logo

logo

logo

logo

logo

الحصار الاقتصادي

حصار اقتصادي

economic blockade - embargo économique / blocus économique

 الحصار الاقتصادي

الحصار الاقتصادي

هيثم موسى

 الحصار الاقتصادي وآثاره ومدى مشروعيته

 تمييز الحصار الاقتصادي من باقي الأدوات الاقتصاديّة المستخدمة في السياسة الخارجية للدول

آثار الحصار الاقتصادي

الحصار الاقتصادي في إطار عهد عصبة الأمم وميثاق الأمم المتحدة

مشروعية الحصار الاقتصادي في ظل قواعد القانون الدولي الإنساني

   

 

يرتبط موضوع الحصار Embargo بمعنى الحبس والمنع والتضييق والمقاطعة والإكراه، بوصفه أداة من الأدوات التي يمكن للدول أن تلجأ إلى استخدامها في مواجهة بعضها في علاقاتها المتبادلة، وبغض النظر مبدئياً عن شرعيته من حيث الوسيلة والغاية، يرتبط بداهة بمسألة وجود الحدود السياسية لهذه الدول وظيفياً وعضوياً، وخاصّة أنّ هذه الحدود - التي تحدد الدول وسيادتها- يصدق عليها الوصف الذي أطلقه الجغرافي الأمريكي الشهير «اسمان يومان» من حيث أنّها «كحدّ السكين التي تُعلّق عليها نتائج الحروب ومصير السلام وحياة الشعوب أو فناؤها».

والحصار بالمعاني المتقدمة وأياً كان شكله (سياسياً، اقتصادياً، عسكريا..) وهدفه، إنّما يتعامل مع وجود هذه «الحدود السياسية» على أساس أنّها المجال المكاني والزماني لتطبيقه، والشرط الموضوعي والحيوي لتفعيله. ولاسيّما أنّ الوظائف التي تقوم بها الحدود كثيرة ومهمة، ولعلّ أولاها وأبرزها أنّها تحدد وتعيّن الأراضي والمساحات التي يحقّ للدولة أن تمارس عليها سيادتها وسلطتها ونفوذها من دون تدخّل خارجي، وبما لها من حقوق يكفلها لها القانون الدولي. كما للحدود وظيفة دفاعية، حيث تعدّ مراكز الدفاع الأولى ضد الأخطار والغزوات الأجنبية وكلّ ما يهدّد أمن الوطن وسلامته. ولذلك كانت الدول ولا تزال تهتم بتقوية حدودها وتحصينها بالأسوار والقلاع والتحصينات العسكرية المختلفة تحقيقاً لهذه الأهداف. والحدود هي بمنزلة السياج الذي يحمي الوطن من العصابات والمجرمين والمهربين والإرهابيين. وهي التي تحمي البلاد من دخول الأوبئة والأمراض السارية والمعدية، فتستخدم هذه الحدود لمنع المصابين بأمراض خطرة من الدخول، أو لفرض الحجر الصحي عليهم في معازل صحية. كما تمنع الدول عبر حدودها دخول المنتجات الزراعيّة أو الحيوانية المصابة أو غير الصالحة للاستخدام البشري والتي تعدّ خطراً على الصحة العامّة. كما تقوم الحدود أيضاً بوظيفة مهمة أخرى وهي ضبط عمليات تنقّل الأفراد والهجرة منها وإليها ومراقبتها. وتمنع دخول غير المرغوب في دخولهم إلى البلاد، والذين يكوِّنون خطراً على الأمن فيها، والمطلوبين لدول أخرى لارتكابهم جرائم على أرضها. كما تستخدم الدول حدودها لمنع دخول المنشورات والمطبوعات التي تحظرها الدولة إمّا لأنّها تهاجمها وإما لأنّها لا تنسجم مع نظمها ومبادئها وإما لأنّها تتعارض مع عادات شعبها وتقاليده ومعتقداته الدينية والسياسية. ومن وظائف الحدود المهمة كذلك أنّها تستخدم في تحديد مصالح الدول والبلدان فيما يتعلّق باستغلال ثرواتها ومواردها الطبيعة في المناطق الحدودية. كما تستغل الحدود لحماية الاقتصاد الوطني والتنمية الاقتصاديّة بمنع دخول السلع والمنتجات الأجنبية وحظر منافستها للسلع الوطنية أو بفرض رسوم جمركية عليها. ولذلك تقيم الدول مراكز جمركية على حدودها مع الدول الأخرى. وقد  تُستخدم مناطق الحدود مناطقَ حرة معفاة من الرسوم والضرائب، وذلك لخدمة تجارة المرور أو التجارة العابرة (ترانزيت) وهي تؤدي اليوم دوراً في اقتصاديات البلاد. وكثيراً ما تستعين الدول بالحدود في مقاطعة الدول المعادية لها أو لفرض الحصار الاقتصادي والسياسي عليها.

وإزاء هذه الوظائف والمهام الكبيرة والخطرة «للحدود» فإنّ سلاح «الحصار»، ولاسيّما «الاقتصادي والعسكري» ، له دور بالغ الأهمية والخطورة في هذا المجال من ناحيتين اثنتين:

1- إفراغ الحدود بالمعنى المتقدّم من وظائفها السيادية.

2- الانتقاص من سيادة الدولة الوطنية (صاحبة الحدود المحاصرة) كلياً أو جزئياً، من خلال مشاركة أو قيام الدولة أو  الدول القائمة بالحصار بممارسة هذه الوظائف كلياً أو جزئياً؛ نيابة أو نكاية بالدولة المستهدفة بإجراء الحصار، وهنا مكمن الخطورة.

وأمام هذا الواقع فقد تظهر العلاقة بين مسألتي «الحدود» و«الحصار» على أنّها علاقة احتمالية وطردية في الوقت نفسه ، بمعنى أنّه إذا حصلت حالة «الحصار» كوسيلة احتمالية يمكن أن تلجأ إليها الدول في علاقاتها المتبادلة، فإنّ حدوثها يعني فعلياً تكريس «حالة الحدود المحددة لسيادات الدول»، ومن ثم عدّها نتيجة أو مؤشراً لوجود نزاع أو خلاف دولي بين الدولتين المعنيتين - الدولة القائمة بالحصار والدولة المحاصرة - أو غيرهما. فالحصار والحالة هذه إنّما يعدّ - غالباً - نتيجة لوجود نزاع أياً كانت طبيعته وأسبابه وظروفه. وإن كان من الممكن - في حالات قليلة - عدّ «الحصار» سبباً لوجود النزاع ذاته أو جزء منه. ومهما يكن، إذا كانت أسباب «النزاع» ومن ثم الوسيلة المستخدمة في حالة الحصار وهمية أو صورية فإنّ النتائج المستهدفة من وراء استخدامه تبغي تحقيق نتائج فعلية على أرض الواقع تجاه الدولة المستهدفة بهذا الإجراء تتمثل في الضغط المادي والمعنوي عليها، للقيام بعمل أو الامتناع عن القيام به.

واستطراداً يمكن القول: إنّ «الحصار» يرتبط موضوعياً بوجود «نزاع دولي» بين دولتين أو أكثر، أو بين منظمة دولية تملك حق فرض عقوبات باسم المجتمع الدولي وبين دولة أو دول شذت عن أهداف المنظمة (الأمم المتحدة، الفصل السابع).

أولاً- الحصار الاقتصادي وآثاره ومدى مشروعيته:

1- الحصار لغة:

تفيد كلمة «الحصار» - كما ذكر آنفاً - معاني: «المقاطعة والحبس والتضييق والمنع والإكراه». ويستهدف من يلجأ إلى استخدامه الضغط على الطرف الآخر لإكراهه أو إجباره على القيام بعمل أو الامتناع عنه عموماً لمصلحة الطرف الأول القائم بعملية الحصار. ويختلف مضمون «الحصار»  وماهيته باختلاف محتواه والأدوات المستخدمة فيه حتّى الأهداف المتوخاة منه، فهناك حصار اقتصادي أو سياسي أو إعلامي أو عسكري.

2 - تاريخ الحصار والحصار الاقتصادي:

بالعودة إلى تاريخ العلاقات الدوليّة المتعلقة بهذا الموضوع يمكن الخلوص إلى أنّ «الحصار» بجميع أنواعه (ولا سيّما العسكري منه وبدرجة أقل الاقتصادي) عُدّ وسيلة مهمة من الوسائل التي لجأت إليها الدول والشعوب والأمم في علاقاتها المتبادلة، على مدار التاريخ ولتحقيق أهداف مختلفة. وما زال حتّى اليوم، والأرجح أنّه سيبقى مستقبلاً، من أهم أدوات التأثير والتأثر في العلاقات الدوليّة. ولا يختلف «الحصار الاقتصادي» عن غيره من أنواع الحصار الأخرى إلاّ في مضمونه وأدواته، ومن ثم في أهدافه المبتغاة منه والمتمثلة في الضغط الاقتصادي ومن ثمّ السياسي ضد الدولة المستهدفة بهذا الإجراء بغية جعلها منطقة مغلقة اقتصادياً، ومعزولة تجارياً عن العالم الخارجي، أو على الأقل عن الدولة أو الدول التي تشارك فيه. وذلك لتحقيق أهداف متعددة تختلف باختلاف الأسباب والظروف المؤدية إليه، منها الانتقام والثأر؛ أو لفرض معوقات اقتصادية من جراء قيام الدولة بفعل غير مشروع؛ أو للضغط المادي والمعنوي والسياسي عليها للقيام بعمل أو الامتناع عن عمل.

والحصار الاقتصادي بهذا المضمون قديم، ولجأت إليه مختلف الدول والشعوب في علاقاتها المتبادلة وإنّ تطوّرت أدواته وأساليبه بتطور البشرية؛ إذ يمكن ملاحظة قيام بعض الدول قديماً بقطع مصادر المياه عن جيرانها، أو حرق المحاصيل الزراعيّة التابعة لها أو إتلافها، أو القيام بما يسمّى تمليح الأراضي الزراعيّة كي تغدو أراضي عقيمة غير صالحة إطلاقاً للزراعة؛ كما فعلت الإمبراطورية الرومانية في علاقاتها مع الدول والشعوب الأخرى.

ويمكن الاستشهاد من السيرة النبوية الشريفة بالحصار الاقتصادي الذي فرضته قبائل قريش المشركة حينما أراد زعماؤها قتل النبي محمد r، فأمر عمّه أبو طالب قومه من بني عبد المطلب وبني هاشم أن يمنعوا عنه قريشاً ويحمونه، فحاصرتهم الأخيرة حصاراً مريراً في أحد شعاب مكّة مدة ثلاث سنوات لا يسمحون فيه بمرور أيّ شيء إليهم، حتّى أصاب النبي محمد r وأتباعه الجهد والبلاء؛ إلى أن قضى الله أمراً مفعولاً فانتهى هذا الحصار.

ومن الأمثلة الحديثة يمكن ذكر الحصار الاقتصادي الذي فرضته الولايات المتحدة على كوبا ابتداءً من عام 1962 إثر أزمة الصواريخ الشهيرة، وكذلك الحصار الذي فرض من قبل الأمم المتحدة على نظام روديسيا الجنوبيّة ابتداءً من عام 1965 لممارسة سياسة التمييز العنصري (الأبارتهايد)، وتشكيل لجنة عقوبات خاصّة بهذا الموضوع، والحصار الاقتصادي الذي فرض من قبل المعسكر الغربي ضد الدول الاشتراكية (الشيوعية) وعلى رأسها الاتحاد السوڤييتي السابق إبان الحرب الباردة. وكذلك الحصار الذي فرض على ليبيا إبان أزمة لوكيربي 1986 وما بعدها. وعلى العراق بعد احتلاله للكويت 1991. وكذلك الحصار الجزئي الذي مارسته الولايات المتحدة بحقّ كلّ من كوريا الشماليّة وإيران وسورية والسودان في فترات مختلفة من نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين. وكذلك الحصار العسكري والاقتصادي التام الذي تفرضه إسرائيل بحقّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزة ابتداء من 15/6/2007.

ثانياً- تمييز الحصار الاقتصادي من باقي الأدوات الاقتصاديّة المستخدمة في السياسة الخارجية للدول:

يمكن تعريف هذه الأدوات بأنّها القدرات الاقتصاديّة للدولة التي تستغل بطريق صريح أو ضمني في دعم أهداف السياسة الخارجية لهذه الدولة سواء انصرفت هذه الأهداف إلى النواحي الاقتصاديّة أم السياسية أم العسكرية أم الدعائية، وتتعدد هذه الأدوات الاقتصاديّة التي تستخدمها الدول لتحقيق هذه الأهداف، فمن التعرفات الجمركية التي تفرضها الدولة على الصادرات والواردات (صعوداً وهبوطاً)، إلى فرض نظام الحصص أو القيود الكمية على الواردات للحدّ من تدفقها للدولة؛ إلى القيود النقدية والتلاعب بأسعار الصرف والفائدة؛ إلى إجراءات الحظر على المبادلات التجارية مع الدول المعادية. إلى تجميد أو تأميم أرصدة بعض الدول الموجودة لدى مصارفها الوطنية، وكذلك أسلوب «المقاطعة الاقتصاديّة»  الذي يعني قطع التعامل التجاري مع دولة ما لإكراهها على إصلاح خطأ وقعت فيه، أو تعديل تصرّف غير مشروع أقدمت عليه، ويتضّمن قطع كلّ علاقة مادية أو تجارية بين الدولتين وبين رعاياهما. ومن الأمثلة الحديثة لها مقاطعة الدول العربيّة لإسرائيل، وكذلك المقاطعة التي طالبت بتطبيقها بعض الدول والمنظمات الإسلامية ضد الدنمارك لتحميلها مسؤولية الرسوم المسيئة للرسول r عام 2008. وهناك الحرب الاقتصاديّة التي قد تقوم بين دولتين أو أكثر حيث تتنازع هذه الدول على الموارد الاقتصاديّة وأسواق التصريف ولكن بأسلوب تجاري واقتصادي.

ويمكن تمييز الحصار الاقتصادي بالمعنى المتقدّم  آنفاً من مفهوم «المعونات الاقتصاديّة والفنية» أو أسلوبها؛ إذ تقوم بعض الدول المتقدمة أو الغنية بتقديمها لبعض الدول المتخلفة أو الفقيرة؛ ويستخدم هذا الأسلوب في غالب الأحيان أداةً للضغط السياسي والاقتصادي ضد الدول الأخيرة لكي تبقى في فلك مصالح الدول الأولى وأهدافها. ومن الأمثلة على ذلك قيام الصين بوقف تقديم معوناتها الاقتصاديّة إلى بورما عام 1967 على خلفية المظاهرات التي قامت في هذه الأخيرة ضد الصينين المقيمين فيها. وكذلك وقف الجماعة الأوربية عام 1981 لصفقة قرض لتركيا على خلفية اتهام الأولى الثانية بانتهاك حقوق الإنسان. والأمثلة في الوقت الراهن حول هذا الموضوع أكثر من أن تعدّ، ولاسيّما فيما يتعلق بالمعونات الاقتصاديّة والعسكرية التي تقدّمها الولايات المتحدة لبعض الدول، وخاصة تلك التي رفضت، مثلاً، التوقيع معها على اتفاقيات ثنائية لمنع تسليم المواطنين الأمريكييّن إلى المحكمة الجنائية الدوليّة حين تطلب منها ذلك (سياسة الترغيب والترهيب).

ثالثاً- آثار الحصار الاقتصادي:

تقدّم آنفاً أنّ الحصار الاقتصادي أسلوب يتمّ استخدامه لتحقيق أهداف مختلفة تتدرج صعوداً من إحراج الدولة المستهدفة به داخلياً وخارجياً إلى الضغط عليها لاتخاذ موقف أو امتناع عن اتخاذه لمصلحة الدولة القائمة بالحصار، أو لتعديل خطأ أو فعل غير مشروع ارتكبته الدولة المحاصرة وتصحيحه، أو لفرض عقوبات بحقّ هذه الأخيرة جزاءً لإخلالها أو انتهاكها لالتزامات دوليّة مهمة. والشيء الملاحظ أنّ هذا الأسلوب (العقوبات أو الحصار الاقتصادي) إذ يستهدف مبدئياً الدولة المخالفة أو المنتهكة لقواعد القانون الدولي أو الالتزامات الناشئة منه، فإنّه يؤثر من حيث النتيجة في عيش المواطنين في هذه الدولة مباشرة، وهذا يعني أن المواطنين هم من يدفع الثمن الحقيقي لهذه العقوبات الاقتصاديّة، في حين تبقى الدولة أو السلطة الحاكمة في غالب الأحيان بمنأى عن التأثيرات المباشرة لهذه العقوبات.

وتجدر الإشارة إلى أنّ غالبية الدول التي قد تلجأ إلى هذا الأسلوب في تعاملها مع الدول الأخرى؛ تطبّق فيه مبدأ «الغاية تبرّر الوسيلة»، وذلك بعيداً عن أيّ تقديرات أو احتمالات للعواقب الوخيمة الناجمة عنه وعلى جميع المستويات الإنسانية والماديّة والاجتماعيّة والأخلاقية، وخاصّة أنّ هذا الأسلوب - كما ذكر آنفاً - لا يصيب من حيث النتيجة الدولة كشخص قانوني دولي أو السلطة الحاكمة فيها بصورة مباشرة؛ وإنّما المواطنين فيها مع ما يترتب على ذلك من نتائج كارثية بحقّ هؤلاء الأفراد والمجتمع الذي يعيشون فيه؛ من انتشار للفقر والأمراض والبطالة وتكريس لحالة الجهل والتخلّف وتزايد في نسبة الجرائم الاجتماعيّة والاقتصاديّة والأخلاقية. ومن المحتمل جداً أن تكون هذه النتائج الأخيرة هي الآثار المطلوب تحقيقها من اللجوء إلى مثل هذا الأسلوب، وذلك لتوظيف حالة النقمة والغليان الشعبي الناجمة عن الحصار في الصراع المباشر مع الدولة أو السلطة المستهدفة به؛ من خلال زرع بذور الفتنة وعدم الثقة بين الدولة أو السلطة وأفراد الشعب؛ وبث روح التمرّد والثورة لدى هؤلاء للتخلص من السلطة الحاكمة في الدولة. ولكن يُلاحظ - تاريخياً - أنّ النتائج الفعلية لأسلوب الحصار الاقتصادي تكون في غالب الأحيان عكسية، ولاسيّما إذا كان غير شرعي أو يتعسّف في تطبيقه. وفي المثال العراقي إبان تسعينيات القرن الماضي خير دليل على ذلك. وقد سُئلت وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأمريكية مادلين أولبرايت عام 1998 - إبان ذروة الحصار الأمريكي الدولي على العراق - عن أنّ ما يقارب نصف مليون طفل عراقي لاقوا حتفهم جراء هذا الحصار (منع الغذاء والدواء)، وهذا عدد أكبر من الذين قتلوا في هيروشيما 1945، فهل تستحق النتيجة هذا الثمن من الضحايا ؟ وقد أجابت أولبرايت: أعتقد أنّ هذا خيار صعب جداً، ولكن النتيجة تستحق هذا الثمن من الضحايا !! وهذا يعني أنّ وفاة مئات الألوف من المدنيين العراقيّين في ظل نظام العقوبات والحصار المفروض على بلدهم تظهر أنّ هذه العقوبات (الحصار) من حيث النتائج المتولدة منها هي أسلحة دمار شامل إن لم تكن أكثر من ذلك!!

ولذلك فقد كانت الأرجنتين (ومعها دول أمريكا اللاتينية) على حقّ حينما وصفت الحصار الاقتصادي والعقوبات التجارية المفروضة بحقها من قبل دول الاتحاد الأوربي بعد نشوب أزمة جزر الفوكلاند - المالوين - بينها وبين بريطانيا 1982، بأنّها من «أعمال العدوان الاقتصادي التي ترتكب بالمخالفة الصارخة للقانون الدولي برمّته»، لمّا قد ينجم عنه من آثار كارثية بحقّ المواطنين المستهدفين فعلياً بهذا الإجراء، وهو ما حصل على أرض الواقع - كما تقدّم - في العراق. ومن هنا ونتيجة لهذه الأوضاع المأساوية فقد تحايلت الدول التي فرضت الحصار الاقتصادي على العراق، - تتقدمهم الولايات المتحدة - على هذه التسمية وابتدعت ما سمّته بـ «العقوبات الذكية» التي تصيب الدولة أو السلطة ولا تمسّ أفراد الشعب، وذلك من خلال تعديل صيغة الحصار ومضمونه عبر مقولة «النفط مقابل الغذاء» في قرار مجلس الأمن الدولي رقم (986). وذلك لتخفيف معاناة الشعب العراقي - كما زعموا - من خلال عملية إطلاق حرية تدفّق السلع المدنيّة والاستهلاكية، فيما عدا السلع مزدوجة الاستعمال (مدنية - عسكرية). وقد عملت ولا تزال لجنة القانون الدولي على تأصيل هذا الموضوع قانونياً، وذلك لتجنّب الآثار السلبية لتطبيق مثل هكذا إجراءات؛ من حيث الفصل بين الأشخاص المستهدفين فعلياً بهذه العقوبات (الدولة أو السلطة الحاكمة) والأشخاص الآخرين (الشعب) الذين لا ذنب لهم في هذا الموضوع !

رابعاً- الحصار الاقتصادي في إطار عهد عصبة الأمم وميثاق الأمم المتحدة:

تتلخّص مهمة عصبة الأمم كما بيّنها عهد العصبة 1919 في مقدمته بأمرين اثنين:

1- ضمان السلم العالمي ومنع الحروب 2- تنظيم التعاون الدولي في كافة المجالات وتوثيقه. ولذلك فرض هذا العهد جملة من الالتزامات على عاتق الدول الأطراف، فإذا خالفت إحداها هذه الالتزامات ولجأت مباشرة إلى الحرب مثلاً خلافاً لما يقضي به العهد؛ فتعدّ كأنها قامت بعمل عدائي ضد أعضاء العصبة جميعاً، وجاز وفقاً للمادّة (16) من العهد أن توقع عليها بعض الجزاءات التي تبتدئ بفرض الحصار الاقتصادي بحقها، ويتضّمن قطع كلّ علاقة تجارية أو مالية مع الدولة المعتدية، وكذا منع كلّ اتصال مالي أو تجاري أو شخصي بين رعاياها ورعايا هذه الدولة. وقد طبّق هذا الجزاء فعلياً من قبل بعض الدول ضد إيطاليا عند اعتدائها على الحبشة سنة 1936، لكنه لم يكن ذا أثر فعّال لعدم إخلاص الدول وقتئذ في تطبيقه وتلكئها في توقيعه.

أمّا في إطار ميثاق الأمم المتحدة لعام 1945 الذي جعل من حفظ السلم والأمن الدوليين ومنع الأسباب التي تهددهما من بين أهمّ أهداف منظمة الأمم المتحدة، وربط ذلك بحظر شامل لاستخدام القوة أو التهديد باستعمالها وضرورة حل المنازعات الدوليّة بالطرق السلمية، وجعل هذين الأمرين من أهمّ المبادئ التي تقوم عليها المنظمة الدوليّة، ولذلك فوّض الميثاق مجلس الأمن بالسهر على تحقيق هذا الهدف ضمن هذه المبادئ، ولضمان الوصول إلى ذلك؛ فقد أعطي مجلس الأمن الدولي في إطار معالجته لأيّ نزاع أو عدوان جملة من التدابير غير العسكرية (المادّة 41) والعسكرية (المادّة 42 من الميثاق). وما يهمّ هنا هو المادّة  (41) التي أعطت لمجلس الأمن الدولي صلاحية تقرير ما يجب اتخاذه من تدابير لا تتطلب استخدام القوة المسلّحة لتنفيذ قراراته، وله أن يطلب إلى أعضاء الأمم المتحدة تطبيق هذه التدابير، ويجوز أن يكون من بينها وقف الصلات الاقتصاديّة والمواصلات الحديدية والبحرية والبريدية والبرقية واللاسلكية وغيرها من وسائل المواصلات وقفاً جزئياً أو كلياً، وقطع العلاقات الدبلوماسية. أي إنّ المادّة (41) قننت وأصّلت موضوع «الحصار الاقتصادي» أسلوباً أولياً يُلجأ إليه للضغط على الدولة المعتدية لردعها عن عدوانها وإنهائه وإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل العدوان. وتعد قرارات مجلس الأمن الدولي بخصوص هذا الموضوع ملزمة للدول الأعضاء، وتطالب بتنفيذها تحت طائلة نهوض المسؤولية القانونية الدوليّة بحقّ الدولة المخالفة. فإذا أخفق هذا الأسلوب لجأ مجلس الأمن إلى التدابير العسكرية التي تنصّ عليها المادّة (42) من الميثاق. ويُلاحظ هنا أنّ المادّة (50) من الميثاق حفظت حقّ الدول الأخرى التي تواجه مشاكل اقتصادية خاصّة تنشأ من تنفيذ هذه التدابير؛ في التذاكر مع مجلس الأمن بصدد حلّ هذه المشكلات أو الأضرار التي قد تلحق بها من جرّاء تنفيذ مثل هذه الإجراءات.

وبناء على هذه النصوص الواردة في ميثاق الأمم المتحدة فإنّ  الحصار الاقتصادي  بوصفه أسلوباً أو تدبيراً قسرياً يُتّخذ بحقّ الدولة المعتدية؛ لا يمكن عدّه مشروعاً إلاّ إذا صدر بقرار عن مجلس الأمن الدولي بموجب الفصل السابع من الميثاق مراعياً فيه المبادئ التي قامت عليها الأمم المتحدة وفقاً للفقرة /2/ من المادّة (24) من الميثاق. ويترتب على ذلك عدّ «الحصار الاقتصادي» المعلن من قبل دولة أو أكثر على نحو منفرد وخارج مظلة الشرعيّة الدوليّة ضد دولة أخرى، وأياً كانت الأسباب الداعية إليه؛ حصاراً أو إجراءً غير صحيح وغير قانوني. بل يمكن عدّه عملاً انتقامياً أو تعسّفياً لا مبرّر له من الناحية القانونية مادام تنفيذه قد تم خارج نطاق منظمة الأمم المتحدة. وهو يختلف عن الإجراء المسمّى «المقاطعة الاقتصاديّة»  الذي يمكن عدّه أمراً جائزاً، تستطيع الدولة منفردة أو مجموعة من الدول - إذا قامت أسبابه المنطقية - اللجوء إليه خارج منظمة الأمم المتحدة، لأنّه أمر يتعلّق بممارستها لسيادتها على النطاق الخارجي أو الدولي؛ وبتحديد علاقاتها الاقتصاديّة مع الدول الأخرى كالمقاطعة الاقتصاديّة العربيّة لإسرائيل. وذلك بعكس «الحصار الاقتصادي» الذي يتعلّق في غالب الأحوال وفي جزء كبير منه بالتدخّل في الشؤون الداخلية للدولة المحاصَرة، وهذا مما لا يجوز للدول التدخّل فيه، إلاّ إذا قامت أسبابه القانونية في نطاق المادّة (41) من ميثاق الأمم المتحدة وبقرار من مجلس الأمن حول هذا الموضوع. ويُذكر في هذا المجال أنّ ميثاق منظمة الدول الأمريكيّة (بوغوتا 1948) حظر صراحة في المادّة (16) منه «استخدام تدابير الإكراه ذات الطابع الاقتصادي أو السياسي للضغط على الإرادة السيادية لدولة أخرى والحصول منها على مزايا من أيّ نوع».

خامساً- مشروعية الحصار الاقتصادي في ظل قواعد القانون الدولي الإنساني:

تقدّم آنفاً الحديث عن مشروعية الحصار الاقتصادي في إطار قواعد القانون الدولي المعاصر المتمثل أساساً بميثاق الأمم المتحدة. وذلك من حيث الأسباب الداعية إلى الأخذ به أو تطبيقه إجراءً عقابياً بحقّ الدولة المعتدية. والحديث هنا يدور حول مشروعية هذا الأسلوب أو التدبير من حيث كيفية إعماله وتطبيقه وفقاً لقواعد القانون الدولي الإنساني. صحيح أنّه لم يصل إلى درجة عدّه إجراءً حربياً أو عسكرياً مسلّحاً، ولكنه من حيث النتيجة قد يمسّ حياة الملايين من البشر المستهدفين من خلال فرضه على الدولة التي ينتمون إليها بجنسيتهم. وهذا يعني أنّ الحصار الاقتصادي بوصفه إجراءً عقابياً يخضع لنوعين من القواعد تحدّد شرعيته ومشروعيته:

أ - قواعد تحدد شرعية اللجوء إليه والأسباب المؤدية إلى تفعيله، وقد حدّدها ميثاق الأمم المتحدة في نطاق الفصل السابع منه (المادّة 41 تحديداً) كما ذكر أعلاه.

ب- قواعد تحدد مشروعية تطبيقه باعتباره إجراءً عقابياً له نتائج جسيمة على حياة الشعوب وحقوقها. وهنا يخضع هذا الإجراء للقواعد العامّة الموجودة في القانون الدولي الإنساني، ولاسيّما القواعد الخاصة بحماية السكان المدنيين وحماية موارد عيشهم وبقائهم على قيد الحياة، وألا يؤثر الحصار الاقتصادي في هذه الموارد وأسباب استمرارهم ووجودهم. بل عدّ تجويع السكان المدنيين بوصفه أسلوباً من أساليب الحرب أمراً محظوراً ومجرّماً بموجب قواعد القانون الدولي الإنساني (المادّة 54/1 من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 - والمادة 8/2 (ب) 25 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدوليّة) وهو يدخل في طائفة جرائم الحرب. ومن الجدير بالذكر أنّ الدليل العسكري الإسرائيلي لقوانين الحرب يُقرّر أنّ قاعدة حظر التجويع تتضمّن صراحة وجوب السماح لسكان المدينة بمغادرتها خلال الحصار، وإلاّ فعلى الطرف المحاصِـر السماح بحرية مرور المواد الغذائية والمؤن الأساسية للسكان المحاصرين. وهذا ما لم تلتزم به إسرائيل - كعادتها - ولاسيّما في حصارها العسكري والاقتصادي لقطاع غزة منذ 15/6/2007 حتّى اليوم، وفيما يشكّل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية من حيث النتيجة.

مراجع للاستزادة:

- تونكين، القانون الدولي العام، ترجمة أحمد رضا (الهيئة المصرية العامّة للكتاب 1972).

- أحمد أبو الوفا، القانون الدولي العام (دار النهضة العربيّة، القاهرة 1995).

- إسماعيل  صبري مقلد، العلاقات السياسية الدوليّة، دراسة في الأصول والنظريات (المكتبة الأكاديمية، القاهرة 1991).

- جون ماري هنكرتس ولويز دوزوالديك، القانون الدولي الإنساني العرفي، المجلد الأول - القواعد (منشورات ICRC، مكتب القاهرة 2007).

- حولية لجنة القانون الدولي، المجلد الثاني- الجزء الأول (الأمم المتحدة 1992).

- عبد العزيز محمد سرحان، القانون الدولي العام (دار النهضة العربيّة، القاهرة 1991).

- علي صادق أبو هيف، القانون الدولي العام (دار النهضة العربيّة ، القاهرة ، الطبعة 11).

- محمد عزيز شكري، مدخل إلى القانون الدولي العام (جامعة دمشق، الطبعة العاشرة، 2005- 2006).

- محمد علي الفرا، «العولمة والحدود»، مجلة عالم الفكر «نزاعات الدول والحروب الأهلية» (الكويت - العدد 4 - المجلد 32- 2004).

 


التصنيف : القانون الدولي
النوع : القانون الدولي
المجلد: المجلد الثالث: الجرف القاري ــ الرسم والنماذج الصناعية
رقم الصفحة ضمن المجلد : 145
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 553
الكل : 31168371
اليوم : 69761