logo

logo

logo

logo

logo

العرف في القانون العام

عرف في قانون عام

custom in public law - coutume en droit public

 العرف في القانون العام

العرف في القانون العام

عمار التركاوي

العرف الدستوري

العرف الإداري

 

العرف في مفهومه العام يعني اعتياد الناس على سلوك معين في معاملاتهم مع الاعتقاد أن هذا السلوك ملزم لهم بوصفه قاعدة قانونية.

ويُعدّ العرف من أقدم مصادر القانون، حيث إن التشريع لم يكن معروفاً في المجتمعات القديمة؛ ففي المجتمعات البدائية الأولى التي لم يبلغ التنظيم السياسي فيها مرحلة كافية من النضوج كانت الأعراف هي السائدة بين الناس يتبعونها في معاملاتهم ويسيرون عليها في أمورهم وشؤون حياتهم.

ثم بدأ التنظيم السياسي يكتمل شيئاً فشيئاً، وبدأت السلطات المختصة المنبثقة منه تتولى أمر سن القواعد القانونية وفرضها على الناس، فحل التشريع تدريجياً محل العرف واحتل مكان الصدارة بين سائر المصادر.

ويتصف العرف عموماً بخصائص عديدة، وهذه الخصائص تعد عيوباً فيه إذا ما قورن بالتشريع. فالعرف يحتاج إلى فترة زمنية طويلة حتى يتوفر له الاستقرار، فإذا ما ترسخ العرف فمن الصعب تعديله أو تبديله؛ لذلك مع تطور المجتمعات وتغير الظروف تم اللجوء إلى التشريع بوصفه وسيلة سريعة لمواجهة تلك المتغيرات وبما يلائم الواقع الجديد.

ويتصف العرف أيضاً بأنه غير مكتوب، لذا يصعب في كثير من الأحيان التحديد الدقيق لمضمونه، ومعرفة الوقت الذي يصبح فيه واجب التطبيق.

وفضلاً عما سبق، فقد ينشأ في البلد الواحد عدة أعراف تختلف من منطقة إلى أخرى، وبالتالي فإن العرف لا يحقق الوحدة القانونية في البلد الواحد خلافاً للتشريع.

وتختلف مكانة العرف باختلاف فروع القانون، فبالنسبة إلى بعض فروع القانون ـ كالقانون الجزائي مثلاً ـ لا مجال لتطبيق العرف أبداً، بل التشريع وحده هو واجب التطبيق، إذ لا جريمة ولا عقوبة من دون نص تشريعي.

وبالنسبة إلى فروع أخرى من القانون، كالقانون الدولي العام مثلاً، فهناك مجال كبير جداً لتطبيق العرف؛ إذ إن الأعراف الدولية تعد من المصادر المهمة للقانون الدولي العام، وتؤدي دوراً بارزاً في العلاقات الدولية.

أما بالنسبة إلى القانون الخاص فإن أثر العرف قوي أيضاً، وتبدو أهميته بصورة خاصة في القانون التجاري؛ لأن هذا القانون يتطلب قدراً من المرونة، وهو لذلك يرى أن يترك تنظيم الكثير من أموره إلى ما ينشأ بين التجار من تعامل وأعراف.

وبالنسبة إلى القانون المدني يعد العرف مصدراً رسمياً، ويحتل المرتبة الثالثة بعد التشريع ومبادئ الشريعة الإسلامية (المادة 1ف2 من القانون المدني السوري).

أما بالنسبة إلى القانون العام فإن العرف يؤدي دوراً مهماً في القانون الدستوري والقانون الإداري، وهما من أهم فروع القانون العام. ويمكن القول هنا إن العرف في القانون العام متى نشأ واستقر وتحقق له الثبات فإنه يؤدي دوراً محورياً إلى جانب النصوص القانونية المكتوبة، ويعمل على حماية النظام العام وصيانة مبدأ المشروعية.

ويجب دراسة العرف الدستوري، والعرف الإداري حتى تتضح أهمية العرف في نطاق القانون العام، وذلك على التفصيل التالي:

أولاًـ العرف الدستوري:

يُعدّ العرف الدستوري من المصادر الرسمية والمباشرة للقواعد الدستورية، سواء في الدول ذات الدساتير غير المدونة أو العرفية حيث يُعدّ العرف أهم مصادرها، أم في الدول ذات الدساتير الجامدة.

ويمكن توضيح ماهية العرف الدستوري من خلال النقاط التالية:

1ـ تعريف العرف الدستوري:

يقصد بالعرف الدستوري تواتر العمل من قبل إحدى السلطات الحاكمة في الدولة في موضوع من المواضيع ذات الطبيعة الدستورية، بما يؤدي إلى رسوخ الاعتقاد لدى هذه السلطات بضرورة اتباع هذا المسلك، وإلزاميته من الناحية القانونية.

2ـ أركان العرف الدستوري:

يتضح من التعريف السابق أن العرف الدستوري ـ كالعرف في الفروع القانونية المختلفة ـ يقوم على ركنين: ركن مادي، وركن معنوي.

أ ـ الركن المادي:

يقصد بالركن المادي للعرف التصرف الإيجابي أو السلبي لإحدى الهيئات الحاكمة بصورة مطّردة وثابتة وواضحة في شأن من الشؤون ذات الطبيعة الدستورية.

واكتمال الركن المادي للعرف يرتبط باجتماع عدة ضوابط في مسلك الهيئة الحاكمة، هي:

(1)ـ التكرار: ذهب أغلبية الفقهاء إلى القول بضرورة تكرار الأعمال والتصرفات من جانب إحدى السلطات حتى يمكن القول بتوافر العرف، بحيث يترسخ في ضمير الجماعة الشعور بوجوب احترامه، ويصبح هذا التكرار بمنزلة إقرار، أو شهادة اعتراف بهذا العرف وبإلزاميته.

ويذهب قلة من الفقهاء إلى الاكتفاء بحدوث التصرف مرة واحدة لكي يتولد منه الاعتياد المكون للركن المادي، على فرض أن العرف يمكن أن ينشأ لمجرد حدوث التصرف مرة واحدة، وربما لا ينشأ رغم تكراره مرات عدة.

غير أن منطق الأمور يفترض ـ في رأي أغلبية الفقه الدستوريـ تكرار التصرف لقيام الركن المادي للعرف.

ولكن هذا الفقه لم يتوصل إلى اتفاق بشأن عدد المرات التي يجب أن يتكرر فيها التصرف. غير أن هذا الموضوع يجب ألا يثار حوله الجدل أكثر مما ينبغي، لأن الأمر يتوقف على الركن الثاني للعرف. بمعنى أنه متى تولد في ضمير الجماعة شعور بإلزامية هذا التصرف، وبوجوب اتباعه يكون العرف قد اكتمل بركنيه.

وعلى نحو أدق إن الجدل حول هذا الموضوع يفهم منه انفصال ركني العرف، في حين أن الحقيقة غير ذلك، فكلاهما مكمل للآخر، ولا يستقيم العرف إلا بهما معاً. فتكرار تصرف معين عشرات المرات لا يعني أنه أصبح عرفاً ما لم يكتمل الركن المعنوي، أي أن يترسخ في الضمير الجماعي أن هذا التصرف أصبح ملزماً، ويجب اتباعه في كل واقعة مشابهة للواقعة التي استدعت التصرف السابق.

(2)ـ العمومية: يشترط في التصرف الصادر عن إحدى السلطات العامة أن يكون عاماً يلقى القبول والالتزام به من قبل جميع السلطات في الدولة من دون رفض أو احتجاج؛ لأن الرفض أو الاحتجاج من جانب أيًّ من تلك السلطات يحول دون قيام العرف، فهو يفقده العمومية اللازمة لتوافر الركن المادي.

فإذا قام رئيس الدولة بتصرف قانوني معين واحتج عليه البرلمان أو حدث العكس فإن هذا الاحتجاج يمنع تشكيل العرف، ولاسيما إذا كان الاحتجاج مصاحباً لذلك التصرف في كل مرة.

وسواء صدر الاعتراض من جانب الهيئات الحاكمة أم من جانب الأفراد بوصفهم مصدر السلطة، فإن استمرار هذا الاعتراض يؤدي إلى عدم قيام العرف؛ لأن التصرف إما أنه يرتب آثاراً قانونية، وإما أن هذه الآثار غير معترف بها وبقانونيتها، وهذا ينفي صفة العمومية عنه.

(3)ـ الاطراد والثبات: هذا الشرط في الحقيقة ملازم لشرط التكرار، إذ ينبغي أن يتكرر التصرف أو الإجراء على نحو ثابت ومطرد، أي من دون انقطاع. بمعنى أنه يجب أن يكون التصرف أو الإجراء من قبل الهيئة الحاكمة مستمراً ومنتظماً، ولا تلجأ إليه بشكل متذبذب، أي أن يكون عادة ثابتة ومستقرة.

(4)ـ الوضوح: بمعنى أن التصرف القانوني الذي درجت عليه الهيئات الحاكمة يجب أن يكون واضحاً تماماً، لا يخضع لتفسيرات متعددة واحتمالات متناقضة؛ لأن هذا الأمر يجعل من الصعوبة بمكان تحديد ما إذا كانت التصرفات اللاحقة هي تكراراً للتصرف السابق، أو أنها تصرفات جديدة مختلفة، ويجب أن تعامل كأنها عرف دستوري جديد في طور النشوء.

(5)ـ المدة أو القِدم: من الضروري تكرار السلوك طوال فترة زمنية كافية للكشف عن استقرار العادة، وأنها ليست ثمرة اعتبارات عارضة.

ويتعذر تحديد فترة تكوين العرف بصورة حاسمة، فالمسألة نسبية، ويتباين بالتالي حكمها من فرض لآخر، فهناك أعراف دستورية تكونت باتباعها مدة تقارب القرن أو تزيد، وهناك أعراف تشكلت في غضون عشر سنوات أو أقل.

ب ـ الركن المعنوي:

إن قيام الهيئات الحاكمة بتصرف معين لا يعني أن هذا التصرف أصبح عرفاً ملزماً ما لم يتوافر الركن الثاني للعرف، ألا وهو الركن المعنوي الذي ينصرف إلى ذلك الشعور الذي يتولد في ضمير الجماعة بأن هذا التصرف قد أصبح ملزماً واجب الاتباع، وهذا الشعور هو الذي يكسب التصرف القوة القانونية الملزمة.

فقد تقوم الهيئات الحاكمة بالعديد من التصرفات التي يتوافر لها الركن المادي للعرف بكل شروطه، غير أن هذه التصرفات لا تصبح أعرافاً ما لم يتولد الشعور بوجوب اتباعها في كل الحالات المشابهة، ويترسخ هذا الشعور في ضمير الجماعة، مكسباً هذه التصرفات قوة القواعد القانونية الملزمة.

والجماعة هنا تعني كلاً من الهيئات الحاكمة، والأفراد المحكومين، لكون هؤلاء الأفراد هم مصدر سلطات تلك الهيئات وفق مفهوم الديمقراطية الحديثة الذي يسلم بأن الشعب هو مصدر كل السلطات في الدولة.

وبناءً على ما تقدم فإن العرف لا يستقيم إلا بوجود الركنين المادي والمعنوي، وغياب أي منهما يعني عدم وجود العرف من الناحية الفعلية.

3ـ أنواع العرف الدستوري والقيمة القانونية لقواعده:

إن العرف الدستوري الذي ينشأ إلى جانب وثيقة الدستور قد يقتصر دوره على مجرد تفسير نصوص هذه الوثيقة، أو تكملة نقص فيها، أو تعديل حكم من أحكامها. وبالتالي هناك ثلاثة أنواع للعرف الدستوري، وذلك على التفصيل الآتي:

أ ـ العرف المفسِّر:

يكون العرف مفسِّراً عندما يكون هناك نص دستوري غامض، يجري العمل على تفسيره على نحو معين. فالعرف المفسر لا يقصد منه أن ينشئ قواعد دستورية جديدة، بل أن يوضح ما يشوب نصوص الدستور من غموض وإبهام، لتبيان كيفية تطبيق هذه النصوص على أرض الواقع.

أما فيما يتعلق بالقيمة القانونية للعرف الدستوري المفسِّر فقد ذهب معظم الفقهاء إلى إعطائه القيمة القانونية نفسها للنصوص الدستورية، بحيث يصبح جزءاً منها، سواء كان الدستور مرناً أم جامداً.

وقد قام العرف بدور مهم في تفسير العديد من النصوص الدستورية وتوضيحها، ومن الأمثلة التقليدية للعرف المفسر نص المادة الثالثة من الدستور الفرنسي الصادر عام 1875 التي تنص على أن رئيس الجمهورية يكفل تنفيذ القوانين. واعتماداً على هذا النص جرى العرف على منح رئيس الجمهورية سلطة إصدار اللوائح التنفيذية. فالعرف فسر النص السابق على أنه يعطي الرئيس سلطة إصدار اللوائح التي تكفل تنفيذ القوانين وإن كان النص الدستوري لا يشير صراحةً إلى هذه السلطة.

والعرف هنا لم يأتِ بجديد إلى نص الدستور، وإنما اكتفى بتوضيح الكيفية التي يكفل بها رئيس الجمهورية تنفيذ القوانين.

ب ـ العرف المكمِّل:

عندما يكون هناك نقص أو قصور في نص الدستور لعدم معالجته موضوعاً معيناً يتصل بنظام الحكم في الدولة فإن العرف قد ينشئ حكماً جديداً يكمل به النقص الذي اعترى الدستور، وبهذا يتحدد دور العرف المكمل في تنظيم مسائل دستورية أغفل المشرع الدستوري تنظيمها.

ومن الأمثلة على هذا العرف منصب رئيس الوزراء في دستور الجمهورية الثالثة الفرنسي لعام 1875، فقد خلت نصوص الوثيقة الدستورية من أدنى تلميح لهذا المنصب، إلا أن الحاجة إلى وجود رئيس لمجموعة الوزراء لضمان التنسيق بينهم وتمثيل الحكومة أمام البرلمان والرأي العام تمخضت عن قاعدة عرفية أوجدت منصب رئيس الحكومة.

وكما هو واضح فإن العرف المكمل يختلف اختلافاً جوهرياً عن العرف المفسر؛ فالأول يتصدى لموضوع جديد لم يعالجه المشرع الدستوري، ويخلق قاعدة جديدة. في حين أن الثاني يعمل من خلال نص دستوري قائم، ويكتفي بإزالة ما يشوبه من لبس وغموض وإبهام، من خلال تفسير هذا النص وتوضيحه.

أما بالنسبة إلى القيمة القانونية للعرف المكمل فقد اختلف الفقهاء في تحديدها، وظهرت عدة اتجاهات في هذا المجال:

الاتجاه الأول: ذهب هذا الاتجاه إلى إلحاق العرف المكمل بالعرف المفسر من حيث القيمة القانونية؛ أي إن له القيمة القانونية نفسها للنصوص الدستورية المكتوبة. فالعرف المكمل ـ بحسب هذا الاتجاه ـ ليس إلا نوعاً من العرف المفسر، إذ يقوم بتفسير سكوت المشرع الدستوري عما أغفله من تنظيم لأحد الموضوعات. وهذا الاتجاه هو السائد وتؤيده غالبية الفقهاء.

الاتجاه الثاني: ذهب هذا الاتجاه إلى القول إن القيمة القانونية للعرف المكمل لا ترقى إلى قوة النصوص الدستورية المكتوبة، واعترف له فقط بالقوة القانونية للتشريعات العادية.

الاتجاه الثالث: يقول به الأستاذ لافيريير، وقد ميز بين حالتين: حالة اقتصار العرف على تحديد الكيفية أو الوسائل التي يتم من خلالها تطبيق حكم من الأحكام المقررة في وثيقة الدستور، فعندئذٍ يماثل العرف المفسر ويأخذ حكمه. أما في الحالة الثانية فيتعدى دور العرف مجرد إكمال النقص وسد العجز إلى إنشاء قواعد دستورية جديدة، لا تستند إلى نص من نصوص وثيقة الدستور، فهذا النوع يُعدّ عرفاً معدِّلاً للدستور، لا يمكن الاعتراف له بقيمة قانونية في ظل دستور جامد.

ج ـ العرف المعدِّل:

لا يقتصر دور العرف الدستوري على تفسير القواعد الدستورية المكتوبة أو إكمالها، وإنما قد يصل إلى حد تعديل هذه النصوص. فالعرف الدستوري المعدِّل هو ذلك العرف الذي يعدل حكماً من أحكام الوثيقة الدستورية، سواء بإضافة حكم جديد إليها، أم بحذف حكم من أحكامها. فالعرف المعدل إذاً نوعان: عرف معدل بالإضافة (إيجابي)، وعرف معدل بالحذف (سلبي). فالعرف المعدل بالإضافة يُعدّ عرفاً إيجابياً، لأنه يقوم بإضافة حكم جديد كما هو حال العرف المكمل، ولكنه يختلف عن العرف المكمل لأنه يعدل في أحكام الوثيقة الدستورية بإضافة حكم جديد إليها، في حين أن العرف المكمل ينحصر دوره في تنظيم الأمور التي تناولتها الوثيقة الدستورية على نحو جزئي.

ومن أمثلة العرف المعدل بالإضافة ما يتعلق بظاهرة مراسيم القوانين التي نشأت في ظل دستور عام 1875 للجمهورية الفرنسية الثالثة، ودستور عام 1946 للجمهورية الرابعة. حيث إن الدستور يقضي بالاختصاص المطلق للبرلمان في مجال التشريع، والاختصاص من النظام العام لا يمكن التنازل عنه إلا إذا سمح النص بالتفويض. ورغم عدم توافر نص يسمح بتفويض سلطة التشريع للحكومة فقد جرى العرف من جانب البرلمان الفرنسي على تفويض السلطة التنفيذية سلطة التشريع عن طريق ما يسمى بمراسيم القوانين.

أما العرف المعدل بالحذف فيكون بإسقاط حق أو اختصاص من الاختصاصات المقررة في وثيقة الدستور؛ أي يكون دور العرف متمثلاً في عدم تطبيق نص ورد في وثيقة الدستور.

ومن الأمثلة التي تقدم من قبل الفقه الفرنسي للدلالة على العرف المعدل بالحذف عزوف رؤساء الجمهورية الفرنسية عن استعمال حق حل الجمعية الوطنية المنصوص عليه في دستور 1875 فترة طويلة من عام 1877 حتى عام 1940.

أما القيمة القانونية للعرف المعدل فقد اختلف بشأنها الفقه وانقسم إلى عدة اتجاهات:

الاتجاه الأول: ذهب هذا الاتجاه إلى عدم مشروعية العرف المعدل، وعدم الاعتراف بأي قيمة قانونية له. فالعرف لا يمكنه تعديل أحكام الدستور المكتوبة وخاصة إذا كان الدستور جامداً، أي يشترط لتعديله اتباع إجراءات خاصة. وبهذا المنظور يُعدّ العرف المعدل خرقاً لنصوص الدستور، وإعلاءً لإرادة الهيئات الحاكمة منشئة العرف على إرادة الأمة المعبر عنها في الدستور. وهذا هو الاتجاه السائد الذي يتبناه معظم الفقهاء.

الاتجاه الثاني: يقر هذا الاتجاه بمشروعية العرف المعدل، على أساس أن العرف في حقيقته ليس سوى التعبير المباشر عن إرادة الأمة صاحبة السيادة التي تملك حق تعديل الدستور. ولكن أصحاب هذا الرأي انقسموا إلى فريقين في تحديدهم للقيمة القانونية للعرف المعدل: فريق يرى أن القيمة القانونية للعرف المعدل تتساوى مع القيمة القانونية للقوانين العادية، في حين يرى الفريق الثاني أن للعرف المعدل القيمة القانونية نفسها لنصوص وثيقة الدستور. ويرد أنصار هذا الفريق على الفريق الأول بأنه لو أُعطي للعرف المعدل مجرد قوة القوانين العادية، فلا يستطيع تعديل النصوص الدستورية؛ لأنه بداهةً لا يمكن للقاعدة القانونية الأدنى أن تعدل قاعدة قانونية أعلى.

الاتجاه الثالث: يميز في المشروعية والقيمة القانونية للعرف المعدل بين: العرف المعدل بالإضافة، والعرف المعدل بالحذف.

فأصحاب هذا الاتجاه يعترفون بمشروعية العرف المعدل بالإضافة، ويعطونه القيمة القانونية نفسها لأحكام وثيقة الدستور. أما العرف المعدل بالحذف فلا يعترفون بمشروعيته، ولا بإمكان حدوثه عملياً؛ لأن عدم استخدام السلطات الحاكمة لحق من حقوقها الدستورية لا يسقط هذا الحق مع مرور الزمن؛ لأنه يمكنها استخدامه متى شاءت. ويدللون على ذلك في المثال الذي ذكر سابقاً المتعلق بعزوف رؤساء الجمهورية الفرنسية عن استعمال حق حل الجمعية الوطنية المنصوص عليه في دستور 1875 فترة طويلة، ويقولون إن إحجام الرؤساء عن استخدام هذا الحق كان لأسباب سياسية بحتة.

4ـ الفرق بين الدستور العرفي والعرف الدستوري:

إذا كان الدستور العرفي هو مجموعة الأعراف والتقاليد والممارسات التي تحكم الدولة وتنظم السلطات في علاقاتها المتبادلة والتي لا يناقضها حكم مدون سابق فإن العرف الدستوري يختلف عن الدستور العرفي اختلافاً بيناً؛ إذ إن العرف الدستوري هو مجموعة تقاليد وممارسات تنشأ في ظل دستور مكتوب، وليس بمعزل عنه، نتيجة الحاجة إلى توضيح غموض، أو سد قصور في وثيقة الدستور. ولهذا فإنها مفسرة أو مكملة أو معدلة ـ في رأي بعض الفقهاء ـ لما في الدستور المكتوب؛ لأن هذا الأخير مهما كانت صياغته ودقته، ومهما كانت براعة واضعيه فإنه لا يمكن أن يكون جامعاً مانعاً وشاملاً لكل نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في الدولة، ومن هنا تأتي أهمية العرف الدستوري ودوره في مجال التنظيم السياسي للدولة.

5ـ أساس القوة الملزمة للعرف الدستوري:

تباينت الاتجاهات في تأسيس القوة الملزمة للقواعد العرفية، وهذه المشكلة لا ينفرد بها القانون الدستوري، وإنما تطرح في الفروع القانونية المختلفة.

ويمكن تقسيم الآراء التي قيلت في شأن القوة الملزمة للعرف الدستوري إلى أربعة اتجاهات رئيسية، هي:

أ ـ القوة الذاتية:

يعتمد العرف على قوته الذاتية، وتستند تلك القوة الذاتية إلى إحدى التخريجات التالية:

ـ التقادم: إن الاعتياد على مسلك معين فترة من الزمن ينشئ قاعدة قانونية بالتقادم، فالتقادم يوجد القاعدة العرفية ويقدم بالتالي التبرير لقوتها الملزمة.

ـ الضمير الجماعي للشعب: تحت ضغط الواقع، ومن دون تدخل مباشر من الإنسان تنبت القاعدة العرفية وتنمو تلقائياً في الضمير الجماعي بوصفها وحدة حقيقية ودائمة يتصل فيها الحاضر بالماضي والمستقبل. وخلاصة القول أن العرف يترجم الإرادة الجماعية للأجيال المتعاقبة.

ـ انعكاس العلاقات المادية للقوى الاجتماعية: موجز هذا الرأي أن الدستور يحدد العلاقات بين القوى الواقعية الموجودة في لحظة معينة في مكان محدد، أما العرف فهو الانعكاس المباشر لعلاقات تلك القوى.

ب ـ ضرورة العرف:

النصوص المكتوبة مهما كثرت ليس في وسعها التنبؤ بكل أشكال العلاقات التي تحكمها حالياً أو مستقبلاً، ومن ثم فلا مفر من قيام العرف بمواجهة ما يطرأ من مشكلات بالحلول العادلة والمحققة لخير المجموع.

فالعرف كما يرى أنصار هذه النظرية هو المصدر الخصب والخلاق الذي يغزو الآفاق التي تمتد إليها التشريعات مما يساعد على تكميل القانون وتطويره.

ونظرية ضرورة العرف تبرر الحاجة إلى وجود قواعد عرفية إلى جانب النصوص المكتوبة، ولكنها لا تكشف بوضوح عن أساس قوته الإلزامية.

ج ـ التعبير عن إرادة الأمة:

بحسب هذه النظرية فإن الأمة هي صاحبة السيادة، وما العرف إلا تعبير مباشر عن هذه السيادة. والنتيجة المنطقية لهذا التخريج هي سمو العرف على أحكام الدستور المكتوب ونصوصه، وقد سبق بيان صعوبة القول بوجود قواعد عرفية تعلو على الدستور المكتوب.

د ـ التعبير عن إرادة الهيئات الحاكمة:

تفتحت تلك النظرية إبان انتشار النظام الملكي المطلق حيث يجمع الحاكم كل السلطات بين يديه. ويستمد العرف قوته ـ في هذا التحليل ـ من عدم اعتراض الحاكم عليه.

وتجدر الإشارة إلى أن انحسار النظام الذي نشأت هذه النظرية في إطاره لم يقضِ عليها، إذ أيد بعضهم أن القانون المكتوب أو غير المكتوب ينجم عن التعبير الصريح لإرادة المشرع أو موافقته الضمنية عليه كما هو الحال بالنسبة إلى العرف.

وتبنى بعضهم هذه الأفكار ونقلها إلى مجال القانون الدستوري، استناداً إلى أن الهيئات الحاكمة تعبر عن إرادة الدولة، وثبات الهيئات الحاكمة على مسلك معين يترجم الاعتقاد بضرورة الممارسة العملية التي تلزم تلك الهيئات كإلزام النصوص لها. فالعرف الدستوري كالنصوص المكتوبة ينبع من إرادة الدولة.

ويمكن أن ننوه أخيراً بأن معظم الفقه يميل إلى الجمع بين الرأيين الأخيرين؛ لأن طبيعة العرف الدستوري تفرض توافر الشعور بالإلزام لدى الهيئات الحاكمة والأفراد. وبالتالي فإن العرف الدستوري يعتمد في قوته على هذا القبول المزدوج.

ثانياًـ العرف الإداري:

1ـ تعريف العرف الإداري:

العرف الإداري هو تعبير يطلق على الأوضاع التي درجت الجهات الإدارية على اتباعها في مزاولة نشاط معين لها، وينشأ من استمرار الإدارة التزامها بهذه الأوضاع والسير على سنتها في مباشرة هذا النشاط أن تصبح بمنزلة القاعدة القانونية الواجبة الاتباع ما لم تعدل بقاعدة أخرى مماثلة (حكم المحكمة الإدارية العليا المصرية الصادر بتاريخ 5 نوڤمبر1955، القضية رقم 159 لسنة (1) ق، المجموعة الرسمية، السنة الأولى، ص41).

2ـ أركان العرف الإداري:

من التعريف السابق يتضح أن نشوء العرف الإداري يعتمد على ضرورة توافر ركنين أساسيين، هما:

الركن الأول: ويسمى الركن المادي ويقصد به درج إحدى الجهات الإدارية في الدولة على اتباع أمر معين من أمور الإدارة أو انتهاجه بصفة مطردة وثابتة. فالتكرار أو الاعتياد على اتباع سلوك أو تصرف معين سواء كان بطريق السلب أم الإيجاب يجسد مضمون هذا الركن  أو فحواه.

هذا ويشترط في التكرار المؤدي إلى القول بتوافر الركن المادي للعرف الإداري الشروط الآتية:

ـ يجب أن يصدر التكرار من إحدى الجهات الإدارية في الدولة، مركزية كانت أو لامركزية.

ـ يجب أن يكون التكرار عاماً. بمعنى أن الفعل أو التصرف يجب أن يكون مقبولاً لدى كل الجهات أو الهيئات الإدارية الأخرى التي يمسها هذا الفعل أو التصرف، بحيث إذا اعترضت عليه إحدى الجهات أو الهيئات، أو أبدت احتجاجاً ضده فإنه لا يرقى إلى مرتبة القاعدة واجبة التطبيق.

ـ يجب أن يكون التكرار قديماً، أي مضت عليه مدة أو فترة كافية تدعو إلى القول بثبات الفعل أو التصرف واستقرارهما. وفي ذلك تقول محكمة القضاء الإداري المصرية: «…إنه وإن كان العرف الإداري هو بمنزلة القاعدة القانونية بحيث تُعدّ مخالفة هذا العرف مخالفة للقانون، إلا أنه يجب أن يكون العرف الإداري مستقراً، كأن تكون الإدارة قد سارت على سنن معينة باطراد المدة الكافية والتزمت بها دائماً وطبقتها في جميع الحالات» (حكم محكمة القضاء الإداري الصادر بتاريخ 24 يونيه 1953، القضية رقم 540، لسنة (6) ق، مجموعة المبادئ القانونية، السنة السابعة، ص1781). مع ملاحظة أن تحديد هذه المدة مسألة اعتبارية تخضع لظروف كل حالة على حدة.

الركن الثاني: وهو الركن المعنوي، فتحقق الركن المادي بالصورة السابقة لا يكفي في الواقع لنشوء العرف الإداري، إذ يجب إضافة إلى ذلك أن ينشأ الشعور أو الاعتقاد لدى الإدارة بأن الفعل أو التصرف الذي جرت على انتهاجه يمثل قاعدة واجبة الاتباع، بحيث تتسم ـ شأنها في ذلك شأن القواعد القانونية الأخرىـ بقوة ملزمة أو بصفة إلزامية.

3ـ الشروط الواجب توافرها في العرف الإداري لكي يُعدّ ملزماً للإدارة:

يشترط لاعتبار العرف الإداري ملزماً للإدارة توافر شرطين أساسيين هما:

أ ـ أن يطبق بصفة دائمة ومنتظمة: ومعنى ذلك ضرورة التزام الهيئات الإدارية بالفعل أو التصرف المكون للعرف الإداري كلما عرضت مناسبة لاتخاذه، فلا تقدم عليه في إحدى الحالات ثم تعرض عنه في حالات أخرى. فإذا أغفل هذا الشرط فلا يرتفع العمل الذي جرت الإدارة على مقتضاه إلى مستوى العرف الملزم لها. وهذا ما قررته محكمة القضاء الإداري المصرية حيث تقول: «إن النظام الذي تقرره جهات الإدارة في صدد أمر معين وتسير على سنته هو بمثابة القانون أو اللائحة من حيث وجوب احترامه والعمل به إلى أن يحصل تغييره بإجراء عام. فعدم إتباعه في الوقت الذي يكون سارياً فيه يكون من جانب الإدارة مخالفة للقانون» (حكم محكمة القضاء الإداري الصادر بتاريخ 17 فبراير 1948، المجموعة الرسمية، السنة الثانية، ص356).

ب ـ ألا يكون العرف الإداري قد نشأ مخالفاً لنص قائم: ذلك أن المشرع إذا كان قد نص على العرف بوصفه مصدراً رسمياَ للمشروعية فإن هذا العرف لن يأتي من حيث تدرج القواعد القانونية إلا في المرتبة الثانية بعد القواعد القانونية العادية إذا كان عرفاً تشريعياً، أو في مرتبة أدنى من القرارات الإدارية المكتوبة إذا كان عرفاً إدارياً.

وعلى أي حال إذا نشأ العرف الإداري على النحو السابق، أي مكتمل الأركان صحيح الشروط أصبح مصدراً رسمياً للمشروعية، ووجب على الإدارة بالتالي احترامه والخضوع لما يقرره من أحكام وإلا دمغت تصرفاتها المخالفة لهذا العرف بعدم المشروعية، وأصبحت محلاً للطعن بالإلغاء أو التعويض أو بالجزاءين معاً بحسب كل حالة على حدة. وهذا ما قررته محكمة القضاء الإداري المصرية حيث تقول: «إن العرف الإداري هو بمثابة القانون من حيث وجوب احترامه والعمل به، فإذا ما خالفت الجهة الإدارية العرف الإداري يكون تصرفها والحالة هذه قد انطوى على مخالفة القانون، وبالتالي يكون القرار المطعون فيه قد وقع باطلاً ويكون المدعي محقاً في دعواه متعيناً إلغاء القرار…» (مجموعة المجلس لأحكام القضاء الإداري، السنة الخامسة، القضية رقم 124، ص 59 وما بعدها).

كما تقول المحكمة في مناسبة أخرى: «إن العرف الإداري الذي استقر عليه العمل واطرد هو بمثابة القاعدة التنظيمية المقررة بحيث تُعدّ مخالفة الجهة الإدارية له مخالفة للنظام المتبع مما تجوز المؤاخذة عليه، ذلك أن المخالفة القانونية ليست مقصورة على مخالفة نص في قانون أو لائحة، بل هي تشمل مخالفة كل قاعدة جرت عليها الإدارة والتزمتها واتخذتها منهجاً لها»(مجموعة المجلس لأحكام القضاء الإداري، السنة الرابعة، القضية رقم 451، ص697).

وتجدر الإشارة أخيراً إلى أن القول بضرورة التزام الإدارة باحترام العرف الإداري القائم لا يعني أن هذا العرف مؤبد التطبيق، لا تستطيع الإدارة تغييره أو الخروج عليه مهما كانت الضرورات التي تحتم ذلك، وإنما يعني فقط أن على الإدارة ألا تخالف هذا العرف في حالة فردية مع استمرارها في الالتزام بأحكامه في الحالات الأخرى، فإن فعلت ذلك فإن تصرفها يكون في الواقع مخالفاً لمبدأ المشروعية مع ما يترتب على ذلك من نتائج قانونية. وعلى ذلك تستطيع الإدارة بل من حقها تغيير العرف السائد واستبدال عرف آخر به، أو العدول عنه نهائياً إذا اقتضت مصلحة العمل ذلك.

وهكذا يمكن القول إنه إذا أقدمت الإدارة على مخالفة عرف سائد ولجأت إلى إنشاء قاعدة أفضل من القاعدة السابقة فلا يعاب عليها ذلك التصرف ما دامت تهدف بتصرفها الجديد إلى العدول النهائي عن العرف القديم.

4ـ أنواع العرف الإداري:

يميز الفقه بين عدة أنواع للعرف الإداري هي:

أ ـ العرف المخالف:

يقصد بالعرف المخالف ذلك العرف الذي يخالف القانون أو اللائحة. وبمعنى آخر هو كل قاعدة عرفية مخالفة لقاعدة قانونية مكتوبة.

ويمكن الجزم أنه لا يمكن أن ينشأ عرف إداري مخالف لقاعدة مكتوبة؛ لأن من شروط صحة العرف ـ كما اتضح سابقاً ـ عدم مخالفته لنص قائم؛ فلا يمكن القول بنشوء قاعدة عرفية مخالفة لقاعدة مكتوبة.

وقد أكدت المحكمة الإدارية العليا المصرية هذا المبدأ صراحةً بقولها: «إن اطراد العمل على مخالفة القانون، وبفرض حدوثه لا يسبغ الشرعية على هذه المخالفة، بل تظل برغم ذلك انحرافاً ينبغي تقويمه. كما أن من المسلم به أن العرف وإن جاز أن يعدل أو يغير من القواعد المفسرة أو المكملة لإرادة الطرفين فإنه لا يجوز أن يخالف نصاً آمراً… والنصوص الإدارية جميعها قواعد آمرة لا يستساغ أن ينشأ عرف على خلافها…». (حكم المحكمة الإدارية العليا الصادر بتاريخ 8 مايو 1965، المجموعة، السنة العاشرة، ص1219 وما بعدها).

كذلك فإن العرف الناشئ من خطأ في فهم القانون لا يمكن التعويل عليه، ذلك أن الخطأ في فهم القانون لا يمكن أن ينشئ قاعدة قانونية واجبة التطبيق، وأن القاعدة القانونية تطبق وفقاً للفهم الصحيح لمضمونها.

ب ـ العرف المسقط:

ويطلق عليه العرف السلبي أو العرف الملغي، وهو العرف المبني على عدم تطبيق نص قانوني قائم من جانب الإدارة.

وإذا كان قد ثار خلاف في فقه القانون الخاص حول مشروعية العرف المسقط أو السلبي فإن الأمر يختلف في مجال القانون العام، فلا يمكن القول بمشروعيته لأن ذلك مؤداه أن يكون للجهات الإدارية سلطة إلغاء القانون، وهو أمر لا تملكه وذلك لمخالفته قاعدة قانونية آمرة وهي عدم جواز إلغاء نص تشريعي إلا بتشريع لاحق، وهي قاعدة تسري على جميع فروع القانون العام والخاص على السواء.

ج ـ العرف المفسِّر:

وهو ذلك العرف الذي ينشأ لتفسير قاعدة قانونية مكتوبة إذا شاب النصَّ غموضٌ أو إبهام.

ويمكن القول إنه لا مجال للقول هنا بوجود عرف مفسر لأن الإدارة مطالبة بتطبيق القاعدة القانونية وفقاً للتفسير الصحيح لها. ومن ثم فإن هذا التفسير لا ينشئ قاعدة قانونية جديدة بل هو اجتهاد لتطبيق النص بحسب مضمونه الصحيح من دون أن يتضمن إنشاء قاعدة جديدة أو مخالفة. فالتفسير لا يمكن أن يؤدي إلى إنشاء قاعدة جديدة مغايرة للقاعدة المراد تفسيرها، وإلا تضمن ذلك مخالفة صريحة لهذه القاعدة، بل تقتصر عملية التفسير على فهم القاعدة ومحاولة تطبيقها تطبيقاً سليماً، بما يتفق مع التفسير الصحيح لإرادة واضع هذه القاعدة.

د ـ العرف المكمِّل:

هو العرف الذي يسد نقصاً في النصوص القانونية التي تحكم النشاط الإداري لأجهزة الإدارة المختلفة، شريطة ألا يخالف أي نص قائم. وهو أمر كثير الحدوث في المجال الإداري نظراً لتعدد مجالات النشاط الإداري وتطورها السريع من ناحية، وعدم تقنين كل قواعد القانون الإداري من ناحية أخرى.

ويمكن القول إن العرف المكمل عرف مشروع وملزم، ويجب التقيد به إذا توافرت شروط قيامه، وسواء تمت الإحالة إليه صراحةً، أم كان قد نشأ للحاجة إليه لسد نقص في النصوص القائمة، ومن ثم فإن مخالفته تعد خروجاً على مبدأ المشروعية.

5ـ نطاق تطبيق القاعدة الإدارية العرفية:

يمكن تحديد نطاق تطبيق القاعدة الإدارية العرفية، من خلال دراسة عدة نقاط على التفصيل التالي:

أ ـ نطاق تطبيق القاعدة الإدارية العرفية من حيث الأشخاص:

الملاحظ أن أغلب الأعراف الإدارية توصف بالخصوصية لأنها تنشأ في إطار سلطة إدارية واحدة وتتوجه إلى أعمال هذه السلطة أو المنتفعين بخدماتها أو المتعاملين معها.

ولا يشترط في أشخاص القاعدة الإدارية العرفية أن يكونوا أفراداً عاديين، بل قد يكونون من السلطة الإدارية، وفي هذه الحال يتصور سلطة إدارية رئاسية تخاطب جهات إدارية تابعة ومرؤوسة، وتتوجه إليها بالأمر والتكليف.

ب ـ نطاق تطبيق القاعدة الإدارية العرفية من حيث المكان:

إذا كان العرف في القانون الخاص ذا نشأة تلقائية غير محسوسة، فالأمر على خلافه بالنسبة إلى العرف الإداري، فهو وإن قام على بعض الحقائق الموضوعية، وتأثر بالظروف الاجتماعية يبقى رهيناً بإرادة الإدارة التي تتحكم بوجوده ودوامه، ومن ثم فهذا العرف لا يمكن تقسيمه على أساس اجتماعي أو مهني أو جغرافي، وإنما على أساس السلطة الإدارية.

صحيح أن العرف الإداري يمكن أن ينشأ في إطار نشاط مهني (نقابة المحامين أو الأطباء مثلا)، أو في إطار جغرافي (سلطة إدارية لامركزية)، إلا أن هذا العنصر المهني أو الجغرافي لا أهمية له إلا بتوافر عنصر السلطة الإدارية.

فعنصر المكان بالنسبة إلى العرف الإداري لا يعدو أن يكون الوعاء المادي الذي يتحدد داخله أشخاص القاعدة الإدارية العرفية.

وينوه هنا بأن نشوء الأعراف الإدارية في إطار السلطات اللامركزية الإقليمية قد يثير القول إن ذلك يعارض وحدة الأساليب والحلول الإدارية في الدولة الواحدة، وهو قول يمكن رده، ذلك أن لكل إدارة لامركزية ظروفها الخاصة التي تبرر اعتياداتها الإدارية، إضافة إلى أنه يمكن للدولة عند اللزوم توحيد الاتجاه الإداري في مسائل معينة، وذلك عن طريق التنظيم التشريعي، وهو التنظيم الذي يعلو أي تنظيم عرفي.

ج ـ تطبيق القاعدة الإدارية العرفية من حيث الزمان:

العرف الإداري مثله في ذلك مثل أي عمل قانوني يسري بأثر مباشر منذ لحظة نشوئه، فهو لا يسري بأثر رجعي.

ولقد ذكر أن العرف الإداري يقوم على رضا الإدارة ورضا الأفراد، ونشوء الركن المعنوي للعرف الإداري يتم بطريقة بطيئة وغير محسوسة، ويترتب على هذا النشوء البطيء النتائج التالية:

ـ إن تحديد هذا الوقت من الأمور العسيرة، ويمكن القول إنه من الممكن الكشف عن وجود القاعدة وسريانها، وتعيين المخاطبين بأحكامها، ولكن من الصعب تحديد تاريخ مولدها.

ـ قد تعتنق الجهة الإدارية القاعدة العرفية قبل الحصول على موافقة الأفراد، ولكن هذه القاعدة لا يكتمل نموها ولا تسري إلا من تاريخ قبولهم بها.

ـ المشكلة نفسها تثار فيما لو تم إلغاء القاعدة العرفية، فهذا الإلغاء يتم بصورة تدريجية، ومن الصعب تحديد تلك المرحلة التي يتم منها الانتقال إلى مرحلة القاعدة العرفية الجديدة.

ـ بدء سريان القاعدة الإدارية العرفية هو الأساس للحكم على مشروعية أعمال الإدارة الفردية التي تنشأ في ظلها.

وفي جميع الأحوال فذلك من الأمور الموضوعية التي يعود تقديرها إلى القاضي تبعاً لكل قاعدة والظروف الخاصة بها.

6ـ دور العرف بوصفه مصدراً من مصادر القانون الإداري:

التساؤل الذي يطرح نفسه في هذا المجال هو: ما حدود الدور الذي يؤديه العرف بوصفه مصدراً للقانون الإداري؟

ظهر رأي في الفقه يقول إن العرف هو أضعف مصادر القانون الإداري، وذلك لعدة أسباب منها: الغموض وعدم التحديد لقواعده، والصعوبات العديدة التي تكتنف إثباته، إضافة إلى عدم الدقة المصاحبة للقاعدة العرفية من تاريخ نفاذها، ومن بقاء حكمها، فضلاً عن أن حداثة القانون الإداري لم يتمكن العرف معها من القيام بدور مهم في بناء قواعده، فهو يحتاج إلى فترة زمنية طويلة للثبات والاستقرار.

ولكن الرأي الراجح المستقر أن العرف مصدر مهم من مصادر القانون الإداري، وهو يؤدي دوراً فاعلاً ومؤثراً في مد القانون الإداري بكثير من مبادئه وقواعده، إلا أنه رغم ذلك يحتل المكانة الثانية بعد التشريع المكتوب.

ويؤيد أصحاب هذا الاتجاه رأيهم بأن من سمات القانون الإداري أنه قانون غير مقنن، فهو سريع التطور من جهة، ومن الصعب تحديد النشاط الإداري المتطور دائماً لتحقيق المصلحة العامة في ثنايا تقنين واحد مستقر من جهة ثانية. وهنا يأتي دور العرف الإداري المكمل أي القواعد العرفية التي تنشأ لسد النقص في التشريعات الإدارية، لصعوبة توقع السلطة المشرعة مسبقاً لكل المسائل التي من المحتمل أن تستجد مستقبلاً.

7ـ موقع العرف الإداري على سلم المشروعية:

يأتي العرف من حيث القوة في المرتبة الثانية بعد التشريع، ومن ثم فلا يجوز أن يتكون عرف على خلاف نص قانوني مكتوب، سواء كان نصاً في قانون عادي أم في لائحة. فالقاعدة أن العرف يجب ألا يخالف إرادة المشرع الصريحة.

ويترتب على ذلك أنه لا يجوز للقاضي الإداري أن يلجأ إلى العرف، بوصفه مصدراً من مصادر القانون الإداري إلا إذا لم يوجد نص مكتوب يمكن تطبيقه. ويترتب على ذلك أنه يجوز إلغاء القاعدة العرفية أو تعديلها بموجب قانون مكتوب أو لائحة تصدر على خلاف القاعدة العرفية. إلا أن إعداد مشروع قانون أو لائحة ليس من شأنه ـ قبل صدورهما ـ أن يغير من القاعدة العرفية القائمة، ذلك أن القاعدة القانونية العرفية لا يلغيها أو يعدلها إلا قاعدة جديدة ـ عرفية أو مكتوبة ـ تكونت فعلاً واكتسبت قوتها القانونية.

8ـ زوال العرف الإداري:

يزول العرف الإداري أو يلغى في عدة حالات تذكر فيما يلي:

أ ـ إلغاء العرف الإداري بالقواعد التشريعية:

القواعد التشريعية (التشريع الدستوري والعادي والفرعي) تسمو على القواعد الإدارية العرفية درجة وطبيعة، وبالتالي فعلى القواعد العرفية أن تخضع باستمرار للقواعد التشريعية القائمة عند نشوئها أو التي تصدر بصورة لاحقة لهذا النشوء. فإذا ما صدر تشريع يعارض عرفاً قائماً فهذا العرف يُعدّ ملغى بصورة ضمنية.

ب ـ إلغاء العرف الإداري بالأعراف الإدارية الأسمى مرتبة:

إن الجهة الإدارية التي أنشأت العرف الإداري هي التي تستطيع إلغاءه بعمل عرفي آخر مضاد بحسب قاعدة تقابل الاختصاص أو توازيه، كما أن العرف الإداري يلغى بعرف إداري مضاد ناشئ من سلطة إدارية تسمو على السلطة التي أنشأت العرف الملغى.

وهذا ما أكدته محكمة القضاء الإداري المصرية بقولها: «العرف الإداري هو النظام الذي تقرره جهات الإدارة في صدد أمر معين وتسير على سننه، فهو بمثابة القانون أو اللائحة من حيث وجوب احترامه والعمل به إلى أن يحصل تغييره بإجراء عام» (حكمها الصادر في 7 فبراير 1948، المجموعة، السنة 2، حكم رقم 62، ص355).

ج ـ إلغاء العرف الإداري في حال تغير الظروف الواقعية التي يقوم عليها:

فعلى سبيل المثال إذا كانت الإدارة قد نظمت شروط تقليد الوظيفة العامة، أو الانتفاع بالمال العام، ثم ألغيت الوظيفة موضوع التنظيم أو أنهي تخصيص المال للنفع العام فهنا يلغى العرف الإداري بسبب إلغاء محله وموضوعه وانعدام القرارات الإدارية «السوابق» التي يقوم عليها.

 

مراجع للاستزادة:

 

ـ أنور رسلان، وسيط القضاء الإداري (دار النهضة العربية، القاهرة 1999).

ـ برهان زريق، نحو نظرية عامة في العرف الإداري، رسالة دكتوراه (مطبعة عكرمة، دمشق 1986).

ـ رمضان بطيخ، الرقابة على أداء الجهاز الإداري «دراسة علمية وعملية في النظم الوضعية والإسلامية» (دار النهضة العربية، القاهرة 1998).

ـ سام دلة، مبادئ القانون الدستوري والنظم السياسية (منشورات جامعة حلب، 2005).

ـ عبد الله طلبة، الرقابة القضائية على أعمال الإدارة «القضاء الإداري» (منشورات جامعة حلب، 1990).

ـ عصام أنور سليم، أسس الثقافة القانونية (المكتب الجامعي الحديث، الإسكندرية 2001).

ـ فتحي فكري، القانون الدستوري، الكتاب الأول «المبادئ الدستورية العامة» (شركة ناس للطباعة، القاهرة 2002).

ـ فيصل كلثوم، دراسات في القانون الدستوري والنظم السياسية (منشورات جامعة دمشق، 2004ـ 2005).

ـ محمد أنس قاسم جعفر، النظم السياسية والقانون الدستوري (دار النهضة العربية، القاهرة 1999).

ـ محمد عبد العال السناري، مبادئ ونظريات القانون الإداري «دراسة مقارنة» (بلا ناشر، 2004ـ 2005).

ـ محمد مرغني خيري، القضاء الإداري ومجلس الدولة، ج1، «مبدأ المشروعية، مجلس الدولة، قضاء الإلغاء» (بلا ناشر وبلا تاريخ).

ـ محمود عاطف البنا، الوسيط في القضاء الإداري، ط2 (بلا ناشر، 1999).

ـ هشام القاسم، المدخل إلى علم القانون (منشورات جامعة دمشق، 1983).

ـ وفاء سيد رجب، مستقبل القانون الإداري «دراسة مقارنة» (بلا ناشر، 2007).


التصنيف : القانون العام
النوع : القانون العام
المجلد: المجلد الخامس: طرق الطعن في الأحكام الإدارية ــ علم العقاب
رقم الصفحة ضمن المجلد : 122
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 516
الكل : 31248086
اليوم : 73243