logo

logo

logo

logo

logo

السلطة الإدارية المستقلة

سلطه اداريه مستقله

independent administrative authority - autorité administrative indépendante

 السلطة الإدارية المستقلة

السلطة الإدارية المستقلة

مهند نوح

ماهية السلطات الإدارية المستقلة

مظاهر استقلال السلطات الإدارية المستقلة

وسائل السلطات الإدارية المستقلة في تحقيق مهامها

 

أولاً ـ ماهية السلطات الإدارية المستقلة:

السلطات الإدارية المستقلة Les autorités administratives indépendantes (A.A.I). هي أجهزة إدارية تنظيمية تعدّ جزءاً بنيوياً من الدولة، ومستقلة عن السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية العاملة في إطار الدولة في الوقت نفسه، ومن ثم فإن هذه السلطات صيغة خاصة من التنظيمات الإدارية التي تستفيد من درجة عليا من الاستقلال في مواجهة السياسة والإدارة التقليدية، وهذه السلطات تتصرف باسم الدولة من دون أن تكون خاضعة للحكومة، وتستفيد لأجل ممارسة مهامها بالضمانات التي تمنحها الاستقلال الكامل، ومن دون أن يكون نشاطها موجهاً أو مراقباً من قبل أي سلطة أخرى في الدولة.

 وقد تم تأسيس هذه التنظيمات الإدارية المستقلة لأجل تلبية حاجات بعض الإشكاليات في الحقول المختلفة بشكل براغماتي، وهذا يعني أن ظهور السلطات الإدارية المستقلة إنما كان في سبيل تأمين التنظيم La régulation، أي التسيير المتناغم لقطاعات محددة (مثل المنافسة في السوق، والأسواق المالية، والقطاع البنكي، والاتصالات… إلخ)، تلك القطاعات التي لا ترغب الحكومة بالتدخل فيها مباشرة، توقياً لأي نتائج سياسية لمثل هذا التدخل، بحكم أن هذه القطاعات ذات طابع خاص وحساس.

ومن الملاحظ أن السلطات الإدارية المستقلة لا نتهض بمهام الإدارة La gestion، بل بمهام التنظيم، لذلك فإنها لا تأخذ على عاتقها مهمة تأمين الخدمات العامة بالمعنى التقليدي، كما هو الحال بالنسبة إلى المرافق العامة، ولكن تقوم بمهام جوهرية تتمثل في الحفاظ على توازنات معينة داخل المجتمع، ومن ثم فإن دورها أشبه بالدور التحكيمي الذي يقترب جداً من الدور القضائي، وهذا يعني أن دورها يتمثل في تأطير تطور قطاع معين في الحياة الاجتماعية، لذلك فإنها لا تحتاج إلا إلى وسائل مادية أو بشرية تستخدمها في المجال المحدد الذي تنهض به، وهو ما يؤدي من حيث النتيجة إلى هروبها من الثقل البيروقراطي.

وتتميز السلطات الإدارية المستقلة بالنمو المطرد في مختلف الدول ولاسيما الديموقراطيات الليبرالية، وذلك لأن هذه الديموقراطيات تنزع إلى إيجاد طريقة جديدة لممارسة سلطة الدولة خارج نطاق فكرتي المركزية واللامركزية الإدارية، ولاسيما في مجالات مهمة وحساسة مثل الحريات العامة، أو في إطار تنظيم قطاعات معينة كالأسواق المالية، وهذا يعني أن ظهور هذه السلطات يتسم بحركية على المستويات الإدارية والقانونية والسياسية، إذ إنها تمثل مرحلة تطور في بنية الدولة التقليدية في المجالات ذات الخصوصية والحساسية، وهو ما طرح في الوقت نفسه التساؤلات عن مدى فعالية الدولة التقليدية وحياديتها للتدخل ضمن هذه المجالات والقطاعات ذاتها.

وانطلاقاً مما تقدم يرى فقه القانون الإداري المعاصر أن وجود السلطات الإدارية المستقلة قد أعطى بدوره مكاناً واسعاً للوساطة La médiation لحل المنازعات في القطاعات التي تشرف عليها وتنظمها هذه السلطات، وللصلح القائم على التفاوض، وذلك دون شك من شأنه أن ينتج شروطاً جديدة لممارسة السلطة ضمن الدولة.

إن الموجبات السابقة جميعها هي التي أدت إلى انتشار السلطات الإدارية المستقلة، فقد استخدم هذه المصطلح أول مرة في إيطاليا سنة 1984، وفي الوقت الحالي تمارس هذه السلطات دورها في القطاعات المتعلقة بتنظيم المنافسة ضمن السوق، وتنظيم سوق الأوراق المالية، والمعلوماتية والحريات، أما في هولندا، فإن هناك أكثر من مئتي تنظيم تسبغ عليه صفة السلطة الإدارية المستقلة، وكذلك الحال في المملكة المتحدة، حيث تسمى هذه السلطات (المنظمات الشبيهة بالمنظمات غير الحكومية (Quasi nonـ governmental organisation). وهي تعمل في مجالات عديدة جداً مثل الاتصالات والمياه، وإن بعضاً من هذه التنظيمات تنهض بمهام مرافق عامة تقدم خدمات للمواطنين مما يقربها إلى حد كبير من مفهوم المؤسسات العامة، إلا أن ما يجعلها مختلفة عن هذه الأخيرة أنها غير خاضعة لوصاية السلطة التنفيذية المركزية، وهناك طائفة أخرى من هذه التنظيمات في المملكة المتحدة يطلق عليها تسمية الأجهزة غير المنتمية إلى القطاع العام Nonـ Departmental Public Bodies، وهي التي تنضوي تحت لوائها على سبيل المثال الإذاعة البريطانية B.B.C، ولجنة حقوق الإنسان Human Rights Commission. وفي الولايات المتحدة هناك ثماني وكالات على المستوى الفيدرالي تسبغ عليها صفة السلطة الإدارية المستقلة مثل اللجنة الفيدرالية للاتصالات، ووكالة حماية البيئة. أما في ألمانيا فإن هناك أكثر من 189 سلطة إدارية مستقلة في الوقت الحالي عاملة في مجالات عديدة جداً، وتتمتع هذه السلطات بمكانة مهمة أيضاً في النمسا، حيث يطلق عليها تسمية الغرف الإدارية المستقلة Les chambres administratives indépendantes، وتتميز هذه السلطات بامتلاك اختصاصات قضائية للبت في المنازعات بين الأفراد والإدارة، إلا أنها لا تعد مع ذلك محاكم إدارية، وقراراتها تخضع للرقابة من قبل المحكمة الإدارية، والمحكمة الدستورية. وتعد تركيا من دول الشرق الأوسط التي أدخلت السلطات الإدارية المستقلة إلى بنيان إدارتها العامة، وخصوصاً خلال السنوات الواقعة بين 1980 و1990، وهو ما شكل في ذاته ظاهرة استثنائية على الطبيعة المركزية للدولة الكمالية، وذلك على الرغم من أنه لا يوجد حتى الآن تأطير تشريعي أو قضائي كافيان لوجودها، ومن السلطات الإدارية المستقلة في تركيا: سلطة المنافسة ومجلس الرقابة والتنظيم البنكي، وسلطة الأسواق المالية، والمجلس الأعلى للراديو والتلفزيون وسلطة الاتصالات..إلخ.

أما في العالم العربي فهناك دولتان تبنتا فكرة السلطات الإدارية المستقلة حتى الوقت الحاضر هما الجزائر والمغرب، فقد أحدثت في الجزائر نحو اثنتي عشرة سلطة إدارية مستقلة، مثل لجنة تنظيم الرقابة لعمليات البورصة، ومجلس النقد والاعتماد، واللجنة البنكية، وسلطة تنظيم البريد والاتصالات، والوكالة الوطنية للجيولوجيا ورقابة المناجم.. إلخ، أما في المغرب فمثالها سلطة الاتصالات المرئية والمسموعة.

وعلى الرغم من انتشار السلطات الإدارية المستقلة في العالم على النحو سالف الذكر، تظل التجربة الفرنسية من أكثر التجارب في العالم نضجاً وقدماً، حيث كان أول ظهور لها سنة 1978 عندما صدر قانون المعلوماتية والحريات، حيث رأى المشرع الفرنسي آنذاك أنه من غير المناسب تدخل الدولة بأجهزتها التقليدية في مجال المعلوماتية بعدّه مجالاً حساساً يتعلق بالحريات والحياة الخاصة للأفراد؛ لذلك فقد تشكلت ضمن الدولة سلطة إدارية مستقلة تتولى هذا الأمرـ في سبيل أن تظهر الضمير الاجتماعي إزاء استخدام المعلومات ـ أطلق عليها تسمية اللجنة الوطنية للمعلومات والحريات Commission nationale de l’informatique et des libertés، وليتوالى بعد ذلك إحداث السلطات الإدارية المستقلة لتتولى مهام التنظيم في المجالات المختلفة (الأسواق المالية ـ المنافسة ـ الحصول على الوثائق الإدارية ـ السمعيات والمرئيات… إلخ)، وكانت آخر سلطة إدارية مستقلة تم إحداثها في فرنسا هي وكالة تطوير البحث العلمي والتعليم العالي سنة 2006. وليصبح إنشاء هذه السلطات أحد المعالم الكبرى لتطور الإدارة العامة الفرنسية في السنوات الأخيرة. مع ملاحظة أن الفقه الفرنسي متفق حتى الآن أن السلطات الإدارية المستقلة لا تعد أجهزة دستورية؛ لأن وجودها غير مستمد من الدستور بل من القانون، وإن كان جانبٌ من الفقه يرى أن مستقبل هذه السلطات أن تتمتع بالوجود الدستوري، وإن الوجود الدستوري لهذه السلطات ضمن أجهزة الدولة من شأنه أن يحولها إلى سلطة رابعة للدولة إضافة إلى السلطات الثلاث المعروفة.

أما في الجمهورية العربية السورية فما زالت فكرة السلطات الإدارية المستقلة غير معروفة في النظام القانوني الإداري وإن ورد تعبير هام في القانون رقم /7/ لسنة 2008 الخاص بالمنافسة ومنع الاحتكار، في الفقرة /أ/ من المادة (11) منه التي نصت على ما يلي: «تحدث هيئة عامة مستقلة تسمى (الهيئة العامة للمنافسة ومنع الاحتكار) يكون مقرها دمشق وتتولى المهام والصلاحيات المنوطة بها في هذا القانون، وتتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي»، إلا أن هذه الهيئة لا يمكن أن تدخل في عداد السلطات الإدارية المستقلة؛ لأن المادة (11) المذكورة قد أشارت إلى تبعية هذه الهيئة العامة المستقلة لرئيس مجلس الوزراء، مما يؤكد أن هذه الهيئة ذاتها هي تجسيد لنمط اللامركزية المرفقية المتمثل بالهيئات العامة كما هو مستقر تقليدياً.

ثانياً ـ مظاهر استقلال السلطات الإدارية المستقلة:

إن استقلال هذه السلطات إنما يعد الخصيصة الأساسية لها، وهو الذي يميزها من باقي الأجهزة على مستوى التنظيم الإداري للدولة، وقد عد هذا الاستقلال شرطاً ضرورياً للتوازن ضمن القطاعات التي تشرف عليها هذه السلطات، وهو ضروري لها ليكون عملها خارج نطاق ضغوط جماعات المصالح من جهة، ومؤثرات السلطة السياسية من جهة أخرى، وذلك على الرغم من أن جانباً من الفقه الفرنسي يرى أن نص المادة (20) ـ من الدستور الفرنسي ـ التي تنص على اختصاص الحكومة بالإدارة من شأنه أن يلقي ببعض ظلال التأثير السياسي في عمل هذه السلطات، إلا أن هذا الأمر يجب ألا يؤخذ على إطلاقه، إذ إن الرأي الفقهي الأرجح يذهب للقول إلى أن وجود السلطات الإدارية المستقلة واختصاصها بإدارة بعض القطاعات التي يحجب دور الحكومة فيها إنما يعد استثناء على حكم المادة (20) سالفة الذكر من الدستور الفرنسي.

وفي الحقيقة أن الاستقلال الذي تتمتع به السلطة الإدارية المستقلة يتجلى في عدم خضوعها إلى أي رقابة من أي نوع سواء أكانت وصائية Tutelle أم تسلسلية Hiérarchique، مما يعني أن السلطات الإدارية المستقلة لا تتلقى من الحكومة أي أوامر Ordres أو توجيهات Instructions، كما لا يجوز للحكومة أن تطلب منها حتى مجرد استشارات، كما أنها لا تخضع لرقابة السلطات الرقابية المالية، حيث لا تخضع هذه السلطات في فرنسا إلى أحكام قانون 10/8/1920 المتعلق بالرقابة على النفقات العامة، ولعل هذا النمط من الاستقلال هو الذي يجعل هذه السلطات ذات وجود مشروع ومؤثر في إطار تدخلها وتنظيمها لمجالات مهمة وحساسة.

وكذلك الحال فإن استقلال السلطات الإدارية المستقلة يتجلى تجاه السلطات السياسية في الدولة، وذلك لأن القطاعات التي أسندت إلى هذه السلطات ذات متغيرات اقتصادية وقانونية، مما يجعل من غير المناسب إدارة هذه القطاعات من منظور سياسي، ولا يتجلى استقلال هذه السلطات تجاه الحكومة وكل السلطات السياسية فحسب، إنما يتجلى أيضاً إزاء العناصر الفاعلة في القطاع الذي تنهض السلطة المستقلة بتنظيمه.

ويبرز استقلال هذه السلطات أيضاً على المستوى العضوي لها، حيث تكون من حيث الأصل ذات تشكيل جماعي لا فردي. إن الهيئة التي تتولى الأمور ضمن السلطة الإدارية المستقلة لا تقتصر على شخصية واحدة إنما تتكون من تشكيل يتكون من عدد من الشخصيات، وهذه الشخصيات التي تتولى الأمور ضمن السلطة الإدارية المستقلة تكون غير قابلة للعزل، ومن ثم فإن الحصانة ضد العزل لم تعد تعطى فقط لأعضاء السلطة القضائية، إنما أيضاً لأعضاء هذه السلطات، علماً أن مجلس الدولة الفرنسي قد أسبغ على أعضاء هذه السلطات الحصانة ضد العزل من دون نص قانوني (راجع حكمه في قضية Ordonneau الصادر بتاريخ 7/7/1989).

ولكن على الرغم من استقلال هذه السلطات فإنه من المؤكد أن السلطات الإدارية المستقلة مندرجة ضمن الشخصية القانونية للدولة، ومن ثم فإنها لا تملك أي طبيعة خاصة من هذا المنظور، ومما يؤكد ذلك أنها تمول من الموازنة العامة، وموظفوها موظفون عموميون، كما تستطيع استخدام وسائل القانون العام في نشاطها، وهذا كله يعني أن هذه السلطات لا تملك شخصية اعتبارية مستقلة، لذلك فإنها تمثل الدولة من الناحية القانونية وتتصرف باسمها، أي أنها تنظم وتراقب وتقرر باسمها، والدولة هي التي تتحمل مسؤولية تصرفاتها الخاطئة، كما أنها لا تملك ذمة مالية خاصة بها، بل تستفيد من مخصصات سنوية مدرجة في موازنة الدولة، ومنفصلة عن اعتمادات الحكومة، وذلك من دون ريب يؤكد تماماً أن هذه السلطات تعد من أجهزة الدولة، ولكن المشكلة القانونية والدستورية القائمة في الوقت الحالي هي الدور الذي تؤديه على مستوى بنيان الدولة.

وبما أن السلطة الإدارية المستقلة لا تملك شخصية اعتبارية مستقلة، فإنها لا تستطيع التعاقد باسمها، كما لا تملك حق التقاضي، وإن كان القضاء الإداري الفرنسي ينزع إلى إعطاء هذا الحق للسلطات الإدارية المستقلة على الرغم من عدم تمتعها بالشخصية الاعتبارية، وذلك انطلاقاً من الدور الوظيفي الذي تنهض به، وهو ما يعد في النهاية تطويراً لمفهوم أهلية التقاضي الذي كان تقليدياً مرتبطاً بمفهوم الشخصية القانونية المستقلة.

وعلى كل حال فإن هذا الاستقلال الذي تتمتع به السلطة الإدارية المستقلة لا يحول دون إمكانية مخاصمة القرارات التي تصدرها هذه السلطات أمام قاضي المشروعية من قبل الوزراء المعنيين، وذلك ناجم عن كون الدولة هي التي تتحمل المسؤولية المالية الناجمة عن نشاط هذه السلطات (قرار المجلس الدستوري الفرنسي، رقم 86ـ 217، تاريخ 18/9/1986)، ولا سيما أن اجتهاد مجلس الدولة الفرنسي قد استقر على أن الأجهزة الإدارية المجردة من الذمة المالية المستقلة إنما تعمل بضمان الذمة المالية للدولة في حال ترتب مسؤوليتها التقصيرية (حكم مجلس الدولة الفرنسي تاريخ 2/2/1960، في قضية Kampmann المنشور في A.J.D.A لسنة 1960، ص 46).

وفي الحقيقة أن هذا الطريق الذي يمكن رجال الحكومة من الاعتراض على قرارات السلطات الإدارية المستقلة يؤكد استقلال هذه السلطات ولا ينفيه، حيث يؤكد أنه لا توجد أي سلطة رئاسية من أي مستوى حكومي كان على هذه السلطات، وأن اللجوء إلى القضاء يؤكد ضرورة التوازن بين السلطات الإدارية المستقلة والحكومة. مع الإشارة إلى أن النقلة القانونية النوعية في هذا المجال أن الدولة تصبح مدعية ومدعى عليها أمام القضاء، وذلك بسبب كون كل من السلطات الإدارية المستقلة والحكومة ينتميان إلى شخص اعتباري واحد هو الدولة.

وإذا كان الأصل هو عدم تمتع السلطات الإدارية المستقلة بالشخصية الاعتبارية فإن المشرع في فرنسا تحديداً يسير نحو إعطاء هذه السلطات شخصية اعتبارية في حدود معينة (شخصية اعتبارية جزئية)، وذلك كإعطاء السلطة الإدارية المستقلة الصلاحية اللازمة لتعيين موظفيها مثلاً.

وقد سار المشرع الفرنسي إلى آخر الشوط، حيث ظهر في السنوات الأخيرة جيل جديد من السلطات الإدارية المستقلة، يُمنح الشخصية الاعتبارية ويملك ذمة مالية مستقلة، ويملك أهلية التقاضي، ولكن هذا الجيل الجديد من السلطات أصبح له تسمية جديدة هي السلطات العامة المستقلة Autorités publiques indépendantes.

ثالثاً ـ وسائل السلطات الإدارية المستقلة في تحقيق مهامها:

تملك السلطات الإدارية المستقلة سلطة وضع قواعد عامة مجردة وملزمة ذات طبيعة تنظيمية حقيقية، كما أن لها الحق باقتراح اللوائح على السلطات المختصة بسنها، وقد طرح هذا الاختصاص المهم المتعلق بوضع اللوائح المستقلة على المجلس الدستوري الفرنسي، بحكم أنه ممنوح للوزير الأول وفقاً للمادة (21) من الدستور الفرنسي، حيث قرر المجلس المذكور أن قيام المشرع بإسناد الاختصاص بإصدار لوائح مستقلة للسلطات الإدارية المستقلة لا يعارض نص المادة (21) سالفة الذكر، شريطة أن يكون هذا النشاط اللائحي محدداً من حيث مضمونه ومجال تطبيقه بالقطاع الذي تشرف عليه السلطة الإدارية المسـتقلة (قرار المجلس الدستوري الفرنسي رقم 96 ـ 368 تاريخ 23/7/1996).

وتتمتع هذه السلطات بالاختصاص بوضع قواعد لائحية مستقلة، وبإصدار قرارات فردية، وتقصد من وراء إصدارها إجبار العناصر الفاعلة في القطاع الذي تشرف عليه على احترام قواعد قانونية أو تنظيمية معينة، أو فرض توازنات معينة ضمن مجال إشرافها، وذلك مثلاً للقرارت التي تحمل معنى الترخيص لممارسة نشاط معين ضمن القطاع الذي تشرف عليه هذه السلطات، أو قد ترمي القرارات الفردية الصادرة عن السلطات الإدارية المستقلة إلى تذليل صعوبات أو فض تنازعات بين القوى العاملة ضمن القطاع نفسه.

وإضافة إلى ما تقدم فإن هذه السلطات تملك الاختصاص بإصدار التوصيات المتعلقة بالمجال الذي تشرف عليه، وقد عد مجلس الدولة الفرنسي هذه التوصيات ذات قوة تنفيذية Force exécutoire مثلها مثل القرارات الإدارية الفردية تماماً (حكم مجلس الدولة الفرنسي الصادر في 20/5/1985 في قضية Labbé et Gaudin والمنشور في A.J.D.A، لسنة 1958، ص412).

وإلى جانب هذه التوصيات فإن السلطات الإدارية المستقلة هي المختصة بإعطاء الرأي والمشورة في إطار القطاع الذي تشرف عليه.

وإذا كانت فكرة التنظيم ضمن مجال محدد هي أساس وجود السلطات الإدارية المستقلة فإنه من البديهي أن تعطى هذه السلطات الاختصاص بالرقابة، حيث يحق لها جمع شتى المعلومات، وسلوك كل سبل التقصي والبحث الضرورية لأجل التأكد من صحتها، وإن الاعتراف التشريعي لهذه السلطات بصلاحيات الرقابة اقتضى الاعتراف لها بصلاحيات توجيه الأوامر Les injonctions؛ لأن هذه السلطة هي التي تضمن استرجاع الحقوق وتوازنها في إطار القطاع الذي تشرف عليه السلطة المستقلة.

ولعل أخطر الوسائل التي تملكها السلطات الإدارية المستقلة في سبيل القيام بعملها هي تلك المتعلقة بفرض الجزاءات، وفي الحقيقة أن إعطاء الاختصاص بفرض الجزاء لهذه السلطات قد خالف مبدأ الفصل بين السلطات المستقر عليه دستورياً كما يرى جانب من الفقه الفرنسي؛ لأن سلطة الجزاء محصورة تقليدياً بالقضاء. أما أنواع هذه الجزاءات فقد تكون ذات طبيعة مهنية مثل التنبيه واللوم ومنع ممارسة النشاط ضمن القطاع الذي تشرف عليه السلطة الإدارية المستقلة، أو وقف ممارسة النشاط وقفاً مؤقتاً، وذلك كما هو الحال بالنسبة للجنة السوق المالية في فرنسا التي تستطيع أن تفرض هذه الجزاءات على عضو السوق الذي لا يحترم التزاماته المالية [المادة (69) من قانون 2/7/1996]، أو كتلك الجزاءات التي تستطيع أن تفرضها اللجنة البنكية في مواجهة مؤسسة الاعتماد أو مؤسسة الاستثمار التي ترتكب مخالفات مهنية [المادة (45) من قانون 24/1/1984]، كما قد تكون هذه الجزاءات ذات طبيعة مالية Sanctions pécuniaires كتلك التي يمكن أن يفرضها مجلس المنافسة في فرنسا أيضاً على القوى الاقتصادية التي ترتكب أفعالاً مضادة للمنافسة الحرة والشفافة ضمن السوق [المادة (11) من أمر 1/2/1986].

ويمكن أيضاً للسلطات الإدارية المستقلة أن تفرض جزاءات ذات طبيعة عقابية وزجرية شبيهة بتلك التي يفرضها القضاء الجزائي، مثل الغرامات وإغلاق المؤسسات وسحب البطاقات المهنية، ومن الملاحظ أن المعول عليه لفرض هذه الجزاءات من قبل السلطات الإدارية المستقلة هو تحقق الركن المادي للمخالفة الذي يكون له وزن أكبر بكثير من الركن المعنوي.

 ويجوز الطعن بالقرارات التي تتضمن هذه الجزاءات أمام القضاء، ومما تجدر الإشارة إليه أن هذا الطعن موزع بين جهتي القضاء العادي والإداري في فرنسا، ومن ثم فإن القرارات الصادرة بالجزاء عن مجلس المنافسة مثلاً تقبل الطعن أمام محكمة استئناف باريس حصراً، في حين أن القرارات الصادرة عن اللجنة البنكية تقبل الطعن بالنقض أمام مجلس الدولة لأنها تملك طبيعة قضائية إدارية.

وإذا ما تم الطعن بهذه القرارات فإن الدعوى القضائية لا تؤدي تلقائياً إلى وقف تنفيذ القرارات الصادرة بفرض الجزاء تلقائياً، أي تطبق في هذه الحالة القاعدة العامة القاضية بالأثر غير الواقف للدعوى، ولكن ذلك لا يمنع القضاء من الأمر بوقف تنفيذ القرار الصادر بالجزاء إذا كان من شأن تنفيذه أن يسبب نتائج جسيمة، كما يمكن الأمر بوقف التنفيذ إذا تدخلت وقائع جديدة أدت إلى جسامة استثنائية بعد تبليغ القرار، ومن الممكن أن يأمر القضاء المختص بوقف التنفيذ إذا كان القرار الصادر بالجزاء غير منشور في الجريدة الرسمية، علماً أنه توجد بعض النصوص الخاصة في فرنسا تمنع من وقف تنفيذ القرارات الصادرة بفرض الجزاء، كما هو الحال بالنسبة للقرارات الصادرة بهذا المعنى عن اللجنة البنكية.

وقد قرر المجلس الدستوري الفرنسي أنه يجب على السلطات الإدارية المستقلة التي تملك حق فرض الجزاءات على النحو سالف الذكر أن تراعي حقوق الدفاع المقررة بالقانون، وفي الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان، وذلك قبل فرض هذه الجزاءات (قرار المجلس الدستوري الفرنسي الصادر بتاريخ 28/7/1989، والمنشور في الجريدة الرسمية 1/8/1989، وفي المجلة الفرنسية للقانون الإداري، العدد الرابع، ص671 وما بعدها).

 

مراجع للاستزادة:

 

- J. CHEVALLIER, Réflexions sur l institution des autorités administratives indépendantes, (J.C.P, 1986).

- R. SALOMON, Le pouvoir de sanction des autorités administratives indépendantes en matière économique et financière, (J.C.P, 2000, N42, P1907).

- Conseil d’ État français, Rapport public, 2001, EDCE, n52, p298 et s.s.

- P. SABOURIN, Les autorités administratives indépendantes dans l’ État, P.U.F, Paris, 1988.


التصنيف : القانون العام
النوع : القانون العام
المجلد: المجلد الرابع: الرضاع ــ الضمان المصرفي
رقم الصفحة ضمن المجلد : 170
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 613
الكل : 31788800
اليوم : 64261