logo

logo

logo

logo

logo

الرقابة الدستورية

رقابه دستوريه

constitutional control - contrôle constitutionnel

 الرقابة الدستورية

الرقابة الدستورية

سعيد نحيلي

مبررات الرقابة على دستورية القوانين

أنواع الرقابة على دستورية القوانين

 

أولاً ـ مبررات الرقابة على دستورية القوانين:

يعد الدستور المعبر الحقيقي عن الإرادة العامة للأمة انطلاقاً من أنه يشتمل على القواعد الجوهرية المتعلقة بنظام الحكم، فيوضح السلطات العامة في الدولة واختصاصاتها والعلاقة بينها، وانطلاقاً من خصوصية وضعه الذي تم بمعرفة السلطة التأسيسية. ومن ثم انتقلت هالات القداسة من البرلمان إلى الدستور الذي يشتمل على أوامر ونواهٍ لا يجوز الخروج عليها من السلطات العامة. وفي حال خرج البرلمان (السلطة التشريعية) عن تلك الأوامر والنواهي فإن عمله يكون غير دستوري، ومن ثم ظهر مبدأ رقابة دستورية القوانين واستقر في الفكر القانوني الحديث وهذا يدفع إلى القول: إن رقابة دستورية القوانين ظهرت لتؤكد مبدأ سمو الدستور Le principe de la suprématie de la constitution الذي يعد بلا أدنى شك واحداً من المرتكزات الأساسية لدولة القانون. وهناك إجماع بين أوساط الفقه الدستوري على أن مبدأ سمو الدستور يظهر بشكلين: هما السمو الموضوعي للدستور والسمو الشكلي للدستور. وهذا السمو بشقيه الموضوعي والشكلي هو الذي يميز القوانين الدستورية من القوانين العادية. وينجم عن هذا التمييز نتيجة غاية في الأهمية تتجلى في عدم مخالفة القوانين العادية للقوانين الدستورية. وهذا ما دعا الفقه الدستوري للبحث عن الآليات اللازمة لضمان سمو الدستور ضد المخالفات والخروقات المرتكبة من جانب سلطات الدولة ولاسيما من جانب السلطة التشريعية المختصة أصلاً بسن القوانين العادية.

وقد وجد الفقه الدستوري ضالته في مؤسسة الرقابة على دستورية القوانين بوصفها مبدأ له مبرراته النظرية والعملية. ومن المبررات العملية لرقابة الدستورية التي يمكن ذكرها في هذا المقام هي أن البرلمان الذي يعد واحداً من المؤسسات الدستورية هو في حقيقته من صنع البشر؛ لذا فمن المحتمل أن يكون صناعة رديئة، إذ إن عملية الاختيار بذاتها قد تخضع لمؤثرات تحيد بها عن الحق، ومن ثم فمن المتصور أن تسن السلطة التشريعية قانوناً رديئاً يخالف الدستور نصاً وروحاً بل من المحتمل أيضاً أن تمارس الهيئة التشريعية نوعاً من الاستبداد. وهذه العوامل العملية إضافة إلى العامل النظري المتمثل في سمو الدستور شكلاً وموضوعاً أدت إلى انهيار نظرة القداسة للبرلمان وإلى الإيمان بضرورة رقابة دستورية القوانين.

ومن ثم فإن الرقابة على دستورية القوانين فرضت نفسها وتطورت لتصبح نظاماً قائماً بذاته يهدف إلى منع صدور نصوص قانونية مخالفة للدستور، بل أضحت وسيلة لحماية الدستور من أي اعتداء وإلى وضع سموه (شكلاً وموضوعاً) على غيره من النصوص الأخرى موضع التطبيق الفعلي.

وإذا كانت دساتير الدول قد أقرت الرقابة على الدستورية فإنها اختلفت فيما بينها حول الأسلوب المتبع في تصميم هيكلية هذه الرقابة.غير أن هذا الاختلاف في الأسلوب لم يكن له تأثير في جوهر الرقابة الدستورية ولا في أهدافها حيث يبقى جوهر الرقابة الدستورية وهدفها واحداً في معظم دول العالم المعاصر.

ولهذا سوف تتم الإجابة عن إشكالية أنواع الرقابة على دستورية القوانين والهيئات التي تقوم بها عموماً، ومن ثم سيتم طرح هذه الإشكالية في النظام الدستوري السوري ومعالجتها في ضوء أحكام الدستور الدائم لعام1973.

ثانياً ـ أنواع الرقابة على دستورية القوانين:

بالعودة إلى دساتير دول العالم المعاصر ومن خلال نظرة إلى الحياة الدستورية في هذه الدول يتبين أن الرقابة على دستورية القوانين تأخذ نوعين رئيسين هما: الرقابة السياسية على دستورية القوانين والرقابة القضائية على دستورية القوانين. ويعتمد هذا التقسيم على المعيار الشكلي الذي ينطلق من الهيئة التي تمارس الرقابة.

1ـ الرقابة السياسية على دستورية القوانين (الرقابة اللاقضائية): يرتبط وصف الرقابة السياسية على دستورية القوانين بالهيئة التي تمارسها.حيث جرت بعض الدساتير على إسناد مهمة الرقابة على الدستورية إلى هيئة سياسية تحدد الدساتير عادة كيفية تشكيلها وأسلوب ممارسة عملها. وتجدر الإشارة إلى أن الدول التي اعتمدت هذا النمط من الرقابة بوصفه مبدأ، تراها اختلفت فيما بينها بالتنظيم. وللمزيد من تعرف ماهية هذا النمط من الرقابة وجوهره لابد من العودة إلى أصوله التاريخية التي ترتبط بدستور الثورة الفرنسية. لذا يتطلب تعرف جوهر الرقابة السياسية على دستورية القوانين العودة إلى تنظيمها في فرنسا.

أ ـ التطور التاريخي للرقابة السياسية على دستورية القوانين في فرنسا: تعد فرنسا المثال الأول للدول الآخذة بالرقابة السياسية، وقد امتدت التجربة الفرنسية لتشمل دولاً أخرى.ويعود الفضل في ظهور هذه الفكرة إلى الفقيه الفرنسي Sieyès الذي فضل الرقابة السياسية على الرقابة القضائية لأسباب تاريخية منها:قيام المحاكم المسماة «بالبرلمانات» بعرقلة الإصلاحات التشريعية التي حاول الملوك وضعها قبل الثورة، الأمر الذي جعل رجال الثورة يقيدون سلطات المحاكم ومنعها من التدخل في اختصاصات السلطة التشريعية. وقد حاول Sieyès تحقيق هذه الفكرة من خلال الدعوة إلى إنشاء هيئة تملك إلغاء القوانين المخالفة للدستور قبل إصدارها، أي رقابة سابقة أو وقائية Contrôle prèventif للحيلولة دون وضع القانون المخالف في التداول التشريعي. أما الأسباب القانونية فترجع برأي الفقيه Sieyès إلى مبدأ فصل السلطات حيث عدّ تصدي القضاء للرقابة على دستورية القوانين تدخلاً في اختصاصات السلطتين التشريعية والتنفيذية، يضاف إلى ذلك أن Sieyès حاول أن يبرر الرقابة السياسية ببراهين ذات طبيعة سياسية تتجلى في أن القانون هو تعبير عن إرادة الأمة وهذه الإرادة أسمى من القضاء، لذا فلا يجوز له (للقضاء) التعرض لمدى دستورية قانون يعبر عن إرادة الأمة أو عدم دستوريته. وقد مرَّ تطور الرقابة السياسية على الدستورية بمراحل تاريخية متعددة، لا يسع المقام لاستعراضها جميعها لذا سوف يتم التركيز على الرقابة السياسية في ظل الدستور الفرنسي الحالي (دستور الجمهورية الخامسة لعام 1958).

ب ـ الرقابة السياسية في ظل الجمهورية الفرنسية الخامسة لعام 1958: صدر الدستور الفرنسي سنة 1958 وكانت فكرته الرئيسية القضاء على الوضع السابق لصدوره والمتمثل في وجود حكومات ضعيفة وسيطرة مطلقة للبرلمان، فكان هدف هذا الدستور هو محاولة تقوية السلطة التنفيذية، وقد حدث ذلك بل أدى الأمر إلى غلبة السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية من خلال تحديد نطاق القانون وإطلاق نطاق اللائحة. ومن الأفكار الرئيسية لدستور الجمهورية الخامسة  إنشاء نظام فعال نسبياً لرقابة الدستورية يمارس دوره في الحد من سلطة البرلمان. وقد أسندت هذه المهمة إلى المجلس الدستوري le Conseil constitutionnel باعتباره هيئة سياسية تتألف من أعضاء كانوا رؤساء الجمهورية كأعضاء بقوة القانون ولمدى الحياة، وتسعة أعضاء آخرين تستمر عضويتهم تسع سنوات غير قابلة للتجديد ويتجدد ثلث أعضائه كل ثلاث سنوات، ويعين كل من رئيس الجمهورية ورئيس الجمعية الوطنية ورئيس مجلس الشيوخ ثلاثة أعضاء، ويعين رئيس الجمهورية رئيس المجلس (انظر المادة /56/ من الدستور الفرنسي لعام 1958). كما نصت المادة (57) من الدستور على أنه لا يجوز الجمع بين عضوية المجلس الدستوري والوزارة أو عضوية البرلمان أو المجلس الاقتصادي والاجتماعي، كما يحدد القانون الأساسي للمجلس حالات عدم الجمع الأخرى. (صدر القانون الأساسي للمجلس الدستوري في 7 تشرين الثاني/نو&https://www.arab-ency.com.sy/law/details/25848/4#1700;مبر 1958 وعدل في 26/12/1974). ونظراً لمكانة أعضاء المجلس الدستوري وما يتوخى فيهم من قيمة علمية كبيرة فقد أطلق عليهم التسعة العقلاء.

ج ـ اختصاصات المجلس الدستوري: للمجلس اختصاصات متعددة منها ما هو سياسي: كالإشراف على انتخاب رئيس الجمهورية، والنظر في الطعون المقدمة بشأن انتخابي، والإشراف على صحة الاستفتاءات الشعبية والفصل في المنازعات الخاصة بصحة انتخاب النواب في البرلمان، ومنها ما هو قضائي: كرقابة دستورية القوانين. وبالعودة إلى نص الدستور الفرنسي لعام 1958 يتبين أن هناك رقابة إلزامية بالنسبة إلى القوانين الأساسية واللوائح البرلمانية، ورقابة جوازية بالنسبة إلى القوانين العادية (المادة 61/أ، ب). وتجدر الإشارة إلى أن المجلس الدستوري الفرنسي يقوم بدوره بالرقابة على الدستورية بناء على طلب من رئيس الجمهورية أو الوزير الأول أو رئيس أي من المجلسين، أو عن طريق ستين نائباً من أي من المجلسين استناداً إلى التعديل الدستوري للمادة (61/ب) الذي حدث سنة 1974. وسوف يتم توضيح كلا النوعين من الاختصاصات التي يمارسها المجلس الدستوري.

(1)ـ الاختصاصات الوجوبية: يخضع للرقابة الوجوبية القوانين الأساسية ولوائح البرلمان. وتعرف القوانين الأساسية بأنها القوانين التي لا يملك البرلمان سلطة تقديرية في سنها وإنما يلزم بذلك، وتتميز بإجراءات أكثر صرامة في سنها عن القوانين العادية (المادة /46/ من الدستور الفرنسي). ولا ينظر المجلس الدستوري في دستورية القوانين الأساسية تلقائياً بل يتم إحالة مشروعات القوانين الأساسية من قبل الوزير الأول، ولا يتم إصدار هذه القوانين الأساسية إلا بعد أن يعلن المجلس الدستوري مطابقتها للدستور، وهذا ما يؤكد مبدأ الرقابة السابقة التي يمارسها المجلس الدستوري والتي تهدف أصلاً إلى منع صدور قانون يخالف الدستور نصاً أو روحاً. ويخضع للرقابة الوجوبية أيضاً اللوائح البرلمانية التي يضعها أي من مجلسي البرلمان (الجمعية الوطنية أو مجلس الشيوخ)، كما يخضع لهذه الرقابة لوائح مجلسي البرلمان بهيئة مؤتمر (المادة61/1 من الدستور الفرنسي).

(2)ـ الاختصاصات الاختيارية: يخضع لهذا النوع من الرقابة القوانين العادية والمعاهدات الدولية مع الإشارة إلى أن الذي يخضع للرقابة فيما يخص المعاهدات الدولية هو المعاهدة ذاتها وليس القانون المصدق لها، وإذا تبين انطواء المعاهدة على مخالفة دستورية فلا يمكن حينئذٍ صدور القانون المصدق لها.

وإذا كانت هناك اختصاصات وجوبية أو اختيارية للمجلس في مجال الرقابة فإن ثمة قوانين أخرجها الدستور الفرنسي عن اختصاص المجلس وأهمها: القوانين الاستفتائية المقررة بموجب المادة (11) من الدستور. حيث استقر المجلس منذ نشأته على استعباد القوانين الموافق عليها في الاستفتاء من نطاق رقابته لكونها تعبيراً مباشراً عن السيادة الوطنية (مثال: قرار المجلس الدستوري في 6/11/1962 المتضمن عدم اختصاصه ببحث دستورية القانون الذي وافق عليه الشعب في 28 تشرين الأول 1962 والخاص بانتخاب رئيس الجمهورية بطريق الاقتراع العام المباشر بدلاً من الهيئة التي نص عليها الدستور في المادة /6/ منه). ومن القوانين التي لا تعدّ محلاً لرقابة المجلس أيضاً القوانين المعدلة للدستور، وكذلك أيضاً القوانين تامة الإصدار، فإذا صدر قانون فإنه يتمتع بقوة الشيء المُشَّرع به، ولا يجوز لأي جهة أن توقف نفاذه أو تلغيه ما عدا البرلمان صاحب الاختصاص الأصيل بوضع تشريعات وإلغائها وتعديلها.

د ـ قرار المجلس الدستوري وأثره: يصدر قرار المجلس الدستوري بالأغلبية، وفي حال التساوي يرجح جانب الرئيس. وقد نصت المادة /62/ من الدستور الفرنسي لعام 1958 على أن «النص الذي يعلن عدم دستوريته لا يجوز أن يصدر أو يطبق، وقرارات المجلس الدستوري لا تقبل الطعن بأي وجه من أوجه الطعن وهي ملزمة للسلطات العامة»، ويلاحظ أن قرار المجلس ليس حكماً قضائياً، ولكنه يشبهه من حيث التسبيب ويكون هناك رد شامل على جميع النقاط المثارة.

هـ ـ تقييم الرقابة السياسية من خلال المجلس الدستوري: وجهت لرقابة المجلس الدستوري عدة انتقادات لجهة تكوينه أو لجهة اختصاصه. فمن حيث التكوين لا يشترط أن يكون عضو المجلس قاضياً أو (قانونياً بالمطلق)، الأمر الذي يفقد المجلس الكفاءة المهنية اللازمة لقيامه بمهمته الرقابية فضلاً عن أن أسلوب التعيين بذاته يؤدي إلى عدم تحقيق الاستقلال الكافي للمجلس في تأدية مهامه. أما من حيث الاختصاص فيؤخذ على المجلس عدة عيوب أهمها: أنه يمنع الأفراد من اللجوء إليه للطعن بعدم الدستورية أي إن رقابة الدستورية في فرنسا مقررة فقط لمصلحة السلطات العامة لا لمصلحة المواطنين هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المجلس لا يباشر اختصاصه من تلقاء نفسه بل بناء على طلب. ويضاف إلى هذه الانتقادات انتقادٌ ثالثٌ يتجلى باستبعاد بعض القوانين من نطاق رقابة المجلس الدستوري، كل هذا أدى إلى النيل من الضمانات المقررة في الدستور بشأن حماية الحقوق الأساسية للأفراد.

غير أنه لا يجوز الذهاب بعيداً بهذه الانتقادات إذ إن قوة قرارات المجلس وكفاءة أعضاءه قد منحا المجلس نسبياً استقلالية جعلته يطور اجتهادات جريئة تتجلى بتوسعه بتحديد مفهوم الدستور وإيجاد ما يسمى مجموعة النصوص ذات القيمة الدستورية. بقي أن يشار إلى أن بعض الدول الأخرى اعتمد نظام الرقابة السياسية (وإن اختلفت الأساليب) على دستورية القوانين، وأهم ما يذكر في هذا المقام هو اعتماد نظام الرقابة السياسية على دستورية القوانين بوساطة هيئة نيابية كما كان عليه الحال في دستور جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة لعام 1949.

2ـ الرقابة القضائية على دستورية القوانين:

خلافاً للرقابة السياسية على الدستورية تتم الرقابة القضائية بوساطة القضاء باعتباره حامي القانون بصورة عامة والساهر على حسن تطبيقه بما في ذلك منع المشرِّع من تجاوز الاختصاصات التي حدَّدها الدستور.

ولا شك أنَّ الانتقادات التي وجهت إلى الرقابة السياسية دفعت معظم دول العالم إلى اعتماد نظام الرقابة القضائية في دساتيرها،انطلاقاً من أن الرقابة القضائية تعد أفضل الوسائل في الرقابة على دستورية القوانين، وذلك لما يتمتع به رجال القضاء من ضمانات تكفل الحيدة والاستقلالية في ممارسة وظائفهم، ولما تتميز به الإجراءات القضائية من مزايا عديدة تضمن للأفراد حسن سير العدالة في مواجهة تصرفات السلطة العامة، إضافة إلى أن الرقابة على دستورية القوانين تتطلب خبرة ودراية قانونية في تفسير النصوص ومطابقتها وتحليلها لاكتشاف مدى تطابقها أو عدم تطابقها، وهذا الأمر لا يتوافر إلا من خلال رجال لديهم القدرة والخبرة في التعامل مع النصوص القانونية ألا وهم رجال القضاء. بل أكثر من ذلك فقد أصبحت الرقابة القضائية على دستورية القوانين إحدى ركائز النظام الديمقراطي.

وإذا كان هناك إجماع على أهمية الرقابة القضائية على دستورية القوانين، فإن هذه الرقابة أخذت أشكالاً مختلفة. فبعض الدول تأخذ بنظام الدعوى الأصلية، وبعضها الآخر يعتمد أسلوب الرقابة عن طريق الدفع الفرعي، كما أن هناك دولاً تسند الرقابة القضائية إلى القضاء العادي، وبعض الدول الأخرى تسند هذه المهمة إلى قضاء متخصص تحدثه لهذا الغرض.

لذا وبهدف التعرف إلى سائر الأساليب المتبعة في الرقابة القضائية على دستورية القوانين والمعتمدة في دساتير دول العالم المعاصر يتطلب الأمر شرح هذه الأساليب بشيء من الاختصار.

أ ـ الرقابة عن طريق الدعوى الأصلية (رقابة الإلغاء):

تتمثل الرقابة القضائية عن طريق الدعوى الأصلية في أن يقوم صاحب الشأن (الأفراد أو بعض الهيئات في الدولة) برفع دعوى قضائية أمام جهة قضائية يحدِّدها الدستور عادة يطالب فيها بإلغاء القانون المخالف كلياً أو إلغاء بعض أحكامه المخالفة للدستور. فهناك إذاً دعوى لا تقام من فرد أو هيئة على فرد آخر، وإنما من قبل فرد أو هيئة على قانون معين بسبب مخالفته للدستور أياً كان وجه المخالفة. ويترتب على هذا النوع من الرقابة مجموعة من الخصائص أهمها:

> إن هذه الرقابة لا تقوم إلا إذا نص الدستور نفسه عليها وحدَّد شروط ممارستها بالنسبة إلى المدعين.

> لا تقوم هذه الرقابة إلا بناء على دعوى ترفع أمام المحكمة المختصة.

> المحكمة قد تلغي القانون كلياً أو جزئياً أو ترفض الدعوى وتبقي على القانون حين يكون مطابقاً للدستور.

> إذا حكمت المحكمة بإلغاء القانون فإن أثر الإلغاء يسري على الماضي والمستقبل ولا يترتب على ذلك القانون أي أثر، كما يمس الحكم الجميع سواء كانوا أفراداً أم سلطات، أي يكون للحكم حجيّة مطلقة.

أما بخصوص المحكمة التي تتولى النظر في الدعوى الدستورية الأصلية فمعظم دساتير الدول التي تأخذ بهذا النمط من الرقابة تسند مهمة الفصل في الدعوى الدستورية الأصلية إلى هيئة قضائية متخصصة تتولى ممارسة القضاء الدستوري وفق إجراءات نص عليها الدستور.

أما الدول التي ليس لديها محكمة دستورية متخصصة فيتبين أنها تسند هذه المهمة إلى أعلى محكمة في القضاء العادي لديها (مثال على ذلك: في سويسرا حيث عهد بأمر الرقابة القضائية على دستورية القوانين في هذه الدولة إلى المحكمة الفيدرالية التي تمثل أعلى درجات القضاء العادي).

تجدر الإشارة إلى أن أغلب دول أوربا عهدت في دساتيرها أمر الرقابة القضائية على الدستورية إلى محاكم متخصصة تنظر في الدعوى المرفوعة إليها. كما أن أغلب هذه الدول أعطت الحق في رفع هذه الدعوى إلى الهيئات السياسية فحسب، ومع ذلك هناك بعض الدول التي فتحت الحق في رفع الدعوى الدستورية الأصلية إلى الأفراد للطعن بعدم دستورية قانون ما، لكنها ربطت هذه الإمكانية بشروط شديدة (ولاسيما شرط المدة وشرط المصلحة)، ومن الأمثلة على هذه الدول يذكر إسبانيا وألمانيا ومن الدول العربية يذكر السودان.

ويطلق على الدعوى الدستورية الأصلية التي يرفعها الأفراد وفقاً للدستور الألماني مصطلح «الشكوى الدستورية الفردية» Verfassungsbeschwerde (المادة 93 بند/1/ فقرة (4) أ/ من الدستور الألماني لعام 1949). وتهدف هذه الشكوى حصراً إلى حماية الحقوق والحريات الأساسية التي ضمنها الدستور في حال تم المساس بها من قبل أي من السلطات العامة الثلاث التشريعية أو التنفيذية أو القضائية. وإلا فلا مجال للأفراد أن يرفعوا الدعوى الدستورية الفردية المجردة ضد أي قانون إذا لم يستطع المدعي الإثبات أن هذا القانون يعتدي اعتداءً واضحاً على واحد من الحقوق الأساسية التي يضمنها له الدستور. وما عدا ذلك فإن الحق في رفع الدعوى الدستورية الأصلية الموجَّهة ضد قانون يبقي من اختصاص الهيئات الدستورية التي يحددها الدستور حصراً.

ومهما يكن من أمر فإن قصر حق الدعوى الدستورية الأصلية على هيئات الدولة ومنع هذا الحق عن الأفراد سوف يقلل من فرص حماية الدساتير ولاسيما أن الهيئات المخولة بحق رفع الدعوى سوف تترَّدد في رفع الدعوى الأصلية المجردة، إن لم تمتنع عن إثارة ذلك لعدم توافر المصلحة، وبالتالي سوف يقتصر اختصاص المحكمة الدستورية المتخصصة على المنازعات التي تنشب بين المؤسسات الدستورية المختلفة.

ب ـ الرقابة القضائية عن طريق الدفع (رقابة الامتناع):

على النقيض مما هو عليه الحال في الرقابة القضائية عن طريق الدعوى الأصلية فإن الرقابة الدستورية عن طريق الدفع لا تتضمن إقامة الدعوى على القانون المشكوك بدستوريته، وإنما تتضمن التخلص من تطبيقه على شخص معين في دعوى مرفوعة أمام القضاء سواء كانت هذه الدعوى مدنية كمطالبة بمبلغ مالي أم جزائية كإيقاع عقوبة جزائية. فالمدعى عليه استناداً إلى قانون معين يدفع بأن القانون المذكور يخالف الدستور وبالتالي يطلب عدم تطبيقه في القضية التي قدم من أجلها للمحاكمة.

فهناك إذاً دعوى بين شخصين وليس بين شخص وقانون ما، تنظر فيها محكمة مدنية أو جزائية أو شرعية. والقاضي في هذه الحالة لا ينظر مباشرة في دستورية قانون ما وإنما يقوم بذلك بقدر ما يكون ذلك ضرورياً لحسم القضية المعروضة، فإذا وجد أن القانون يخالف الدستور اقتصر عدم تطبيقه على القضية المعروضة أمامه، أما إذا لم يجده مخالفاً للدستور فإنه يقوم بتطبيقه على القضية المذكورة.

وتعد الرقابة على الدستورية بطريقة الدفع دفاعية على خلاف الرقابة بواسطة الدعوى الأصلية التي تعد وسيلة هجومية. وبنتيجة هذا الدفع فإن القانون لا يلغى ولا يجبر المشرِّع على تعديله أو إلغائه ويستمر في تطبيقه على قضايا أخرى. أي إن الحكم يتمتع بحجية نسبية تقتصر على أطراف الدعوى فحسب ولا تشمل المحاكم الأخرى بحيث إنها تستطيع تطبيق القانون المذكور على قضايا أخرى، كما أن القاضي نفسه الذي أصدر الحكم بعدم دستورية القانون المشكو منه وامتنع عن تطبيقه على هذا النزاع قد يطبقه على نزاع آخر. بقي أن يشار إلى أن هناك أسلوبين لممارسة الرقابة القضائية عن طريق الدفع الفرعي، فهناك الرقابة اللامركزية أو كما يسميها بعضهم (الرقابة الشائعة) وهناك الرقابة المركزية. وسوف يتم توضيح معنى كلا الأسلوبين وفق التالي:

(1)ـ الرقابة اللامركزية (الشائعة): يقصد بهذا النوع من الرقابة أن تقوم المحكمة ذاتها التي تضع يدها على دعوى ما إما من تلقاء نفسها وإما بناءً على طلب من أحد الخصوم ذوي المصلحة بفحص دستورية القانون الواجب التطبيق. وكما هو ملاحظ فإن المحكمة تكون أمام مسألة أولية قبل الفصل في دعوى الأساس، وعلى المحكمة أن تفصل بنفسها بالمسألة الأولية ثم تتابع الفصل في دعوى الأساس. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الأسلوب متبع في أمريكا وتطبقه الآن بعض الدول الأنكلوسكسونية المتأثرة بالنظام الأمريكي.

(2)ـ الرقابة المركزية: تكون هناك رقابة مركزية عندما تكون هناك دعوى قضائية مطروحة أمام القضاء المختص (الشرعي ـ الإداري ـ الجزائي) فيقوم أحد الخصوم أو تقوم المحكمة من تلقاء نفسها بإثارة مسألة دستورية القانون الواجب التطبيق، وتحيل محكمة الموضوع القضية إلى محكمة متخصصة أحدثت خصيصاً للرقابة القضائية على دستورية القوانين وتنتظر حكم هذه المحكمة بتأكيد دستورية القانون المشكوك بدستوريته أو عدم دستوريته، حيث ترجئ فصل الدعوى إلى حين قيام المحكمة الدستورية المتخصصة بالبت في دستورية القانون، وعلى محكمة الموضوع أن تتقيد بحكم المحكمة الدستورية لأن حكمها يتمتع بحجية مطلقة وبالتالي إذا حكمت المحكمة الدستورية بعدم دستورية القانون الواجب التطبيق فإنها تعلن إلغاء القانون وبالتالي عدم جواز تطبيقه إطلاقاً على أي قضية في المستقبل.

وهذه بعض الدول التي تأخذ بنظام الرقابة المركزية منها: ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، ومن الدول العربية مصر والسودان والكويت وغيرهم.

الرقابة على دستورية القوانين في سورية:

تنص المادة (139) من الدستور السوري الدائم لعام 1973 على أنه «تؤلف المحكمة الدستورية العليا من خمسة أعضاء يكون أحدهم رئيساً يسميهم رئيس الجمهورية بمرسوم».

وقد حددت المواد (144) و(145) و(147) اختصاصات المحكمة. وبالعودة إلى أحكام المادة (145) فقد ثبت للمحكمة مسألة البت في دستورية القوانين. غير أن الدستور حصر إمكانية رفع الطلب ببعض الهيئات السياسية ومنع هذه الإمكانية على الأفراد. حيث حددت المادة (145) الهيئات التي يحق لها تقديم الطلب إلى المحكمة الدستورية وهم: رئيس الجمهورية، ربع أعضاء مجلس الشعب إذا كان الطعن موجهاً ضد قانون قبل إصداره،وربع أعضاء مجلس الشعب إذا كان الطعن موجهاً إلى مرسوم تشريعي يصدره رئيس الجمهورية استناداً إلى اختصاصاته الواردة في المادة (111) من الدستور الدائم 1973. ومن خلال تحليل نص المادة (145) يستنتج أن: الرقابة على الدستورية في سورية تعد رقابة سابقة على صدور القانون، ويمكن أن تكون رقابة لاحقة إذا كان محل الطعن مرسوماً تشريعياً، كما حددت المادة (145) فقرة (3) حجية حكم المحكمة بأنه يتمتع بحجية مطلقة، أي يعد القانون أو المرسوم التشريعي لاغياً ولا يرتب أي أثر إذا قررت المحكمة مخالفة القانون أو المرسوم التشريعي للدستور.

وقد سكت النص الدستوري عن مسألة الرقابة اللاحقة على دستورية القوانين سواء كان ذلك عن طريق الدعوى المباشرة أم عن طريق الدفع الفرعي، غير أن هذا لا يعني عدم الاستفادة من المبادئ العامة وتطبيقها في هذا المجال. حتى لو سكت الدستور عن ذلك، على أساس أن القضاء يختص بالفصل في جميع المنازعات التي ترفع أمامه وحسم الموقف عند حدوث التعارض بين القوانين فيغلب حكم القانون الأعلى على الأدنى ويمارس ما يسمى رقابة امتناع، أي امتناع المحكمة المختصة عن تطبيق القانون الواجب التطبيق على القضية المعروضة أمامها إذا تبين لها أن هذا القانون مخالف لأحكام الدستور، مع تأكيد أن إثارة مسألة الدستورية إما أن تتم من قبل المحكمة من تلقاء نفسها وإما بناءً على طلب أحد الخصوم.

ولا أدل على ذلك أكثر من حكم محكمة النقض السورية الذي جاء فيه «إذا كان يمتنع على القضاء التصدي لدستورية القوانين عن طريق الدعوى لانتفاء النص، إلا أنه ليس هناك ما يمنع التصدي لذلك عن طريق الدفع…». (قرار رقم /9/ لعام 1980).

 

مراجع للاستزادة:

 

ـ إبراهيم أبو خزام، الوسيط في القانون الدستوري، الكتاب الأول (دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت 2002).

ـ إبراهيم شيحا، المبادئ الدستورية العامة (دار الجامعة للطباعة والنشر، بيروت 1982).

ـ سام دله، مبادئ القانون الدستوري والنظم السياسية (منشورات جامعة دمشق، 2005).

ـ سعد مفلح اللوزي، الرقابة على دستورية القوانين في الأردن، دراسة مقارنة، رسالة دكتوراه (كلية الحقوق، جامعة حلب، 2009).

ـ عبد العظيم عبد السلام، الرقابة على دستورية القوانين، دراسة مقارنة (الولاء للطباعة والنشر، 1991).

ـ فيصل كلثوم، دراسات في القانون الدستوري والنظم السياسية (منشورات جامعة حلب، 2005).

ـ محسن خليل، القانون الدستوري والنظم السياسية (1987).

ـ نزيه رعد، القانون الدستوري العام (المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس، لبنان 1999).

ـ هشام محمد فوزي، رقابة دستورية القوانين بين أمريكا ومصر (دار النهضة العربية، 2007).

- Christoph DEGENHART, Staatsrecht I, 16. Aufl; (Heidelberg, 2000).

- Dieter DORR, Die Verfassungsbeschwerde in der Prozesspraxis, Bpraxis, 2. Aufl; (Köln, 1997).


التصنيف : القانون العام
النوع : القانون العام
المجلد: المجلد الرابع: الرضاع ــ الضمان المصرفي
رقم الصفحة ضمن المجلد : 33
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 533
الكل : 29649549
اليوم : 29559