباري [ر] وأبي موسى الحامض، وتلامذة المبرد كابن السراج والزجاج [ر]، فأكثروا من المفاضلة بين نحو المذهبين مضيفين نحو ثعلب إلى نحو الكوفة، ونحو المبرد إلى نحو البصرة.
وفي العصر الذي عاش فيه أبو سعيد السيرافي والرماني والفارسي وابن جني [ر] ـ وهو القرن الرابع ـ ازداد الإلحاح على هذه المفاضلة وصار الخلاف يأخذ مظهراً من مظاهر الجدل متأثراً بمعطيات العصر الحضارية ولاسيما معطيات الدراسة الفقهية والمنطقية.
وقد احتل الخلاف بين المدرستين حيزاً في أصول التفكير النحوي وألّفت فيه مصنفات كثيرة لعل أشهرها كتاب «الإنصاف في مسائل الخلاف» لأبي البركات الأنباري (ت577هـ)، وثمة آراء متعددة، متباينة أحياناً في الحديث عن طبيعة هذا الخلاف وأسبابه، ولعل أشهرها أنه خلاف يرجع في أساسه إلى النظر في الأصلين الرئيسيين اللذين بُنيت عليهما قواعد العربية، وهما السماع والقياس، مضافاً إلى ذلك خلافٌ في تحديد بعض العوامل النحوية وتسمية بعض المصطلحات.
أما السماع فهو الوعاء اللغوي الذي اعتمد عليه الأوائل في استقراء اللغة تمهيداً لاستنباط القواعد منها، وقد اشترط هؤلاء لهذا الوعاء اللغوي أن يكون محتواه نقياً لم تختلط به شوائب اللحن أو الوهن. وبديهي أن يكون النص القرآني في مقدمة روافد هذا الوعاء، فهو النص الصحيح المجمع على الاحتجاج به في اللغة والنحو والبلاغة، فلا غرابة أن تكون جلّ قواعد العربية مبنية على هذا النص، وقد سلف أن النحو إنما قام أصلاً لخدمة هذا النص وصونه عن اللحن.
والرافد الثاني هو كلام العرب الفصحاء شعراً ونثراً، وقد وقر في أذهان أوائل النحويين أن للشعر الفصيح رقعة زمانية تبدأ بأشعار أهل الجاهلية وتنتهي تقريباً بوفاة الشاعر العباسي إبراهيم بن هرمة (ت176هـ) وهو آخر الشعراء الذين احتج بهم سيبويه في كتابه، ومع أن النحاة لم يفرقوا صراحة بين شعراء البادية وشعراء الحواضر (المدن) إلا أنهم كانوا أميل إلى أشعار أهل البادية لقربهم من منابع الفصاحة.
وأما النثر فابتعدوا فيه عن لغة أهل المدن لاحتمال تسرب الفساد إلى ألسنتهم بكثرة مخالطتهم الأعاجم خلافاً للأعراب، فإن اللغويين والنحاة أكثروا من الأخذ عمّن يعيش منهم في بوادي نجدٍ والحجاز، كقبائل تميم وأسد وقيس وهذيل وكنانة وهوازن، وامتنعوا عن الاحتجاج بلسان من يعيشون من هؤلاء الأعراب قريباً من الحواضر أو على أطراف جزيرة العرب لقربهم من الأمم الأخرى كالروم والفرس والأحباش، ولهذا «لم يؤخذ لا من لَخم ولا من جذام فإنهم كانوا مجاورين لأهل مصر والقبط، ولا من قُضاعة، ولا مِن غسان، ولا من إياد، فإنهم كانوا مجاورين لأهل الشام وأكثرهم نصارى يقرؤون في صلاتهم بغير العربية، ولا من تغلب والنّمر فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونانية، ولا مِن بكر لأنهم كانوا مجاورين للنبط والفرس، ولا من عبد القيس لأنهم كانوا سكان البحرين مخالطين للهند والفرس، ولا من أزد عمان... ولا من أهل اليمن... ولا من ثقيف وسكان الطائف... ولا من حاضرة الحجاز».
ومما تجدر الإشارة إليه أن أوائل النحويين أعرضوا عن الاحتجاج بالحديث النبوي، لعدم وثوقهم أن ذلك لفظ الرسولr، ولأن الرواة جوّزوا نقل الحديث بالمعنى، ولأن كثيراً من رواة الحديث كانوا أعاجم، فوقع اللحن فيما رووا.
وجوهر الخلاف بين البصريين والكوفيين في مسألة السماع هو أن البصريين كانوا يتشددون في الأخذ عن الأعراب الفصحاء ممن سبقت الإشارة إليهم، أما الكوفيون فنُسب إليهم أنهم قد يتساهلون في هذا الباب، إذ احتجوا بلغة أهل الحواضر ممن فسدت سلائقهم وشابها الضعف، فاتهم الكسائي بأنه عول على أعراب «الحطمة» وهم عشيرة من بني عبد القيس كانت تنزل في أطراف بغداد، على حين كان البصريون يفخرون بأنهم يأخذون اللغة عن «حرشة الضباب».
واتهم رواة الكوفة عموماً بعدم تحري الدقة في مسموعاتهم عن الأعراب، ولذا كثر في مروياتهم الموضوع والمصنوع، ومن أشهر رواتهم المتهمين بالكذب والتصحيف «حمّاد الراوية»، خلافاً لما عليه رواة البصرة فقد كانوا أشد تحرياً وصدقاً كأبي زيد الأنصاري وأبي عمرو بن العلاء.
والأصل الثاني الذي شيّدت عليه قواعد النحويين هو القياس، ويعني عندهم جملة الوسائل المتبعة في استخلاص القوانين النحوية المطردة من كلام العرب وما يستتبع ذلك من تعليل لهذه القوانين، وهو عملية تالية للسماع؛ إذ يبدأ بملاحظة الظواهر اللغوية المدروسة وتصنيفها ثم استظهار القانون الجامع الذي يفسر هذه الظواهر، وللقياس عند المتقدمين غير ما مدلول، فقد يراد به القاعدة النحوية نفسها، كأن يقال: قياس الفاعل أن يكون مرفوعاً، لكنه كثيراً ما يراد به حمل فرع على أصل لشبه بينهما.
وكما اختلف البصريون والكوفيون في أمر السماع اختلفوا كذلك ههنا، فالبصريون بنوا قواعدهم على الأعم الأغلب من كلام العرب الفصحاء مما تنتظمه قواعد مطّردة، وأما ما خالف نظائر بابه من كلامهم فسلكوا فيه أحد مسلكين: أولهما التأويل؛ أي حمله على وجه يعيده إلى قاعدة نظائره، وثانيهما الحكم عليه بالشذوذ وذلك إذا تعذر التأويل، ومعنى الشذوذ أنه قليل نادر لا يصلح أن تُبنى عليه قاعدة، ولذا يُكتفى بحفظه فقط.
أما الكوفيون فقد نُسب إليهم أنهم توسعوا في القياس؛ لأنهم كانوا يقيسون على الشاذ، أي يتخذونه قاعدة، ولذا تعددت قواعدهم وتفرعت وظهر عندهم القاعدة ونقيضها، وحكي عن الكسائي أنه «كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز من الخطأ واللحن وشعر غير أهل الفصاحة والضرورات فيجعل ذلك أصلاً ويقيس عليه حتى أفسد النحو»، وغلب هذا الانحراف على الكوفيين حتى قيل: «لو سمعوا بيتاً واحداً فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلاً وبوّبوا عليه».
وقد شغلت مسألة السماع والقياس المحدثين ممن بحثوا في أصول النحو، فذهب بعضهم إلى أن المذهب الكوفي مذهب سماع، أما المذهب البصري فمذهب قياس، قال أحمد أمين: «الكوفيون يحترمون كل ما جاء عن العرب، ويجيزون للناس أن يستعملوا استعمالهم»، وبالغ طه الراوي حين قال: «أما مذهب الكوفيين فلواؤه بيد السماع... ويهون على الكوفي نقض أصل من أصوله أو نسف قاعدة من قواعده ولا يهون عليه إطراح المسموع».
وحرر سعيد الأفغاني القول في هذه المسألة مفرقاً بين القياس ذي الأصول المقررة، والقياس المشوش الذي لا ضابط له، قال: «فالصحيح أن الفريقين كانا يقيسان، وربما كان الكوفيون أكثر قياساً إذا راعينا «الكم»، فهم يقيسون على القليل والكثير والنادر والشاذ، ولم نعلم لهم مناهج مقررة في القياس، أما البصريون فهم أقيسُ إذا راعينا «الكيف»، والحق مراعاته، فهم لا يقيسون إلا على الأعم الأغلب، ولهم في القياس أصول عامة يراعونها، والزمن حكم لعملهم بالبقاء، إذ كان الأنسب والأضبط، فكان نحو الناس حتى هذا اليوم بصرياً في أغلبه» وانتهى أيضاً إلى أن أصحاب السماع الحقيقيين هم البصريون لا الكوفيون، لأن «من احترام السماع صيانته وحفظه من كل موضوع، ومِن احترامه تحري حال المسموع منه، فلا يُدَس فيه كلام الذين فسدت لغتهم من أعراب الحطمة وأشياخ قطربلّ، ومن احترامه ألا نساوي فيه بين القليل والنادر والأكثر الشائع، فنغمط حق هذا الأخير... إن البصريين عنوا بالسماع فحرروه وضبطوه واحترموه على حين زيفه الكوفيون وبلبلوه».
والحق أن مسألة السماع والقياس عند الكوفيين تحتاج إلى مزيد من التمحيص، ولاسيما أن كثيراً مما نسب إليهم في هذا الباب هو اتهام البصريين لهم، والإنصاف يقتضي معاودة ما تبقى من مصنفاتهم لجلاء حقيقة ما اتهموا به.
أما الأصل الثالث الذي مسَّه شيء من الخلاف بين البصريين والكوفيين فهو «العامل»، ولاريب أن فكرة العامل هي من أهم المقولات النحوية التي تهدّى إليها الخليل فيما يتعلق بنظم الكلام، وهذه الفكرة مرتبطة بطبيعة اللغة العربية، وهي أنها لغة معربة، والمراد بالإعراب تغيّر أواخر بعض الكلم تبعاً لاختلاف موقعها من العبارة والمعنى النحوي الذي تؤديه، فمقولة العامل قائمة على أن التصرف الإعرابي إنما يكون باقتران لفظ بآخر أو أكثر، واقترانُهما على نحو ما يؤدي إلى اختلاف الإعراب، فجعل اللفظ الأول أو ما فيه حكم اللفظ عاملاً، والألفاظ التي يلحقها الإعراب معمولة، وبالطبع إنما أطلق ما أسماه «عوامل» تجوّزاً، ولا يريد بالعامل أنه هو الذي أحدث بذاته حركة الإعراب، وإنما هو عامل اقتراني؛ أي لمّا اقترن هذا اللفظ أو ما في حكمه أُعطي اللفظ المقترن حكماً إعرابياً.
وهذه المسالة كانت موضع مغالطة من قِبل الذين تصدَّوا لنقد الأسس التي أقام عليها الخليل بناءه للنحو، فقد لقيت من بعض النحاة القدماء، وهو ابن مضاء القرطبي (ت592هـ) [ر] إنكاراً عنيفاً يقوم على مماحكة لفظية لا كبير طائل وراءها، وذلك في كتابه المشهور «الرد على النحاة» كما لقيت من بعض الدارسين الجدد نحواً من هذا الإنكار، ومع ذلك فإن نظرية العامل من أهم ما اكتشفه الخليل، وأهميتها لا تقتصر على تفسير ظاهرة التصرف الإعرابي في بعض الألفاظ، وإنما تمتد إلى أنها على هديها وحدها يمكن أن يُلحظ التفسير الشامل والتحديد الدقيق لمواقع عناصر العبارة بعضها من بعض، ولكثير مما يجوز ومما لا يجوز من صور التقديم والتأخير في نسق العبارة، والفوارق المعنوية الدقيقة في مختلف الأساليب التي تصاغ عليها العبارات على هَدي ذلك، على حين أن من هاجموا هذه النظرية ودَعوا إلى نبذها لم يستطع واحدٌ منهم أن يقدم البديل الذي يقوى على تفسير هذه الظواهر وصياغتها في مبادئ وقوانين محددة يطرد البناء عليها.
والخلاف بين البصريين والكوفيين لم يكن في جوهر هذا الأصل، فكلاهما فسر الظواهر الإعرابية على ضوء فكرة العامل، وإنما وقع في تحديد بعض العوامل اللفظية والمُقدرة، كاختلافهم في رافع المبتدأ والخبر، ورافع الاسم بعد «لولا» وناصب المفعول به والمستثنى والمفعول معه والمضارع بعد «حتى» وأحرف العطف، وسوى ذلك.
وبديهي بعد هذا كله أن يمتد الخلاف بين المدرستين ليشمل طائفة من المصطلحات والتسميات الإعرابية، فقد سعى الكوفيون إلى أن تكون لهم مصطلحات يتميزون بها من البصريين، فاستخدموا «الفعل الدائم» وأرادوا به اسم الفاعل، واستخدموا «الفعل الغابر» للماضي، و«المكنيّ» للضمير، و«المجهول» لضمير الشأن، وخصوا تسمية «المفعول» بالمفعول به، أما باقي المفاعيل فهي عندهم «أشباه مفاعيل»، وسمّوا الظرف: «الصفة والمحلّ» والبدل: «الترجمة»، والتمييز «التفسير»، وسمّوا «لا» النافية للجنس : «لا التبرئة»، وحروف النفي : «حروف الجحد»، وحروف الزيادة: «حروف الصلة»، والممنوع من الصرف: «مايُجْرى وما لا يُجرى»، ولام الابتداء سموها : «لام القسم»...
بيد أن هذه المصطلحات التي خالفوا فيها البصريين ظل معظمها حبيس مصنفاتهم، ولم يقدر لها أن تسود في النحو العربي، وظل النحو البصري بمصطلحاته هو السائد على مر العصور.
خرج المذهب البصري من معركة النحو في القرن الثالث قوي البناء كثير الأنصار غزير التأليف، ولعل من أهم أسباب ذلك أن المذهب الكوفي لم يجد له في مؤسسيه ولا من تلاميذهم من يضع فيه كتاباً كبيراً مستقلاً ككتاب سيبويه يكون مرجعاً لأتباعه.
ومع ذلك فإن النحو الكوفي لم يتلاشَ كلياً، فقد برزت ظاهرةٌ في النصف الثاني من القرن الرابع حتى مراحل متأخرة تتمثل في كون النحو بصري الأصول والمنزع مع الأخذ بشيء من توجيهات الكوفيين وآرائهم، وهذا ما دفع بعض المعاصرين إلى القول بظهور مدارس جديدة بعد البصرية والكوفية، كالمدرسة البغدادية التي قامت بحسب ما يرى هؤلاء على انتخاب ما تراه مقنعاً من المذهبين، وقد غالى بعض هؤلاء الدارسين في جعلهم أبا علي الفارسي وتلميذه ابن جني من أعلامها، وهو تصنيف يفتقر إلى الدقة، فهذان الرجلان بصريا المنزع تتلمذا على مصنفات البصريين وأولهم سيبويه وما فتئا يؤكدان هذا الانتماء بقولهما غير مرة «قال أصحابنا» ولايريدان بأصحابهم إلا نحاة البصرة، وابن جني نفسه حكى أقوال من أسماهم بـ «البغداديين» غير مرة في مصنفاته وردّها، وكان يعني بهم متأخري الكوفيين ممن سكنوا بغداد كابن شقير وابن الخياط، وبصرية أبي علي وتلميذه لا يقدح بها الأخذ ببعض توجيهات الكوفيين، ومثل هذا الكلام يقال في جلّ متأخري النحاة الذين أقحم الدارسون أسماءهم فيما أسموه مدرسة بغدادية كالزمخشري وابن الشجري وأبي البركات الأنباري، والعكبري، وابن يعيش، والرضي، وسواهم.
وهذا يسري أيضاً على ما سمي «مدرسة أندلسية»، والصحيح أنه دَرْسٌ نحويّ في الأندلس، وهو درس بدأ أول أمره متجهاً إلى بعض مصنفات الكوفيين، لكنه ما لبث منذ أواخر القرن الثالث أن اتجه اتجاهاً واضحاً إلى مصنفات البصريين، وغلبت هذه النزعة على جميع نحاة الأندلس في عصر الطوائف كابن سيده والأعلم وابن السِّيْد وابن الباذش، أو في عهد الموحدين كالسهيلي والجزولي والشّلوبين وسواهم، وكذا عند متأخريهم كابن عصفور وابن مالك.
وليس صحيحاً أيضاً ما يقال عن مدرسة مصرية، فإن نحاة مصر كابن ولاد وأبي جعفر النحاس وابن بري وابن الحاجب وابن هشام بصريو النزعة كما دأبوا على التصريح في مصنفاتهم ولا تنتفي هذه النزعة بتبني بعض توجيهات أهل الكوفة.
ومهما يكن من أمر هذه المدارس وتباين اتجاهاتها فالثابت أن النحويين أورثوا المكتبة العربية على مر العصور كماً ضخماً من المصنفات والمتون والشروح والحواشي والتعليقات وشروح الشواهد، وحظي بعض هذه المصنفات بالشهرة والذيوع ككتاب سيبويه وإيضاح أبي علي ولمع ابن جني وجمل الزجاجي وكافية ابن الحاجب ومفصل الزمخشري وألفية ابن مالك وتسهيله ومغني ابن هشام.
والثابت أيضاً ان النحو العربي على اختلاف مدارسه لم ينته إلينا كما وضعه الأوائل كالخليل والفرّاء، بل أفاد عبر مراحل حياته من مناهج العلوم الأخرى كالفقه والمنطق والفلسفة ومصطلحاتها، بيد أن التسليم بهذا التأثر ينبغي ألا يدفع إلى الانجرار وراء بعض الأقوال التي اشتطت في بيان هذا التأثر، كقول بعضهم: «إن الأصول النحوية التي اعتمد عليها اللغويون العرب مأخوذة من المنطق الأرسطوطاليسي الذي وصل إلىها العرب بواسطة العلماء السريان»، وبالمقابل فإن من المكابرة القول إن النحو العربي لم يتأثر بالعلوم الأخرى، نعم لقد أفاد النحو من بعض طرائق الاستدلال المعروفة في الفقه كالقياس والإجماع والسبر والتقسيم والاستحسان والقول بالموجب، ولا ريب أيضاً أنه تأثر بالمنطق اليوناني ولاسيما في باب الحدود وتعريف أنواع الكلم، وكذا في بعض طرائق القياس والعلة، على نحو ما يظهر واضحاً جلياً عند الرماني (ت384هـ) شارح كتاب سيبويه وصاحب كتابي «الحدود الأكبر» و«الحدود الأصغر»، ولم يغب عن القدماء مزجه النحو بالمنطق حتى قال أبوعلي الفارسي: «إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شيء»، وكذا تأثر النحو في فكرة العامل بالمنطق أو بعلم التوحيد، وظهرت منازع فلسفية واضحة في بعض تطبيقات هذه الفكرة.
ظل النحويون مطمئنين إلى نحوهم يكرر اللاحق ما قاله السابق وإن كان ثمة اجتهاد ففي تحقيق بعض الأقوال والمذاهب، وفي طريقة العرض، أوفي اصطياد بعض العلل، ولم يعكر صفو هذا الاطمئنان كما سلف إلا ابن مضاء القرطبي الذي ثار على قواعد النحويين ودعا إلى إلغاء العلل وإلغاء فكرة العامل وما جرّته من تقدير أشياء محذوفة أورثت النحو تعقيداً وجفاء.
وفي العصر الحديث وقف المعاصرون وقفة متباينة إزاء هذا الموروث النحوي، منهم من تقبله وجعل همه استظهار ما قاله المتقدمون، ومنهم من تمسك بكلام ابن مضاء ورأى فيه أول دعاة التجديد والإصلاح في النحو وأنه يجب السير على خطاه لتيسير النحو وتخليصه مما علق به، بيد أن هؤلاء المجددين ـ إن صح التعبيرـ لم يسلكوا مسلكاً واحداً، فمنهم من سعى صراحة إلى هدم الأصول التي بني عليها النحو، والنظر إلى هذه الأصول على أنها ضرب من التأويل البعيد عن حقائق اللغة وطرائق دراستها، ودعا أصحاب هذا الاتجاه إلى ما أسموه منهجاً وصفياً، بمعنى أن النحوي تنحصر مهمته في وصف ما عليه المتكلمون في أي عصر بعيداً عن وضع قواعد معيارية تنتهي إلى الحكم على كلامهم بصواب أو خطأ، والحق أن ما ظهر عن أصحاب هذا الاتجاه من دراسات إنما يتسم بالسطحية في فهم كلام القدماء وأغراضهم، والجهل بتاريخ علم النحو ودقائقه وأساليب أصحابه، والتحامل على النحاة القدماء والتظاهر بالتجديد، ولا ريب أن المنهج الوصفي هو في حقيقته دعوة إلى العامية والفوضى اللغوية. أما الفئة الثانية من هؤلاء المجددين فلعلها أكثر اتزاناً من سابقتها وقد دعا أصحابها إلى جملة من الأمور تيسيراً للنحو وإصلاحاً له أبرزها:
ـ إعادة الدرس النحوي إلى مساره الأول، فليس النحو عاملاً ومعمولاً، بل هو في أساسه دراسة مواقع الكلم في الجمل وما يطرأ على هذه المواقع.
ـ التخفف من آثار العلوم الأخرى التي أثقلت كاهل النحو، ولاسيما تلك الأقيسة والعلل العقلية الفلسفية البعيدة عن روح اللغة والتي أورثت النحو جفافاً وجموداً.
ـ تنقية القواعد من شوائب الشذوذ اللغوي والضرورة الشعرية، والعودة إلى اللغة النثرية الصافية لاستخلاص القواعد منها، أما لغة الشعر فلا يمكن التعويل عليها في هذا الباب لأن الشعر يخضع للوزن والقافية ولكثير من التجاوزات المفروضة على الشاعر.
ـ اطراح الشواهد المصنوعة والأمثلة التي يعتقد أنها لم ترد أصلاً على ألسنة العرب مما اصطنعه النحويون لاستكمال قاعدة وجعلها مطردة.
ـ التخفف من بعض الأبواب النحوية التي جرّ إليها بسط فكرة العامل ولا علاقة لها بالاستعمال اللغوي كبابي التنازع والاشتغال ومسائل التمرين.
نبيل أبو عمشة
مراجع للاستزادة: |
ـ محمد خير حلواني، الخلاف النحوي بين البصريين والكوفيين، (دار القلم العربي، حلب 1974).
ـ النديم، الفهرست، تحقيق رضا تجدد (طهران، مهر 1971).
ـ محمد خير حلواني، أصول النحو العربي (جامعة تشرين، اللاذقية 1979).
ـ مهدي المخزومي، في النحو العربي نقد وتوجيه (دار الرائد العربي، بيروت 1986).
ـ سعيد الأفغاني، في أصول النحو (منشورات جامعة البعث 1988).
ـ عمر رضا كحالة، اللغة العربية وعلومها (مكتبة النسر، دمشق 1971).
ـ شوقي ضيف،المدارس النحوية (دار المعارف، مصر 1976).
التصنيف : اللغة العربية والأدب العربي
النوع : لغات
المجلد: المجلد العشرون
رقم الصفحة ضمن المجلد : 518
مشاركة :اترك تعليقك
آخر أخبار الهيئة :
- صدور المجلد الثامن من موسوعة الآثار في سورية
- توصيات مجلس الإدارة
- صدور المجلد الثامن عشر من الموسوعة الطبية
- إعلان..وافق مجلس إدارة هيئة الموسوعة العربية على وقف النشر الورقي لموسوعة العلوم والتقانات، ليصبح إلكترونياً فقط. وقد باشرت الموسوعة بنشر بحوث المجلد التاسع على الموقع مع بداية شهر تشرين الثاني / أكتوبر 2023.
- الدكتورة سندس محمد سعيد الحلبي مدير عام لهيئة الموسوعة العربية تكليفاً
- دار الفكر الموزع الحصري لمنشورات هيئة الموسوعة العربية
البحوث الأكثر قراءة
هل تعلم ؟؟
الكل : 57132917
اليوم : 89318
المجلدات الصادرة عن الموسوعة العربية :
-
المجلد الأول
-
المجلد الثاني
-
المجلد الثالث
-
المجلد الرابع
-
المجلد الخامس
-
المجلد السادس
-
المجلد السابع
-
المجلدالثامن
-
المجلد التاسع
-
المجلد العاشر
-
المجلد الحادي عشر
-
المجلد الثاني عشر
-
المجلد الثالث عشر
-
المجلد الرابع عشر
-
المجلد الخامس عشر
-
المجلد السادس عشر
-
المجلد السابع عشر
-
المجلد الثامن عشر
-
المجلد التاسع عشر
-
المجلد العشرون
-
المجلد الواحد والعشرون
-
المجلد الثاني والعشرون