logo

logo

logo

logo

logo

علم التحقيق الجنائي

علم تحقيق جنايي

criminal investigation - investigation criminelle

 علم التحقيق الجنائي

علم التحقيق الجنائي

عبد الجبار الحنيص

مفهوم علم التحقيق الجنائي

معايير تحديد طبيعة أعمال التحقيق الجنائي

عناصر التحقيق الجنائي

القواعد التي تحكم حق الدولة في العقاب

المحقق الجنائي

 

كان التحقيق الجنائي يعتمد على اعتراف المتهم أكثر من أي دليل آخر، إذ يعد سيد الأدلة بحسب الاعتقاد السائد، لهذا لم يكن لعلم التحقيق الجنائي أي قيمة تذكر. بيد أن الأمر اختلف في العصر الحاضر، إذ أسفر التطور العلمي عن كثير من التغيرات والتطورات المهمة في مجال الكشف عن الجرائم ونسبتها إلى مرتكبيها، وصبغ وسائل التحقيق الجنائي فيها بالصبغة العلمية، مما أدى إلى بروز علم التحقيق الجنائي الذي يُعنى بدراسة الوسائل العلمية والفنية في الكشف عن الجريمة ومرتكبيها، وتوافر صفات معينة فيمن يقوم بالتحقيق الجنائي إضافة إلى الخبرة العلمية الكافية.

أولاً ـ مفهوم علم التحقيق الجنائي:

علم التحقيق الجنائي Investigation criminelle هو علم دراسة الوسائل العلمية والعملية التي تساعد المحقق الجنائي على الكشف عن الجريمة والمجرمين. ويقسم هذا العلم إلى فرعين: علم التحقيق الجنائي العملي، وعلم التحقيق الجنائي العلمي (أو الفني).

ويدرس علم التحقيق الجنائي العملي الوسائل المشروعة التي يباشرها المحقق الجنائي عند وقوع جريمة، أو حادث ما للتوصل إلى معرفة الحقيقة، وذلك بناءً على قواعد أساسها التجارب العملية التي يتوصل إليها المحققون في تحقيق القضايا المهمة، أو بمعنى آخر هو العلم الذي يدرس الوسائل العلمية للكشف عن الجريمة والمجرمين، كمعاينة مكان الجريمة، والبحث عن الآثار التي تركها المجرم في مسرح الجريمة، وتصوير الجثة، وتفتيش المنازل، وضبط الأشخاص، ومصادرة الأشياء، واستجواب المشتبه بهم، وسماع أقوال الشهود. أما علم التحقيق الجنائي العلمي فيدرس القواعد التي أساسها الأبحاث العلمية والتجارب الفنية التي يمكن تطبيقها، لاكتشاف حقيقة الحوادث الجنائية والاهتداء إلى مرتكبيها، كتحليل الآثار التي تنتج من الجريمة، واستعمال المواد المشعة للكشف عن الأوراق النقدية المزورة، واستعمال الأدوات الخاصة لفحص البصمات والسلاح والمواد المتفجرة.

فالتحقيق الجنائي لم يعد مقتصراً على الأدلة المعنوية، كشهادة الشهود واستجواب المشتبه به أو المتهم وما يصدر عنه من اعتراف، وإنما امتد ليشمل الأدلة المادية المتمثلة في الآثار التي يتركها الجاني في مسرح الجريمة. إذ الكشف السريع عن الجريمة ومرتكبيها يتطلب اتخاذ جملة من الإجراءات والوسائل العلمية التي تساعد في كيفية التعامل مع مسرحها والوصول إلى مرتكبيها، مما يقتضي أن تتوافر فيمن يقوم بها الخبرة العلمية الكافية. وقد أدى ذلك إلى اختلاف في أوساط الفقه الجزائي حول وصف التحقيق الجنائي، فمنهم من يعد العمل أو الإجراء تحقيقياً إذا صدر عن سلطة قضائية مختصة بالتحقيق، كالتحقيق الابتدائي الذي يقوم به قاضي التحقيق أو قاضي الإحالة، والتحقيق النهائي الذي تقوم به المحكمة الجزائية. في حين يرى آخرون أنه لا يشترط لعد العمل أو الإجراء تحقيقياً صدوره عن جهة قضائية مختصة بالتحقيق، وإنما المهم أن يستهدف هذا العمل أو الإجراء البحث عن الأدلة، والتحقق من مدى ثبوت الجريمة المقترفة، فيستوي وفق وجهة النظر هذه أن يكون مثل هذا العمل أو الإجراء صادراً عن السلطة القضائية المختصة بالتحقيق بالمعنى الدقيق للكلمة، أم عن رجال الضابطة العدلية. فالتحقيق الجنائي عند هؤلاء يشمل البحث الأولي الذي تقوم به عادة الضابطة العدلية في حال الجرم المشهود، وكذلك التحقيق الذي تجريه بناء على إنابة من قبل السلطة القضائية المختصة بالتحقيق.

ويرى جانب من الفقه الجزائي أن مرحلة التحقيق الابتدائي إذا كانت تبدأ بالعمل التحقيقي الذي يمكن تصوّر القيام به فور علم الجهات المختصة بأمر وقوع الجريمة، فإن هذه المرحلة تنتهي إما بإحالة الدعوى العامة أمام قضاء الحكم، وإما بإصدار قرار بعدم وجود وجه لإقامتها. فموضوع التحقيق الجنائي هو النظر فيما إذا كان يجب إحالة المتهم بارتكاب جريمة ما، في ضوء الأدلة المتوافرة، إلى قضاء الحكم لكي ينظر في إدانته، أم لا. بيد أن المشرع عهد بأمر القيام بالتحقيق الابتدائي إلى قاضي التحقيق وقاضي الإحالة، الأمر الذي يترتب عليه أن إجراءات البحث الأولي (أو الاستدلالي) ليست عملاً تحقيقياً، ومما يؤكد ذلك أن هذه الإجراءات لا ترتبط بفتح التحقيق، أو قفله من قبل قضاء التحقيق، فالبحث الأولي إذن هو تحضير للتحقيق الجنائي لا يعطي بذاته دليلاً بالمعنى القانوني، فهو مرحلة تسبق عادة البدء في الدعوى العامة، وهي تمهد لها بحيث تجمع العناصر والأدلة المادية التي تثبت وقوع الفعل الإجرامي، وإجراء التحريات اللازمة عن مرتكبه، وذلك لتتمكن الجهة القضائية المختصة بالتحقيق من توجيه تحقيقها على النحو الذي يساعدها على الوصول إلى الحقيقة.

ثانياً ـ معايير تحديد طبيعة أعمال التحقيق الجنائي:

توجد ثلاثة معايير لتحديد طبيعة العمل أو الإجراء المتخذ للكشف عن الجريمة وتقديم الأدلة التي تؤكد نسبتها إلى شخص ما، وكونه يعد من إجراءات التحقيق الجنائي أم لا، وهي:

1ـ المعيار الغائي: بموجب هذا المعيار يعد الإجراء من أعمال التحقيق الجنائي عندما يستهدف الكشف عن الحقيقة، ويستوي أن تقوم به الجهة القضائية المختصة أصلاً بالتحقيق (قضاء التحقيق)، أم النيابة العامة، أم الضابطة العدلية. ويرى بعض فقهاء القانون الجزائي أن الأعمال التي يقوم بها أعضاء الضابطة العدلية للكشف عن حقيقة الواقعة الإجرامية لا تعد من قبيل البحث الأولي (أو الاستدلال)، وإنما هي من إجراءات التحقيق الجنائي، إذ الكشف السريع عن هذه الحقيقة هو غاية أعمال التحقيق وإجراءات البحث الأولي (أو الاستدلال) معاً، فما يقوم به أعضاء الضابطة العدلية من إجراءات كالمعاينة، والانتقال إلى مسرح الجريمة، إنما يرمي في نهاية المطاف إلى الكشف عن حقيقة الواقعة الجرمية.

واستناداً إلى هذا المعيار لا تدخل في أعمال التحقيق الإجراءات ذات الطابع الإداري التي تتخذها الجهة المختصة بالتحقيق، كالقرار بتأجيل الجلسة، أو قرار ضم بعض الأوراق إلى ملف الدعوى، فمثل هذه القرارات لا تهدف إلى الكشف عن حقيقة الواقعة الجرمية، وبذلك لا تعد من أعمال التحقيق الجنائي إذا انتفت عنها الغاية التي يرتبط بها العمل التحقيقي.

2ـ المعيار الوظيفي: بموجب هذا المعيار يعد من أعمال التحقيق الجنائي كل إجراء تقوم به الجهة القضائية المختصة بالتحقيق أصلاً، كقاضي التحقيق وقاضي الإحالة وقاضي الحكم، ولا تعدّ من هذه الأعمال الإجراءات التي يقوم بها أعضاء الضابطة العدلية، إذ تُستبعد هذه الإجراءات من نطاق أعمال التحقيق ولو كانت تكتسب الطابع التحقيقي استناداً إلى الصلاحيات الاستثنائية الممنوحة لهم بمقتضى القانون في حالة الجرم المشهود أو الإنابة.

3ـ المعيار الشكلي: يستند هذا المعيار في تحديده لطبيعة الأعمال أو الإجراءات التحقيقية على أمرين أساسيين، هما: وقت اتخاذ الإجراء وشكله، إذ لكي يعد الإجراء من أعمال التحقيق لا بد أن يُتخذ بعد إقامة الدعوى العامة، ويجب أن يستوفي الشروط الشكلية التي يتطلبها القانون في هذا الإجراء. وبناء على ذلك فإن سماع الشهادة لا يُعدّ من إجراءات التحقيق إلا إذا كان مستوفياً شروط صحته، أي يجب أن يكون مسبوقاً بتحليف اليمين القانونية، فسماع الشهادة من غير تحليف هذه اليمين يجعل هذا الإجراء من أعمال البحث الأولي لا من أعمال التحقيق.

من استعراض المعايير السابقة يتضح أن إجراءات التحقيق تتميز بطبيعتها القضائية، وهذه الطبيعة لا يكتسبها إجراء التحقيق لمجرد توافر الصفة فيمن يقوم به وإلا انتفت عن الأعمال التي يباشرها أعضاء الضابطة العدلية في الحالات التي أوجب عليهم القانون القيام بها استناداً إلى فكرة الملاءمة الإجرائية، وإن كانت هذه الأعمال من طبيعة إجراءات التحقيق التي تخرج أصلاً عن صلاحياتهم المتمثلة في جمع المعلومات فحسب؛ أي إنه من الممكن لأعضاء الضابطة العدلية مباشرة بعض إجراءات التحقيق التي هي من اختصاص القضاء في حالتي الجرم المشهود والإنابة. وبالمقابل يمكن للجهة التي خصها القانون بإجراء التحقيق بصفة أصلية أن تقوم بأعمال البحث الأولي (أو الاستدلال) من دون أن يؤدي ذلك إلى عدها من أعمال التحقيق؛ إذ تظل هذه الأعمال محتفظة بطابعها الاستدلالي حتى لو قامت به جهة مختصة بالتحقيق أصلاً، فيجوز لها مباشرة إجراء من إجراءات البحث الأولي من دون أن يضفي ذلك عليه صفة العمل التحقيقي، إنما يكتسب الطابع القضائي من صفة الحياد والموضوعية إلى جانب مكنة تقييم الدليل المتحصل عن هذا الإجراء تقييماًً سليماً يستند إلى الواقع، لذلك فإن التحقيق لازم ولا غنى عنه في القضايا الجنائية، إذ لا يجوز بأي حال من الأحوال عرض قضية جنائية على المحكمة ما لم يكن قد سبق التحقيق فيها من قبل قضاء التحقيق، وذلك بخلاف القضايا الجنحية والمخالفات التي يكون فيها التحقيق اختيارياً، إذ تستطيع النيابة العامة أن تحيلها مباشرة أمام المحاكم الجزائية المختصة، أو تحفظ الأوراق من دون ملاحقة، وذلك استناداً إلى محاضر البحث الأولي التي تولى تنظيمها أعضاء الضابطة العدلية.

ويتحدد وجه الاختلاف بين العمل التحقيقي وعمل البحث الأولي (أو الاستدلالي) من خلال الدور الذي يؤديه كل منهما، فدور الأول هو التنقيب عن أدلة الدعوى العامة ما تعلق بمصلحة المتهم، وما كان منها ضده، واتخاذ القرار المناسب بعد تقييم هذه الأدلة ومدى كفايتها لإحالة المتهم للمحاكمة. في حين يكون دور البحث الأولي (أو الاستدلال) هو جمع المعلومات عن الجريمة المرتكبة، لكي تتخذ النيابة العامة القرار المناسب بإقامة الدعوى الجزائية أمام القضاء المختص، فهو مجموعة الإجراءات التي تسبق تحريك الدعوى الجزائية.

ثالثاً ـ عناصر التحقيق الجنائي:

ينصب التحقيق الجنائي على الكشف عن الجريمة والبحث عن الأدلة التي تثبت نسبة هذه الجريمة إلى شخص ما، أي صلة السبب بالمسبب. فهو يكشف عن حقيقة الجريمة المرتكبة ومعرفة مرتكبيها ودوافعهم. وهذا يتطلب تحديد وقائع الجريمة من خلال تسلسل الأفعال المكونة للجريمة وتتابعها، والظروف والأحوال والملابسات التي واكبت وقوعها؛ وكذلك بيان كيفية ارتكاب الجريمة من خلال تحديد الأسلوب الذي اتبعه الجاني في تنفيذها والوسيلة التي استعملها في ذلك، والكشف على مكان ارتكابها لاستظهار آثارها. وعليه يمكن تحديد عناصر التحقيق الجنائي بما يلي:

1ـ العناصر التي تتعلق بالواقعة الجرمية:

ويقصد بها العناصر التي ينبغي على المحقق تناولها في تحقيقه لبيان كل ما يتعلق بالجريمة المرتكبة ويؤدي إلى إظهار الحقيقة. فيجب أن يشتمل التحقيق على الأمور التالية:

أ ـ إثبات وقوع الجريمة وتحديد مكانها: ينبغي على المحقق فور تلقيه بلاغاً عن حادث ما أن يبادر إلى التحقق من وقوع الجريمة بالانتقال إلى مكانها، وإجراء المعاينة اللازمة، والبحث عن موضوع الجريمة، وملابساتها. ولا بد أيضاً من تحديد مكان وقوع هذه الجريمة، إذ يعد ذلك من الأمور الجوهرية ويتوقف عليه نجاح عمل المحقق. فمن معاينة مكان الجريمة يمكن تحديد شخصية المجني عليه والسبب والدافع إلى ارتكاب الفعل الإجرامي وتاريخ ارتكابه، وتحديد الوصف القانوني لهذا الفعل. وكذلك فإن معرفة مكان الجريمة يساعد في اكتشاف الجاني أو الجناة والاهتداء إليهم والدور الذي قام به كل منهم عن طريق الآثار المادية التي يعثر عليها المحقق في مسرح الجريمة. وكذلك يمكن عن طريق مكان الجريمة التحقق من أقول الشهود صدقاً أو كذباً، فقد يشهد الشاهد برؤيته للمدعى عليه وهو يطلق النار على المجني عليه من مكان حدده، ولكن يتضح من المعاينة أنه يتعذر على الشاهد وهو في هذا المكان مشاهدة الواقعة الإجرامية لبعد المسافة أو لوجود حائط. ولمكان وقوع الجريمة أهمية خاصة في بعض الجرائم إذ يعد عنصراً من عناصرها أو ظرفاً مشدداً للعقاب عليها. وتتجلى أيضاً أهمية مكان وقوع الجريمة في تحديد الاختصاص المكاني لدائرة عمل المحقق.

ب ـ وقت ارتكاب الجريمة: يجب أن يتناول التحقيق تحديد وقت ارتكاب الجريمة، ويتم ذلك بناء على أقوال المجني عليه أو الشهود، أو عن طريق دراسة الآثار التي يعثر عليها في مسرح الجريمة. وتتجلى أهمية تحديد زمن ارتكاب الجريمة في التحقق من صدق أقوال الشهود عن مشاهدتهم للجاني في أثناء اقترافه للفعل الإجرامي، وفي كون هذا الزمن يشكل ظرفاً أو ركناً في بعض الجرائم، إذ يعد قانون العقوبات الوقت الذي ارتكبت فيه الجريمة ركناً فيها أو ظرفاً مشدداً للعقاب عليها، مثل السرقة والقتل وحالة الدفاع الشرعي. كما يفيد تحديد زمن ارتكاب الجريمة في التثبت من صحة دفاع المتهم بقوله إنه لم يكن متواجداً في مكان الجريمة لحظة اقترافها، بل كان في مكان آخر بعيد. ولا شك في أن هذا الدفاع من المسائل الجوهرية في التحقيق ويجب على المحقق الرد عليه وإلا عد التحقيق مشوباً بالنقص والقصور.

ج ـ تحديد كيفية ارتكاب الجريمة: يقود تحديد كيفية ارتكاب الجريمة إلى اكتشاف عدة أمور منها، الاهتداء إلى الجاني؛ فالمجرم المحترف يتخصص عادة في ارتكاب جريمة معينة، وهو عندما ينفذها إنما ينفذها بأسلوب خاص به وحده يرى فيه أسهل الطرق وأقربها إلى تحقيق غرضه من الجريمة، ويجد فيه الأمان لاعتقاده بأنه إذا حاد عنه سيتم كشفه والقبض عليه، ومن ثم فإن أسلوبه يكون واحداً في كل مرة يقترف فيها جريمته مما يسهل على المحقق تضييق نطاق البحث عن الجاني. كما أن وقوع عدة جرائم تتشابه في طريقة ارتكابها يشير إلى وحدة مرتكبيها، وأنها ارتكبت من يد إجرامية واحدة.

وتحديد كيفية ارتكاب الجريمة يقود أيضاً إلى عدها ظرفاً مشدداً أو ركناً للجريمة، ومثال ذلك جرائم السرقة التي تحدث بواسطة الكسر أو الخلع أو تسور الحائط. وكذلك يقود هذا التحديد إلى التأكد من صدق الشاهد، فمثلاً قد يقول الشاهد إنه رأى الجاني وهو يجهز على المجني عليه بطعنه بسكين ثم يأتي بعد ذلك تقرير الطبيب الشرعي مبيناً أن القتل حصل بأداة راضه أو عيار ناري.

د ـ تحديد السبب أو الدافع في ارتكاب الجريمة: لكل جريمة أسبابها والدافع إلى اقترافها، وهناك أسباب عديدة تدفع المجرمين إلى ارتكاب الجرائم، منها أسباب عامة تتعلق بالظروف السائدة في المجتمع، وهي ظروف تختلف من بيئة لأخرى، وتتوقف على حالة المجتمع الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية. وهناك أسباب خاصة أو فردية تعود إلى شخص الجاني، لذا فإنها تختلف باختلاف الأفراد، إذ لكل فرد طباعه وتكوينه وميوله الخاصة به. وتعد أسباب الجريمة والدافع إلى ارتكابها المرشد الأول إلى فاعليها من خلال دلائل الجريمة وشواهدها. فإن معرفة سبب الجريمة يسهل للمحقق الاهتداء إلى المجرم أو حصر الاشتباه في عدد محدد من الأشخاص الذين يتوافر لديهم الدافع إلى ارتكاب الجريمة.

2ـ العناصر التي تتعلق بالجاني:

ترتكب الجريمة من شخص واحد أو عدة أشخاص يأخذ كل منهم وصفه القانوني من الدور الذي قام به في الواقعة الإجرامية. إذ يمكن أن تقع الجريمة من فاعل واحد يتبنى المشروع الإجرامي بمفرده، أو يسهم مباشرة مع غيره في إبراز عناصر الجريمة إلى الوجود، أو يقتصر دوره على مجرد التحريض عليها أو التدخل فيها من دون أي اشتراك في إبراز عناصرها المادية. لذلك ينبغي أن يشتمل البحث والتحقيق الجنائي على تحديد الأشخاص الذين ارتكبوا الجريمة أو أسهموا في ارتكابها بصفتهم فاعلين أو شركاء أو محرضين أو متدخلين، ومن ثم ضبطهم، وذلك عن طريق تحديد الأدلة. إذ بواسطة هذه الأدلة يتم تحديد كل من أسهم في الجريمة، ومن ثم تحديد دور كل واحد منهم، فالكشف عن بصمات الأصابع، ونسبتها إلى شخص معين يكشف عن أن لهذا الشريك دور أصلي في الجريمة مما يعطيه وصف الفاعل، إذ  الفاعل هو من يقوم بدور أساسي في الجريمة، ووجود البصمات يشير إلى هذا الدور، وقد يكون الكشف عن تعدد البصمات دليلاً على تعدد الفاعلين فيما لو نسبت هذه البصمات إلى أكثر من شخص ممن أسهموا في الجريمة.

3ـ العناصر التي تتعلق بالقضايا القانونية:

لا يقتصر التحقيق على الجوانب السابق ذكرها، وإنما إلى جانب ذلك ينبغي أن يشتمل التحقيق الجنائي على عناصر أخرى تتعلق بالجوانب القانونية، من حيث تحديد أسباب الإباحة، وموانع العقاب، والظروف المشددة للعقاب، والأسباب المخففة القضائية، والبحث في مدى توافر أركان الجريمة. إذ لكل جريمة أركان يحددها النص القانوني، فلا يتصور قيام الجريمة ما لم يحدد التحقيق هذه الأركان، فبتحديدها يتم تحديد الوصف القانوني لفعل المتهم، وهو ما يسمى بتكييف الواقعة الجرمية. إذ من غير الممكن أن ينسب إلى فعل ما وصف الجريمة، ومن ثم يتعذر مباشرة التحقيق في شأنه ما لم يكن الفعل مجرَّماً بنص القانون من جهة، وليس من سبب يبيح الفعل من جهة أخرى، الأمر الذي يتطلب أن يكون من عناصر التحقيق عدم متابعة التحقيق في حالة استفادة الجاني من أسباب الإباحة، مما يقتضي من النيابة العامة حفظ ملف الدعوى من دون ملاحقة في هذه الحالة.

وفي جميع الأحوال أصبح من الضروري أن يشتمل ملف التحقيق على جميع العناصر المتعلقة بالجوانب القانونية سواء ما تعلق بموانع المسؤولية الجزائية، أم بأسباب الإباحة، وغيرها مما يؤثر في سير الدعوى العامة (أو الجزائية).

رابعاًـ القواعد التي تحكم حق الدولة في العقاب:

 إن العلاقة بين الدولة ومرتكب الجريمة تحكمها القواعد التالية: الجريمة هي سبب اللجوء إلى إجراءات التحقيق، ومباشرة هذه الإجراءات من قبل جهة مختصة، وارتباط مباشرتها بغاية معينة.

1ـ الجريمة سبب اللجوء إلى إجراءات التحقيق: ينشأ اقتضاء حق الدولة في العقاب غداة ارتكاب المجرم لجريمته، ويتمثل بمجموعة من الإجراءات التي حددها المشرع والتي يمكن من خلال اتباعها كشف حقيقة وقوع الجريمة ونسبتها إلى شخص ما، أو كشف صلة المتهم أو عدم صلته بها. وهذه الإجراءات ينظمها قانون أصول المحاكمات الجزائية. وبذلك يكون ارتكاب الجريمة هو السبب في اللجوء إلى الإجراءات المنصوص عليها في هذا القانون، فبدون الجريمة لا تنشأ الحاجة إلى إعمال نصوص قانون أصول المحاكمات الجزائية، أو تحريك الأجهزة القائمة على تطبيقه. وبناءً على ذلك فمن غير أن تقع جريمة ليس هناك من ضرورة إلى اللجوء إلى إجراءات التحقيق، الأمر الذي يمكن في ضوئه القول إن إجراءات التحقيق والتدابير التي تتخذ ضد مرتكب الجريمة تتمثل في القواعد الإجرائية التي ينظمها قانون أصول المحاكمات الجزائية، والتي تباشرها جهات حددها المشرع، فإن هذا القانون لم يكتف بتنظيم الإجراءات الواجب اتخاذها من لحظة وقوع الجريمة إلى لحظة تنفيذ الحكم بحق مرتكبها، بل حدد أيضاً الجهات التي يحق لها القيام بهذه الإجراءات، ورسم حدود عمل كل واحدة منها خلال مراحل الدعوى العامة الثلاث.

2ـ وجود جهة مختصة تباشر إجراءات اقتضاء حق الدولة في العقاب: قبل نشوء الدولة كان اقتضاء حق العقاب متروكاً للمجني عليه وذويه، أما بعد نشوء الدولة فقد انتقل هذا الحق إلى الدولة تباشره بواسطة سلطاتها المختصة التي تجسدها وتنوب عنها، إذ تمثل هذه السلطات المجتمع بأسره في ملاحقة المجرمين والتحقيق معهم ومحاكمتهم وتنفيذ الأحكام بحقهم. وإن استئثار الدولة بحق العقاب الذي تباشره عن طريق سلطاتها المختلفة، جعلها تحدد وسيلة لاقتضاء هذا الحق، وهذه الوسيلة هي الدعوى العامة (أو الجزائية) التي أوكل أمر إقامتها أمام القضاء الجزائي إلى النيابة العامة باعتبارها ممثلة الحق العام. لذلك فإن حق الدولة في العقاب هو حق قضائي، وهذا يفسر الميل إلى إسناد التحقيق الجنائي إلى القضاء، إذ يعطيه إلى جانب اختصاصه بالحكم صلاحية البحث والتحقيق، وذلك مع الإبقاء على الفصل بين قضاء التحقيق وقضاء الحكم.

3ـ مدى ارتباط الدعوى العامة باقتضاء حق الدولة في العقاب: إذا كان ارتكاب الجريمة من شأنه أن يُنشئ حقاً للمجتمع بوجوب معاقبة مرتكبها، أو من له صلة بها، فإن هذا الترابط لا يكون مطلقاً. إذ الدعوى العامة هي ظاهرة إجرائية، في حين أن الحق في العقاب يستند في أصله إلى فكرة موضوعية، مما يعني أن وجود أحدهما لا يقتضي بالضرورة وجود الآخر. فقد يوجد الحق في العقاب، ولكن لا توجد دعوى عامة لكون المشرع منع مباشرتها كما هو الحال للدبلوماسي الأجنبي الذي يرتكب جريمة في سورية، إذ تمتنع إقامة الدعوى العامة علية أمام القضاء السوري لعدم خضوعه للقانون السوري. وقد يوجد الحق والمسوغ لإقامة الدعوى العامة، ولكن من غير الممكن إقامتها لوجود مانع، كتعليقها على شكوى أو إدعاء شخصي ولم يتم ذلك، أو لكونها منوطة بطلب أو بإذن من جهة معينة ولم يقدم الطلب أو يحصل الإذن.

4ـ ارتباط مباشرة إجراءات التحقيق بغاية معينة: إن الغاية الأساسية من مباشرة الجهة المختصة باقتضاء حق الدولة في العقاب ترتبط بتحقيق التوازن بين فكرتين متعارضتين: فكرة ضمان الحريات الفردية وفكرة الدفاع عن المجتمع عن طريق اقتضاء الدولة لحقها في معاقبة مرتكب الجريمة، وذلك باتخاذ مجموعة من الإجراءات التي تقود إلى ذلك. ويظهر جلياً هذا التعارض بين الفكرتين في مرحلة التحقيق الجنائي، إذ تتخذ الجهات المختصة بالتحقيق بعض الإجراءات القسرية ضد الأفراد المشتبه بهم تنال من حريتهم وتتعرض لكرامتهم، كالقبض والإحضار والتفتيش والتوقيف، وأخذ عينة من دمهم أو شعرهم. ولكن المشرع حرص على تحقيق التوازن بين هاتين الفكرتين بوضع ضوابط وشروط ينبغي على الجهة المختصة بالتحقيق التقيد بها عند اللجوء إلى مثل هذه الإجراءات القسرية، وضمان حقوق الدفاع للمتهم، كحقه في الاستعانة بمحام للدفاع عنه في جميع مراحل التحقيق وحقه في الاطلاع على مضمون التحقيقات التي تمت في غيابه…إلخ.

ومما تقدم يتضح أن الغاية من مباشرة إجراءات التحقيق ليست السعي إلى إدانة المتهم فحسب، بل السعي إلى تبرئته، وهذا يتطلب من الجهة القضائية المختصة باقتضاء حق الدولة في العقاب أن يكون هدفها إلى جانب إدانة المذنب تبرئة البريء، وحماية المتهم من الأساليب والأعمال التي تنتهك فيها كرامته وآدميته، وفرض العقوبة المناسبة، الأمر الذي يقتضي إجراءات تتوافر فيها الضمانات القانونية التي تكفل عدم حصول أي تعسف محتمل من جانب الجهات المختصة بالتحقيق، وتتحقق فيها فرص الدفاع والتروي، كما ينبغي أن يتوافر إلى جانب ذلك عنصر الحزم والحسم. وهذا يتطلب تحديد أهداف التحقيق الجنائي بما يلي:

> ضمان توفير المعلومات والأدلة الكافية عن الجريمة الواقعة وعن مرتكبيها لتمكين القضاء من تطبيق قواعد قانون العقوبات على أفضل وجه، وتوقيع الجزاء على مرتكبيها الذين تجب مساءلتهم عنها.

> ضمان تبرئة من تجب براءته لعدم ثبوت صلته بالجريمة بصورة مباشرة أو غير مباشرة، مما يعني الحيلولة دون إدانة شخص بجريمة لم يرتكبها، ولم يكن له أي دور في ارتكابها كمحرض أو متدخل.

خامساً ـ المحقق الجنائي:

يمكن أن يطلق وصف المحقق الجنائي على كل شخص يقوم بعمل من أعمال التحقيق سواء بصورة أصلية، كقضاة التحقيق والإحالة والحكم، أو بصورة استثنائية، كأعضاء الضابطة العدلية، بتفويض مباشر من المشرع في حالة الجرم المشهود أو بناءً على إنابة من صاحب الاختصاص الأصيل بالتحقيق. إن التحقيق الجنائي الذي يقوم به المحقق يقتضي اتخاذ إجراءات مختلفة من سماع شهود ومعاينات وتفتيش والاستعانة بأهل الخبرة واستجواب المشتبه به أو المتهم، مما يتطلب توافر صفات معينة في المحقق وإلمامه بمختلف العلوم الجنائية التي تساعده على النجاح في عمله في مجال التحقيق الجنائي.

1ـ صفات المحقق الجنائي:

يستمد التحقيق الجنائي أهميته من كونه صراعاً بين المحقق والجاني، فالأول ينشد الحقيقة المتمثلة بتحقيق العدالة والكشف عن الجريمة الواقعة وتحديد شخصية المشتبه به وتأكيد ارتكابه لها عن طريق السعي إلى جمع أدلة الاتهام، في حين يبذل الجاني كل جهده في البعد عن يد العدالة وأعينها فيعمل على طمس الحقيقة والإطاحة بالدليل بجنوحه إلى الغش والخداع للإفلات من العقاب. ولا يستطيع المحقق أن يحقق الغلبة في هذا الصراع إلا إذا توافرت فيه صفات معينة منها:

أ ـ الإيمان برسالته: قبل أي شيء يجب أن يكون المحقق مؤمناً برسالته في إحقاق الحق وتطبيق القانون تطبيقاً سليماً، باستخدام جميع الوسائل المشروعة الكاشفة عن الحقيقة وتحقيق العدالة. وإيمان المحقق برسالته يتطلب منه أن يجرد نفسه من كل تأثير يقع عليه، فيباشر إجراءات التحقيق في الحادث الذي يقوم بالتحقيق فيه وهو خالي الذهن من أي تصور مسبق عنه، ولا يستمع لأي رواية عن الحادث في غير التحقيق، وذلك خشية أن يقع تحت التأثير غير المباشر لهذه الرواية فينحرف بالتحقيق عن مساره الصحيح وهو لا يشعر بذلك، وألا يلتمس في نفسه اتجاهاً معيناً في التحقيق إرضاءً لطرف في الدعوى، فعليه عدم الانحياز إلى طرف ما جرياً وراء المظاهر التي قد تخدعه.

ب ـ قوة الملاحظة: ويراد بقوة الملاحظة المعرفة الدقيقة لحقيقة أمر ما أدركته إحدى الحواس مع ما يحيط به من ظروف، أو هي المعرفة السريعة والأكيدة لتفاصيل الأشياء التي تقع تحت إحدى الحواس؛ ويمكن تنميتها بالمران، وتجري العديد من الاختبارات لبيانها. ويجب أن تتوافر في المحقق الجنائي قوة الملاحظة، فيكون يقظاً ملماً بكل ما يراه ويدور حوله، ولا يترك أمراً يمر به من دون أن يقف عنده بالتأمل والتمحيص والتدقيق، إذ لكل صغيرة دلالتها وأهميتها في ظهور الحقيقة، وقد تساعد صغائر الأمور على إزاحة الستار عن أمر خفي له مغزاه الكبير في إثبات وقوع الجريمة ونسبتها إلى شخص ما.

الواقع أنه غالباً ما يترك الجاني آثاراً في مسرح الجريمة تدل عليه وتكشف عن شخصيته وتساعد على معرفته والاهتداء إليه، وبعض هذه الآثار لا يمكن اكتشافها إلا إذا قام المحقق بفحص وتدقيق وتحليل لكل ما شاهده، وهو ما يتطلب أن يكون لدية قوة ملاحظة شديدة. وقوة الملاحظة ترتبط بسرعة البديهة، إذ ما يلحظه المحقق لا بد أن تترتب عليه نتائج معينة وتساعده سرعة البديهة على ذلك، فالإصابات التي يشاهدها بجسم المتهم ذات مدلول في إظهار الحقيقة إذ تدل على المقاومة التي حدثت بينه وبين المجني عليه، وسرعة البديهة عند المحقق تساعده على مواجهة المتهم بهذه الإصابات، ومبادرته بسؤاله عنها، مما قد يدفعه إلى الإقرار بالفعل المسند إليه.

ولا تقتصر قوة الملاحظة على معاينة الآثار الموجودة في مسرح الجريمة، وإنما ينبغي أن تتوافر في جميع إجراءات التحقيق الأخرى، بدأً من وصول البلاغ عن الحادث حتى نهاية التحقيق وإحالة الدعوى إلى المحكمة الجزائية المختصة.

ج ـ قوة الذاكرة: وهي قدرة المحقق على حفظ المعلومات والمشاهدات واسترجاعها في ذهنه عند استعراضه لما يماثلها أو لما له علاقة بها، الأمر الذي يسهل عمله في التحقيق الجنائي الذي يقوم به. إذ بالقدر الذي يحتاج المحقق إلى قوة ملاحظة يحتاج إلى قوة ذاكرة، فقوة الذاكرة تعينه على ربط الحوادث والأدلة فيما بينها، فإن بعض الأدلة لا ينطق بالحقيقة إلا بإعمال مقتضيات المنطق التي تحتاج إلى قوة الذاكرة، أي من خلال القدرة على حفظ المعلومات واسترجاعها عند الحاجة، إذ تسهل عمل المحقق وتنير له الطريق، وعن طريقها يستطيع أن يتعرف المتهم إذا ما علم بأوصافه من خلال الشهود أو المجني عليه. فالمحقق الناجح هو الذي يعتمد على قوة ذاكرته لا على ما تم تدوينه في ملف الدعوى، وإن كان هذا لا يعني عدم مراجعته. فمثلاً يمكن أن يتجلى الترابط بين قوة الملاحظة وقوة الذاكرة من خلال ذكر أوصاف المتهم من قبل الشهود والمجني عليه للمحقق ما يسهل معرفة على المتهم من خلال قوة ملاحظته للأشخاص الذين تحوم حولهم الشبهات، وتدقيقه في مدى توافر هذه الصفات في أحدهم، ويكون ذلك من خلال حفظه لها واستدعائها عند الملاحظة، مما يعني أن قوة الملاحظة هي وسيلة جمع المعلومات، وقوة الذاكرة هي التي تضع هذه المعلومات موضع التطبيق.

د ـ الدقة والترتيب: يجب أن يتسم عمل المحقق الجنائي بالدقة والإتقان، وأن يلتزم بهاتين الصفتين في كل عمل يقوم به من أعمال التحقيق، وتتطلب الدقة أن يأمر المحقق بادئ ذي بدء بحراسة مكان الحادث والتحفظ عليه ومنع أي شخص من الاقتراب منه حتى ينتهي من التحقيق في هذا الحادث، وذلك للمحافظة على الآثار خوفاً من إزالتها وطمسها. وتقتضي الدقة من المحقق أيضاً مراعاة الترتيب والتسلسل في التحقيق حتى يكون متماسكاً مترابطاً لا انفصام فيه ولا تفكك، فعند إجراء المعاينة مثلاً ينبغي على المحقق مراعاة هذا الترتيب والتسلسل بوصفه الأماكن والماديات وصفاً دقيقاً مرتباً ولا يدع موضعاً إلا وصفه الوصف الدقيق، ولا ينتقل إلى وصف موضع آخر إلا بعد الانتهاء من وصف الموضع السابق وهكذا. وكذلك في معاينة الأشخاص وملابسهم عليه أن يصف جسم المتهم أو المجني عليه والملابس التي يرتديها ومواضع الإصابات وصفاً دقيقاً.

ولا تقتصر الدقة والإتقان في العمل على القيام بإجراء المعاينة، وإنما يجب مراعاتها أيضاً في الأسئلة التي يوجهها المحقق للمجني عليه أو الشهود أو المتهم، إذ عندما يتناول المحقق نقطة معينة بالأسئلة ينبغي عليه أن لا ينتقل إلى نقطة أخرى قبل الانتهاء من استيفاء جميع الإيضاحات المطلوبة للنقطة الأولى. ولا يعذر المحقق في حال عدم مراعاة هذه الدقة، فليس له أن يحتج بضيق الوقت أو التذرع بانشغاله بتحقيق آخر، إنما يجب عليه أن يعطي التحقيق الذي بين يديه ما يستحقه من الدقة والعناية بحيث يستوفي جميع العناصر المتعلقة بالواقعة الجرمية، والقيام بجميع الإجراءات المؤدية إلى كشف الحقيقة من معاينة وتفتيش وسماع أقوال الشهود، واستجواب المتهمين المقبوض عليهم، وندب الخبراء في الوقت المناسب. ومن أبرز مظاهر عدم الدقة تراخي المحقق في إجراء المعاينة مما يترتب عليه ضياع آثار الجريمة، وتراخيه في تفتيش مسكن المتهم أو إهماله القيام به على الرغم من أهميته، وتركه المضبوطات من دون تحريزها ووضع الأختام عليها بعد إثبات حالتها ووصفها في محضر التحقيق وصفاً تفصيلياً.

هـ ـ السرعة في اتخاذ التصرف والإنجاز: ومن أهم مظاهر النشاط وسرعة الإنجاز: سرعة الانتقال إلى مكان الحادث فور إخطاره به، إذ يفيد ذلك في المحافظة على هذا المكان وفي سماع المجني عليه المصاب بإصابة خطيرة قبل وفاته، وفي ضبط الجاني قبل مغادرته مسرح الجريمة، وفي الاستدلال على شهود الحادث قبل مغادرتهم لمكانه وسرعة سؤالهم عنه؛ والسرعة في إنجاز التحقيق وضبط الأدلة الكافية لإثبات وقوع الجريمة ونسبتها إلى مرتكبيها بما يمكن قضاء الحكم من إدانتهم وتطبيق العقاب العادل بحقهم. ولكن لا تعني السرعة في التصرف والإنجاز التعجل والإسراع في التحقيق اقتصاداً للوقت على حساب الكشف عن الحقيقة، إذ قد تؤدي العجلة إلى وقوع المحقق في أخطاء يصعب تلافيها وتصحيحها فيما بعد، وإنما يقصد بها عدم التراخي في اتخاذ إجراء ما يقتضيه التحقيق، فلا يؤجل المحقق هذا الإجراء من دون ما يدعو إلى هذا التأجيل ما دام في مقدوره القيام به.

ك ـ العدالة والحياد: يجب أن يكون المحقق عادلاً، فهو خصم شريف للمتهم، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته بحكم قضائي، وبالقدر الذي ينشط فيه المحقق لإثبات التهمة على المتهم ينبغي ألا يستنكف عن تغيير وجهة تحقيقه، ولو بعد تعب طويل إذا لمس من أقوال المتهم ومن أوجه دفاعه أنه لم يرتكب الجريمة موضوع التحقيق؛ وكما أفسح المحقق صدره للمجني عليه وشهوده، ينبغي عليه أيضاً أن يفسح صدره بالمقدار نفسه لسماع أقوال المتهم وشهود دفاعه. إذ تتطلب العدالة من المحقق أن ينأى بنفسه عن الشبهات، فلا يقبل شفاعة أو وساطة أو إغراءً للتهاون مع المتهم، أو تحريضاً ضده.

ويجب على المحقق أن يكون حيادياً، وهذا يقتضي منه الاعتذار عن التحقيق إذا تبين له أن أحد أطراف الدعوى يمت بصلة قرابة أو صداقة حميمية.

ن ـ الشجاعة: إن عمل المحقق محفوف بالمخاطر لكونه يتعامل مع أشخاص خطرين، مما يتطلب منه الشجاعة التي تجعله قادراً على اقتحام المخاطر والخوض في المسالك الصعبة بثبات وبلا خوف أو وجل مادام قد أعد خطة لعمله تكفل له ولمن معه من قوى الأمن السلامة. فتحرك المحقق ضمن خطة عمل مدروسة بعناية ومؤمنة، وإقدامه على مواجهة الأخطار بعد ذلك هو الفيصل الذي يميز الشجاعة كصفة محببة من التهور كعيب يجب ألا يقع فيه.

و ـ الهدوء والصبر: فقد يلاحظ المحقق أثناء التحقيق بعض التصرفات التي تبدو غير عادية من المجني عليه أو المتهم أو أحد الشهود، كالاضطراب أو التلعثم أو الصمت المطلق أو توتر الأعصاب وغيرها. ويرجع هذا إلى أن موقف التحقيق هو موقف غير عادي في حياة الفرد ويتسم بطابع الرهبة، مما يكون له وقع في نفوس هؤلاء الأشخاص. وهذه التصرفات غير العادية تقتضي من المحقق أن يضبط أعصابه ويتحلى بالهدوء والصبر ولا يدعها تتحكم بتصرفاته أو تؤثر فيه عند مباشرته لأعمال التحقيق.

2ـ معلومات المحقق:

يعد العلم الزاد الذي يجعل الإنسان قادراً على التفكير السليم، مما يعني أنه كلما زاد رصيد المحقق من العلوم المختلفة التي لها صلة بطبيعة عمله زادت قدرته على التفكير السليم، ومن ثم الوصول إلى النتائج المطلوبة في أسرع وقت وأقصر طريق. وهذا يتطلب منه أن يكون ملماً لا بأحكام القانون الجزائي فحسب بل بمختلف العلوم المرتبطة به.

أ ـ العلم بالقانون الجزائي: من المعلوم أن عمل المحقق الجنائي يتجسد في اكتشاف الوقائع الإجرامية، وجمع الأدلة التي تؤكد وقوعها ونسبتها إلى مرتكبيها، وذلك من خلال التحري والتحقيق، الأمر الذي يقتضي من المحقق أن يكون ملماً بالقواعد العامة للقانون الجزائي التي تحدد الأفعال المجرمة (شروطها وأركانها) وما يقابلها من جزاءات. ويترتب على ذلك أنه يقع على المحقق الجنائي مهمتان: أولاهما، هي تعرف حقيقة الواقعة وما إذا كانت تشكل جريمة أم لا؛ والثانية، هي وجوب تعرفه أركان الجريمة وشروطها وإعطاؤها الوصف القانوني الأقرب إلى واقعها. وهذا له أهميته في تحديد العقاب والإجراءات الواجب اتخاذها، الأمر الذي يتطلب من المحقق أن يكون عالماً بنصوص قانون العقوبات وأصول المحاكمات الجزائية.

ب ـ الإلمام بأصول علمي الإجرام والعقاب: إن علم الإجرام يهدف إلى تقصي عوامل الجريمة سواء منها ما تعلق بالتكوين البيولوجي أو النفسي، أم ما تعلق بالمحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه الجاني، في حين يبحث علم العقاب في أنواع العقوبات والتدابير وأغراضها بما يمنع المجرمين من العودة إلى الإجرام، ويمنع المجرمين الخطرين من أن يكونوا مصدر خطر يهدد أمن المجتمع.

ومما لا شك فيه أن غاية المحقق تلتقي مع أهداف علم العقاب وأغراضه، ويرتبط هذا الأخير بعلم الإجرام، مما يقتضي من المحقق أن يكون ملماً بهما معاً لكي يتمكن من توظيف ما يقول به علم الإجرام في أساس تعامله مع المجرمين، وتعرف  فئاتهم، وعوامل إجرامهم، ومن ثم البحث عن عقاب ملائم سواء كان ذلك عقوبة، أم تدبيراً احترازياً، أم تدبيراً إصلاحيا حسب حالة المدعى عليه.

ج ـ الإلمام بعلم النفس الجنائي: يبحث هذا العلم في خفايا النفس البشرية، فيدرس السلوك الإجرامي من حيث  دوافعه الشعورية واللاشعورية. ودراسة المحقق لهذا العلم وإلمامه به يكسبانه الخبرة والمهارة عن طريق الملاحظة وتأمل الظواهر الفكرية المختلفة والبحث عن تفسير أسبابها، والربط بين مقدماتها ونتائجها. وعلى ذلك ينبغي على المحقق الجنائي أن يلم بعادات الناس وطبائعهم، وأن تكون لديه الفراسة وبعد النظر والإلمام الكافي بما يؤثر في سلوكهم ونفسياتهم، إذ يستطيع المحقق بفضل دراسة علم النفس الجنائي تحليل نفسية المجرم والشاهد، وأن يميز الصدق من الكذب في القول، ويكتشف سلوك الشاهد عندما يدلي بشهادته والعوامل والمؤثرات المختلفة النفسية أو الداخلية والخارجية التي قد تؤثر في الشاهد، وذلك بالملاحظة والمشاهدة والتأمل.

وهذا يقال أيضاً في المتهمين عند استجوابهم في التحقيق، فمن بينهم من يراوغ ويضلل ويمعن في الكذب مدفوعاً في ذلك بعوامل ومؤثرات مختلفة، ومنهم من يقول الصدق منذ أول إجابة ولا يتراجع عنه في جميع مراحل التحقيق، إذ يمكن أن يكون اعتراف المتهم من أول سؤال كذباً، ويبغي من ورائه إبعاد المجرم الحقيقي عن الملاحقة الجزائية، ولا سبيل للمحقق من كشف كذبه إلا إذا كان ملماً بأصول علم النفس الجنائي.

د ـ الإلمام بالطب الشرعي: الرابطة وثيقة بين الطب الشرعي والتحقيق الجنائي، فإن المحقق لا يستطيع فهم التقرير الطبي وما يتضمنه من عبارات ومصطلحات طبية إلا إذا كان ملماً بأصول الطب الشرعي، فيسأل الطبيب عن سبب الوفاة وهل كان الموت طبيعياً أم جنائياً أم عرضياً أم انتحاراً، وهل الإصابات والجروح التي بجسم المصاب مصطنعة أحدثها بنفسه للتضليل أم حدثت من الغير، إذ قد يسرق الحارس النقود التي في الخزانة، ثم يحدث إصابات بجسمه ويبلّغ أن أشخاصاً هاجموه ليلاً في أثناء نومه واعتدوا عليه وأخذوا النقود.

ومما تجدر الإشارة إليه أخيراً أن المحقق الجنائي أصبح يمتلك في الوقت الحالي عدة طرق في جمع الأدلة التي تثبت وقوع الجريمة ونسبتها إلى مرتكبيها، كالانتقال والمعاينة، والتفتيش وضبط الأشياء، والاستعانة بالخبراء، وسماع الشهود، واستجواب المتهم ومواجهته.

 

مراجع للاستزادة:

 

ـ إبراهيم راسخ، التحقيق الجنائي العملي (مطابع البيان، الطبعة الأولى، دبي 1991).

ـ سمير الزغنون، التحقيق الجنائي، الجزء الأول (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الرابعة، بيروت 2001).

ـ عبد الفتاح مراد، التحقيق الجنائي العملي (مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، بلا تاريخ).

ـ محمد حماد مرهج الهيتي، أصول البحث والتحقيق الجنائي (دار الكتب القانونية، مصر 2008).


التصنيف : القانون الجزائي
النوع : القانون الجزائي
المجلد: المجلد الخامس: طرق الطعن في الأحكام الإدارية ــ علم العقاب
رقم الصفحة ضمن المجلد : 560
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 600
الكل : 31711321
اليوم : 65903