logo

logo

logo

logo

logo

الانكشارية

انكشاريه

Janissaries - Janissaires

الانكشارية   الانكشارية yani zaries، أو اليني شري، اسم أطلق على فيالق المشاة النظامية في الجيش التركي العثماني، من منتصف القرن الثامن الهجري/منتصف الرابع عشر الميلادي، وهو التاريخ التقريبي لنشأتها، حتى عام 1242هـ/1826م، وهو تاريخ القضاء عليها، وإحلال فرق أخرى حديثة محلها. والاسم الأخير يني شري هو الاسم الأصيل لها بالتركية؛ «شري» تعني العسكر و«يني» تعني الجديد. كانت هذه الفرق الدعامة الكبرى التي ارتكز عليها التوسع العثماني في أوربة، وآسيا، وإفريقية، وبها حققت الدولة العثمانية انتصاراتها العسكرية الحاسمة، في المعارك التي خاضتها في معظم الجبهات، والتي أذهلت الأوربيين حتى القرن الثاني عشر للهجرة/الثامن عشر للميلاد وهو القرن الذي ضعف فيه أمرها. أثار هذا العسكر الجديد فضول المؤرخين، ولاسيما الغربيين منهم، ورأوا فيه أول تنظيم دقيق لفرق المشاة النظامية، أكان في أوربة أم في الجيش العثماني. فقد كان العثمانيون يعتمدون قبل إنشاء هذا العسكر على كتائب متفرقة من المشاة لا ترابط بينها، يجمعها اسم البيّادة بالفارسية، أو اليايا بالتركية. وكان أفرادها من المسلمين الأحرار. ولم تعرف أوربة فرق المشاة النظامية إلا في القرن الخامس عشر، أي بعد قرن من نشأة هذا العسكر. لم يكن ما رآه الأوربيون هوالجديد الوحيد في ذلك العسكر، فقد رأوا أيضاً ما لم يعهدوه، في بنيته، وطرائق جمعه، وتنظيمه، ودقة عمله، وارتباطه الديني ـ الصوفي. أما بشأن بنيته وطرائق جمعه: فقد لفت الأنظار أن هذا العسكر الجديد لم يكن من الأتراك العثمانيين الأحرار، وإنما كان في نشأته الأولى جيشاً من العبيد. وقد أطلق عليه حقاً هذا الاسم بالتركية، فقد عرف بالـقابي قولاري أوعبيد الباب أي عبيد السلطان وقد حرّفت هذه التسمية إلى القَبقُول. وقد أُخذ هؤلاء العبيد في بادىء الأمر من أسرى الحروب، الذين وقعوا في أيدي العثمانيين، من الأطفال والفتيان النصارى، في أثناء حروبهم مع بيزنطة ومع أوربة الشرقية. ولكن سلاطين بني عثمان لم يلبثوا أن لجؤوا إلى طريقة أخرى لتزويد جيشهم بالجند، فعملوا على جمع الصبية، والفتيان غير المتزوجين من رعاياهم النصارى في شبه جزيرة البلقان وآسيا الصغرى، وتربيتهم التربية المطلوبة، وذلك مقابل ضريبة الجزية، وقد أطلق على طريقة الجمع هذه اسم الدويشرمه Dewshirma، وكانت عملية الجمع هذه تجري كل خمس سنوات، أو أربع، أو ثلاث، وأحياناً كل سنة. ولكن مالبثت أوقات التجنيد هذه أن تباعدت تدريجياً في القرن الحادي عشر الهجري/السابع عشر الميلادي، وكان آخر أمر بالدويشرمه هو الذي صدر عن السلطان أحمد الثالث عام 1703م ولم ينفذ. وكان عدد المسوقين يختلف من عام إلى آخر، وقد قدر بين8000 و12000. وكان هؤلاء المجموعون من القابي قولاري يرسلون إلى العاصمة اصطنبول. حيث كان يتم تصنيفهم، فأحسنهم فكراً وجسماً يصطفى ليكون من الإيج أوغلان أي من غلمان الخدمة الداخلية في سراي السلطان. ويُربّى هؤلاء ويُدرّبون في القصور السلطانية في بورصة، وأدرنة، أو في مدارس القصر الخاصة التي أنشأها السلطان سليمان القانوني (927-974هـ/1520-1566م) في غلطة واصطنبول والمسماة مدارس الإيج أوغلان، كانوا يُعلّمون فيها القرآن الكريم، والحديث، والفقه، واللغات التركية والعربية والفارسية، ويُدرَّسون الموسيقى وكيف يتحدثون بطريقة مثقفة ومهذبة، وإلى جانب هذا التعليم، كانوا يُدرّبون على فنون القتال، ولاسيما ركوب الخيل، ورمي النبال، وقذف الرماح. ويدرَّبون كذلك على الخدمة في سراي السلطان، وعلى فنون الإدارة والقيادة، ومنهم كانت تملأ مناصب الدولة العليا. أما الفريق الثاني من القابي قولاري، وهو أقل مستوى من الناحيتين الفكرية والجسمية، فقد أطلق عليه اسم «العجمي أوغلان» أو الغلمان الأعاجم. وربما سموا بهذا الاسم لجهلهم التام باللغة التركية، أو لغربتهم عن الدين الإسلامي، وهؤلاء كانوا يتلقون نوعاً آخر من التعليم، يخضعون فيه لتدريب عسكري قاس، وصارم، ودقيق يهدف إلى تعويدهم تحمل مشاق الحرب وشدائدها فمن كان لا يعرف التركية منهم، فإنه يلحق أولاً بخدمة السباهيين الإقطاعيين في الأناضول مدة محدودة. وبعضهم كان يؤجَّر للعمل في الأرض بضع سنوات يتقن إبانها اللغة التركية، ويتشبع بالعادات الإسلامية، ثم يستدعى ثانية إلى اصطنبول. ومن اصطنبول كان العجمي أوغلان يرسلون إلى المدارس المسماة باسمهم، في غاليبولي، وفي أدرنة. وفيها كانوا يدرَّسون أصول الإسلام، ويعطون معلومات ثقافية عامة، وفيها أيضاً، وفي المؤسسات الحربية المختلفة كالطوبخانة (دار المدفعية) والترسانة، كانوا يجرون تدريبهم العسكري التخصصي، ويتعلمون تقنية المدفع، والبندقية، واللغم واستخدام جميع أنواع الأسلحة المعروفة آنذاك، التقليدية والحديثة، وكان مصير أكثر العجمي أوغلان هو الانخراط في أوجاق الانكشارية، حيث يوزعون كل سبع سنوات على الأقسام الثلاثة فيه. وكان أوجاق الانكشارية، في مرحلة تكامله قي القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي يتألف من ثلاثة تشكيلات متداخلة فيما بينها وهي: السغمان (أو السكبان) والجماعات، والبُلُوك. وتتوزع تلك التنظيمات الثلاثة إلى مئة وست وتسعين وحدة. يسمى كل منها أورطة (المركز). وكان أكبر التنظيمات الثلاثة نصيباً من مجموع الأورطات تشكيل الجماعات، إذ كان مؤلفاً من 101 أورطة، في حين يضم البلوك 61 أورطة، ويضم السغمان 34 أورطة. وكانت الحاميات في الإيالات تؤخذ من أورطات الجماعات، وكانت تبقى دائماً في الأماكن والقلاع التي ترسل إليها، ولا تبدل، ولا تغادر أماكنها إلا إذا استدعاها السلطان لتحارب في بقاع أخرى، أو إذا نقلها من مواقعها لصراع حدث في بعضها. أما البلوك، فكان يضم الأورطات التي تكوّن حرس السلطان في أثناء اشتراكه بالقتال، وكان السغمان في بادىء الأمر، فرقة خاصة لصيقة بالسلطان، ثم ضُمّت بعد فتح القسطنطينية إلى الجيش الانكشاري. وقدر عدد الانكشارية في عهد السلطان سليمان القانوني باثني عشر ألفاً وارتفع هذا العدد زمن السلطان مراد الثالث  في أواخر القرن السادس عشر إلى عشرين ألفاً. أما عدد أفراد الأورطة الواحدة فقد كان في البدء لا يتجاوز الخمسين، ثم وصل في القرن الثامن عشر، وفي حالة السلم إلى مئة. ووصل في بعض الولايات إلى 300 فرد وقد يرتفع عددهم في حالة الحرب إلى500. وكانت كل أورطة تقيم في قاعة واحدة هي «الأوضة» وقد استخدم اللفظ الأخير للدلالة على الأورطة. وفي أثناء الحرب، كانت كل أورطة تقيم في خيام خاصة بها. وكان لها شعارها الخاص المرسوم على علمها، وعلى باب أوضتها، بل إن بعض الانكشارية كانوا يشمونه على أذرعهم وسيقانهم. وكان على رأس القطعات الانكشارية الثلاث آغا الانكشارية (يني شري آغاسي). وكان شخصية كبيرة في الدولة، فالعسكر الجديد  كله في جميع أنحاء الامبراطورية العثمانية تحت إمرته، وهذا العسكر هو أقوى أداة عسكرية دائمة ومنظمة في يد السلطان. وكان الآغا في الوقت نفسه يعمل رئيساً للشرطة  في العاصمة اصطنبول. وهو بحكم وظائفه الهامة تلك، كان عضواً في مجلس الدولة الاستشاري «ديوان همايوني»، ويتمتع برتبة وزير، ويتقدم جميع قادة الجيش العثماني، إلا في الأعياد، فيتقدم عليه قائد السباهية والبلوك سلحدار، لأن هاتين المؤسستين كانتا أقدم من مؤسسة الانكشارية. وكان على آغا الانكشارية إذا ما وقعت الحرب أن يقود الأوجاق بنفسه، إذا كان السلطان مشتركاً بالقتال. وفي هذه الحال كان يتقدمه علم أبيض، وقد حلي بالطوخ (ذيل الحصان). وهو شعار تركي، كانت تحلى به رايات الدولة، وكلما ازداد عدد الأطواخ كانت رتبة صاحب الراية أعلى، فالسلطان يسير بتسعة أطواخ مثلاً. أما إذا لم يشترك السلطان بنفسه في القتال، فإنه كان يبعث نائباً عنه ليعمل بأوامر القائد الأعلى الذي يكلفه السلطان قيادة الحملة. وكان يساعد آغا الانكشارية (السغمان باشي) أي قائد أو رئيس السغمان و«القول كاخياسي» وهو قائد البلوك. وكان السغمان باشي هو المرشح للآغاوية عند شغور هذا المنصب إلا أن السلطان سليم الأول (918-927هـ /1512- 1520م)، الذي تمردت عليه الانكشارية، تجاوزه وعين أحد أفراد بطانته. ولما جاء السلطان مراد الثالث، جعل هذا المنصب من حق السغمان باشي أو القول كاخياسي الذي كان يقوم بكل التعيينات في الأورطات ما عدا رؤساءها، وهو المسؤول عن اقتصاد الأوجاق، ومعه يتشاور الآغا في أهم شؤون الانكشارية، وهو الذي يقود العمليات العسكرية في أثناء المعركة، وكانت تعطى النيابة الأولى عن الآغا في أثناء غيابه لواحد من المساعدين. وكان لأوجاق الانكشارية مجلس يضم آغا الانكشارية ومساعديه وقادة الفرق الخاصة الثلاث، وهم «الزغارجي» المشرف على كلاب الصيد و«الصاكسونجي» ولها المعنى السابق ذاته و«الطورنجي» مروض البزاة، وكان يطلق على القادة الخمسة ماعدا الآغا «قطر آغالري» أي إن كل واحد منهم ينظر في ترقيته إلى من هو قبله كالقطار.  ودون أولئك القادة الستة، كان هناك عدد من الأمار الآخرين، يشرفون على شؤون مجموع الأوجاق، أما في الأقاليم ومناطق الحدود فقد كان للحاميات أمارها الذين يطلق عليهم «سرحد آغاسي»، وكل حامية من الحاميات قد تضم أكثر من أورطة. وكان للانكشارية إمامهم الديني، وهو في الوقت نفسه رئيس الأورطة الرابعة والتسعين من الجماعات. كانت الأورطة الخلية أو النواة التي يتألف منها العسكر الجديد بتشكيلاته الثلاثة. وكان على رأس كل واحدة، مجموعة من القادة قد يصل عددهم إلى سبعة أو ثمانية، ولكل واحد عمل خاص، وألقاب عدد منهم ترتبط بمهمات غذائية إلا أن تلك الألقاب الطعامية لا تنفي بالطبع أنه كان لأولئك القادة أعمالهم العسكرية المهمة، فالرأس الأعلى في الأورطة، كان يطلق عليه اسم الشربجي أي صانع الحساء ورئيس المؤخرة يدعى عشي باشي أي رئيس الطباخين، وهو ضابط الأمن والسجن في الأورطة، ورمزه السكين الكبيرة. ورئيس الحرس يدعى باشي قره قولوقجو أي رئيس مساعدي الطباخ ومن يأتون دونه يدعون بـ «القرة قولوقجو» أي مساعدي الطباخ.  وإلى تلك الرؤوس في الأورطة، فقد كان هناك الأوضه باشي وهو معاون للشربجي والمكلف مراقبة التنظيمات، والإشراف على النظام في أثناء استعراض الأورطة، وفي أثناء العروض العسكرية. و وكيل الخرج وهو المسؤول عن النفقات، والتموين الغذائي. والسقا باشي ويعمل على توفير الماء للأورطة، والكاتب الذي يحفظ القيود والسجلات، والإمام الذي يشرف على الشؤون الدينية للأورطة. وقد كان رجال كل أورطة، ما عدا أورطات العجمي أوغلان، يصنفون منذ عهد سليمان القانوني في ثلاث فئات، أو درجات، استناداً إلى قدرهم، ومدى ارتباطهم بالخدمة العسكرية الفعلية. وعلى رأس تلك الفئات «الأوتوراق» أي المتقاعدون، الذين جعلتهم إصابتهم في الحرب، أو سنهم الكبيرة غير صالحين للخدمة الفعلية ويرأسهم «الباش إسكي» وهو أقدم جندي في الأورطة، وكان يتمتع باحترام كبير. وإذا ما خلف هؤلاء أولاداً، فإن الدولة كانت تتكفل بتربيتهم ويسمون«فضول خوران» أي أكلة خبز السراي. وكان لهؤلاء الأولاد أمانة سر خاصة تعتني بشؤونهم. ويلي تلك الفئة الفئة الوسطى، وهي فئة المحاربين السابقين أو «عمل مانده» ويختلفون عن المتقاعدين بأنهم أعطوا حق الانسحاب من الخدمة الفعلية لأعمال بطولية قاموا بها، وكانوا يكلفون بعد انسحابهم خدمات خاصة، ويقيمون في اصطنبول ويعملون تحت إمرة آمر السراي  مفتشين للقنوات التي تزود العاصمة بالماء. وأدنى الفئات الثلاث هي «الأشكنجي»، وهم العاملون في الخدمة الفعلية تحت إمرة قادتهم المشار إليهم آنفاً. ويخضع أفراد العسكر الجديد خضوعاً تاماً لسلطة قادتهم، فهم الذين يفصلون في الخصومات فيما بينهم، وينزلون بهم العقوبات اللازمة، التي كانت تراوح بين السجن، والجلد بالعصا، والإعدام. ولا يجوز لأي سلطة مدنية أن تقبض على انكشاري أو تعاقبه. ويتقاضى الانكشارية إضافة إلى الطعام، مرتبات نقدية بحسب درجاتهم، وتزاد أجور من قدم منهم خدمات متميزة، كالتطوع لأعمال فدائية مثلاً. وإلى جانب تلك المرتبات النقدية، وما كانوا يتقاضونه من علاوات عند تنصيب سلطان جديد، وفي المناسبات العامة المهمة كالأعياد مثلاً، والمناسبات السلطانية الخاصة(زواج، ولادة، ختان)، فإن الدولة كانت تقدم لهم اللباس والسلاح. وكانوا يجردون في السلم من السلاح، ولكن كان يسمح لهم في الحرب باختيار الرماح التي تعجبهم. والأسلحة التي كانوا يستخدمونها إما أسلحة تقليدية كالسيف بأنواعه، والرمح بأنواعه، والقوس، والنبال، والحربة، والمقلاع، والسياط، والبلطة، والخنجر، والمخرطة، والمزراق، والمنجل، والدبوس، والترس، والدرع، والخوذة النحاسية أو المصنوعة من الصلب، بأنواعها وغيرها، وإما أسلحة حديثة وهي الأسلحة النارية الصغيرة كالبندقية بأنواعها الكثيرة، (منها البندقية القصيرة والطويلة، والطبنجة، وأمثالها). وقد عرف عن العسكر الجديد أنه كان متمرساً في استخدام جميع أنواع الأسلحة، ولاسيما البندقية بأنواعها. وكان هم السلاطين الأول تركيز انتباه الانكشارية على واجباتهم الأساسية وهي الحرب، وحفظ الأمن والنظام، ولذلك منع الانكشارية الزواج والاستقرار الأسري. كما أصدرت الدولة فرماناً حرم عليهم تماماً الانخراط في صفوف المهن، وكي لا يقوم أي احتكاك بينهم وبين فئة الصناع والتجار، سعت لتوفير كل ما يلزمهم مباشرة، وألحقت بالأورطات المقيمة في العاصمة، وتلك المرسلة إلى الولايات، عدداً من الاختصاصيين بمختلف الصناعات التي يحتاجون إليها. وينقطع هؤلاء عادة عن صلتهم بأصنافهم (نقاباتهم) الأصلية، ويكوّنون أخرى تحت لواء الأوجاق. ومع أنهم ليسوا جزءاً من بنية الأوجاق، فإنهم تمتعوا على ما يبدو، ببعض امتيازات أعضائه، كمنع توقيفهم أو معاقبتهم من قبل السلطات المدنية. ومن المثير للفضول في الجيش الانكشاري ارتباطه بطريقة دينية صوفية هي الطريقة البكتاشية [ر]، فقد التحق بالأوجاق بعض كبار دراويشها، وعرف الانكشارية باسم عسكر البكتاشية وأبناء الحاج بكتاش، بل إن الدولة العثمانية أعلنت رسمياً في عام 1000هـ/ 1591م، ضم الطريقة البكتاشية إلى الأورطة التاسعة والتسعين من أورطات الجماعات، وأعطت بيرها (شيخها الأعظم) منصب الشربجي فيها. وكان عمل هؤلاء الدراويش الصلاة لنصرة الدولة والعناية بأسلحتها. وكانوا يسيرون أمام آغا الانكشارية في العروض العسكرية، مرتدين اللون الأخضر، يتقدمهم رئيسهم مردداً بأعلى صوته «كريم الله» ويلبي الآخرون من ورائه «هو». وخلاصة القول، أن المصادر الأوربية والإسلامية أجمعت، على أن العسكر الجديد كان قوام الجيش العثماني وعماده، وكان متفوقاً على أي جيش معروف في القرن السادس عشر بتنظيمه الدقيق، وتمرس جنوده باستخدام جميع أنواع الأسلحة المعروفة في عصره، ومهارتهم بصفة خاصة في الرمي بالأسلحة النارية الحديثة، وصبرهم على المشاق وشجاعتهم. ثم لحق الفساد بهذا العسكر وكان هذا عاملاً رئيساً في ضعف الدولة العثمانية المتدرج. وتبدى هذا الفساد في مظاهر كثيرة قد يكون من أبرزها وأخطرها مظهران:  الأول: طغيان جند هذا العسكر وبغيهم، وإساءاتهم إلى السكان المدنيين في العاصمة والولايات، واستغلالهم أي مناسبة للسلب والنهب، وفرض ضرائب جديدة واقتحام البيوت، وهتك الأعراض، والاستيلاء على الأرض ومحاصيلها، حتى على الأوقاف، بكل الوسائل غير المشروعة، ولاسيما في الولايات. الثاني: تمرد هذا العسكر وثوراته المستمرة على الدولة والسلطان، في العاصمة والولايات، ومن ثم تسلطه على شؤون السلطنة. فقد عمل على خلع السلاطين وقتلهم، والإتيان بغيرهم، والتمرد على أوامرهم، وكذلك فعل بكبار رجال الدولة، كالصدر الأعظم، والمفتي، والدفتردار، والوالي وغيرهم، والمتتبع لتاريخ الدولة العثمانية منذ مطلع القرن العاشر الهجري حتى الثلث الأول من القرن الثالث عشر للهجرة أي من مطلع القرن السادس عشر حتى الربع الأول من القرن التاسع عشر، يرى أنه لم يخل عهد أي سلطان مهما عرف بقوته، وحزمه، من تمرد انكشاري. فهم على سبيل المثال لا الحصر، كانوا وراء خلع السلطان بيازيد الثاني وتولي السلطان سليم الأول[ر]، ومع ذلك رفضوا التقدم معه شرقاً بعد معركة جلديران التي انتصر فيها السلطان سليم على الشاه إسماعيل الصفوي[ر] (1541م) وهم الذين خلعوا السلطان عثمان الثاني وقتلوه، وكذلك فعلوا بإبراهيم الأول، وسليم الثالث ومصطفى الرابع وسليمان الثالث وأحمد الثالث وغيرهم. وهم الذين قتلوا الصدور الأعاظم في عهد مراد الرابع والأمر ذاته يلاحظ في الولايات، فتحركات الانكشارية وفتنهم غطت كل الحياة السياسية فيها. وأمام ذلك الفساد، وما أوجده من تبلبل في حياة الدولة، وما سببه من هزائم عسكرية لها أمام القوى الأوربية، قرر السلطان سليم الثالث (1789-1807) إصلاح الجيش العثماني، والتخلص من تحكم الانكشارية بإدخال ما سمي النظام الجديد أي إعادة تنظيم الفرق العسكرية العثمانية، وتطوير أسلحتها، وتدريبها على النمط الأوربي الحديث. وخشي  الانكشارية من هذا الإصلاح على وجودهم، فثاروا وخلعوا السلطان وقتلوه، وأتبعوه بمصطفى الرابع. ولمّا أظهر السلطان محمود الثاني  (1808-1839م) تصميمه القاطع على إدخال النظام الجديد، تصدى له الانكشارية مرة أخرى، إلا أن السلطان استعان بالقوات العسكرية المؤمنة بالإصلاح، وبالسلطات الدينية وبالشعب ذاته، ولاسيما بعد أن أشعل الانكشارية النار في العاصمة، وسلبوا ونهبوا، فحاصرهم في ثكناتهم في اصطنبول، وضربهم بالمدفعية في «الوقعة الخيرية» كما سميت، وذلك في 10 ذي القعدة 1241هـ /16 حزيران 1826م، فقتل منهم الكثير. وأصدر السلطان فرماناً بإلغاء الفيالق الانكشارية إلغاءً كلياً، وإنشاء جيش جديد وفق النظم الأوربية الحديثة وأتبعه بفرمان آخر حل به الطريقة البكتاشية، وأمر بهدم تكاياها، لأنها كانت عوناً لهم. أما أسباب فساد الجيش الانكشاري فهي كثيرة، بعضها اقتصادي، وبعضها نفسي، وبعضها إداري وسياسي، وقد يكون من أهمها: ـ شعور هذا العسكر بقوته ونفوذه، وبأنه عماد الجيش العثماني من دون منازع، ولاسيما بعد ضعف الفرق الإقطاعية. فتنمر هذا العسكر واجترأ على الدولة والسلطان بتدخلاته السياسية ومطالبه الكثيرة. ـ تلكؤ الفتوحات العثمانية النسبي منذ النصف الثاني من القرن العاشر الهجري/السادس عشر الميلادي، مما قلل من غنائم العسكر الانكشاري الحربية من ناحية، ومن فرص انصرافه إلى الحرب والقتال اللذين رَبيَ عليهما ولهما من ناحية ثانية. ـ الأزمات الاقتصادية التي كانت تصيب الدولة بين حين وآخر، سواء أكانت خاصة بها، أم ذات منشأ عالمي، مما كان يضعف دخلها، فتتأخر في تسليم رواتب الجند، أو تخفض من قيمة النقد، فيلحق السوء بالجند الانكشاري، الذي يتقاضى أجوره نقداً. ومن ثم كان يسعى بكل الوسائل لسد حاجاته الاقتصادية بالسلب والنهب وابتزاز الأهالي والتسلط  والثورة. ـ التفكك الذي أصاب بنيته الأولى الناجم بصفة خاصة عن الخلل في نظام الدويشرمه وما يتبعه من تربية عسكرية نموذجية، فآباء الغلمان النصارى أخذوا يفتدون أولادهم بشتى السبل، فأخذ يدخل في الجيش عناصر متنوعة مسلمة، وزطية، ويهودية، وكلها كانت تلحق بالأورطات مباشرة، من دون أن تخضع للتدريب والتعليم المشار إليهما آنفاً. وقد لجأ بعض السلاطين أنفسهم إلى هذا الحل، ليزيدوا من عدد الجند، لحاجتهم القتالية من ناحية، وليخففوا من غلواء الانكشارية، وهذا ما فعله السلطان مراد الثالث (1574-1595م)، حتى إن عدد الانكشارية في نهاية عهده تضاعف تقريباً، وهذا ما أثقل على الخزينة، مما دفع الدولة إلى تخفيض قيمة النقد الفضي، الذي هبطت قيمته أيضاً من تدفق الفضة من القارة الأمريكية، مما أدى إلى تدني قيمة مخصصات الجند، وكان هذا عاملاً رئيساً في ثوراتهم المتكررة. ولما جاء السلطان مراد الرابع (1623- 1640م) أوقف نظام الدويشرمه. ومع أن الدولة عادت إليه بعد ذلك، فإنه تضاءل تدريجياً حتى زال تماماً في مطلع القرن الثامن عشر. ولم يعد يقبل في العسكر الانكشاري إلا مسلمون أحرار. وهؤلاء تمردوا على أمرين مهمين كانا من عوامل بأس هذا العسكر، فألغوهما، وهما: عدم الزواج، وعدم السماح بممارسة أعمال الصناعة والتجارة. وهكذا لم يعد الانكشارية يعيشون في ثكناتهم وهمهم القتال، وإنما انصرفوا إلى أعمال التجارة والصناعة ليزيدوا من دخلهم، وليملؤوا أوقات فراغهم. وأخذ المتنفذون في الدولة يدخلون خدمهم وأتباعهم في هذا العسكر ليستفيدوا من امتيازاته، وقد أحلّوهم محل أفراد قادرين على القتال، إنما أحيلوا على التقاعد ليأخذ هؤلاء أماكنهم. ولم تلبث الدولة نفسها، لحاجتها في حروبها إلى مزيد من الجند، أن أدخلت في هذا العسكر عناصر لا تدفع لهم أجوراً إلا في حال الحرب. وقد رضي هؤلاء بوضعهم هذا لاستفادتهم من الامتيازات الأخرى للانكشارية، كما رضي به الانكشارية أنفسهم، لأن هذا يزيد من عددهم ويجعلهم أشد بأساً وقدرة على فرض إرادتهم على الدولة. الانكشارية في الولايات العربية لا تخرج أحوالها عما ذكر سابقاً. فالدولة العثمانية زودت كل ولاية من الولايات العربية، كما هي الحال في الولايات الأخرى، بقوات عسكرية  لتضمن سيطرتها عليها، والدفاع عنها، وإقرار الأمن والنظام فيها. وكانت هذه  القوات العسكرية تتكون بصورة عامة من أوجاقين أساسيين:أوجاق من الفرسان (السباهية)، وكان هؤلاء في الولايات الإقطاعية، من الإقطاعيين، وأوجاق المشاة وهو على الأغلب من الانكشارية. ولكل أوجاق آغاه، وكخياه، ودفترداره والجميع تعينهم السلطة المركزية مباشرة. وسلطة الوالي على تلك القوات يحددها القانون نامه في كل ولاية، ويبين واجبات كل أوجاق وقائده. وكان أوجاق الفرسان لا يقيم في العادة في المدن وإنما في الأرياف في حين كان أوجاق المشاة يوزع على حاميات المدن الكبيرة والصغيرة في كل ولاية. وهذه الحاميات كانت تقيم في القلاع والحصون، ويراوح عدد أفراد الحامية بحسب حجم المدينة بين300-3000 من الجنود. وكانت العساكر الانكشارية هي التي تمثل في الواقع سلطة السلطان حتى إن طائفة الانكشارية في مصر، وكانت تدعى المستحفظان، وهي واحدة من سبع طوائف في هذا القطر، عرفت بطائفة السلطان. ويلخص عمل هذه الحاميات بحراسة المدينة بأسوارها وأبوابها، وحفظ الأمن فيها،أي إنها كانت بخدمة الشرطة فيها، كما كان عليها حراسة القوافل ولاسيما قوافل الحجيج حيث وجدت، وحراسة المال المرسل من الولاية إلى خزينة الدولة في أثناء انتقاله، والقضاء على ما يمكن أن ينجم من اضطرابات في الولاية، أي الاشتراك في حملات الوالي، وكذلك الاشتراك في حملات السلطان أياً كانت جبهاتها، إذا ما استدعاها السلطان لهذا الغرض. وكانت هذه الحاميات ثابتة في مراكزها، لا تغير إلا نادراً. وهذا ما جعلها تستقر، وتصاهر السكان المحليين، ولذلك كان ينخرط في صفوفها أعداد من هؤلاء السكان، ولاسيما بعد أن فتح الباب للمسلمين الأحرار. واتجه أفرادها، وعمليات القتال محدودة، إلى دخول ميداني الصناعة والتجارة، ولذلك غدت كأنها من أهل البلاد، حتى أطلق عليها، كما في ولاية الشام اسم الجند الشامي واليرلية أي المحلية. وتاريخ العسكر الانكشاري في الولايات العربية لا ينسجم أبداً والمهمات التي أوكلت إليه، من حفظ للأمن والنظام فيها، وإنما ينطبق عليه كل ما ذكر في فقرتي فساد الانكشارية. فقد كونوا في جميع الولايات العربية من دون استثناء مركز قوة خطيراً، وعملوا بكل الوسائل غير المشروعة للحصول على مكاسب مادية، على حساب سكان الولايات، وللقبض على السلطة، والتمرد على الولاة وطردهم، وقتلهم، بل التآمر مع أعداء الدولة (كما فعل بكر الصوباشي في ولاية بغداد عام 1032هـ/ 1622- 1623م) ولم يبذلوا الجهد العسكري المطلوب منهم لقمع ثورات الأمراء المحليين، كثورتي فخر الدين المعني وعلي جنبلاط في بلاد الشام على سبيل المثال. ويمكن تلخيص وضعهم في بلاد الشام بأنهم عاثوا فساداً، ومع أنهم كونوا مع الزمن من مصاهرتهم السكان، ودخولهم في الصناعة والتجارة، طبقة من الأعيان المحليين (اليرلية) توافقت مصالحها ومصالح الفئة العليا من الأهالي، وأخذت على عاتقها مقاومة  الانكشارية الجديدة «القبقول» التي بعثها السلطان لتتسلم مهامها، وتحد من سلطتها، وكانت أشد سوءا منها، ونجحت إلى حين في طردها، فإنها ظلت مركز شغب وإقلاق، حتى إن صفة انكشاري لا تزال حتى يومنا هذا، تعني على لسان العامة الإنسان الفاسد المتسلط الذي لا هم له سوى الابتزاز والنهب والتمرد. ولم تكن الانكشارية في ولاية حلب أفضل مما كانت عليه في ولاية الشام فقد وقعت هناك في صراع مع الأشراف لم ينته إلا بالقضاء على الانكشارية من قبل الدولة. أما في مصر، فمع أن مركز القوة كان ممثلا في طوائف السباهية (الفرسان)، ولاسيما طائفة المماليك الشركسية، وهم الذين كانوا وراء إرهاب الأرياف بالسلب والتسلط وفرض الضرائب دون حق، والبغي والتمرد على الولاة وقتلهم، والقبض على السلطة، فإن الانكشارية أدلوا هم الآخرون بدلوهم في الصراعات العسكرية وخاصة في المدة بين 1675 و1711م، وكانوا وراء الفتنة الكبرى التي جرت عام 1123هـ / 1711م. وفي الجزائر، وتونس، وطرابلس الغرب، أدى الانكشارية الدور الأول في حياتها السياسية، فقد تمكن أوجاق الانكشارية في الجزائر (والانكشارية في هذه الولاية ليسوا من أصل مسيحي كما كانت حال الانكشارية في القرن السادس عشر وإنما جمعوا من مسلمي الأناضول) أن يسيطر على الحكم، وأن يحل أحدهم (الداي) محل الباشا، وفي تونس، تمكّن العسكر العثماني، بعد صراع بين الانكشارية والصبائحية (السباهية) من الاستيلاء على السلطة أيضاً، والأمر مشابه في طرابلس الغرب.   ليلى الصباغ   الموضوعات ذات الصلة:   البكتاشية ـ العثمانيون.   مراجع للاستزادة:   ـ عبد الكريم رافق، العرب والعثمانيون 1516- 1916 (دمشق 1974). ـ ليلى الصباغ، «الجديد في العسكر الجديد»، مجلة الفكر العسكري، السنة الرابعة، العددان الثالث و الرابع (دمشق 1976).  ـ نوفان رجا الحمود، العسكر في بلاد الشام في القرنين السادس عشر والسابع عشر للميلاد (دار الآفاق الجديدة، بيروت 1981م).

اقرأ المزيد »




التصنيف : التاريخ
المجلد : المجلد الرابع
رقم الصفحة ضمن المجلد : 72

آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 576
الكل : 31160161
اليوم : 61551

تومانيان (هوفهانيس-)

المزيد »