logo

logo

logo

logo

logo

عقد الوديعة

عقد وديعه

deposit contract - contrat de dépôt conclu

 عقد الوديعة

عقد الوديعة

ياسر عياش

مفهوم عقد الوديعة

أركان عقد الوديعة

آثار عقد الوديعة

انتهاء الوديعة

أنواع الوديعة

 

أولاًـ مفهوم عقد الوديعة:

عقد الوديعة من العقود المسماة التي تنظم معاملات الأفراد، وقد نص عليه المشرع في القانون المدني في الكتاب الثاني في الباب الثالث في فصله الرابع، وذلك من المادة 684 وحتى المادة 694 منه.

1ـ تعريف عقد الوديعة: الوديعة لغة: ما اســتودع، وأودع الشيء: صانه، والوديعة واحدة الودائع، واستودعه وديعة استحفظه إياها، وأودعته مالاً: دفعته إليه ليكون وديعة.

والوديعة اصطلاحاً: المال المدفوع إلى من يحفظه بلا عوض. أوهي المال الذي يودع عند شخص لأجل الحفظ. ويطلق التعريف على العين المودعة ذاتها، وعلى العقد المنظم للإيداع. 

والوديعة قانوناً، وفق ما عرفها القانون المدني الفرنسي بوجه عام، عمل يتسلم بموجبه آخر شيئاً للغير، ملتزماً بحفظه وإعادته بعينه.

أما المشرع السوري فقد عرف الوديعة في المادة (684) من القانون المدني بقوله: "الوديعة عقد يلتزم به شخص أن يتسلم شيئاً من آخر على أن يتولى حفظ هذا الشيء وعلى أن يرده عيناً".

فالوديعة عقد رضائي يلتزم الوديع بموجبه أن يتسلّم من المودِع شيئاً، سواء أكان منقولاً أم عقاراً، ليتولى حفظه ثم يرده إليه. وهي لا تنعقد إلا بتراضي الطرفين، والتسليم فيها بعد الانعقاد هو التزام وليس ركناً فيها. أي إن التسليم التزام في ذمة الوديع بعد أن تنعقد الوديعة، فالعقد يتم قبل تسليم الشيء.

2ـ خصائص عقد الوديعة: يستنتج من التعريف السابق أن عقد الوديعة يتمتع بخصائص من أهمها:

أ ـ الوديعة عقـد رضائي: إذ تتم بمجرد توافق الإيجاب والقبول من دون حاجة إلى شـكل خاص. ولأنها ليست  بعقد عيني فلا يشترط لانعقادها تسليم الشيء المودَع إلى المودَع عنده، لأن التسليم ليس ركناً في الوديعة، وإنما هو التزام في ذمة الوديع بعد أن تنعقد الوديعة.

ب ـ الوديعة عقد تبرع: الوديعة في الأصل من عقود التبرع، وتكون من عقود المعاوضة إذا اشترط فيها الأجر. والوديعة غير المأجورة، كالعاريّة، من عقود التفضل لا من الهبات. فعقود التفضل هي التي يولي المتبرع فيها المتبرع له فائدة من دون أن يخرج عن ملكية ماله. فالوديعة عقد تفضل لأن الوديع يتبرع بعمله لا بماله. أما الهبات فيخرج فيها المتبرع عن ملكية ماله، كعقد الهبة يخرج فيها الواهب عن ملكية الموهوب.

ج ـ الوديعة عقد ملزم لجانب واحد: وتبقى على هذا الأصل في الغالب لأنها لا تكون عادة مأجورة. وإذا كانت الوديعة غير مأجورة، فإن المودِع لا يترتب عادة في ذمته بالوديعة أي التزام، وتكون الالتزامات كلها في جانب الوديع، فيلتزم بتسلم الشيء المودَع وبحفظه وبرده. وإذا كانت الوديعة مأجورة، فيلتزم المودِع بالأجر وبالالتزامات التي سيأتي بحثها لاحقاً.

د ـ الوديعة ذات اعتبار شخصي: وهذا الاعتبار أبرز في شخصية الوديع من شخص المودِع. ومن ثم تنتهي الوديعة بموت الوديع، ولا يجوز لهذا الأخير أن يحل غيره في حفظ الوديعة من دون إذن صريح من المودِع، إلا أن يكون مضطراً إلى ذلك بسبب ضرورة ملحة وعاجلة.

هـ ـ الوديعة عقد غير لازم من جانب المودِع: لأن للمودِع طلب رد الشيء المودَع عند الوديع في أي وقت ولو قبل انقضاء الأجل، ما لم يكن الأجل في مصلحة الوديع.

و ـ الوديعة عقد يلتزم به الوديع بحفظ الشيء المودَع: فلا تكون هناك وديعة، إذا لم يكن هناك إلزام عقدي بالحفظ. فإذا ترك الشيء صاحبه عند آخر، من دون أن يلتزم هذا الأخير صراحة أو ضمناً بحفظه، لم يكن هناك عقد وديعة. ومثال ذلك أن يضع العامل ملابسه التي يرتديها بعد العمل في فناء المصنع إلى أن ينتهي عمله اليومي، أو يضع الشخص معطفه أو مظلته أو عصاه في منزل يزوره أو مطعم يرتاده. ففي هذه الحالة لا يوجد عقد وديعة، إلا إذا تبين من الظروف أن الوديع قصد أن يلتزم بحفظ الشيء المودع، كأن خصص مكاناً لحرز هذه الأشياء أو عين مستخدماً لتسلمها وإعطاء صاحبها ورقة تحمل رقماً يستردها بها.

ولا يكفي أن يلتزم الشخص بحفظ الشيء، بل يجب أن يكون الالتزام بحفظ الشيء هو الغرض الأساسي من العقـد، فالوديعة غرضها الأساسي هو الحفظ بالذات، بخلاف الإيجار والعارية اللذين تعدّ الغاية الأساسية منهما هي الانتفاع بالشيء. وكذلك المقاولة والوكالة اللتان يعد الغرض الأساسي منهما هو القيام بعمل معين. ومن ثم فإن الالتزام بالحفظ في هذه العقود إنما يدخل تبعاً للغرض الأساسي وبصفة غير أصلية.

3ـ تمييز عقد الوديعة من العقود المشابهة له: على الرغم من كون عقد الوديعة من العقود المسماة، إلا أنه يختلف عن العقود الأخرى وفق التالي:

أ ـ عقد الوديعة وعقد البيع: قد يصعب التمييز بين الوديعة والبيع فيما يسمى بعقد المحاسبة. فيودع مثلاً تاجر الجملة المجوهرات أو البضائع عند تاجر التجزئة لبيعها، على أن يرد له ثمنها بسعر معين إذا باعها أو يردها هي بذاتها إذا لم يتمكن من بيعها. فإذا بيعت جاز اعتبار العقد بيعاً من تاجر الجملة إلى تاجر التجزئة بالسعر المعين، وهو بيع معلق على شرط موقف وهو أن يتمكن تاجر التجزئة من بيع البضاعة بالثمن الذي يحدده، والفرق بين هذا الثمن والسعر المبين هو مكسب تاجر التجزئة. وإذا لم يبع تاجر التجزئة البضاعة وردها بعينها إلى صاحبها، جاز اعتبار العقد وديعة، وتكون وديعة معلقة على شرط فاسخ هو البيع.

ولا يمكن اعتبار هذا العقد وكالة، لأن تاجر التجزئة لا يجبر على تقديم حساب لبائع الجملة، كما يجوز له أن يشتري البضاعة لنفسه، وإذا هلكت البضاعة بسبب أجنبي تحمَّل وحده الهلاك خلافاً للوكيل.

ب ـ عقد الوديعة وعقد الإيجار: تختلف الوديعة عن الإيجار في أن الوديع لا ينتفع بالعين المودعة، أما المستأجر فينتفع بالعين المؤجرة ويدفع أجراً في مقابل هذا الانتفاع. في حين أن الوديع لا يدفع أجراً بل من الممكن أن يدفع المودِع الأجر.

إضافة إلى ذلك، فإن مسؤولية الوديع أخف من مسؤولية المستأجر. ويلتزم المودَع عنده برد العين إلى المودِع بمجرد طلبه ولو لم ينقض الأجل. في حين أن المستأجر لا يرد العين إلا بعد انقضاء مدة الإيجار. مع الإشارة إلى أن الوديع والمستأجر يشتركان في أنه إذا تصرف أي منهما بالعين من دون إذن المالك فيعدّ مبدداً.

وقد يقع لبس بين العقدين في أحوال أبرزها، أن يتعاقد شخص مع أحد المصارف على أن يُخصص له خزانة في مصرف يضع فيها ما يخشى عليه الضياع من الأشياء الثمينة. وعلى الرغم من اختلاف الفقه والقضاء في ذلك، إلا أن الرأي قد استقر أخيراً على اعتبار هذا العقد عقد وديعة وليـس إيجاراً. وذلك لأن التزام المصرف بالمحافظة على الخزانة هو التزام جوهري، ولو كان المصرف مؤجـراً للخزانـة لكان التزامـه بالمحافظة عليـه التزاما ثانوياً، والعميل إنما تعاقد مع المصرف للحصول على هذا الالتزام، والعقد الذي يكون فيه واجب الحفظ واجباً جوهرياً إنما يكون وديعة لا إيجاراً. ولا يمنع من أن يكون العقد وديعة أن يكون المصرف لا يتسلم الشيء، فالوديع قد يترك المودِع يضع بنفسه الشيء في المكان الذي يحفظ فيه دون أن يتسلمه. كذلك لا يمنع من أن يكون العقد وديعة أن المصرف لا يقوم بنفسه برد الشيء، فيكفي في الرد أن المصرف يمكِّن العميل من استرداد ما استودعه في الخزانة. وإذا كان هناك اعتراض جدي على أن العقد وديعة، فهذا الاعتراض إنما يأتي من أن الوديعة تكون عادة غير مأجورة، بل هي خدمة وديَّة يقوم بها صديـق نحو صديقه. ومن ثم يجب أن يتميز من عقود الوديعة العادية ما يمكن أن يسمى بعقود الحفظ المهنية، إذ يتخذ الشخص الوديعة المأجورة حرفة له، كالمصرف، وصاحب المرآب العام الذي تودع السيارات عنده. وبهذا قضت محكمة النقض بقرارها ذي الرقم (2773) تاريخ 3/10/2000 بقولها "إذا كان العقد غير مسمى ومزيجاً بين الايجار والوديعة، فإنه يخرج من دائرة عقود الإيجار البحتة، ويكون الاختصاص في رؤية النزاع وفقاً لقواعد الاختصاص القيمي". وتجدر الإشارة إلى أن قانون التجارة السوري الجديد رقم 33 لعام 2007 أخضع إيجار الصناديق إلى أحكام إيجار الأشياء، وفق ما جاء في  المادة (266) منه. 

ج ـ عقد الوديعة وعقد الوكالة: يغلب أن يقع في يد الوكيل أموال أو أشياء مملوكة للموكل، فإن هذه الأموال والأشياء الموجودة في يد الوكيل هي لتنفيذ الوكالة ولم يتسلمها لحفظها، ومن ثم لا تكون هناك وديعة مقترنة بالوكالة.

إلا أنه قد تقترن الوديعة بالوكالة، كما إذا أودع شخص مالاً عند آخر لحفظه، ووكله في الوقت ذاته بأن يدفع هذا المال بعد مدة معينة لدائن له يستوفي منه حقه.

د ـ عقد الوديعة وعقد العاريّة: تتشابه الوديعة والعاريّة في أن كلاً من الوديع والمستعير يتسلم شيئاً للغير يحفظه عنده ويرده إليه عند نهاية العقد، ولكن الوديع يتسلم الشيء ليحفظه دون أن يستعمله. فالغرض الأساس من العقد هو الحفظ، كما إذا أودع شخص بضاعة عند تاجر لحفظها في مخزنه. أما المستعير فيتسلم الشيء لينتفع به، فالغرض الأساسي هو استعمال الشيء لا الحفظ، كما إذا تسلم الشيء ورخص له في استعماله، فيكون الاستعمال هوا لغرض الأساسي من العقد.

هـ ـ عقد الوديعة وعقد القرض: تتميز الوديعة من القرض بأن ملكية الشيء لا تنتقل بالوديعة ولا يجوز للوديع استعمال الشيء، ويجب رده عيناً. أما القرض فإنه ينقل ملكية الشيء على أن يرد مثله.

 وقد تختلط الوديعة بالقرض إذا كان محل الوديعة مبلغاً من النقود أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال كالقطن والحبوب، وأذِن المودِع للوديع في استعمال هذا الشيء، واستهلكه الوديع بالاستعمال، فلا يستطيع في هذه الحالة أن يرد الوديعة عينها، ويجب عليه أن يرد مثل الشيء، ويعتبر العقد في هذه الحالة قرضاً وفق ما نصت عليه المادة (692) من القانون المدني.

و ـ عقد الوديعة وعقدا المقاولة والعمل: الوديعة ترد على نوع معين من العمل، هو حفظ الشيء لمصلحة المودِع ورده إليه عيناً، فالغرض الأساسي والجوهري من الوديعة هو حفظ الشيء. أما المقاولة والعمل فهما تردان على عمل يقوم به شخص لآخر لقاء أجر معلوم، ولا تقعان على الحفظ فقط، وإن وقعا فالحفظ فيهما يكون أمراً ثانوياً غير مقصود لذاته.

والأصل في الوديعة أن تكون بغير أجر، وإذا اتفق الطرفان على الأجر فهو عادة أجر زهيد يكافأ به الوديع على ما بذله من جهـد في حفظ الوديعة، فالوديع ليس مضارباً ولا يبغي الكسـب، أما المقاولة فهي من عقود المضاربة، ويبغي المقاول الكسـب من ورائها، وهي بأجر غير زهيد مقابل ما يبذله المقاول من عمل، ومن ثم تكون مسؤوليته أكبر من مسؤولية الوديع.

ولكل من المودِع والوديع أن يتحلل من العقد قبل انقضاء أجله ما لم يكن الأجل في مصلحة الطرف الآخر. بخلاف المقاولة، فالتحلل منها مقيد بالتعويض عملاً بأحكام المادة (629) من القانون المدني.

وهناك عقود مقاولة تتضمن وديعة، كأن يدفع شخص بسيارته إلى مرآب لإصلاحها، فصاحب المرآب في تعهده بإصلاح السيارة يبرم عقد مقاولة، وهو في الوقت ذاته يحفظ السيارة في المرآب المدة اللازمة لإصلاحها، فتكون مسئوليته عن سرقة السيارة مسؤولية الوديع.

ويذهب بعض الفقهاء إلى أن الوديعة المأجورة تكون مقاولة إذا كان الأجر مجزياً يتكافأ مع الجهد الذي بذله الوديع في حفظ الوديعة، أما إذا كان الأجر زهيداً فتبقى الوديعة المأجورة عقد وديعة. وبحسب هذا الرأي يكون الإيداع في المخازن العامة أوعند من يحترف مهنة الاسـتيداع عقد مقاولة لا عقد وديعة. وهناك رأي ثان يذهب إلى أن الوديعة المأجورة تكون مقاولة، أياً كان مقدار الأجرة، ولو كان زهيداً. ويذهب رأي ثالث إلى أن الوديعة المأجورة هي عقد قائم بذاته تمكن تسميته بعقد الحفظ. والصحيح أن الوديعة المأجورة تبقى وديعة ولو كان الأجر فيها غير زهيد، وإن كانت الوديعة قد تطورت في العصر الحديث فغلب عليها الأجر بعد أن كان يغلب عليها التبرع. 

ز ـ عقد الوديعة وعقد الرهن الحيازي: تتفق الوديعة مع الرهن الحيازي في أن صاحب الشيء يودعه في كلا العقدين عند الآخر، ولكن يختلف العقدان في الغرض منهما. فالغرض الرئيسي في عقد الوديعة هو إيداع الشيء لحفظه ورده. أما الغرض من رهن الحيازة هو الاحتفاظ بالشيء ضماناً لوفاء دين.

وقد تقترن الوديعة بالرهن، وذلك إذا رهن شخص شيئاً مودعاً عند الآخر، فيكون المودَع عنده محتفظاً بالشيء وديعةً، ويستمر حائزاً له لحساب الدائن المرتهن، ومن ثم تكون وديعة مقترنة برهن. وأكثر ما يقع ذلك عندما يرهن صاحب البضاعة بضاعته المودَعة في محزن عام، وتبقى البضاعة مودعة في المخزن العام لحساب الدائن المرتهن.

ثانياًـ أركان عقد الوديعة:

عقد الوديعة يجب أن تتوافر فيه جميع الأركان العامة اللازم توافرها في سائر العقود من حيث الرضا والمحل والسبب.

1ـ الركن الأول: التراضي:

أ ـ شروط الانعقاد: بما أن الوديعة عقد رضائي والتسليم فيها هو التزام وليس ركناً، يكفي لانعقادها توافق الإيجاب والقبول من المودِع والوديع. ولعدم وجود أحكام خاصة، في هذا الصدد، بعقد الوديعة، فإنه تسري عليه القواعد العامة المقررة في نظرية العقد. فإذا أعطى شخص شيئاً لآخر وقصد أن يكون وديعة، واعتقد الآخر أنه هبة أوعاريّة، لم يتوافق الإيجاب والقبول، فلا ينعقد العقد لا باعتباره هبة ولا عاريّة ولا باعتباره وديعة. وكذلك تسري الأحكام المتعلقة بطرق التعبير عن الإرادة تعبيراً صريحاً، كأن يقول صاحب الوديعة لآخر أودعتك هذا الشيء أو جعلته أمانة عندك، فقال الوديع  قبلت، أو يكون التعبير ضمنياً كمن يضع شـيئاً بين يدي آخر ولم يقل شيئاً فهو إيداع. والوقت الذي ينتج فيه التعبير عن الإرادة أثره، هو موت من صدر منه التعبير عن الإرادة أو فقـده أهليته. وكذلك أحكام التعاقد ما بين الغائبين، والنيابة في التعاقد، وغير ذلك من الأحكام.

ومنذ أصبحت الوديعة عقداً رضائياً، صار الوعد بالوديعة يعادل الوديعة نفسها، ولم تعد هناك أهمية للتمييز بينهما.

ويملك الإيداع في الأصل مالك الشيء، ويجوز من نائبه وكيلاً كان أو ولياً أو وصياً أو قيّماً، ولمن له حق التصرف في الانتفاع بالشيء ولو لم يكن مالكاً له، كصاحب حق الانتفاع والمستأجر والمستعير والمرتهن رهناً حيازياً، ولهؤلاء جميعاً أن يودعوا الشيء حتى عند المالك نفسه.

أما من لا يملك التصرف في الانتفاع بالشيء فلا يجوز له في الأصل الإيداع. فالوديع لا يملك أن يودع الشيء من الباطن إلا بإذن المودِع ما لم يكن مضطراً إلى ذلك بسبب ضرورة ملجئة عاجلة وفق ما نصت عليه المادة (687) من القانون المدني. وإذا أودع الشـيء من لا يملكه وليس له التصرف في الانتفاع به، صحت الوديعة بين المتعاقدين لكنها لا تنفذ في حق المالك. فإذا أودع السارق المسروق عند شخص آخر، صحت الوديعة فيما بينهما، ولكنها لا تنفذ في حق المسروق منه، ولهذا الأخير أن يسترد الشيء المسروق من الوديع.

وعلى كل حال، سواء أكان المودِع هو المالك أو غيره، فإنه يجب على الوديع أن لا يرد الوديعة لغير المودِع، إلا إذا حُكم قضائياً بغير ذلك، ويكون المودِع مسؤولاً قِبل الوديع كما لو كان أودع ملكه.

والأصل في الوديعة أن تكون عقداً مدنياً ما لم تكن تابعة لعمل من أعمال التجارة، فتعتبر عندئذ عقداً تجارياً. كما إذا أودع تاجر بضاعته في مخزن عام، فيكون العقد تجارياً من جانب كل من المودِع والوديع. وكما إذا أودع شخص ماله في مصرف، فيكون العقد تجارياً من جانب الوديع، ومدنياً من جانب المودِع.

فإذا كانت الوديعة عقداً تجارياً، جاز إثباتها بجميع طرق الإثبات، بما في ذلك البينة الشخصية والقرائن، مهما كانت قيمة الوديعة ولو زادت قيمتها على خمسمئة ليرة سورية، عملاً بأحكام الفقرة الأولى من المادة (54) من قانون البينات وما استقر عليه الاجتهاد القضائي لمحكمة النقض ـ الدائـرة الجزائية بقرارها ذي الرقم 3122 تاريخ 15/12/1993 بقولها: "لا يجوز إثبات ما يخالف الوديعة المؤيدة بالكتابة إلا بكتابة مثلها، إلا إذا كانت الوديعة تابعة لعمل من أعمال التجارة، حيث يجوز عندها إثبات ما يخالف السند المكتوب بشهادة الشهود، وذلك طبقاً لقواعد الإثبات المدنية".

أما إذا كانت الوديعة عقداً مدنياً، فتسري القواعد العامة المقررة في الإثبات. فيجوز الإثبات بجميع طرق الإثبات، بما في ذلك البينة الشخصية والقرائن، إذا لم تزد قيمة الوديعة على خمسمئة ليرة سورية، أو إذا وجد مبدأ ثبوت بالكتابة، أو إذا وجد مانع مادي أو أدبي يحول دون الحصول على دليل كتابي، أو إذا فقد المودِع سند الوديعة لسبب أجنبي، أو طعن في عقد الوديعة بأنه ممنوع بالقانون أو مخالف للنظام العام أو الآداب عملاً بأحكام المادة (57) من قانون البينات.

وتسري قواعد الإثبات المتقدمة حتى في المسائل الجزائية، إذ أوجب إثبات الوديعة في معرض جريمة إساءة الائتمان، لأنه غالباً ما يحتفظ المودِع بدليل كتابي يثبت الوديعة لئلا يدعي المودَع عنده بأن الشيء المودَع قد سلِّم إليه على سبيل العاريّة أو الهبة اليدوية، وكذلك لمطالبته قضائياً بالتعويض فيما إذا أنكر المودَع عنده الوديعة باعتباره مغتصباً للوديعة. وبهذا قضت محكمة النقض ـ الدائرة الجزائية في قرارها ذي الرقم 135 تاريخ 30/6/1982 بقولها: "يجب في جريمة إساءة الائتمان إثبات عقد الأمانة أولاً بالوسائل المدنية، ليمكن إثبات الجريمة نفسها والتصرف بالأمانة بعد ذلك بكل أنواع الإثبات".

ب ـ شروط الصحة: وترجع هذه الشروط إلى الأهلية والرضا.

(1)ـ الأهلية في عقد الوديعة: يجب التمييز بين أهلية المودِع التي تكفي فيها أهلية الإدارة، وبين أهلية الوديع التي تشدد القانون فيها.

فالمودِع يقوم بعمل من أعمال الإدارة لا من أعمال التصرف، حتى لو كانت الوديعة بأجر، فلا تشـترط فيه أهلية التصرف وتكفي أهلية الإدارة. ومن ثم يكـون الصبي المميز والمحجور عليه المأذون لهما في إدارة أموالهما من ذوي الأهلية للإيداع. ومن باب أولى يكون أهلاً للإيداع من بلغ سـن الرشـد. أما الصبي غير المأذون له في إدارة أمواله، ومن يلحق به من المحجور عليهم، فلا يكونون أهلاً للإيداع. وإنما يجوز للولي أو الوصي أو القيّم أن يقوم بإيداع أموالهم. لأن الإيداع عمل من أعمال الإدارة فيدخل في ولاية النائب عن المحجور عليه.

وإذا أودع الصبي المميز غير المأذون له في إدارة أموالـه كانت الوديعـة قابلـة للإبطال، وجاز لوليـه أو له عند بلوغه سـن الرشـد، أن يطلب إبطال الوديعة. وإذا كان الوديع أهلاً للتصرف فإنه لا يستطيع إبطال الوديعة، ولو أن المودِع كان غير أهل للإدارة. إذ لا يجوز إلا لمن شرع الإبطال لمصلحته إبطال العقد. ومن ثم يبقى الوديع ملتزماً بالوديعة ما دام المودِع لم يطلب إبطال العقد، وأدى ما ترتبه الوديعة في ذمته من التزامات.

أما الوديع فإنه يلتزم بحفظ الشيء وبرده، حتى لو كان يأخذ أجراً، لذلك يجب أن تتوافر فيه الأهلية الكاملة أي أهلية التصرف والالتزام، فلا تكفي أهلية الإدارة. فلا يجوز إذن أن يقبل الوديعة إلا من بلغ سن الرشد.

وينتج من ذلك أنه إذا قبِل الوديعة الصبي المميز ومن هو في حكمه، ولو كان مأذوناً له في إدارة أمواله، كانت الوديعة قابلة للإبطال، ويستطيع الصبي المميز بعد بلوغه سن الرشد أو وليه، قبل ذلك، أن يطلب إبطال الوديعة، فيتحلل من التزاماته، ولا يرجع عليه المودِع إلا بمقدار ما انتفع به طبقاً لقواعد الإثراء بلا سبب. فإذا أضاع الشيء المودَع، أو انتقل من يده إلى يد شخص آخر، أو أتلفه الغير، لم يكن مسؤولاً عن رده سليماً إلى المودِع، ولا يرجع هذا عليه إلا بمقدار ما انتفع. وهذا ما لم يكن الوديع قد ارتكب خطأً تقصيرياً، فإنه في هذه الحالة يكون مسؤولاً عن التعويض الكامل، لأن المميز يلتزم التزاماً كاملاً بخطئه التقصيري.

(2)ـ عيوب الإرادة في عقد الوديعة: إن عيوب الارادة في عقد الوديعة هي عيوبها في أي عقد آخر، فتسري القواعد العامة المقررة في هذا الشأن. فيعيب إرادة المتعاقديـن وإرادة الوديع بوجه خاص، أن تكون مشـوبة بغلط أو تدليـس أو إكراه أو غبن استغلالي.

ذلك أن الوديعة يغلب فيها الاعتبار الشخصي، ومن ثم يغلب أن تكون شخصية المودِع ملحوظة في العقد، وتكون شخصية المودَع عنده دائماً ملحوظة. فتبطل الوديعة إذن للغلط في شخصية المودِع، وخاصة للغلط في شخصية الوديع.

والإكراه يعيب الإرادة في الوديعة كما يعيبها في سائر العقود. ولكن تعد الوديعة الاضطرارية صحيحة ما دامت إرادة المودِع تقع تحت ضغط لا يمكن أن يصل إلى حد الإكراه.

2ـ الركن الثاني: المحل: إن المحل الأصلي في عقد الوديعة هو الشيء المودَع. وقد يُشترط أجر للوديعة فيصبح الأجر محلاً آخر، ولكنه محل عرضي قد يوجد وقد لا يوجد.

ويجب أن يتوافر في الشيء المودَع الشروط العامة التي يجب توافرها في المحل. فيجب أن يكون الشيء موجوداً، وأن يكون معيناً أو قابلاً للتعيين، وأن يكون صالحاً للتعامل فيه، وغير مخالف للنظام العام أو الآداب العامة، فلا يجوز إيداع الأشياء المهربة ولا المخدرات، وذلك كله عملاً بأحكام المواد 133 و134 و136 من القانون المدني.

وغني عن البيان أن أي شيء توافرت فيه الشروط سالفة الذكر يجوز إيداعه، ويستوي في ذلك المنقول والعقار، وهذا مستفاد من نص المادة (692) من القانون المدني حينما أطلقت محل الوديعة وجعلته "أي شيء آخر" من دون أن تخصصه بالمنقول.

ومع ذلك يغلب أن يكون الشـيء المودَع منقولاً، إذ المنقول أحوج إلى الحفـظ من العقار. ولكن لا شيء يمنع من أن يودَع العقار، فيعهد شخص إلى آخر بحراسة منزله مدة سفره. وليست الحراسة الاتفاقية أو القضائية إلا ضرباً من ضروب الوديعة يجوز أن يكون الشيء المودَع فيها عقاراً كما هو الغالب.

والأشياء التي يجوز إيداعها كثيرة ومتنوعة، فيجوز إيداع البضائع والسيارات والملابس والمفروشات والمجوهرات، كما يجوز إيداع الأراضي والمباني من منازل ومكاتب ومحلات وغير ذلك. وكذلك يجوز إيداع الأشياء القابلة للاستهلاك والأشياء المثلية على أن ترد بعينها.

ومما تجدر الإشارة إليه إلى أن الحقوق المعنوية لا تودَع، فلا يودع الدائن حقه الثابت في ذمة مدينه، لأن هذا الحق يستعصي بطبيعته على الإيداع. ولكن يجوز إيداع الأسهم والسندات والأوراق المالية، وكذلك يجوز إيداع سندات الحقوق المعنوية، كسندات الديون والأوراق التجارية.

3ـ الركن الثالث: السـبب: أي الباعث والدافع الذي حدا بالمودِع أن يودع الوديعـة عند الوديع. وقد اشترط المشرع أن يكون هذا الباعث مشروعاً، وأن يكون الغرض الذي ترمي الإرادة إلى تحقيقه غرضاً لا يحرمه القانون ولا يتعارض مع النظام العام ولا يتنافى مع الآداب، ومثال ذلك أن يودع شخص عند آخر سلاحاً لإخفائه بعد ارتكاب جريمة، أويخفي عنده مسروقات.

ثالثاً ـ آثار عقد الوديعة:

تنشئ الوديعة دائماً التزامات في جانب الوديع، وقد تنشأ عرضاً التزامات في جانب المودِع.

1ـ التزامات الوديع: يرتب عقد الوديعة الالتزامات الآتية على عاتق الوديع:

أ ـ تسلم الشيء المودَع: نصت الفقرة الأولى من المادة (685) من القانون المدني بقولها: "على الوديع أن يتسلم الوديعة".

يتبين من هذا النص أن تسليم الشيء المودَع هو التزام في جانب الوديع بعد انعقاد العقد وليس ركناً لا تنعقد الوديعة بدونه.

والتسليم يلتزم به الوديع لا المودِع، ومن هنا عدّت الوديعة عقداً ملزماً لجانب واحد، بخلاف العاريَّة، ما دامت بغير أجر، ولم تنشئ أي التزامات من جانب المودِع من رد المصروفات أو تعويض عن ضرر، فيكون المودِع غير ملتزم بشيء. فإذا ما التزم بشيء كانت الوديعة عقداً ملزماً للجانبين.

وقد تكون الوديعة بأجر، ولكن الأجر لا يُدخل الوديعة في عقود المضاربة، فيجوز للمودِع أن يسترد الشيء المودَع في أي وقت ولو قبل انقضاء الأجل، ومن ثم لا يمكن القول إن للوديع المأجور مصلحة في إلزام المودِع بتسليم الشيء المودَع إذا امتنع هذا عن تنفيذ الوديعة بعد تمامها، وعلى ذلك لا يكون التسليم التزاماً في ذمة المودِع، ويبقى التسليم التزاماً في ذمة الوديع وحده.

وقد تكون الوديعة في مصلحة الوديع، أو يتعذر على الوديع غير المأجور حفظ الوديعة لأسباب طارئة مشروعة، فيجوز في هاتين الحالتين للوديع أن يرد الوديعة قبل الأجل المتفق عليه. وتفريعاً على ذلك يجوز للوديع في هاتين الحالتين، إذا لم يكن قد تسلم الشيء المودع، أن يتحلل من الالتزام بتسلمه إذ له حق الرجوع في الوديعة، فيثبت له هذا الحق بعد التسلم وقبله.

وإذا هلك الشيء قبل التسليم أو بعده بسبب أجنبي، كان هلاكه على المالك أي على المودِع، وإذا هلك الشيء المودَع بخطأ من الوديع كان هذا الأخير مسؤولاً عن الهلاك.

ويكون التسليم باستيلاء الوديع على الشيء المودَع استيلاء مادياً، بعد أن يضع المودِع الشيء تحت تصرفه في الزمان والمكان المعينين، وهذا هو التسليم الحقيقي. ويتبع في طريقة التسليم ووقته ومكانه القواعد العامة الواردة في التسلّم بوجه عام، كتسلم المشتري للعين المبيعة أو تسلم المستأجر للعين المؤجرة أو تسلم المستعير للعين المستعارة.

وقد يكون التسليم حكمياً بأن يكون الشيء المودَع موجوداً في يد الوديع قبل الوديعة على سبيل الإيجار أو العارية أو أي سبب آخر، ثم يتفق الطرفان على أن يبقى الشيء في حيازة المودَع عنده على سبيل الوديعة.

والتسليم الحكمي يفترض أن الشيء قد رد لصاحبه أولاً ثم سلّمه هذا للآخر مرة ثانية بعقد الوديعة. ويمكن أن يستعاض عن عمليتي التسليم والتسلم هذه ببقاء الشيء في يد الوديع بالعقد الجديد.

ب ـ حفظ الشيء المودَع: إن حفظ الشيء المودَع هو الغرض الأساسي من عقد الوديعة، وهو الالتزام الجوهري فيها. لذلك كان عقد الوديعة على رأس عقود الحفظ والأمانة.

وإن التزام الوديع بحفظ الشيء، كالتزام الوكيل بتنفيذ الوكالة، هو التزام ببذل عناية يخضع لمعيارين أحدهما شخصي والآخر موضوعي، وذلك حسب كون الوديعة مأجورة أو غير مأجورة.

فقد نصت المادة (686) من القانون المدني على أنه: " إذا كانت الوديعة بغير أجر وجب على الوديع أن يبذل من العناية في حفظ الشيء ما يبذله في حفظ ماله، دون أن يكلف في ذلك أزيد من عناية الرجل المعتاد أما إذا كانت الوديعة بأجر فيجب أن يبذل في حفظ الوديعة عناية الرجل المعتاد".

فإذا كانت الوديعة بغير أجر فإنها تكون في مصلحة الوديع، ويكون هذا الأخير غير مسؤول إلا عن العناية التي يبذلها في حفظ ماله الخاص، إذا كانت هذه العناية هي دون عناية الشخص المعتاد. أما إذا كانت عنايته الشخصية هي أعلى من عناية الشخص المعتاد، لم يكن مسؤولاً إلا عن عناية الشخص المعتاد. فمعيار العناية المطلوبة منه يكون تارة معياراً شخصياً إذا كان مسؤولاً عن عنايته الشخصية، ويكون تارة أخرى معياراً موضوعياً إذا كان مسؤولاً عن عناية الشخص المعتاد.

والسبب في ذلك أن الوديع غير المأجور يكون متفضلاً، ومن ثم لا يجوز أن يكون مسؤولاً عن أكثر من عناية الشخص المعتاد. كما لا يجوز أن يكون مسؤولاً عن أكثر من عنايته الشخصية، فلا يكون مسؤولاً إذن إلا عن أدنى العنايتين. ومن ثم فإنه يجب على الوديع أن يحفظ الوديعة كما يحفظ أمواله الخاصة، ولا يكون في ذلك ملزماً بتقصيره الذي لا يصدر منه في إعماله الخاصة.

أما إذا كانت الوديعة بأجر، أو إذا كان الوديع يتلقى الودائع بمقتضى مهنته، كصاحب المرآب أو المصرف، فإنه يكون مسـؤولاً عن سـبب كل هلاك أو تعيّب كان في الوسـع اتقاؤه لوعُني بالشيء عناية الشخص المعتاد. أي إن المعيار هنا يكون موضوعياً لا شخصياً. فإذا لم يبذل هذه العناية، حتى لوأثبت أن العناية الأقل التي بذلها فعلاً هي العناية التي يبذلها في حفظ مال نفسه، كان مع ذلك مسؤولاً، لأنه ملزم ببذل عناية الشخص المعتاد ولو كانت هذه العناية تزيد على عنايته الشخصية. أما إذا بذل عناية الشخص المعتاد، فإنه يكون قد نفذ التزامه، حتى لو نزلت هذه العناية بمعيارها الموضوعي عن عنايته هو بمعيارها الشخصي، ومن ثم يعفى من المسؤولية. وعلى هذا استقر اجتهاد محكمة النقض بقرارها ذي الرقم 2556 تاريخ 31/10/1966 "إن الوديع لا يلتزم سوى بالمحافظة على المال المودع وبذل عناية الرجل المعتاد في حفظ الشيء إذا كانت الوديعة مأجورة، وبمثل ما يبذله لحفظ ماله إذا كانت بغير أجر".

وتطبيقاً لما تقدم، فإذا كانت الوديعة ليست ثمينة ووضعها الوديع في مكان غير مقفل، وكان غير مأجور، لم يكن مسؤولاً إذا سُرق الشيء، ما دام أثبت أنه قد تعوَّد ذلك في ماله الخاص. ولتقرير العناية المطلوبة من الوديع في حفظ ماله الشخصي يُرجع إلى ما جرى به العرف. بخلاف ما إذا كان الشيء ثميناً، كالمجوهرات، وضعها في خزانة غير مقفلة فسُرقت، فإن الوديع يكون مسؤولاً.

لا يجوز للوديع أن ينيب عنه غيره في حفظ الوديعة من دون إذن صريح من المودع وفق ما نصت عليه المادة (687) من القانون المدني بقولها: "ليـس للوديع أن يحل غيره محله في حفظ الوديعة دون إذن صريح من المودِع، إلا أن يكون مضطراً إلى ذلك ضرورة ملجئة ملحة".

إذ يُفترض في الوديعة أن شخص المودَع عنده له اعتبار خاص عند المودع، فلا يجوز للمودَع عنده أن يحل غيره في حفظ الوديعة من دون إذن صريح من المودع إلا في حالتين:

إذا أذن المودِع له في ذلك أذناً صريحاً، أو إذا اضطر إلى ذلك بسبب ضرورة ملحة وعاجلة تطبيقاً للقاعدة القائلة الضرورات تبيح المحظورات. كما إذا فاجأه داع للسفر ولم يتمكن من رد الوديعة إلى صاحبها، فاضطر إلى إيداعها عند من يأتمنه عليها، إلا أنه يجب عليه في هذه الحالة أن يخطر المودِع بذلك بمجرد أن يتيسر له هذا الإخطار.

وإذا كان مسموحاً للوديع أن ينيب عنه غيره في حفظ الوديعة، فإنه يبقى مع ذلك مسؤولاً عن خطأ نائبه تجاه المودِع، ما لم يكن هذا الأخير قد أعفاه من هذه المسؤولية عندما أذن له في إنابة غيره، وخاصة إذا كان المودِع هو الذي اختار هذا النائب.

وإذا تقاضى النائب من الوديع أجراً، جاز لهذا الأخير أن يرجع بهذا الأجر على المودِع إذا كان قد أذن له في الإنابة، أو كانت الإنابة بسبب ضرورة ملحة وعاجلة، بشرط ألا يكون الوديع يتقاضى أجراً من المودِع يدخل فيه أجر النائب.

 ولا يكون الوديع، ولو كان مأجوراً، مسؤولاً عن السبب الأجنبي، حتى لو ثبت أنه لم يبذل العناية المطلوبة، لأن السبب الأجنبي ينفي علاقة السببية بين الخطأ والضرر، فيكون الضرر منسوباً إلى سبب أجنبي لا إلى خطأ الوديع، ومن ثم لا يكون هذا مسؤولاً. وعبء إثبات السبب الأجنبي يقع على الوديع، مأجوراً كان أو غير مأجور، إذ هولا يستطيع أن يتخلص من المسؤولية إلا إذا أثبت أنه بذل العناية المطلوبة، أو أثبت السبب الأجنبي. وبذلك قضت محكمة النقض بقرارها ذي الرقم 2036 تاريخ 17/9/1953 بقولها "إن الطوارئ التي لا يكون للوديع يد فيها لا تؤدي لإلزامه بالضمان ما لم يكن مقصراً".

ومن الجدير ذكره، أن مسؤولية الوديع بحفظ الشيء وفق القواعد المسرودة آنفاً، لا تتعلق بالنظام العام، فيجوز الاتفاق على ما يخالفها، وهذا ما قضت به محكمة النقض في قرارها ذي الرقم 2852 تاريخ 29/11/1964 الذي جاء فيه "إن ما ورد في المادة 686 مدني بشأن تحديد درجة العناية بالوديعة بما يبذله الوديع في حفظ ماله لم يرد بصفة ناهية تمنع الاتفاق على خلافه، مما يجيز للطرفين تعديل قواعد المسؤولية تشديداً أو تخفيفاً". فيجوز الاتفاق على تشديد مسؤولية الوديع، كأن يشترط المودِع مسؤوليته عن عناية الشخص المعتاد حتى لو كان غير مأجور، أو أن يشترط مسؤوليته إذا كان مأجوراً عن السبب الأجنبي. وكذلك يجوز الاتفاق على تخفيف مسؤولية الوديع أو على الإعفاء منها، كأن يشترط هذا، وهو مأجور، عدم مسؤوليته إلا عن عنايته الشخصية، أو ألا يكون مسؤولاً عن التعويض إلا في حدود مبلغ معين ولو زاد الضرر على هذا المبلغ، أو أن يشترط الوديع ألا يكون مسؤولاً عن خطئه.

ج ـ عدم جواز استعمال الوديع الوديعة: الوديع لا يجوز له أن يستعمل الوديعة، ولا يسمح لأحد باستعمالها كما تقول الفقرة الثانية من المادة (685) من القانون المدني: "وليس له أن يستعملها دون أن يأذن له المودِع في ذلك صراحة أو ضمناً". ويتصل هذا الالتزام السلبي اتصالاً وثيقاً بالتزام الوديع بحفظ الشيء، لأن الغرض من الوديعة هو حفظ الشيء لا استعماله. وإذا كان الشيء ينتج غلة، وجب على الوديع أن يحفظ غلته معه من دون أن يفصلها عنه إلا لحفظها، ويجب عليه في كل حال أن يقدم حساباً للمودع عن هذه الغلة.

على أنه يجوز للمودِع أن يأذن للوديع باستعمال الشيء، ويبقى العقد مع ذلك وديعة بشرط أن يكون حفظ الشيء هو الغرض الأساسي من العقد، واستعماله ليس إلا أمراً ثانوياً بجانب هذا الغرض الأساسي. فإذا  كان الاستعمال غرضاً أساسياً لم يكن العقد وديعة بل كان عاريّة استعمال إذا كان الشيء غير قابل للاستهلاك، وقرضاً إذا كان الشيء قابلاً للاستهلاك.  

على أنه استثناء من ذلك، يجوز للوديع أن يستعمل الوديعة في حال توافر الشرطين التاليين: إذا كان هذا الاستعمال أمراً ثانوياً بجانب الغرض الأساسي، وهو حفظ الشيء، وأن يأذن المودِع للوديع باستعمال الشيء.

والإذن كما يكون صريحاً قد يكون ضمنياً، ويستخلص الإذن الضمني من الظروف، فإذا أودع شخص كتاباً عند آخر، فلا مانع من أن يقرأ الوديع في هذا الكتاب بشرط ألا يترك فيه أثراً من القراءة، ما لم ينهه المودِع عن القراءة فيه صراحة أو ضمناً. ومما لا بد من الإشارة إليه أن الإذن الضمني باستعمال الشيء يستخلص إذا كان هذا الشيء غير قابل للاستهلاك بأيسر مما يستخلص فيما لو كان الشيء قابلاً للاستهلاك.

وإذا أخل الوديع بالتزامه، فاستعمل الشيء من دون إذن صريح أو ضمني، أو تصرف به من باب أولى بالبيع أو الرهن أو الإيجار أو العارية أو أي تصرف آخر، كان مسؤولاً عن ذلك مسؤولية مدنية، وجاز أيضاً مساءلته جزائياً عن جريمة إساءة الائتمان. والإذن بالاستعمال لا يفترض، بل يقع على الوديع عبء إثباته.

د ـ رد الشيء المودَع: نصت المادة (688) من القانون المدني على أنه: "يجب على الوديع أن يسلم الشيء إلى المودع بمجرد طلبه، إلا إذا ظهر من العقد أن الأجل عين لمصلحة الوديع، وللوديع أن يلزم المودع بتسلم الشـيء في أي وقت، إلا إذا ظهر من العقد أن الأجل عين لمصلحة المودِع".

فالوديع ملتزم، عند انتهاء عقد الوديعة، برد الشيء المودَع إلى المودِع في الحالة التي يكون عليها وقت الرد. والأصل أن يكون الرد عيناً، أي أن يرد الشيء المودَع نفسه، فترد السيارة المودعة ذاتها أو الملابس عينها. حتى لو كان الشيء المودَع شيئاً مثلياً وكان يهلك بالاستعمال، كالأطعمة والمشروبات. والنقود تكون عادة محلاً للوديعة الناقصة، فتكون قرضاً وتنتقل ملكيتها للمقترض ويرد مثلها. ومع ذلك يمكن أن تكون القطع الذهبية أو الفضية، أو كيس من النقود، محلاً للوديعة الكاملة، فتحتفظ بذاتيتها لدى الوديع ولا تنتقل ملكيتها إليه، فلا يجوز له التصرف فيها، ويجب عليه ردها عيناً إلى المودِع.

والمودِع هو الذي يحمل عبء إثبات ذاتية الشيء المودَع إذا حصل خلاف في ذلك، ويكون الإثبات طبقاً للقواعد العامة. ويكون للوديع أن يطالب المودِع بإبراز إيصال الوديعة. ويكون الإثبات عادة تجاه الوديع حتى يسترد المودِع الشيء بعينه، ولكن يقع أحياناً أن يكون الإثبات تجاه دائني الوديع إذا أفلس هذا الأخير، حتى يتمكن المودِع من انتزاع الشيء المودَع من التفليسة من دون أن تمتد إليه حقوق الدائنين.

ويلتزم الوديع برد الوديعة عيناً مع ملحقاتها التي سلمت معها بالحالة التي تكون عليها، وإذا كان الشيء المودَع مما ينتج ثماراً، التزم المودَع عنده بأن يرد الثمار مع الشيء المودَع عيناً. فإذا كانت الوديعة أسهماً أو سندات واستحقت أرباحاً، وجب ردها وأرباحها معها. وإذا كانت الثمار مما يخشى عليها من التلف جاز للوديع بيعها ورد ثمنها إلى المودع.

ولكون وديعة النقود وديعة ناقصة فهي تعد قرضاً، ومن ثم يجوز الاتفاق على أن يتقاضى المودِع فائدة على هذا القرض، وتكون هذه الفائدة بمنزلة ثمار الشيء المودَع. وقد تكون وديعة النقود وديعة كاملة ترد فيها النقود وذاتها، ولا يتقاضى المودِع فوائد عنها. ولكن إذا تأخر المودَع عنده في ردها، جاز للمودِع أن يطالب بتعويض عن هذا التأخير بعد إعذار الوديع. ويجوز أن يكون هذا التعويض هو الفوائد القانونية للنقود من وقت الإعذار. ولا يقال هنا أن فوائد النقود لا تستحق إلا من وقت المطالبة القضائية، فإن ذلك إنما يكون إذا كانت النقود ديناً في الذمة، أما إذا كانت مودعة على أن ترد بذاتها فإنها تعتبر عيناً معينة، فلا يشترط للمطالبة بالتعويض إلا الإعذار.

وإذا هلك الشيء أو تلف أو تعيب بسبب تقصير من الوديع في المحافظة على الشيء، كان هذا مسؤولاً عن تقصيره، إلا إذا أثبت أنه بذل العناية المطلوبة، أو أن العيب أو الهلاك أو التلف كان بسبب أجنبي.

وإذا تعذر على الوديع رد الشيء عيناً، فقد يحل محل الشيء مقابل له، وعند ذلك يتعين على الوديع أن يرد هذا المقابل للمودِع. ومثال ذلك أن يكون الوديع قد أمَّن على الشيء المودَع من الحريق فاحترق، وتقاضى مبلغ التأمين من الشركة، فعليه أن يرد هذا المبلغ للمودِع أو يحوِّل له حقه قِبَل شركة التأمين.

وقد يتصرف الوديع في الشيء أو يتلفه، ويقع ذلك أن يموت الوديع، ويعتقد وارثه بحسن النية أن الشيء المودع هو ملك لمورثه وبذلك يدخل في التركة، فيتصرف به. وقد أورد المشرع حكم هذه الحالة، فنصت المادة (689) من القانون المدني على أنه: "إذا باع وارث الوديع الوديعة وهو حسـن النية، فليـس عليه لمالكها إلا رد ما قبضه من الثمن، أو التنازل له عن حقوقه على المشتري، وأما إذا تصرف فيها تبرعاً فإنه يلتزم بقيمتها وقت التبرع".

ومقتضى ذلك أنه إذا كان الشيء المودَع عقاراً وباعه الوارث ولو بحسن النية، فإن ملكيته لا تنتقل إلى المشتري بالبيع؛ لأن البيع قد صدر من غير مالك، ولذلك يستطيع المودِع وهو المالك الحقيقي أن يسترد العقار من تحت يد المشتري، ولا حاجة إلى تطبيق المادة سالفة الذكر. وقد يتملك المشتري حسن النية العقار بالتقادم القصير فعندئذ ينطبق نص المادة المذكورة، ويرجع المودِع على الوارث بالثمن، بشرط ألا يكون العقار داخلاً في منطقة التحديد والتحرير، أو بمعنى آخر ألا يكون العقار خاضعاً للتسجيل في السجل العقاري.

أما إذا كان الشيء المودَع منقولاً، وكان المشتري حسن النية، فإنه يتملك المنقول بالحيازة، فلا يستطيع المودِع أن يسترده. ولا يبقى أمامه إلا أن يسترد ما يقابله، وهو الثمن الذي قبضه الوارث أو الدعوى بالثمن إذا كان الوارث لم يقبض الثمن. فإذا كان هذا الوارث قد وهب المنقول، فالمقابل في هذه الحالة هو قيمة الشيء وقت التبرع.

وإذا كان الوارث سيئ النية وباع لمشترٍ سيئ النية، كان للمودِع أن يسترد الشيء من المشتري، وأن يرجع بالتعويض على كل من الوارث والمشتري لسوء نيتهما. أما إذا باع الوارث سيئ النية لمشتر حسن النية، فإن المودِع لا يستطيع استرداد الشيء من المشتري، ولكنه يستطيع أن يرجع على  الوارث بتعويض كامل، ولا يقتصر على استرداد الثمن. وإذا باع الوارث حسن النية لمشتر سيئ النية، فإنه يجوز في هذه الحالة للمودِع أن يسترد الشيء من المشتري سيئ النية مع التعويض إذا كان له مقتضى.

وإذا استهلك الوارث الشيء، رد إلى المودِع قيمته وقت الاستهلاك، ولو كان حسن النية، وذلك ما لم تنزل هذه القيمة وقت الرد، فلا يرد إلا هذه القيمة المخفضة.

ويكون رد الوديعة للمودِع نفسه، لأنه هو الذي تعاقد مع الوديع فهو الدائن بالرد، ولا يطالب المودِع بإثبات أنه مالك للشـيء المودَع إلا إذا كان يرفع دعوى الاستحقاق باعتباره مالكاً، أما إذا طالب برد الشـيء باعتباره مودعاً، أي بالدعوى الشخصية التي تنشأ من عقد الوديعة، فيكفي أن يثبت هذا العقد. ولا يجوز في الأصل الرد لغير المودِع، فلو تقدم شخص لتسلّم الوديعة وزور إمضاء المودِع في إيصال تسلمها، لم يكن هذا الرد مبرئاً لذمة المودَع عنده، بل يجب عليه أن يسترد الوديعة ممن تسلمها ويردها للمودِع، وإذا تعذر ذلك وجب عليه التعويض.

وقد يكون من تعاقد مع الوديع هو نائب المودِع لا المودِع نفسه، كالوصي أو القيم أو الوكيل أو الولي، فإذا كان المودِع عند رد الوديعة قد استكمل أهليته، بأن بلغ القاصر أوفك الحجر عن المحجور عليه، أو كان المودِع كامل الأهلية منذ البداية وناب عنه وكيل في الإيداع، فإن الرد لا يجوز إلا للمودِع نفسه دون الوصي أو القيم أو الوكيل أو الولي. ويجب على الوديع أن يتثبت من صفة من يرد له الوديعة من هؤلاء، فإذا تعذر عليه ذلك وجب عليه أن يودع الوديعة خزانة المحكمة.

وإذا توفي المودِع يكون الرد لوارثه. وإذا تعدد الورثة، أو تعدد الودعاء من الأصل، فإن الرد يكون لكل منهم بمقدار نصيبه إذا كان الشيء المودَع قابلاً للتجزئة. فإذا لم يقبل التجزئة، وجب على الورثة أو الودعاء أن يتفقوا فيما بينهم ليتسلموا الوديعة جميعاً أو ليتسلمها واحد منهم يعينونه. فإذا لم يتفقوا جاز للوديع أن يودعها على ذمتهم وفقاً لأحكام الإيداع المنصوص عليها في المادة (476) وما يليها من قانون أصول المحاكمات. ويعد رد الوديعة للوارث الظاهر مبرئاً لذمة الوديع حسن النية الذي يعتقد أنه هو الوارث الحقيقي، ويرجع بعد ذلك هذا الأخير على الوارث الظاهر الذي تسلَّم الوديعة.

وإذا عين الوارث شخصاً لتسلَّم الوديعة، فإذا كانت لمصلحة هذا الشخص، وجب أن يكون الرد له دون المودِع، أو بترخيص منه. أما إذا كانت الوديعة لمصلحة المودِع نفسه، فيحمل تعيين هذا الشـخص على أنه وكيل عن المودِع، فيجوز رد الوديعة إليه كما يجوز ردها للمودِع نفسه. ويجوز للمودِع في هذه الحالة عزل الوكيل وإعلام المودَع عنده بهذا العزل، وعندئذ لا يجوز لهذا الأخير أن يرد الوديعة إلا للمودِع، ولا يصح ردها للوكيل المعزول. وإذا مات المودِع انعزل الوكيل بموته، فإذا علم الوديع بموت المودِع، وجب عليه رد الوديعة إلى ورثة المودِع لا إلى الوكيل الذي انعزل بموت الموكل، ومع ذلك ترد الوديعة، حتى بعد موت المودِع، لا إلى ورثته، بل إلى الشـخص الذي يحمل التذكرة المرقومة التي تخول الحق في تسلَّم الوديعة، أو إلى الشخص الذي يحمل إيصال الشحن أو التخزين في المخازن العامة، فإن كلا من التذكرة وإيصال الشحن أو التخزين يعد سنداً لحامله.

وقد يتفق المودِع مع الوديع على أن يرد الوديعة بعد موته إلى الشخص الذي عينه، فيكون الرد في هذه الحالة بعد موت المودِع، لا لوارثه بل للشخص الذي عينه، إذا تبين أن المودِع لم يكن إلا وكيلاً في الإيداع عن هذا الشخص أو فضولياً ناب عنه في الإيداع بلا توكيل. وكذلك يكون الرد للشخص المعين لا للوارث، إذا تبين أن الوديعة على هذا النحو تخفي وصية مستترة وكانت الوصية جائزة. أما إذا كان الاتفاق يخفي وصية غير جائزة أو تصرفاً غير مشروع، فإن الرد يكون للوارث لا للشخص المعين، وإذا شك الوديع في الأمر فما عليه إلا أن يودع الشيء على ذمة من له الحق فيه.

أما زمان الرد للوديعة فهو كما ورد في المادة 688 سالفة الذكر التي أوجبت على الوديع أن يسلِّم الشيء إلى المودِع بمجرد طلبه، إلا إذا ظهر من العقد أن الأجل عُين لمصلحة الوديع، وللوديع أن يلزم المودِع بتسلم الشيء في أي وقت، إلا إذا ظهر من العقد أن الأجل عُين لمصلحة المودِع.

ومع ذلك يجوز للوديع أن يمتنع عن رد الشيء المودَع حتى بعد انتهاء العقد، فيكون له حق حبسـه، إذا كان له دين في ذمة المودِع، حسب القواعد العامة في حق الحبس، وكذلك وفقاً لقاعدة الدفع بعدم تنفيذ العقد، إذ الوديعة تصبح في هذه الحالة عقداً ملزماً للجانبين تسري عليها هذه القاعدة.

وكذلك يمتنع الوديع عن رد الوديعة للمودِع حتى بعد انتهاء العقد، إذا حجز تحت يده على الوديعة دائن للمودِع حجزاً تحفظياً، أو إذا رفعت عليه دعوى استحقاق أو أخطره شخص أنه هو المالك للوديعة وطُلب إليه ألا يسلمها للمودِع.

ولا يجوز للوديع أن يمتنع عن رد الوديعة عند انتهاء العقد، تمسكاً منه بمقاصة بين دين الوديعة ودين له في ذمة المودِع، لإن المقاصة لا تجوز في هذه الحالة، ذلك لأن المادة (362) من القانون المدني قد استثنت في فقرتها الثانية من المقاصة في الديون حالة ما "إذا كان أحد الدينين شيئاً مودعاً أومعاراً عاريَة استعمال وكان مطلوباً رده" وبهذا قضت محكمة النقض بقرارها ذي الرقم 485 تاريخ 18/2/1952 بقولها " إن المقاصة تقع في جميع الديون أياً كان مصدرها إلا إذا كان أحد الدينين شيئاً مودعاً وكان مطلوبا رده لا يجوز سماع الدعوى المتقابلة بالتقاص في دعوى طلب إعادة الوديعة".

ويتم رد الشيء المودَع في المكان الذي كان موجوداً فيه وقت إبرام الوديعة ما لم يتفق الطرفان على مكان آخر، وذلك طبقاً للقواعد العامة التي تقضي بأنه إذا كان محل الالتزام شيئاً معيناً بالذات، وجب تسلّمه في المكان الذي كان موجوداً فيه وقت نشوء الالتزام، ما لم يوجد اتفاق أو نص يقضي بغير ذلك. أما إذا كانت الوديعة ناقصة، فإنها تكون ديناً في الذمة، إذ يجب رد مثلها لا عينها، ومن ثم يكون الرد في المكان الذي يوجد فيه موطن الوديع وقت الوفاء، أو في المكان الذي يوجد فيه مركز أعماله إذا كانت الوديعة متعلقة بهذه الأعمال وفق ما نصت عليه المادة (345) من القانون المدني.

أما مصروفات الرد وفق ما تقضي به القواعد العامـة، فتكون على المودِع، وذلك حتى لا يجتمع على الوديع عبء حفظ الوديعة وعبء تحمل المصروفات وردها إلا إذا اتفق الطرفان على غير ذلك.

وإذا لم يقم الوديع بالتزامه من رد الشيء المودَع، كان للمودِع أن يسترده بدعوى الوديعة، وهي دعوى شخصية تنشأ من العقد، ويطلب فيها المودِع استرداد الشيء المودَع بعينه هو وملحقاته وثماره، وترفع الدعوى على الوديع، أو على ورثته بعد موته، ولا يكون الورثة متضامنين في الالتزام بالرد، لأن هذا الالتزام تعاقدي، والتضامن لا يكون إلا بموجب نص خاص في العقد عملاً بأحكام المادة (279) من القانون المدني.

وإذا كان الشيء المودَع موجوداً في مكان معين، جاز الحصول على أمر من القاضي لفتح هذا المكان وإخراج الشيء المودَع فيه وتسليمه إلى المودِع، ويقع ذلك عادة إذا كان الوديع غائباً ولا يُعلم مكانه. وتتقادم دعوى الاسترداد الشخصية بانقضاء خمس عشرة سنة من وقت انتهاء الوديعة وحلول الالتزام بالرد. وللمودِع إذا كان مالكاً أن يرفع دعوى الاسترداد العينية وهي دعوى الملكية. وله في سبيل ذلك أن يوقع على الشيء، إذا كان منقولاً، حجزاً تحفظياً. ولا تسقط دعوى الملكية بالتقادم المسقط، ولكن يجوز أن تكسب ملكية الشيء المودَع إذا انتقل إلى حائز بالتقادم المكسب الطويل أو القصير. أما إذا بقى الشيء في يد الوديع أوفي يد ورثته، فالحيازة مشوبة بالغموض، ومن ثم لا تؤدي إلى كسب الملكية إلا إذا غيَّر الحائز نيته بوضوح أنه يحوز الشيء بصفته مالكاً. وإذا كان الشيء منقولاً وانتقل إلى حائز حسن النية بسبب صحيح، ملكه هذا بالحيازة.

وإذا تعذر على المودِع استرداد الشيء عيناً، رجع على الوديع بالتعويض، الذي هو قيمة الشيء المودَع وقت الرد. فإذا زادت القيمة في أثناء الدعوى، وجب رد القيمة وقت الحكم حتى يكون التعويض كاملاً. ويقع أن يقوّم الطرفان الشيء وقت الإيداع، فيعتد بهذه القيمة المتفق عليها. وإذا كان الشيء المودَع من المثليات، وآثر المودِع بدلاً من التعويض النقدي أن يسترد مثل الشيء المودَع على سبيل التعويض، كان له ذلك.

وقد يكون الشيء المودَع نقوداً ترد بعينها في وديعة غير ناقصة، فالتعويض هنا يكون مثل هذه النقود في القيمة مع الفوائد القانونية من وقت الإعذار لا من وقت المطالبة القضائية، لأن النقود هنا أصبحت عيناً معينة. وإذا استعمل الوديع النقود لمصلحته، وجبت عليه الفوائد القانونية من يوم الاستعمال وذلك على سبيل التعويض.

وإن تصرف الوديع في الشيء المودَع وعدم رده إلى صاحبه عند انتهاء الوديعة، يجعله مسؤولاً مسؤولية جزائية إلى جانب المسؤولية المدنية. فيكون مرتكباً لجريمة إساءة الائتمان إذا هو أضر بالمودِع بالشيء المودَع فيعاقب بالحبـس والغرامة المالية. وهذا ما نصت عليه المـادة (656) من قانون العقوبات التي جاء فيها: "كل من أقدم قصـداً على كتم أو اختلاس أو إتلاف أو تمزيق سـند يتضمن تعهداً أو إبراء، أو شيء منقول آخر سـلّم إليه على وجه الوديعة أو الوكالة أو الإجازة أو على سبيل العارية أو الرهن، أو لإجراء عمل لقاء أجرة أو بدون أجرة شرط أن يعيده أو يقدمه أو يستعمله في أمر معين يعاقب بالحبس من شهرين إلى سنتين وبغرامة تتراوح بين ربع قيمة الردود والعطل والضرر وبين نصفها على أن لا تنقص عن مائة ليرة".

وإن تصرف الوديع فيما لا يملكه يجعله مرتكباً لجريمة الاحتيال تجاه من تصرف إليه في الشيء المودَع وفقاً لما ورد في المادة (641) من قانون العقوبات التي جاء فيها: "كل من حمل الغير على تسليمه مالاً منقولاً أوغير منقول أوأسناداً تتضمن تعهداً أوإبراء فاستولى عليها احتيالاً: إما باستعمال الدسائس… أو بتصرفه بأموال منقولة أو غير منقولة وهو يعلم أن ليس له صفة للتصرف بها… عوقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين وبالغرامة من مائة إلى خمسمائة ليرة 2ـ يطبق العقاب نفسه في محاولة ارتكاب هذا الجرم".

2ـ التزامات المودِع: يلتزم المودِع بدفع الأجر إذا كان مشترطاً، وبرد المصروفات التي أنفقها الوديع في حفظ الوديعة، وبتعويض الوديع عن كل ما لحقه من خسارة بسبب الوديعة.

أ ـ دفع الأجر: نصت المادة (690) من القانون المدني على أنه: "الأصل في الوديعة أن تكون بغير أجر، فإذا اتفق على أجر وجب على المودِع أن يؤديه وقت انتهاء الوديعة، ما لم يوجد اتفاق يقضي بغير ذلك".

يسـتفاد من مطلع المادة المذكورة أن الأصل في الوديعة أن تكون بغير أجر، فإذا لم يوجد بين المودِع والوديع اتفاق على الأجر، كانت الوديعة غير مأجورة، وكان الوديع متبرعاً، وتدخل في هذه الحالة في نطاق عقود التبرع. وإذا اتفق الطرفان على الأجر كانت الوديعة مأجورة، وهي على الرغم من ذلك لا تعتبر من عقود المضاربة وإنما تدخل في نطاق عقود المعاوضة.

والملزم بدفع الأجر هو المودِع ولو لم يكن مالكاً، ولا يلتزم به المالك إذا لم يكن هو المودِع، لأنه ليس طرفاً  في عقد الوديعة الذي أنشأ الالتزام بدفع الأجر.

والاتفاق على الأجر قد يكون صريحاً أو ضمنياً، ويستخلص الاتفاق الضمني على الأجر عادة من حرفة الوديع، فالإيداع في المخازن العامة يفترض فيه أن يكون بأجر. وإذا لم يعين مقدار الأجر، ترك تعيينه للعـرف أو لتقدير القاضي. ولا يجوز تعديل الأجر المتفق عليه، وبذلك تختلف الوديعة المأجورة عن الوكالة المأجورة.

ويتم دفع الأجر في الوقت الذي يتفق عليه المتعاقدان، ويدفع جملة واحدة أوعلى أقساط في مواعيد معينة، فإذا لم يتفق على وقت كان الأجر مستحقاً في الوقت الذي يعينه العرف، فإن لم يوجد عرف، كان الدفع في الوقت الذي ينتهي فيه حفظ الوديعة. وإذا انتهى حفظ الوديعة قبل الموعد المحدد، استحق المودَع عنده الأجر بنسبة المدة التي بقي فيها الشيء في حفظه، ما لم يتفقا على غير ذلك وفق ما تقضي به القواعد العامة التي تقضي بأن يكون مكان الدفع في الجهة التي يتفق عليها المتعاقدان، فإن لم يوجد اتفاق فالعرف، فإذا لم يوجد اتفاق ولا عرف، كان الدفع في موطن المدين أي المودِع، أوفي الجهة التي فيها مقر أعماله إذا كانت الوديعة متعلقة بهذه الأعمال عملاً بأحكام المادة (345) من القانون المدني.

والمودِع مسؤول عن الضرر الذي يصيب الوديع بسبب الوديعة ويلتزم بالتعويض عن الضرر، لأن الالتزام هنا مصدره عقد الوديعة وفق ما نصت عليه المادة (691) من القانون المدني بقولها: "على المودع أن يرد إلى الوديع ما أنفقه في حفظ الوديعة، وعليه أن يعوضه عن كل ما لحقه من خسارة بسـببها" وعبارة "حفظ الوديعة" تشمل حفظ الوديعة من الهلاك إذا تعرضت لخطر، وكذلك الحفظ العادي للوديعة إذا اقتضى هذا الحفظ مصروفات ما. فإذا أودع شخص عند آخر منقولات يقتضي حفظها في مكان أمين وإقامة حارس عليها، فإن ما ينفقه الوديع على هذه المنقولات لحفظها من الهلاك، كرشها بالمبيدات الحشرية وتنقيتها حتى لا تتلف، وكأقساط التأمين التي يدفعها للشركة لتأمينها من الحريق والسرقة، وما ينفقه من حفظ المنقولات الحفظ العادي كأجرة المكان وأجر الحارس، هذا كله يرجع به الوديع على المودِع. كذلك يرجع بمصروفات الصيانة المعتادة، كعلف الحيوان وتشحيم السـيارة وتزييتها. أما المصروفات النافعة والمصروفات الكمالية، فلا يرجع بها إلا بموجب القواعد العامة، لأن الالتزام بردها من فعل الإنفاق لا من عقد الوديعة. بخلاف مصروفات الحفظ والصيانة فإن الالتزام بردها بسبب عقد الوديعة ذاته لصراحة المادة (691) سالفة الذكر.

أما الفوائد على المصروفات التي يلتزم المودِع بردها فهي لا تجب إلا من وقت المطالبة القضائية بها طبقاً للقواعد العامة. ولعدم وجود نص خاص بالتضامن بين المودعين فإنهم لا يكونون متضامنين، ولكن يضمن رجوع الوديع بالمصروفات حق الحبس، بموجب القواعد العامة في الحبس وبمبدأ الدفع بعدم تنفيذ العقد، وهذا ما ذهبت إليه محكمة النقض بقرارها ذي الرقم 286 تاريخ 27/6/1963 الذي جاء فيه: "في الوديعة لا يحق للوديع أن يحبس الشيء المودَع إلا مقابل استيفائه المصروفات الضرورية أو النافعة التي يكون قد أنفقها على ذات الشيء" وإذا كانت المصروفات ضرورية لحفظ الشيء من الهلاك ولترميمه، كان لها حق امتياز على الشيء المودَع.

أما إذا كان هناك عيب خفي في الشيء المودَع، كمرض معد في الحيوان انتقل بالعدوى إلى حيوانات الوديع، وجب على المودِع أن يخطر به الوديع حتى يتخذ هذا الاحتياطات اللازمة لمنع العدوى، وإلا كان مسؤولاً عن تعويض الوديع. فإذا لم يقصر المودِع في ذلك وأخطر الوديع بالمرض، أو كان هذا عالماً به من دون إخطار، فإنه لا يكون مسؤولاً. وقد تستحق الوديعة في يد الوديع، فما لم يتقدم المودِع لتلقي دعوى الاستحقاق بنفسه في الوقت المناسب، فإن ما يصيب المودَع عنده من خسائر ومصروفات بسبب دعوى الاستحقاق يرجع به على المودِع. وليس الوديع ملزماً، كما ألزم المستعير، بأن يتحاشى هلاك الشيء المودَع باستعمال شيء من ملكه الخاص، أو بأن يختار إنقاذ الشئ المودَع بدلاً من إنقاذ ملكه. ولكنه إذا فعل ذلك، جاز له الرجوع بما تحمله من الخسارة لإنقاذ الشيء المودَع، بشرط ألا يزيد ما يتقاضاه على قيمة الشيء المودع.

رابعاًـ انتهاء الوديعة:

تنتهي الوديعة بأحد الأسباب التالية:

1ـ انقضاء الأجل المحدد: كأن يتفق المتعاقدان على أجل للوديعة صراحة أو ضمناً، فتنتهي الوديعة بانقضاء هذا الأجل. وإذا لم يتفق الطرفان على أجل، يعين القاضي أجلاً تنتهي فيه الوديعة.

2ـ رجوع أحد المتعاقدين في الوديعة قبل انقضاء الأجل: الأصل أن الأجل في الوديعة معين لمصلحة المودِع، فيجوز له أن ينزل عن حقه، وأن يطلب رد الوديعة قبل حلول الأجل. ولكن لا يجوز في هذه الحالة أن يرجع الوديع في الوديعة بإرادته المنفردة، والذي يجوز له الرجوع هو المودِع وحده.

ويجوز للوديع أن يرجع في الوديعة بإرادته المنفردة في الحالتين التاليتين:

الحالة الأولى: إذا كان مأذوناً له في اسـتعمال الوديعة، أو كان الأجل بوجه عام معيناً في مصلحة الوديع، ففي هذه الحالة يجوز للوديع وحده، دون المودِع، أن يرجع في الوديعة بإرادته المنفردة. ويشترط ألا يستعمل الوديع هذا الحق في وقت غير ملائم للمودِع.

الحالة الثانية: إذا كانت الوديعة في مصلحة المودِع، ولكن طرأت على الوديع أسباب مشروعة يتعذر عليه معها أن يستمر حافظاً للوديعة، بشرط أن تكون الوديعة بلا أجر، إذ يكون المودِع في هذه الحالة متبرعاً ولا يصح أن يضار بتبرعه. وفي هذه الحالة يجوز للوديع أن يرجع في الوديعة بإرادته المنفردة بمجرد طروء هذه الأسباب المشروعة، كما يجوز للمودِع أن يرجع بإرادته المنفردة في أي وقت، لأن الأجل في مصلحته هو.

3ـ موت الوديع: لكون الوديعة يلحظ فيها الاعتبار الشخصي، ولأنها تقوم على الثقة في شخص الوديع، إذ يكون محل ثقة المودِع، فإن العقد ينحل بموت الوديع، إلا إذا اتفق على غير ذلك. وبانحلال العقد تنتقل الالتزامات التي ترتبت على الوديع حتى وقت انحلال العقد إلى تركة الوديع بما فيها الالتزام برد الوديعة، وهذا في حال كانت الوديعة لمصلحة الوديع.

وإذا مات المودِع وكانت الوديعة في مصلحة الوديع، فالوديعة لا تنتهي بموته، بل يبقى الوديع حافظاً للوديعة إلى أن ينقضي أجلها لأنها في مصلحته. ولكن يجوز له الرجوع بإرادته المنفردة ما دامت لمصلحته. أما إذا مات المودِع والوديعة في مصلحته جاز لورثته الرجوع عن الوديعة في أي وقت لا لموته، بل لأن المودِع له حق الرجوع في أي وقت لو كان حياً، ما دامت في مصلحته فينتقل هذا الحق إلى ورثته.

خامساًـ أنواع الوديعة:

الوديعة على أنواع، وأهمها:

1ـ الوديعة الناقصة: نصت المادة 692 من القانون المدني على أنه: "إذا كانت الوديعة مبلغاً من النقود أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال، وكان الوديع مأذوناً له في استعماله اعتبر العقد قرضاً".

ومفاد ذلك أنه إذا كان محل الوديعة مبلغاً من النقود أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال، وأذن المودِع للوديع  باستعمال هذا الشيء، فلا مناص من أن يستهلك الوديع الشيء بالاستعمال، ومن ثم لا يستطيع أن يرد الشيء بعينه كما هو الأمر في الوديعة، ويتعين أن يرد مثل الشيء كما هو الأمر في القرض.

وأكثر ما ترد الوديعة الناقصة على ودائع النقود في المصارف، إذ تنتقل ملكية النقود إلى المصرف ويرد مثلها، بل يدفع في بعـض الأحيان فائدة عنها، فيكون العقد في هذه الحالة قرضاً أو حساباً جارياً.

وترد الوديعة الناقصة كذلك على الأسهم والسندات التي تودع في المصارف، وتنتقل ملكيتها إلى المصرف على أن يرد مثلها. وقد ترد الوديعة الناقصة على أشياء أخرى مما يهلك بالاستعمال، كالقطن والحبوب.

وقد اختلف الفقهاء في فرنسا في تكييف الوديعة الناقصة، فكان الرأي الغالب أنه لا بد من الرجوع إلى نية المتعاقدين ليتبين قصد صاحب النقود، فإذا كان قصده التخلص من عناء حفظها بإيداعها عند آخر فالعقد وديعة. أما إذا كان قصد الطرفين منفعة في تسلم النقود عن طريق استعمالها لمصلحته فالعقد قرض. ويكون العقد قرضاً بوجه خاص إذا كان من تسلَّم النقود مصرفاً.

ويرى العلامة الدكتور عبد الرزاق السنهوري أنه لا جدوى من تمييز بين الوديعة الناقصة، كما ذهب إلى ذلك بعض الفقهاء، ذلك لأن المودِع في الوديعة الناقصة ينقل ملكية الشيء المودَع إلى الوديع ويصبح هذا مديناً برد مثله، ومن ثم تفقد الوديعة الناقصة أهم ما يميز الوديعة وهو رد الشيء بعينه، وتختلط اختلاطاً تاماً بالقرض، وبهذا قضت محكمة النقض بقرارها ذي الرقم 4504 تاريخ 31/12/1955 بقولها "إذا كانت الوديعة مبلغاً من النقود اعتبر العقد قرضاً، وهذا النص الخاص لوديعة النقود لا موجب معه للرجوع إلى الأحكام الشرعية المتعلقة بالأمانة".

2ـ الوديعة في الفنادق والخانات: نصت المادة (693) من القانون المدني: " يكون أصحاب الفنادق والخانات وما ماثلها فيما يجب عليهم من عناية بحفظ الأشـياء التي يأتي بها المسافرون والنزلاء، مسؤولين حتى عن فعل المترددين على الفندق أو الخان غير أنهم لا يكونون مسؤولين فيما يتعلق بالنقود والأوراق المالية والأشــياء الثمينة عن تعويض يجاوز خمسمائة ليرة سورية، ما لم يكونوا قد أخذوا على عاتقهم حفظ هذه الأشياء وهم يعرفون قيمتها، أو يكونوا رفضوا دون مسوغ أن يتسلموها عهدة في ذمتهم أو أن يكونوا قد تسببوا في وقوع الضرر بخطأ جسيم منهم أومن أحد تابعيهم".

يستفاد من ذلك أن أصحاب الفنادق والخانات وما ماثلها معرضون لمسؤولية جسيمة عن الودائع التي يأتي بها النزلاء إلى الفندق. وتظهر جسامة هذه المسؤولية في ناحيتين: الأولى وهي التوسع في معنى الوديعة، لأن أي شيء يأتي به النزيل معه إلى الفندق يعد مودعَاً عند صاحب الفندق ولو لم يسلمه إليه بالذات. أما الحالة الثانية وهي التوسع في المسؤولية، لأن الوديعة في الفندق تكون في حكم الوديعة الاضطرارية. فتســري عليها أحكام هذه الوديعة من حيث أن وديعة الفندق مأجـورة، والأجر يدخل ضمن ما يدفعه النزيل لصاحب الفندق عن إقامته. وكذلك يقع على النزيل إثبات واقعة الإيداع وماهية الأشياء المودعة ومقدارها وقيمتها، وأنها تلفت أو ضاعت أو سرقت في أثناء الإيداع، بجميع طرق الإثبات ومنها البينة الشخصية والقرائن. أما عبء إثبات نفي المسؤولية فيقع على عاتق صاحب الفندق.

ويكون مودعَاً عنده بمعنى نص المادة (693) سالفة الذكر صاحب الفندق وكل مكان ينزل فيه المسافرون، والغرف المفروشة، وعربات النوم في السكك الحديدية، وكابينات السفن، والمستشفيات والمصحات. ولا يدخل تحت هذا المفهوم المطاعم والمقاهي وأمناء النقل ومخازن الأمانات في المحطات والجمارك والمسارح والملاعب والنوادي الرياضية وكابينات الاستحمام.

أما الأشـياء المودعة وفق مفهوم تلك المادة، فهي كل ما يأتي به النزيل من حقائب وأمتعة وملابس ونقود ومجوهرات وأوراق مالية ومستندات وبضائع، وتدخل السيارة التي يأتي بها النزيل ويودعها في مرآب الفندق أو في فنائه، والدراجة وغيرها من وسائل النقل.

ويكون الإيداع عادة لا بتسليم الأشياء للوديع شخصياً، بل بوضعها في الغرفة التي يأوي إليها النزيل أو في أي مكان آخر يخصص لذلك. وقد يتم الإيداع قبل ذلك، كما إذا تلقى مندوب الفندق المسافر في المحطة وأخذ حقائبه لإيصالها إلى الفندق، فمن هذا الوقت تبدأ مسؤولية صاحب الفندق. وقد يأتي النزيل بعد أن يقيم في الفندق، بأمتعة أخرى يضيفها إلى الأمتعة الموجودة، أو على العكس من ذلك يرسل بأمتعة إلى الفندق تسبقه قبل قدومه، فتشمل مسؤولية صاحب الفندق هذه الأمتعة جميعاً. ولكن يجب أن تدخل الأمتعة الفندق برضاء صاحب الفندق أو أحد  أتباعه، أو على أقل تقدير من دون معارضة منه. أما الأمتعـة التي تركها النزيل في الفندق بعد مغادرته إياه أمانة عند صاحب الفندق، حتى لو عاد النزيل بعد ذلك إلى الفندق، فهذه لا يكون صاحب الفندق مسؤولاً عنها إلا طبقاً للقواعد العامة.

وإذا كان من المتوجب على الوديع في حفظ الأشياء المودعة أن يبذل عناية الشخص المعتاد، فإن مسؤولية صاحب الفندق ومن ماثله أشد من ذلك، لأنه مسؤول عن حفظ الأشياء التي يأتي بها المسافرون والنزلاء، ومراقبة أتباعه من خدم وموظفين، وكذلك مراقبة المترددين على الفندق، وبذلك قضت محكمة النقض بقرارها ذي الرقم 1091 تاريخ 30/12/1969 "صاحب الفندق مسؤول عن عمل أحد المترددين عليه بإعطائه أحد الزبائن وصلاً باسم الفندق باستلام مبلغ من المال على سبيل الوديعة". وعلى ذلك إذا أثبت النزيل أن الأشياء التي أودعها الفندق قد ضاعت أو سرقت أو احترقت أو تلفت، كان صاحب الفندق مسؤولاً عن ذلك، إلا إذا أثبت أن الحادث قد وقع بخطأ النزيل أو بقوة قاهرة، كزلزال أو حريق امتد من مكان مجاور ولا يد لصاحب الفندق فيه.

وإذا استطاع النزيل أن يثبت أن الفعل وقع بتقصير من صاحب الفندق، وجب على هذا الأخير أن يعوض النزيل عن كل ما أصابه من ضرر وفق القواعد العامة. إلا أن الفقرة الثانية من المادة (693) سـالفة الذكر قد أوردت اسـتثناء بعدم مسؤولية أصحاب الفنادق عن النقود والأوراق المالية والأشياء الثمينة عن تعويض يجاوز خمسمئة ليرة سورية، ما لم يكونوا قد أخذوا على عاتقهم حفظ هذه الأشياء وهم يعرفون قيمتها، أو رفضوا بلا مسوغ أن يتسلموها عهدة في ذمتهم، أو أن يكونوا قد تسببوا في وقوع الضرر بخطأ جسيم منهم أو من أحد تابعيهم.

ونظراً لهذه المسؤولية الجسيمة التي ألقاها القانون على صاحب الفندق، فقد جعل القانون له مخرجاً، فأسقط حق النزيل في الرجوع عليه في حالتين نصت عليهما المادة (694) من القانون المدني بقولها: " على المسافر أن يخطر صاحب الفندق أو الخان، بسرقة الشيء أو ضياعـه أو تلفه بمجرد علمه بوقوع شيء من ذلك، فإن أبطأ في الإخطار دون مسوغ سقطت حقوقه وتسقط بالتقادم دعوى المسافر قبل صاحب الفندق أو الخان بانقضاء ستة أشهر من اليوم الذي يغادر فيه الفندق أو الخان".

والسبب في تقصير مدة التقادم أن المشرع أراد أن يجعل صاحب الفندق في مأمن من مطالبة النزلاء في فندقه بعد ستة أشهر من مغادرتهم الفندق، وهي مدة كافية إذا انقضت من دون أن يطالبه النزيل، كان من حقه أن يطمئن إلى أنه غير معرض لأي مسؤولية.

ويجوز الاتفاق على تشديد قواعد المسؤولية، على الرغم مما هي عليه من الشدة، فيجوز الاتفاق مثلاً على ألا يتخلص صاحب الفندق من المسؤولية إلا إذا أثبت القوة القاهرة، أو الاتفاق على رفع الحد الأقصى للتعويض في الأشياء الثمينة إلى أكثر من خمسمئة ليرة سورية أو حتى إلى كل قيمتها.

3ـ الوديعة الاضطرارية: هي الوديعة التي يجد المودِع نفسه في أحوال مخصوصة مضطراً إلى الإيداع عند الشخص الذي وجد أمامه، فلا هو مختار في تعيين هذا الشخص ولا هو مختار في واقعة الإيداع ذاتها. فقد يدهمه حادث، كحريق أو نهب أو غرق أو شن غارة أو لصوص يقطعون الطريق، فيرى نفسه مضطراً حتى ينقذ ماله أن يودعه عند أول شخص يستطيع أن يودعه عنده.

ويشترط فيها تفادي هلاك الشيء من خطر محقق أو من ضرر جسيم، أي أن يكون المودِع في حالة الاضطرار، جعلته يلجأ اضطراراً إلى الوديعة وليس أمامه خيار باتخاذ طريقة أخرى، لأنها تضعه أمام ضرر كبير. وأن يكون المودِع قد التجأ إلى هذه الوديعة نتيجة حادث، أي بسبب وقوع حادث غير متوقع.

ولا يصل هذا الاضطرار إلى حد الإكراه الذي يصيب الإرادة، ومن ثم تكون الوديعة الاضطرارية عقداً صحيحاً يتكون من إرادتين صحيحتين، إرادة المودع وإرادة الوديع، ولا يجوز إبطاله للإكراه، ولكنه يخضع لقواعد خاصة تترتب على واقعة الاضطرار التي لم تصل إلى حد الإكراه وهي:

أ ـ اعتبار حالة الوديعة الاضطرارية استثناء من قاعدة الإثبات بالكتابة، وذلك لوجود المانع من الحصول على الكتابة وقت الإيداع. فيجوز فيها الإثبات بجميع طرق الإثبات بما في ذلك البينة الشخصية والقرائن، حتى لو زادت قيمة الوديعة على خمسمئة ليرة سورية إعمالاً للفقرة الأولى من المادة (57) من قانون البينات. ويكون هذا الإثبات لواقعة الإيداع ولماهية الشـيء المودَع وقيمته. ومتى ثبت حصول الوديعة الاضطرارية بأي طريق من طرق الإثبات، تتبع القواعد العامة المتعلقة برد الوديعة.

ب ـ خلافاً للوديعة الاختيارية فإن الأصل في الوديعة الاضطرارية هي استحقاق المودَع عنده للأجر، فهذه هي نية المتعاقدين المفترضة، ما لم يقض الاتفاق أو العرف بأن لا تكون مأجورة.

ج ـ العناية الواجبة على الوديع في الوديعة الاضطرارية هي عناية الشخص المعتاد، ولو كانت الوديعة بغير أجر، فيزيد مقدار العناية المطلوبة من المودَع عنده في الوديعة الاضطرارية عنه في الوديعة الاختيارية، نظراً للظروف الاضطرارية التي تمت بها الوديعة.

د ـ في الوديعة الاضطرارية لا يجوز الاتفاق على إعفاء الوديع من المسؤولية أو التخفيف منها، لأن كل اتفاق من هذا النوع مشوب بالإكراه من جانب الوديع.

 

مراجع للاستزادة:

 

ـ عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، المجلد السابع (القسم الأول) (دار النهضة العربية، القاهرة).

ـ شفيق طعمه، التقنين المدني السوري، الجزء السادس (دار الأنوار للطباعة، الطبعة الأولى، دمشق 1985).

ـ زهدي يكن، شـرح قانون الموجبات والعقود، الجزء الثاني عشر (دار الثقافة، الطبعة الأولى، بيروت).

ـ أنور طلبه، القانون المدني معلقاً على نصوصه بآراء الفقه وأحكام النقض، الجزء الثاني  (دار نشر الثقافة، الطبعة الأولى، الإسكندرية).


التصنيف : القانون الخاص
النوع : القانون الخاص
المجلد: المجلد الخامس: طرق الطعن في الأحكام الإدارية ــ علم العقاب
رقم الصفحة ضمن المجلد : 516
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 549
الكل : 31614667
اليوم : 49522