logo

logo

logo

logo

logo

الحياد الدولي

حياد دولي

international neutrality - neutralité internationale

 الحياد الدولي

الحياد الدولي

هيثم موسى حسن

 الحياد الحربي أو الحياد المؤقت

الحياد الدائم

الحياد الإيجابي (عدم الانحياز)

   

على الرغم من المناشدات الكثيرة والحثيثة في الشرائع السماوية، والمحاولات المتعددة للفلاسفة والمفكرين وفقهاء القانون على مدار التاريخ، التي تنادي بضرورة إقامة السلام العالمي بين الشعوب والأمم على أساس العدل والمساواة والتسامح… فإنّ الواقع الدولي - ماضياً وحاضراً ومستقبلاً على ما يبدو - شهد ويشهد بأنّ هذا الهدف يدخل في دائرة الأهداف المثالية صعبة المنال وإن لم يكن مستحيلاً الوصول إليها.

فالنظام السياسي العالمي كان ولا يزال يقوم على أساس أنّ كلّ دولة تسعى إلى حماية نفسها بنفسها، بما أُتيح لها من قدرات، وهي المسؤولة في النهاية عن أمنها ومصالحها الوطنية، فالنجاح في مثل هذا النظام يُقاس بمدى قدرة الدولة على البقاء والمحافظة على استقلالها في عالم تسعى فيه جميع الدول إلى الهيمنة والسيطرة، ولذلك فإنّ حالة «الفوضى والضعف» هي من أبرز سمات النظام السياسي العالمي المعاصر. ولكن، على الرغم من هذه الحالة وتعدّد أسباب الضعف تلك، إلاّ أنّ دول العالم لم ترغب في التعايش السلمي والبحث عن مجالات التعاون الدولي وإقامة علاقات ودّية فيما بينها، والالتزام بالمصير الإنساني المشترك فحسب، بل تعمل على إيجاد آليات ووسائل مختلفة، بما فيها المنظمات الدوليّة، لتعميق مظاهر التعاون كخطوة في سبيل تحقيق النظام في المجتمع الدولي. فالعالم المعاصر إذاً يثبت حالتين متناقضتين: حالة حرب دائمة وحالة بحث دائم عن السلام. أيّ إنّ العالم تتجاذبه رغبتان: رغبة في العنف والفوضى ورغبة في السلام والتعاون والحفاظ على الاستقرار الدولي.

وما دام الأمر كذلك، فقد تجد بعض الدول - في ظروف تاريخية معيّنة ولأسباب إقليمية أو دولية أو إستراتيجية أو ذاتية - أنّ دخولها في علاقات سياسية كاملة مع الدول الأخرى قد يؤثر سلباً في مصالحها الوطنية، أو على الأقل يعرّضها لخطر التجاذبات والصراعات السياسية وما ينجم عن ذلك من خسائر مادية أو معنوية أو كليهما معاً، فتقوم هذه الدولة بعملية مفاضلة بين هذا الاحتمال أو هذه الفرضية وبين الاحتمال الآخر الناشئ عن فرضية اتخاذ موقف سياسي - قانوني يضمن لها السلامة والأمن وحفظ كيانها ووجودها ويحقق مصالحها عبر تقليص دائرة علاقاتها السياسية مع الدول الأخرى باللجوء إلى ما يسمى «الحياد».

فتقرر هذه الدول بعد عملية المفاضلة تلك اختيار الفرضية الثانية، أي الحياد، على أساس أنّه الخيار الأفضل لها. فما هو «الحياد» والحالة هذه وما أنواعه والآثار القانونية المترتبة عليه؟

وفي إطار تحديد مفهوم «الحياد» بوجه عام، ينبغي تأكيد حقيقة أنّ إعلان الدولة لهذا الموقف يعدّ - كقاعدة عامّة - عملاً من أعمال السيادة الوطنية الخاصّة بكلّ دولة، تقرره وتختاره وفقاً لمّا يحقق مصالحها وأهدافها في علاقاتها الدوليّة، وإن كان من بين آثاره - من حيث النتيجة - ما يُقيد ممارستها لهذه السيادة في نطاق المفاعيل القانونية لإعلانه والالتزام به قِبَلَ الدولة أو الدول الأخرى.

وعلى العموم، فهناك نوع من «الحياد» يعدّ عملاً قانونياً وسياسياً صادراً عن الإرادة المنفردة للدولة، ولا يتوقف نفاذه أو إنتاج مفاعيله القانونية على رضا أو موافقة الدولة أو الدول الأخرى المعلن تجاهها، وهذا ما يسمى "الحياد" في الحرب أو «الحياد» المؤقت أو التطوعي.

وهناك نوع ثانٍ من «الحياد» ينطلق أساساً من رغبة الدولة المنفردة به، نظراً لأوضاع خاصّة بها. إذ تعدّ هذه الرغبة بمنزلة «إيجاب» أو إعلان صادر عنها بإرادتها المنفردة، ويحتاج إلى ترتيب آثاره إلى قبول الدول الأخرى المعنية بهذا الإعلان- (أو بالعكس «إيجاب» أو إعلان من قبل بعض الدول بأهمية وضع دولة ما تحت نظام «الحياد» الدائم مراعاة لوضعها ولاعتبارات مختلفة، وتقبل هذه الدولة هذا العرض فتعلن موافقتها على ذلك… حيث إنّ هذه الحالة «الحياد الدائم» لا يفرض على الدولة رغماً عنها) - فإذا صادف هذا «الإيجاب» قبولاً من الدول المعنية، عن طريق إبرام معاهدة دولية معها، فإنّه يتحوّل إلى ما يسمّى «الحياد التعاقد أو الحياد الدائم»، ويترتب عليه حقوقٌ والتزامات متبادلة بين طرفيه. 

وهناك نوع ثالث من «الحياد» نجم عن الأوضاع السياسية التي كانت سائدة في العلاقات الدوليّة، ولاسيّما في فترة الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، إذ رغبت بعض الدول خارج نطاق هذين المعسكرين وخشية الانزلاق في التجاذبات السياسيّة والإيديولوجية بينهما، في إعلان عدم انحيازها لكلا المعسكرين ووقوفها على الحياد بينهما فيما يسمى «عدم الانحياز» أو «الحياد" الإيجابي»، وذلك من خلال منظمة أو مؤتمر دولي يقوم على أساس هذا المبدأ، وتعزِّزه معاهدة دوليّة.

وهناك نوع رابع من الحياد»، يمكن أن يسمى «الحياد الموضوعي» الذي تختاره إحدى المنظمات الدوليّة غير الحكوميّة، وذلك تماشياً مع طبيعة عملها والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، كاللجنة الدوليّة للصليب الأحمر، التي أُعلنت في عقد تأسيسها أنّ من مبادئها الأساسية التي تعمل على أساسها مبدأ «الحياد» سعياً إلى الاحتفاظ بثقة جميع الدول على قدم المساواة، وهي لذلك تمتنع عن اتخاذ موقف مع طرف ضد الآخر في أثناء الحروب والمنازعات المسلّحة،  كما تحجم عن الدخول في المجادلات ذات الطابع السياسي أو العنصري أو الإيديولوجي أو الديني أو القانوني المتعلّق بشرعية الحرب.

وفيما يلي شرح لأهم هذه الأنواع:

أولاً- الحياد الحربي أو الحياد المؤقت:

يطلق اصطلاح «الحياد الحربي» تقليدياً على الدول التي لا تشارك في حرب قائمة بين الدول، أو بعبارة أخرى «الحياد»  هنا هو الموقف غير المنحاز الذي تتخذه الأطراف الأخرى تجاه المتحاربين، وهو موقف يلزمها بواجبات معينة ويمنحها حقوقاً إزاء هؤلاء المتحاربين. وبالمقابل يضمن لها الاحتفاظ بعلاقاتها السلمية مع كلا الطرفين المتحاربين على السواء. وتتخذ الدول هذا الموقف «الحياد» بين المتحاربين لتقديرها أنّه الموقف الأفضل لها، سياسياً وعسكرياً وقانونياً. وما دام موقفاً إرادياً منها فلها أن تخرج منه متى شاءت، إذا قدّرت أنّ حيادها في هذه الحرب سيصيبها بأضرار وخسائر كبيرة، أو أنّ الأسباب الداعية لحيادها قد زالت وانتفت أهميتها… إلخ، وهو على العموم مؤقت بدوام واستمرار حالة الحرب - قانونياً وفعلياً - بين الدولتين المتحاربتين، فإذا انتهت هذه الحرب انتهت حالة «الحياد» تلقائياً بانتفاء أسبابها، ولذلك سمّي بـ  «الحياد المؤقت».

فالذي كان يحدث عند قيام أيّ حرب بين دولتين أو أكثر، هو انقسام فعلي بين الدول، إلى دول متحاربة ودول غير متحاربة، وكان من حقّ غير المتحاربين إمّا أن ينضموا إلى أحد الأطراف، وهنا يكتسبون صفة المحاربين، وإمّا أن لا ينضموا إلى أحد، وهنا يتّصف موقفهم ب"الحياد". ويضفي القانون الدولي صفة قانونية على هذا الانقسام الواقعي، إذ يقوم بتنظيم حقوق وواجبات كلّ طرف، وعلى الخصوص تنظيم العلاقات بين الدول المتحاربة والدول غير المتحاربة.

ولم يكن «الحياد» بالمفهوم الذي استقرّ عليه الآن معروفاً، لا في العصور القديمة ولا الوسطى، فقد كان فقهاء القانون الدولي يشيرون إليه بعبارات تركز على مضمونه، كغرشيوس الذي عبّر عن ذلك بقوله: «الدولة التي تتخذ موقف الوسط في الحرب»، وغيره بعبارة «الدولة التي تقف ثابتة بين المتحاربين…»، ولذلك لم يتبلور مفهوم «الحياد» إلاّ عندما ساد في العالم مبدأ الاستقلال وتوطدت أركان العلاقات الدبلوماسية بين الدول. كما طرحت قضايا الحياد في الحرب البحرية على بساط البحث قبل سواها من أنواع الحياد الأخرى لأنّ سفن الدول المتحاربة كانت على تعامل مستمر مع الدول المحايدة.

وهكذا لم تستقر فكرة الحياد في وضعها القانوني إلاّ حديثاً بعد نزاع طويل بين المحاربين وغير المحاربين دام عدة قرون. فالدول المحاربة قديماً كانت ترى من حقها أن تطلب العون والمساعدة من جاراتها الدول الأخرى، والدول غير المحاربة لم تكن تتوانى في تقديم المساعدات للدولة الصديقة التي تشتبك في الحرب من دون أن تعد بذلك طرفاً فيها. كما أنّ القوات المقاتلة لم تكن تحجم عن الاعتداء على إقليم دولة غير مشتركة في الحرب أو على أموال رعاياها في البر أو البحر إذا وجدت في ذلك مصلحة أو غنماً لها، فلما تكررت مثل هذه الحوادث ارتفعت الأصوات بالشكوى من كلا الجانبين وسعى كلّ منهما إلى صون حقوقه قِبَلَ الآخر. وقد بدأ المحايدون في أواخر القرن الثامن عشر بإعلان عزمهم على الدفاع عن حيادهم بالقوة، وأَلفت لهذا الغرض كلّ من روسيا والنرويج والسويد والدنمارك سنة 1770 عصبة الحياد المسلّح لتواجه الاعتداءات التي قد تقع من فرنسا وإنجلترا وأسبانيا المشتبكة في حرب وقتئذ، ثمّ عقدت هذه الدول ذاتها، بانضمام بروسيا إليها سنة 1800، عصبة حياد مسلّح ثانية لتردّ الاعتداءات المتكررة التي كانت تقوم بها إنجلترا وفرنسا المتحاربتين على سفن المحايدين وتجارتهم، ثمّ أخذت بعد ذلك قواعد الحياد تستقر شيئاً فشيئاً، إذ عُقدت عدة اجتماعات أسفرت عن تصريح باريس البحري سنة 1856 الخاص بتجارة المحايدين في البحار، ثمّ دوّنت هذه القواعد في مؤتمر لاهاي لعام 1907، فقد خصصت الاتفاقية الخامسة منه لتحديد حقوق وواجبات المحاربين في الحرب البرية، والاتفاقية الثالثة عشرة تنظم هذه الحقوق والواجبات في الحرب البحرية.

1- واجبات والتزامات الدول المحايدة:

نظّمت اتفاقية لاهاي الخامسة لعام 1907 الواجبات التي يتعيّن على الدول المحايدة الالتزام بها، وفقاً لقواعد العرف الدولي. والفكرة الأساسية التي تدور حولها هذه الواجبات هي اعتبار الدولة المحايدة من «الغير» في الحرب القائمة، فلا تشترك فيها ولا تسري عليها القواعد التي نصت عليها. وبناء على ذلك فإنّ حالة «الحياد»  هنا تفرض على الدول المحايدة ثلاثة واجبات رئيسة تتمثّل في الآتي:

1"- واجب الامتناع، أي عدم المشاركة بصورة مباشرة أو غير مباشرة في الحرب القائمة.

2"- واجب عدم التحيّز لأحد الأطراف أو لإحدى الدول المتحاربة.

3"- واجب الدفاع عن الحياد.

(1)- واجب الامتناع: ومقتضاه التزام الدول المحايدة بعدم الاشتراك في الحرب الدائرة بين الدول المتحاربة، سواء بصورة إيجابية ومباشرة، كتقديم الأسلحة والذخائر والمساعدات العسكرية بمعناها الواسع لإحدى هذه الدول أو لهما معاً، بمقابل (البيع) أو من دون مقابل (هبة)، أو القيام  بعمليات أو أفعال إيجابية تستهدف تمكين القوات المسلّحة لإحدى هذه الدول المتحاربة، باستخدام إقليمها الوطني ومجالها الجوي لضرب الدولة الأخرى، ( كالسماح باستخدام المطارات والموانئ والقواعد العسكرية، أو إقامة محطات خاصّة للاتصال اللاسلكي أو التخابر… إلخ). ويشمل واجب الامتناع كذلك المشاركة السلبية غير المباشرة في العمليات العسكرية لمصلحة إحدى الدول المتحاربة ضد الأخرى، كالامتناع عن ضبط الحدود أو التساهل وغضّ الطرف عن أيّ نشاطات معادية يقوم بها أفراد أو جماعات انطلاقاً من أراضي الدولة المحايدة وتكون موجهة ضد إحدى الدول المتحاربة.

كما تلتزم الدول المحايدة بعدم تقديم ما يعرف بالخدمات غير "الحياد"ية، كإمداد أحد الأطراف المحاربة بمعلومات استخباراتية واستراتيجية عن الخطط أو التحركات العسكرية للطرف الآخر كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية أثناء حرب تشرين عام 1973 بتقديمها معلومات عسكرية لإسرائيل عن تحركات الجيشين المصري والسوري.

كما يشمل هذا الالتزام واجب الامتناع عن تقديم أيّ معونة مالية لأحد المتحاربين وبالمقابل على الدولة المحايدة أن تكفل بوسائلها الخاصّة - ووفقاً لمعيار الدولة المعتادة - منع رعاياها أو الموجودين فوق أراضيها من القيام بأيّ أعمال عسكرية عدائية تتعارض مع حيادها. ومن ثم فإذا قامت هذه الدولة بإجراءاتها المناسبة حيال هذا الالتزام فإنّها لا تتحمل المسؤولية القانونية الناجمة عن قيام هؤلاء الأفراد بأيّ أعمال تخلّ بواجب حياد الدولة تجاه الدول المتحاربة، وإنّما يتحمّلها هؤلاء الأفراد شخصياً، وواجب الدولة المحايدة الوحيد حيال هذا الموضوع هو في سحب الحماية عن هؤلاء الأشخاص وأن تترك المحارب المضرور يتصرّف قِبَلهم حماية لحقوقه ومصالحه.

(2)- واجب عدم التحيّز لإحدى الدول أو الأطراف المتحاربة: وهو الوجه الآخر لواجب الامتناع، ومقتضاه أن تعامل الدولة المحايدة الدول المتحاربة على قدم المساواة، خاصّة أنّ الدولة الأولى تحتفظ مع الثانية «المحاربة» بموجب حالة الحياد بعلاقاتها السلمية والدبلوماسية، وهذا يعني ألا تظهر الدولة المحايدة أيّ تعاطف رسمي أو إعلامي أو شعبي مع إحدى الدول المتحاربة ضد الأخرى، وإلاّ فقدت مركزها المحايد وعدّت دولة معادية. وعلى ذلك فإنّ قيام المظاهرات الشعبية داخل إقليم الدولة المحايدة، التي تدعو إلى وقف الحرب الدائرة بين الدول المتحاربة من دون تحميل أيّ منها مسؤولية البدء بالحرب أو تقرير عدم مشروعيتها لا يعد أمراً مخلاً بواجبات الحياد. كما يجب التوفيق هنا بين الاعتبارات الخاصّة باحترام حقوق الإنسان وحرياته في الرأي والتعبير وبين الاعتبارات التي يقوم عليها الحياد.

(3)- واجب الدفاع عن الحياد: ويتحصّل هذا الواجب بنتيجة دمج الواجبين المذكورين أعلاه، وذلك بالدفاع عنهما تجاه أيّ محاولة لانتهاك واجبات الدولة المحايدة - سواء صدر هذا الانتهاك من إحدى الدول المتحاربة أو من دول أخرى - وإعمالا ًلهذا الواجب فإنّه يتعيّن على الدولة المحايدة أن تقف بحزم ضد أيّ محاولة لاختراق إقليمها من القوات المتحاربة، وإذا دخلت قوات إلى إقليمها فعليها أن تجرّدها من سلاحها أو أن تستبقيها عندها حتّى نهاية الحرب، كما تعد الدولة المحايدة مسؤولة عن اتخاذ الإجراءات الضرورية من المنع والمراقبة، فإذا أخلّت بهذا الالتزام أو أخفقت في التصرّف في الوقت المناسب، ترتبت في مواجهتها المسؤولية الدوليّة لخرقها قواعد الحياد. وهذا يعني أنّ «الحياد» كحالة قانونية لا يعني نزع سلاح الدولة المحايدة، بل لا بدّ من تمكينها من الوسائل العسكرية المناسبة للدفاع عن استقلالها وحيادها، مما يعطيها الحق في اتخاذ جميع الإجراءات المناسبة لتحقيق هذا الهدف.

وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الواجبات المفروضة على الدول المحايدة تطبّق سواء أكانت الحرب برية أم بحرية أم جوية.  وإضافة إلى هذه الواجبات هناك واجب يتعلّق بالحرب البحرية، ألا وهو حظر نقل مهربات الحرب، إذ يجب التمييز بين جنسية السفينة وعائدية الحمولة أو البضاعة التي تحملها، فقد توجد بضاعة للعدو على سفينة محايدة والعكس بالعكس، وقد وضع إعلان باريس لعام 1856 قاعدتين مهمتين في هذا المجال:

أ- العلم المحايد يغطي بضائع العدو.

ب- العلم المعادي لا يؤدي إلى مصادرة بضائع المحايد.

وتختصر القاعدتان في عبارة واحدة، هي «العَلَمُ يغطي البضاعة ولا يصادرها».

2- حقوق الدول المحايدة:

يقابل قيام الدولة المحايدة بواجباتها التي أشير إليها، التزام الدول المتحاربة باحترام حيادها وما يتبعه من حقوق. ولذلك فإنّ للدولة المحايدة الحقّ بإلزام المحاربين بكلّ الوسائل الممكنة مراعاة هذه الحقوق واحترامها، بل عليها أن تَحول دون إخلالهم بها كلّما كان في هذا الإخلال تعارض مع الواجبات التي تفرضها عليها أصول الحياد، وبناء على ما جاء في اتفاقيتي لاهاي لعام 1907 الخاصتين بحقوق وواجبات الدول المحايدة، فإنّه لا يعد استعمال الدولة المحايدة لحقوقها المترتبة على صفة «الحياد» وما يتبعها من واجبات - كما أشير إلى ذلك آنفاً- فعلاً غير ودّي إزاء لدول المتحاربة، كما لا يعد لجوؤها إلى استخدام القوة لدفع أيّ اعتداء على حيادها عملاً من الأعمال العدائية، وذلك بصريح نصّ المادّة (26) من الاتفاقية الثالثة عشرة والمادة (10) من الاتفاقية الخامسة.

أمّا أهمّ حقوق الدول المحايدة تجاه الدول المتحاربة فتتمثل في التالي:

1"- احترام السلامة الإقليمية لأراضي الدولة المحايدة وسيادتها، وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية. ويعد هذا الالتزام من الالتزامات العامّة المفروضة على عاتق جميع الدول. ولكنه في هذه الحالة يعد التزاماً خاصاً أو مضاعفاً للدول المتحاربة تجاه الدول المحايدة نظراً لحالة الحرب الموجودة في هذا الظرف.

2"- احترام حرية علاقات الدول المحايدة التجارية بالدول المتحاربة، وذلك مع عدم الإخلال أو انتهاك قواعد الحياد الأساسية المتمثلة في الامتناع عن تقديم المساعدات العسكرية المباشرة أو غير المباشرة للدول المحايدة أو لإحداها أو نقل المهربات الحربية.

3"- احترام حقوق وحريات أشخاص رعايا المحايدين وأموالهم: فيمكن للدول المحايدة أن تطلب من الدول المتحاربة ضرورة الالتزام باحترام حقوق وحريات وممتلكات رعاياها المقيمين في أقاليمها أو إقليم تحتله إحدى هذه الدول المتحاربة. وعلى هذه الدول ألاّ تفرّق في المعاملة بين هؤلاء الرعايا وبين سكانها الوطنيين وألاّ تفرض عليهم من الأعباء والضرائب أو القيود المالية الاستثنائية إلاّ ما تقتضيه ظروف الحرب وضروراتها، بشرط أن تكون هذه الأعباء والقيود مفروضة في  الوقت نفسه على سكانها الأصليين (المواطنين). ويُلاحظ في هذا الصدد أنّ التزام الدولة المحاربة حقوق رعايا الدول المحايدة وممتلكاتهم في إقليمها إنّما يرتبط بالتزامهم جانب الحياد التام في تصرفاتهم وبخضوعهم لتشريعات الدولة التي تضعها لحالة الحرب. فإذا خرج الرعايا المحايدون عن حيادهم  جاز لسلطات الدولة المحاربة أن تتخذ بحقهم الإجراءات القانونية المناسبة.

كما يجوز للدولة المحاربة - إذا اقتضت ذلك متطلبات الدفاع الوطني والضرورات العسكرية - أن تستولي وتصادر ما تحتاج إليه مما يكون في إقليمها من أموال الرعايا المحايدين وممتلكاتهم بشرط أن تدفع التعويض المناسب عن هذه المصادرة.

بقيت الإشارة إلى أنّ قيام دولة ما بالاعتراف بالثوار الذين يخوضون حرباً ضد الحكومة القائمة في دولتهم أثار خلافاً فقهياً حول ترتيب النتائج القانونية عليه من جهة مراعاة الحياد بين الطرفين (الحكومة والثوار) أو عدم مراعاته، فذهب قسم من الفقه إلى أنّ هذا الاعتراف يرتّب التزاماً على الدولة المعترفة بمراعاة واجب الحياد وعدم التدخّل إلى جانب أحد الفريقين، مقابل التزام الثوار باحترام أرواح وأموال رعاياها على الإقليم الذي قامت فيه الثورة، وذهب قسم آخر من الفقه إلى عدّ الاعتراف الصادر من دولة أجنبية بالثوار لا ينتج منه التزام هذه الدولة باتباع واجبات الحياد، وأهمها الامتناع عن مساعدة دولة الأصل، بل لعل واجب الدولة الأجنبية في هذا المجال هو عدم مساعدة الثوار حرصاً على صلاتها بالدولة الأم.  

الحياد في ظل ميثاق الأمم المتحدة لعام 1945:

حظر ميثاق الأمم المتحدة في الفقرة الرابعة من مادته الثانية استخدام أو حتّى مجرد التهديد باستخدام القوة في العلاقات الدوليّة، وحفظت المادّة (51) منه حقّ الدفاع الشرعي عن النفس الفردي والجماعي في حالة وقوع العدوان. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا أمام هذه القاعدة العامّة بالحظر والاستثناء عليها باللجوء إلى القوة في حالة الدفاع الشرعي: هل هناك حياد مشروع أو معترف بشرعيته تجاه الحرب العدوانية، أي أن تعلن الدولة حيادها في حرب دائرة بين دولتين مع معرفتها المسبقة للطرف المعتدي؟

يمكن القول عطفاً على ما جاء به الميثاق في تحديد صلاحيات مجلس الأمن الدولي حيال هذه المسألة، إنّه إذا تمكن المجلس من تحديد الطرف المعتدي، وباشر بحقه إجراءاته العملية بموجب الفصل السابع من الميثاق فإنّ حالة الحياد المعلنة من قبل إحدى الدول حيال هذه الحرب تغدو غير مشروعة، وخاصة أنّه يجب على هذه الدولة - كغيرها من الدول- مساعدة مجلس الأمن الدولي على قمع العدوان وردع المعتدي. وإعلان حالة الحياد هنا لا تستقيم مع أداء هذا الواجب. أمّا إذا لم يستطع مجلس الأمن الدولي تحديد الطرف المعتدي - لسبب أو لآخر - فيبقى الحياد المعلن من إحدى الدول أو بعضها حيال هذه الحرب أمراً مشروعاً من حيث المبدأ، إلى أن يتمكن من تحديد المعتدي فيأخذ "الحياد" حكم الحالة الأولى.

وهناك حالة مفترضة بقيام الحرب بين دولتين من الدول الخمس الكبرى أو بين إحداها ودولة أخرى، إذ يتعطّل دور مجلس الأمن في تحديد الطرف المعتدي (إذا كان من بين هذه الدول الكبرى) نظراً لاستعمال أو احتمال استعمال حقّ النقض (الڤيتو) في هذا الموضوع، فيبقى الحياد في مثل هذه الحالة أمراً جائزاً.

ثانياً- الحياد الدائم

تقدّمت الإشارة إلى أنّ حالة  "الحياد" المؤقت  تتعلّق أساساً بوجود حالة حرب معلنة بين دولتين أو أكثر، وقيام دولة أو دول أخرى بإعلان حيادها تجاه هذه الدول المتحاربة، فهي إذاً حالة إرادية مؤقتة تدور وجوداً وعدماً مع حالة الحرب الدائرة بين الأطراف «الدول» المتحاربة. أمّا حالة «الحياد الدائم» فهي أكثر عمومية واستمرارية من الحالة الأولى؛ لأنّها لا تتعلّق بحالة حرب محددة زمانياً ومكانياً وبأطراف معروفة ومعينة حصراً، بل هي حالة أو مركز قانوني دائم تضع الدولة نفسها فيه بإرادتها الذاتية، وبالاتفاق مع الدول الأخرى، ويترتب عليه التزامات وحقوق متبادلة بينهما، إذ تلتزم الدولة المحايدة هنا بعدم الدخول في أيّ حرب ضد أيّ دولة أخرى، وعدم الانضمام إلى أو المشاركة في أيّ معاهدة سياسية أو عسكرية قد تدفعها إلى الدخول في حروب مع هذه الدول بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وذلك مقابل ضمان سلامتها الإقليمية وأمنها وعدم الاعتداء عليها. ونظام «الحياد الدائم» أوجدته السياسة الأوربية منذ عدة قرون وعززته في القرن التاسع عشر لتحقيق غرضين اثنين: الأول حماية الدول الضعيفة التي يعدّ وجودها ضرورياً للمحافظة على التوازن الدولي من اعتداء جيرانها الأقوياء ومحاولاتهم إدماجها فيهم، والثاني حماية السلم الدولي بإيجاد حاجز يفصل بين دولتين قويتين لتجنّب الاحتكاك أو التصادم بينهما.

ويمكن القول إنّ حالة  «الحياد الدائم»  تفرض على الدولة المحايدة بموجبه الالتزامات ذاتها التي تقع على عاتق الدولة المحايدة بموجب حالة الحياد المؤقت إزاء حرب محددة بين دولتين، مع ملاحظة أنّ هذه الالتزامات تمتد في حالة الحياد الدائم لتشمل كلّ حرب أو نزاع مسلّح يقع بعد إعلان هذه الحالة. وكذلك تشمل عدم الانضمام إلى أيّ معاهدة سياسية أو عسكرية تؤثر في وضعها كدولة محايدة حياداً دائماً وتخرجها منها إلى حالة المشاركة المباشرة أو غير المباشرة في نزاعات سياسية أو عسكرية ناتجة منها. ولذلك يعد الحياد الدائم عاملاً مؤثراً في ممارسة الدولة المحايدة لسيادتها الخارجية بهذا الخصوص، حتّى قيل إنّها والحالة هذه تمثل «دولة ذات سيادة مقيدة»، وهذا التقييد لا يؤدي إلى عدّها في حكم الدول ناقصة السيادة، وذلك أولاً لأنّ حالة الحياد الدائم لا تفرض على الدولة رغماً عنها، وإنّما تسعى إليها بمحض إرادتها أو لأنّها تقبلها لما فيها من مصلحة لها. وثانياً لأنّ القيود التي تترتب على الحياد الدائم لا تحرم الدولة من الحقوق التي تنصبّ عليها ولا تعطي ممارسة هذه الحقوق لغيرها، وإنّما تؤدي فقط إلى وقف استعمالها مادامت حالة الحياد قائمة. وهذا يعني أنّه يقع على عاتق الدول الأخرى إزاء الدولة المحايدة واجب حماية هذا «الحياد» واحترامه بعدم التدخّل في شؤونها الداخلية، وعدم الاعتداء عليها، أو الإتيان بأيّ عمل يخل بحيادها وحقوقها المترتبة عليه. وبالمقابل للدولة المحايدة حقّ الدفاع المشروع عن حيادها، وعن أراضيها واستقلالها، ضد كلّ ما يهدّد أمنها وسلامتها الإقليمية باللجوء إلى استخدام القوة فعلياً إذا تحققت شروطه، وبحقها في الاستعداد لهذه الحالة بالتسلّح وتجهيز جيشها وتدريبه حفظاً لأمنها وحدودها.

أمثلة عن بعض الدول المحايدة حياداً دائماً ومسألة انضمامها إلى المنظمات الدوليّة:

أ- سويسرا: ويرجع وضعها في حالة «الحياد» الدائم إلى المعاهدات التي أبرمتها المقاطعات السويسرية مع بعض الدول في أثناء الحروب الثلاثينية التي قامت بين الدول الكاثوليكية والدول البروتستنتية، والتي انتهت بمعاهدة وستفاليا 1648، ومن بعدها معاهدات أخرى قررت أن تكون المقاطعات السويسرية، وبعضها بروتستنتي، والآخر الكاثوليكي، في حالة حياد وصلح دائمين مع هذه الدول ثمّ أكّد مؤتمر ڤيينا 1815 حالة الحياد هذه والتزمت الدول الموقّعة عليه بحماية وضمان عدم الاعتداء على سويسرا. ثمّ أعادت معاهدة ڤرساي عام 1919 - غداة الحرب العالمية الأولى - تأكيد حياد سويسرا الدائم. وقد فرضت هذه الحالة صعوبات شديدة عند دخولها عضواً في عصبة الأمم، وكان حائلاً دون انضمامها إلى هيئة الأمم المتحدة، ومرجع هذا تقديرها أنّ واجبات الحياد تتنافى مع التزام المساهمة في الإجراءات العسكرية المشتركة التي تمّ النصّ عليها في عهد عصبة الأمم أولاً وفي ميثاق الأمم المتحدة ثانياً.

ولا تزال سويسرا حتّى الآن على حالة الحياد، وتحترم الدول حيادها هذا وتلتزم به التزاماً كاملاً على الرغم من انضمامها مؤخراً إلى هيئة الأمم المتحدة.

ب- النمسا: وقعت النمسا تحت الاحتلال الألماني النازي في بداية الحرب العالمية الثانية، ثمّ في نهايتها حتّى عام 1955 تحت احتلال دول الحلفاء المنتصرة فيها، وخشية التعرّض لحروب ونزاعات مستقبلية، خاصّة أنّ موقعها الجغرافي في قلب أوربا يهدّد استقرارها كونها تقع على حدود النزاعات السياسية بين الكتلتين الغربيّة والشرقيّة، ونتيجة لهذا الواقع، فقد بادرت النمسا إلى إعلان رغبتها بالحياد الدائم، بما يضمن سلامتها الإقليمية وسيادتها الوطنية، مقابل عدم دخولها في أيّ تحالف عسكري وتعهدها بعدم إقامة أيّ قواعد عسكرية أجنبية فوق أراضيها. وتمّ ذلك فعلاً بإبرام معاهدة في 15/5/1955 بينها وبين الدول الكبرى (الولايات المتحدة - الاتحاد السوڤييتي - إنجلترا - فرنسا) أعلنت بموجبه حالة الحياد الدائم للنمسا، ثمّ عزز الدستور النمساوي الصادر في 26/10/1955 هذا الحياد والالتزامات المترتبة عليه. ولكن يُلاحظ أنّ النمسا أصبحت عضواً كامل العضوية في الأمم المتحدة.

جـ- بلجيكا: وتقرّر وضعها في الحياد وفقاً لبروتوكول لندن 1831، ثمّ أنهت معاهدة ڤرساي لعام 1919 هذا الحياد بناء على رغبتها الذاتية.

د- لوكسمبورغ: تقرر بموجب معاهدة لندن عام 1867، ثمّ أنهي  بموجب معاهدة ڤرساي لعام 1919.

هـ- لاوس: وضعت لاوس في حالة حياد بهدف تحقيق نوع من التوازن السياسي داخل البلاد بين مختلف فئات الشعب المنقسم بين الإيديولوجيتين الشرقيّة والغربيّة، وفي محاولة لتخفيف حدة الصراع الأمريكي- السوڤييتي في منطقة جنوب شرق آسيا. فقد قرّر مؤتمر جنيڤ 1961-1962 إعلان حياد دولة لاوس. لكن ما لبث أن انتهى ذلك بقيام حرب داخلية فيها قسمتها إلى ثلاث مناطق مختلفة.

و- الحياد الخاص بمناطق محددة: ويتقرر ذلك لاعتبارات تتعلّق بالأمن الدولي أو بمصالح الجماعة الدوليّة بوضع جزء محدد ومحدود من إقليم الدولة أو منطقة حدودية متاخمة لدولتين أو أكثر في حالة الحياد، فيحرم على الدولة صاحبة الإقليم أو الدول التي تشترك في ملكيته القيام بأيّ عمل عسكري فيه أو إقامة قواعد عسكرية فوقه.

ويطبق هذا النظام عادة إمّا على مناطق متاخمة لحدود دولتين تجنّباً لوقوع اصطدامات بينهما، كالمنطقة المتاخمة  للحدود السويدية والنرويجية التي وضعتها معاهدة استوكهولم لعام 1905 والتي أقرت فيها بتطبيق جميع المزايا المقرّرة للحياد الدائم عليها، وكذلك ما قررته معاهدة تالارا لعام 1941 بين البيرو والإكوادور من وضع منطقة محايدة بينهما توضع تحت إشراف الولايات المتحدة الأمريكية والأرجنتين والبرازيل لتجنّب تصادم القوات العسكرية لكلّ من الدولتين المعنيتين في المستقبل.

كما يطبّق هذا النظام على مناطق محددة تعد طرقاً عامّة للمواصلات الدوليّة للمحافظة على سلامة هذه المواصلات زمني السلم والحرب معاً، مثل ما تقرّر في معاهدة باريس سنة 1856 حول البحر الأسود. ومما تجدر ملاحظته هنا أنّ مؤتمر لندن الذي انعقد عام 1871 بين الدول الأوربية قد أصدر قراراً شديد اللهجة بلوم روسيا لمخالفتها معاهدة باريس الخاصّة بحياد البحر الأسود.

وكذلك ما قررته معاهدة القسطنطينية سنة 1888 حول قناة السويس الواقعة في الإقليم المصري، ومعاهدة هاي بونسفوت سنة 1901 حول قناة بَنَما، ومعاهدة لوزان لعام 1923 حول المضائق التركية.

ومما يجب ذكره هنا أنّ تقرير نظام الحياد الدائم  لمثل هذه المناطق أو ما يماثلها في إقليم دولة ما على الوجه المتقدّم ذكره لا يعدّ انتقاصاً من سيادتها على هذه المنطقة؛ لأنّ الالتزامات التي يفرضها هذا النظام على الدولة تقابلها التزامات من جانب الدول الأخرى، ولأنّ هذه الالتزامات أو تلك تقرر لمصلحة الدول جميعاً، ولا يترتب عليها حقّ خاص لدولة دون غيرها في المنطقة المحايدة.

ثالثاً- الحياد الإيجابي (عدم الانحياز)

انبثقت إيديولوجية عدم الانحياز في صورتها الكاملة من مؤتمر باندونغ بإندونيسيا في نيسان 1955، وهو المؤتمر الذي انعقد بحضور تسع وعشرين دولة إفريقية وآسيوية، وكان الهدف منه إرساء دعائم سياسات عدم الانحياز لأيّ من المعسكرين الشرقي (الشيوعي) أو الغربي (الليبرالي الرأسمالي)، وبلورة إطار نظري عام لها يضمن للدول التي تتقيد به سلوكاً مستقلاً ومتوازناً في العلاقات الدوليّة. وقد أقرّت معظم الدول المشتركة في مؤتمر باندونغ بمبدأ (عدم الانحياز) لأنّه كان يمثل في رأيها ضرورة قصوى يقتضيها الدفاع عن السلم العالمي في مواجهة أوضاع الصراع والانقسام بين الدول الكبرى. وقد دافع الزعيم الهندي نهرو عن هذا المذهب السياسي دفاعاً قوياً أبرز فيه مدى الإهانة التي تتعرض لها أيّ دولة إفريقية أو آسيوية تقبل أن تدور في فلك إحدى الكتلتين المتصارعتين. وكان التطور النوعي الكبير في هذه الحركة هو دخول يوغوسلافيا عضواً فيها عام 1956. وبذلك أصبحت حركة عدم الانحياز غير مقصورة على الدول التي تحررت من الاستعمار في آسيا وإفريقيا، بل تشمل أيّ دولة مهما كان نظامها السياسي والاقتصادي والعقائدي.

وقد حدد مؤتمر بلغراد/أيلول 1961 المعايير الأساسية لعدّ سياسة دولة ما منحازة أو غير منحازة وتتمثّل فيما يلي:

أ- أن تنتهج سياسة مستقلة قائمة على تعايش الدول ذات النظم السياسية والاجتماعية المختلفة.

ب- ألا تكون عضواً في حلف عسكري جماعي تأسس في نطاق الصراع بين الدول الكبرى.

جـ- ألا تكون قد سمحت لدولة أجنبية بإقامة قواعد عسكرية في إقليمها بمحض إرادتها.

د- أن تؤيد وتساند حركات التحرير والاستقلال الوطني.

وهكذا فإنّ الحياد الإيجابي (عدم الانحياز) يعد نظرية سياسية لا قانونية، وبموجبها ترفض دولة ما الانحياز إلى معسكر من المعسكرات الدوليّة، وتصرّ على اتباع سياسة حرة تمليها المصلحة الوطنية لهذه الدولة بغض النظر عن الامتيازات الأخرى.

ومما يجدر ذكره هنا أنّ فعالية حركة عدم الانحياز «الحياد الإيجابي» ارتبطت عضوياً ووظيفياً بظروف الصراع العقائدي بين المعسكرين الشرقي والغربي والاستقطاب السياسي والإيديولوجي بينهما في ظل الحرب الباردة. ولكن مع سقوط جدار برلين 1989 وانهيار المعسكر الشرقي بدأت تضعف فعاليتها شيئاً فشيئاً حتّى أضحت  «حركة فلكلورية»  لا حول لها ولا قوة من الناحية الفعلية.

مراجع للاستزادة:

- إسماعيل صبري مقلد، العلاقات السياسية الدوليّة، دراسة في الأصول والنظريات (المكتبة الأكاديمية، القاهرة 1991).

- جعفر عبد السلام، الوسيط في القانون الدولي العام، الجزء الأول (مطبعة السعادة، القاهرة، بلا تاريخ).

- صلاح الدين عامر، مقدمة لدراسة القانون الدولي العام (دار النهضة العربيّة، مطبعة جامعة القاهرة 2007).

- علي صادق أبو هيف، القانون الدولي العام، الطبعة 11 (دار المعارف، الإسكندرية، بلا تاريخ).

- محمد عزيز شكري، مدخل إلى القانون الدولي العام، الطبعة العاشرة (جامعة دمشق 2005- 2006).

-  مفيد شهاب، القانون الدولي العام - المصادر والأشخاص (دار النهضة العربيّة، القاهرة 1991).

 


التصنيف : القانون الدولي
النوع : القانون الدولي
المجلد: المجلد الثالث: الجرف القاري ــ الرسم والنماذج الصناعية
رقم الصفحة ضمن المجلد : 356
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 549
الكل : 31688192
اليوم : 42774