logo

logo

logo

logo

logo

المرافق والمؤسسات العامة

مرافق وموسسات عامه

public facilities and institutions - services et établissements publics

 المرافق والمؤسسات العامة

المرافق والمؤسسات العامة

مهند نوح

تعريف المرفق العام  
ظهور معيار المرفق العام إنشاء المرافق العامة
أزمة معيار المرفق العام المبادئ التي تحكم سير المرافق العامة
أنوع المرافق العامة طرق إدارة المرافق العامة
معيار تمييز المرافق العامة الانتفاع من المرافق العامة
 

أولاً ـ تعريف المرفق العام:

إن مفهوم المرفق العام يعد مفهوما حديثاً فهو لم يظهر إلا عند ظهور الحاجة إلى ضرورة وضع معايير موضوعية للقانون الإداري.

والمرفق العام Le service public هو نشاط تمارسه جماعة عامة بهدف إشباع حاجة من الحاجات التي تحقق المصلحة العامة، ومن ثم فإن لهذا التعريف مظهرين: فالمرفق العام هو نشاط أو خدمة تقوم بها السلطات العامة، مثل الصحة والتعليم والأمن، وهو ما يطلق عليه المفهوم المادي Matérielle للمرفق العام، وكذلك فإن للمرفق العام مفهوماً آخر ذا طابع شكلي أو عضوي Organique يعني أن الخدمة أو النشاط موضوع المرفق العام يجب أن يتم من جانب جهاز إداري، فحين يجري الحديث عن مرفق الدفاع أو مرفق الصحة أو التعليم، فإنه يعني النشاط نفسه من حيث مضمونه، كما يمكن أن يعني الجهاز الذي يتولى القيام بهذا النشاط.

والواقع أن المعنيين السابقين للمرفق العام (العضوي والمادي)، يلتقيان في كثير من الحالات، فالمرافق العامة بالمعنى العضوي، هي في الوقت نفسه مرافق عامة بالمعنى الموضوعي أو المادي، ويحدث ذلك عندما ترى الإدارة إشباع الحاجات العامة عن طريق منظمات عامة يتم إنشاؤها لهذا الغرض. لذلك عرّف العلامة «ليون دوجي» المرافق العامة بأنها مجموعة التزامات يجب أن يؤديها الحكام تجاه المحكومين.

وعلى كل حال، يتبين من خلال التعريف المطروح للمرفق العام ضرورة توافر ثلاثة عناصر للقول بوجوده:

يجب أن يكون المرفق العام نشاطاً منظماً، ويشكل مشروعاً، وهذا المشروع تمارسه مجموعة بشرية مستعينة بوسائل مادية وفنية وقانونية لتحقيق غرض معين. ومن ثم فإن هذا المشروع يتضمن العناصر التالية:

أ ـ مجموعة بشرية تتألف من هيئة توجيهية أو تنظيمية تتولى التوجيه العام للنشاط ووضع الخطط ورسم الخطوط العريضة للعمل، وتقوم بالإشراف والرقابة على تنفيذه، وهيئة تنفيذية تتعين وظيفتها في نقل قرارات وآراء وخطط الهيئة التوجيهية من حيز القول والتصميم إلى حيز العمل والتنفيذ. وهناك الموظفون والعمال الذين يأتمرون بأوامر الهيئة التنفيذية، ويقومون بالعمل ويمارسون النشاط الذي يستهدفه المشروع.

ب ـ الوسائل القانونية والفنية والمادية: وتتجلى الوسائل القانونية التي تستخدمها المرافق العامة فيما يسمى بأساليب السلطة العامة، التي يعطيها القانون للإدارة على سبيل الحصر، ويكون من نتائج منحها جعل الإدارة في مركز قانوني أعلى من الأفراد الذين تتعامل معهم. وعلى الإدارة أن تتقيد بالشروط التي وضعها القانون لممارسة هذه الامتيازات، وذلك مثل السلطة التقديرية وإصدار القرارات التنفيذية، والاستملاك.

وأما الوسائل الفنية فتتمثل في الكادر البشري المؤهل فنياً، وفي التجهيزات الفنية اللازمة للمشروع، وهذه الوسائل الفنية يختارها المشروع بما يتفق مع طبيعته، ويلائم الغرض الذي يستهدفه.

وتتمثل الوسائل المادية في المتاع وهو مجموع ما يلزم المشروع من أدوات وأموال عقارية ومنقولة لازمة لسيره، وتعد النقود في النهاية أهم العناصر المادية، لأنها لازمة للصرف على كل العناصر السابقة، لذلك فإن النقود هي عصب المشروع الذي يتكون منه المرفق العام، لذلك قيل إن الإدارة معناها الصرف Administrer c’est dépenser، فكل مشروع يستلزم لإدارته تأمين الإيرادات التي يحتاج إليها، وتدبير وسائل الصرف وأوجهه.

2ـ استهداف النفع العام: يمكن القول إن فكرة الجماعية هي التي تشكل المصدر الثر لفكرة المرفق العام، وذلك بهدف تحقيق الجماعية والتعدد La pluralité et la diversité، إذ يستهدف المرفق العام تحقيق النفع العام عن طريق أداء الخدمة العامة، فالغرض من إنشائه هو إشباع الحاجات العامة للأفراد، كحاجتهم إلى الأمن الداخلي، وتحقيق العدالة بينهم، وغير ذلك من الحاجات التي تتنوع وتتطور مع الزمن، وتختلف من مكان لآخر، وكلما تعددت وازدادت الحاجات الخاصة للأفراد تنوعت وتشعبت الحاجات العامة، مما يدفع الدولة إلى إنشاء أنواع جديدة كثيرة من المرافق العامة لإشباع تلك الحاجات المستجدة، وهذا يعني من حيث النتيجة أن تعقد المجتمع يبرز حاجات مصلحة جماعية تكون أهدافاً لمرافق عامة جديدة.

 ويعد عنصر النفع العام أحد عوامل تمييز المشاريع التي تنهض بعبء المرافق العامة من المشاريع الخاصة التي لا تستهدف من حيث الأصل إلا النفع الخاص، فإذا لم يتوافر هذا العنصر المهم والضروري في المرفق فقد عموميته، وأصبح من المشاريع الخاصة، ولو كانت الدولة هي التي أنشأته أو أسهمت في إنشائه. وإن أوجه النفع العام التي تقدمها المرافق العامة يمكن أن تنطوي تحت ثلاثة أنواع، فهناك من جهة أوجه النفع العام المادية وهي الأكثر شيوعاً (مثل الصحة والأمن..) وهناك من جهة أخرى أوجه النفع العام المعنوية (مثل الثقافة والتربية)، وهناك من جهة ثالثة أوجه النفع العام المالية مثل (الضمان الاجتماعي والقروض والإسكان المخفض …).

وإن ما يقرر طبيعة المصلحة العامة التي ينشأ المرفق العام لأجل إشباعها هو قرار السلطات العامة الذي تحدد بموجبه أن نشاطاً ما يشكل رسالة لمرفق عام، وذلك وفقاً لظروف الواقع المختلفة، وهذا ما يفرض على الحكام أن يراعوا ما يطلق عليه المرافق العامة بحكم طبيعتها Les services publics par leur nature، وهي تلك المرافق التي تبدو ضرورية ومشروعة في لحظة معينة من حياة مجتمع ما، وفقاً للرأي العام فيه. لذلك تعد المرافق العامة في الوقت الحاضر عنصراً ضرورياً لتوفير حد أدنى من التضامن والسلام الاجتماعيين.

وإذا كان هدف المنفعة العامة يقتضي أن لا يكون هدف هذه المرافق تحقيق الربح، إلا أن تحقيق بعض المرافق العامة للربح لا يتعارض مع كونها مرافق عامة، مادام هدفها الحقيقي يظل تحقيق النفع العام لا الربح، لذلك تعد المرافق التجارية والصناعية مرافق عامة، وإن كانت تحقق ربحاً، ذلك لأن هذا الربح ليس هو الهدف الأساسي لنشاطها، وإنما هو أمر تمليه طبيعتها التجارية والصناعية، إذ تنشأ أساساً بقصد إشباع حاجة عامة، وتحقيق نفع عام للجمهور.

كذلك لا ينتفي وجود عنصر النفع العام إذا كانت الخدمات التي يقدمها المرفق مأجورة وغير مجانية، مثل الرسوم الجامعية التي تدفع لمرفق التعليم الجامعي، والرسوم القضائية التي تدفع عند اقتضاء خدمات العدالة من المحاكم، وذلك لأن مثل هذه الرسوم لا تفرض في سبيل تحقيق الربح، إنما في سبيل تنظيم حق الانتفاع من خدمات المرافق العامة، أو الإسهام في جزء من تكاليفها، أو لأجل تنفيذ سياسة مالية تنتهجها الدولة في توزيعها لأعباء المرافق العامة على الجمهور.

3ـ المرفق العام يجب أن تضطلع به السلطة العامة: ويعد هذا الركن أهم أركان المرفق العام، لأنه العنصر المميز له من المشروعات الخاصة بصورة رئيسية، ذلك لأن الركنين السابقين يمكن أن يتوافرا للمرافق العامة والمشاريع الخاصة على حد سواء، فكثير من المشاريع الأخيرة تهدف إلى تحقيق النفع العام شأنها في ذلك شأن المرافق العامة، ولكن تسمى تمييزاً لها، بالمشروعات الخاصة ذات النفع العام، ولكن تظل مختلفة عن المرافق العامة لافتقارها إلى العنصر الثالث وهو اضطلاع السلطات العامة بعبئها، ويشمل مفهوم خضوع المرفق العام للسلطات العامة سيطرة هذه الأخيرة عليه، وتوليها لإدارته، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، أي إن السلطة العامة هي مناط وأساس المشروع، فهي المتحكمة في مصيره إنشاءً وإلغاءً، وهي التي تحدد قواعد تنظيمه وسيره.

ثانياً ـ ظهور معيار المرفق العام:

لقد طرح القضاء الإداري الفرنسي معيار المرفق العام لتطبيق القانون الإداري، وذلك ابتداء من سنة 1873 بمناسبة قضية بلانكو Blanco التي تتلخص وقائعها في أن عربة صغيرة تتبع مصنعاً حكومياً للتبغ قد صدمت طفلة فأوقعتها وجرحتها، فرفع والد الطفلة الدعوى إلى جهة القضاء العادي مطالباً بالتعويض استناداً إلى أحكام المسؤولية التقصيرية المدنية، وقد كان تطبيق المعيار القديم الخاص بالتفريق بين أعمال السلطة وأعمال الإدارة العادية من شأنه تقرير اختصاص المحاكم العادية، غير أن محكمة التنازع أقرت مجلس الدولة على اختصاصه في نظر المنازعة تأسيساً على فكرة المرفق العام، لأن النشاط الضار كان متصلاً بنشاط مرفق عام (مرفق صناعة التبغ)، ومن ثم يكون القضاء الإداري مختصاً والقانون الإداري واجب التطبيق إذا كان النزاع متعلقاً بتنظيم أو تسيير مرفق من المرافق العامة، وسواء أكانت الإدارة تتصرف تصرفاً عادياً أم باعتبارها صاحبة سلطة.

ويلاحظ أن حكم بلانكو لم يثر انتباه الفقه إلا بعد ما يزيد على ثلاثين سنة من تاريخ صدوره، فقد ظل فقه القرن التاسع عشر، حتى أوائل القرن العشرين حصراً على المعيار القديم الذي يفرق بين أعمال السلطة وأعمال الإدارة العادية.

وبعد صدور حكم بلانكو توالت أحكام القضاء الإداري الفرنسي التي تتبنى مفهوم المرفق العام معياراً لتطبيق القانون الإداري ولاختصاص القضاء الإداري، وكان من أهم هذه الأحكام حكم تيرييه Terrier الذي صدر في 6/2/1903، وتتلخص وقائع النزاع في هذه القضية أن أحد المجالس البلدية أعلن عن مكافأة تمنح لكل شخص يشارك في الحملة التي قامت بها البلدية لمكافحة الأفاعي التي انتشرت في المدينة، ويقوم باصطياد أفعى، وحدث أن السيد تيرييه تقدم إلى المجلس البلدي مطالباً بالمكافأة التي تم الإعلان عنها، ففوجئ برفض المجلس تسليمه المكافأة بحجة نفاذ الاعتماد المخصص لذلك، عندئذ بادر السيد المذكور إلى مخاصمة المجلس أمام القضاء الإداري، فأعلن مجلس الدولة الفرنسي اختصاصه في نظر الدعوى، نظراً لتعلق النزاع بمرفق عام هو مرفق الصحة في المدينة، وقد أكد مفوض الحكومة روميو Romieu أهمية المرفق العام معياراً لتطبيق القانون الإداري، ولاختصاص القضاء الإداري، إذ لاحظ: «أن كل ما يتعلق بتنظيم وتسيير مرافق عامة، سواء أكانت وطنية أم محلية إنما تشكل عملية Opération administrative التي تقع بطبيعتها ضمن مجال القضاء الإداري» … (تقرير المفوض روميو في قضية تيريييه، المنشور في سيريه، 1903، ج3، ص25.).

ويلاحظ في هذا النطاق أن الأهمية التي حملها الحكم المذكور تتمثل في تطبيق معيار المرفق العام على نحو شامل، فيطبق على المنازعات التي تكون الدولة والجماعات المحلية طرفاً فيها على حد السواء.

وبتاريخ 29/2/1908 أصدر القضاء الإداري الفرنسي حكمه في قضية فيتري، وأقر هذا الاتجاه، فطبق المعيار على المرافق العامة المحلية، وفي 4/3/1910 صدر حكم عن مجلس الدولة الفرنسي في قضية تيرون Thérond، الذي سار في الاتجاه نفسه أيضاً، وبعد شيء من المقاومة سارت المحاكم المدنية في هذا الاتجاه.

وعلى الرغم من هذا الموقف الواضح للقضاء الإداري الفرنسي من معيار المرفق العام منذ القرن التاسع عشر، إلا أن الفقه لم يستخدمه معياراً لتحديد نطاق تطبيق القانون الإداري إلا في القرن العشرين، فإنه لم ينتبه (أي الفقه) إلى معيار المرفق العام إلا بعد أكثر من ثلاثين سنة، حين قرر العميد ليون دوجي في كتابه عن تحولات القانون العام، أن مبدأ المرفق العام يحتل مكان الصدارة، ويعتبر أساس القانون العام، كما رأى العميد دوجي أيضاً أن الدولة ليست إلا كتلة من المرافق العامة المنظمة الخاضعة لرقابة الحكومة، ومن ثم فإنه يتحدد نطاق القانون الإداري، وتبرر قواعده المختلفة عن قواعد القانون المدني على أساس الأهداف التي تسعى الدولة إلى تحقيقها، والتي تتمثل في أداء خدمات عامة للجمهور، أي القيام بتسيير المرافق العامة، وبذلك يغدو المرفق العام جزءاً من البناء القانوني والسياسي للدولة

وقد كان طبيعياً أن تحظى نظرية دوجي بمكانة بارزة، وبتأييد شبه إجماعي من الفقه الفرنسي، وذلك نظراً للمكانة العظيمة التي يحتلها دوجي في الفقه، وللرغبة الملحة لدى الفقهاء في العثور على فكرة واحدة جامعة ترتد إليها مبادئ القانون الإداري، وتصلح معياراً لتحديد مجالات انطباقه، لذلك نشأت نظرية المرفق العام، فكان الأستاذ جيز من أكبر دعاتها، إذ عد المرفق العام الفكرة الرئيسية في القانون العام، وكذلك الأستاذ بونار الذي أقر صراحة بأن أساس تطبيق القانون الإداري إنما يتمثل في المرفق العام.

ثالثا ًـ أزمة معيار المرفق العام:

لقد كانت فكرة المرفق العام من حيث كونها معياراً لتحديد مجال انطباق القانون الإداري، مثل سائر الأفكار البشرية عرضة للنقد الشديد، وقد تلخص هذا النقد فيما يلي:

1ـ معيار المرفق العام معيار قاصر: وذلك لأن النشاط الإداري لا يقتصر على إدارة المرافق العامة، إنما يتضمن أيضاً ما يعرف بالضبط الإداري الذي تقوم به الإدارة في سبيل تأمين النظام العام، ومن ثم فإن تعريف القانون الإداري بأنه مجرد قانون للمرافق العامة، يشوبه القصور، لأنه أغفل جانباً مهماً من جوانب النشاط الإداري المتمثل في النشاط الضبطي.

وإضافة إلى ما تقدم، فقد رأى جانب من الفقه أن فكرة المرفق العام تشير دوماً إلى ضرورة وجود خدمة يقدمها المرفق للجمهور، غير أن بعض صور النشاط الإداري لا تتضمن مثل هذه الخدمة، إنما تقتصر على أن تهيئ للإدارة الوسائل أو الأموال التي تغطي بها نفقاتها العامة، وذلك مثل فرض الضرائب، وعقد القروض.

ومما يدل على قصور معيار المرفق العام أيضاً، كما يرى جانب من الفقه، أن هناك أمثلة لبعض المنازعات التي خضعت للقضاء الإداري، وطبق عليها القانون الإداري، من دون أن تتعلق بنشاط مرفق عام، ومن أمثلة ذلك حكم قرية مونسجير الصادر عن مجلس الدولة الفرنسي في 10/5/1921، الذي عدّ أعمال الصيانة المتعلقة بإحدى الكنائس من قبيل الأشغال العامة، وأن الإدارة تكون مسؤولة عن الحوادث الناجمة عن هذه الأشغال، ويكون القضاء الإداري مختصاً بنظر المنازعات المتعلقة بها، لأن الأشغال العامة تخضع لأحكام القانون الإداري، وذلك على الرغم من صدور قانون 9/12/1905 الذي فصل الكنيسة عن الدولة، مما ترتب عليه خروج ممارسة الشعائر الدينية في الكنائس من نطاق المرافق العامة.

2ـ معيار المرفق العام شديد الاتساع: بدا معيار المرفق العام فضفاضاً، لأن القضاء فرق منذ البداية بين نوعين من النشاط المرفقي، فأوضح المفوض روميو ضمن تقريره الشهير في قضية تيرييه سالفة الذكر، أن الإدارة عند ممارستها لنشاط المرفق العام تكون قد استخدمت أسلوب الإدارة العامة، ويطبق عندئذ القانون الإداري، أما حين تلجأ إلى الإدارة الخاصة، فإن قواعد القانون الخاص هي التي تكون واجبة التطبيق، وقد بدأ ذلك ينتج ثماره في الواقع منذ ظهور المرافق العامة الاقتصادية التي تخضع في نشاطها عموماً للقانون الخاص، مما يعني انطباق قواعد هذا القانون الأخير على العلاقات القانونية الناجمة عن أنشطة جميع المرافق العامة ذات الطابع الاقتصادي كما سيأتي في موضعه.

3ـ ولعل أبرز ما يؤخذ على معيار المرفق العام أن أنصاره يتجاهلون تماماً فكرة السلطة العامة، وهي فكرة حقيقية، ومنطقية لا شك فيها، لذلك لجأ كثيرون من أنصار معيار المرفق العام إلى محاولة تلافي أوجه النقد، والعيوب التي وجهت إلى نظرية المرفق العام، بالقول إن وجود المرفق العام، وإن كان شرطاً ضرورياً لتطبيق القانون الإداري، إلا أنه ليس دائماً الشرط الوحيد والكافي لذلك، ،من ثم فإنه يجب أن يدار المرفق العام بأسلوب القانون العام، أي استخدام أساليب السلطة العامة في نشاط المرفق العام، ويلاحظ أن القضاء الإداري الفرنسي قد سار في النهاية في هذا الاتجاه، إذ قررت محكمة التنازع: «أن النشاط الذي يحقق المصلحة العامة، دون استخدام أساليب السلطة العامة لا يعدّ مرفقاً عاماً».

وتطبيقاً لما تقدم، فإن مجلس الدولة الفرنسي قرر بوضوح أن اجتماع عنصري المرفق العام واستخدام أساليب السلطة العامة من شأنه أن يجعل القانون الإداري واجب التطبيق.

وإذ استقر القضاء الفرنسي على هذه الحال، فإن المرفق العام ـ إضافة إلى كونه معياراً جوهرياً لتطبيق القانون الإداري، وإن أضيفت إليه معايير أخرى ـ يظل مفهوماً محورياً في نطاق القانون الإداري المعاصر، الذي ترتد إليه معظم نظريات هذا الفرع من القانون.

وإن هذا الرأي الأخير هو الأرجح لأن المرفق العام هو المفهوم الجوهري عند تفسير وتبرير معظم الأحكام التي يقوم عليها القانون الإداري، فالخدمة العامة التي يقوم بتقديمها المرفق العام إنما تمثل الوظيفة الرئيسية للإدارة، لذلك كان من الطبيعي أن تتعلق قواعد القانون الإداري بمقتضيات هذه الخدمة وكيفياتها، ولا تعدّ أساليب السلطة العامة إلا عنصراً تابعاً في هذا المجال، فهي لم تعط للإدارة إلا في سبيل تأمين الأوضاع الأفضل لسير المرفق العام، وهي من ثم توجد بالتبعية لوجود هذا الأخير، لذلك فإن استخدام أساليب السلطة العامة يكشف عن طرح المرفق العام وراء القاعدة القانونية الإدارية، ولا ينفيه أبداً.

رابعاً ـ أنوع المرافق العامة:

سادت في القرن التاسع عشر فكرة مفادها أن الأنشطة التجارية والصناعية لا يمكن أن تشكل مرافق عامة، إنما يجب أن تترك للمبادرة الفردية فقط. إن هذه الفكرة كانت مؤسسة على مقتضيات الحرية الاقتصادية التي تتطلب بقاء هذه الأنشطة التجارية والصناعية ضمن نطاق المبادرة الخاصة، وذلك لأن القطاع الخاص ونشاط الأفراد أكثر تلبية لمقتضيات الحياة التجارية والصناعية من القطاع العام.

ولكن بعيد الحرب العالمية الأولى، بدأت الدولة تتدخل في المجالات التي كانت مقتصرة على الأفراد، وذلك لمعالجة نتائج الحرب، وإعادة البناء، فكان أن صدر حكم إيلوكا، الذي فرق القضاء الإداري فيه ـ للمرة الأولىـ بين أنشطة الإدارة التي تكون من طبيعة خاصة Activités qui sont de nature privée، والأنشطة التي تكون بطبيعتها من اختصاص الدولة.

وبعد عشرة أعوام تقريباً، صدر حكم عن مجلس الدولة الفرنسي بخصوص متاجر افتتحتها وحدات الإدارة المحلية في أثناء الحرب لمعالجة بعض المشكلات التموينية في هذا النطاق، حيث أشار المجلس إلى أنه يحق للإدارة القيام بمثل هذه الأنشطة التجارية، وإن كانت متروكة من حيث الأصل للمبادرة العامة، وإن كان قيام الإدارة بمثل هذه الأنشطة التي تشكل بذاتها مرافق عامة يجب أن لا يشكل القاعدة في نشاط الإدارة، وأن يترك لظروف الزمان والمكان، ووفقاً لما تقتضيه حاجات المصلحة العامة.

وقد تطورت حركة التشريع والقضاء منذ صدور هذين الحكمين، فنضج مفهوم المرافق العامة الاقتصادية، فقام المشرع الفرنسي بإنشاء المرافق العامة التجارية والصناعية الكبرى، كما امتد مفهوم المرافق العامة الاقتصادية إلى مختلف دول العالم، ولا سيما مع تصاعد تدخل الدولة في المجالات الاقتصادية، ومن هذه البلدان القطر العربي السوري، الذي عرف مفهوم المرافق العامة الاقتصادية أول مرة بموجب القرار بقانون رقم 257 تاريخ 15/11/1959.

واستناداً إلى ما تقدم، يمكن القول إن هناك نوعين من المرافق العامة، مرافق عامة إدارية، وأخرى اقتصادية، وتتطابق المرافق العامة الإدارية مع النشاط التقليدي للإدارة، وهي تقوم على أساس وجود أنشطة تهدف إلى تحقيق نفع عام يعجز الأفراد عن إشباعه، أو لا يستطيعون إشباعه على الوجه الأمثل، أو لا يرغبون أساساً في تحقيقه لانتفاء عنصر المصلحة الخاصة التي يجسدها هدف تحقيق الربح، وتشكل هذه المرافق غالبية المرافق العامة.

أما المرافق العامة الاقتصادية، فتقوم بنشاط ذي طبيعة تجارية أو صناعية يشبه مع الأنشطة التي يقوم بها الأفراد.

ولكن هذه التفرقة لم تكن كافية، لذلك فقد اجتهد القضاء الإداري في فرنسا، وأوجد عدداً من المعايير من شأنها أن تميز نوعي المرافق، إذا ما نظر إليها مجتمعة:

المعيار الأول ـ محل المرفق أو موضوعه: فإذا كان محل المرفق نشاطاً تجارياً أو صناعياً منفذاً كما هو الحال في المشاريع التي يقوم بها الأفراد، فإن المرفق يكون تجارياً، أو صناعياً، حسب الأحوال.

المعيار الثاني ـ التمويل: فإذا كان تمويل المرفق يرتكز على موارد الموازنة العامة بصورة رئيسية، فإن المرفق العام يكون إدارياً، أما إذا كان المرفق ممولاً عن طريق البدل الذي يدفعه المنتفعون من المرفق لقاء انتفاعهم من خدماته، فإن المرفق يكون اقتصادياً.

المعيار الثالث ـ أوضاع التسيير: ويقصد بذلك الطرق المتبعة في إدارة المرفق، وهي تختلف باختلاف كلا نوعي المرافق، فقد رأى مجلس الدولة الفرنسي أن المرفق الذي يدار عن طريق الإدارة المباشرة يعدّ من حيث المبدأ إدارياً، وكذلك إذا كان يحتكر أداء الخدمات التي يختص بها.

والنتيجة الأساسية المترتبة على التفرقة بين المرافق العامة الإدارية، والمرافق العامة الاقتصادية، تتمثل في أن الأساليب التي تستخدم في إدارة الأولى هي أساليب القانون العام، وتكون أحكام القانون الإداري هي المطبقة عليها، أما الثانية، فتستخدم في إدارتها أساليب القانون الخاص، وتكون أحكام القانون الخاص (المدني والتجاري) هي المطبقة عليها. ولكن لا بد من الإشارة إلى أن خضوع المرافق العامة الاقتصادية للقانون الخاص ليس مطلقاً، فعقودها تخضع للقانون الخاص فيما يتعلق بعلاقتها بالمنتفعين بها، وهذا ما أقره القانون السوري، إذ نصت المادة من القانون 2 لسنة 2005 على أن تعد المؤسسات والشركات العامة والمنشآت العامة تاجراً في علاقتها بالغير، أما عقودها التي تبرمها في سبيل استمرار سيرها بانتظام واطِّراد فهي إدارية دوماً، وقراراتها تعد قرارات إدارية بحكم تعلقها بالمرفق العام ذاته وتتخذ في سبيل تسييره، أما موظفوها فهم موظفون عموميون (وذلك وفقاً للقانون 2 لسنة 2005)، وإن كان مجلس الدولة الفرنسي قد عد العاملين في هذه المرافق من قبيل الأجراء كقاعدة عامة ويخضعون لقانون العمل، ما عدا المديرين والمحاسبين وذلك بحكم تبعية هؤلاء الأخيرين لوزارة المالية.

وإضافة إلى المرافق العامة الاقتصادية هناك المرافق العامة المهنية التي اعترف بوجودها القضاء الإداري الفرنسي، وهي تقوم على أسس ثلاثة:

تتخذ هذه المرافق شكلاً نقابياًً، ويشرف على إدارتها مجالس منتخبة من أبناء المهنة.

يكون انضمام أبناء المهنة إلى هذه النقابات إجبارياً، وهذا ما يميز النقابات التي من هذا القبيل من النقابات العمالية التي يكون الانضمام إليها اختيارياً.

تكون مهمة النقابات مزدوجة: فهي تمثل المهنة لدى الدولة وغيرها من الهيئات العامة من ناحية، ومنوط بها من ناحية أخرى الإشراف على النظام الداخلي للمهنة، ولكي تتمكن من أداء هذه المهمة يخولها القانون حق إصدار أوامر ملزمة لجميع المنتمين إلى هذه المهنة. وهذه الأوامر قد تكون لائحية، أي تتضمن قواعد تنظيمية يلتزم الأعضاء بها في تصرفاتهم، وقد تكون فردية خاصة بعضو معين. وهذه السلطة الآمرة هي التي تميز النقابات وتستتبع من ثم خضوعها للقانون العام. وهي تتمثل في حق النقابة في وضع القواعد المنظمة لممارسة المهنة، وحقها في مراقبة القيد في الجدول، وحقها في الرقابة عن طريق إصدار القرارات التأديبية.

والوضع في الجمهورية العربية السورية مختلف؛ إذ النقابات المهنية لا تعد لا قضاء ولا تشريعاً من قبيل المرافق العامة، بل تعد من أشخاص القانون الخاص تماماً.

وإضافة إلى الأنواع السابقة للمرافق العامة تنقسم المرافق العامة تبعاً لمدى نشاطها وأهميتها إلى مرافق عامة قومية، ومرافق عامة إقليمية، ومرافق عامة بلدية، أما المرافق القومية، فهي التي يشمل نشاطها الدولة كلها، بحيث يستفيد منها أكبر عدد ممكن، لذلك فإن الدولة هي التي تشرف على إدارتها عن طريق وزاراتها، وذلك حتى يتحقق النفع المطلوب على أكمل وجه، ومن أمثلتها مرافق الدفاع والأمن الداخلي والعدالة والمالية.. إلخ، في حين ينصرف مدلول المرافق الإقليمية أو البلدية إلى تلك المرافق التي يقتصر نشاطها على جزء محدد من الدولة، وتنهض بها إحدى الأشخاص اللامركزية المكانية، كالمحافظة أو المدينة أو البلدة، وإذا كان من الضروري أن تهيمن الدولة على المرافق العامة القومية التي لا يقتصر نفعها على إقليم دون إقليم، حتى تضمن أن تؤدي غرضها على أكمل وجه وأن يستفيد منها الجميع على قدم المساواة، فإنه من الضروري أيضاً أن يترك أمر المرافق العامة الإقليمية والبلدية لوحدات الإدارة اللامركزية المقامة على المستوى المكاني، لأنها أدرى بحاجاتها.

خامساً ـ معيار تمييز المرافق العامة:

يقصد بمعيار تمييز المرافق العامة، الوسيلة التي يمكن بواسطتها تمييز المرفق العام من غيره من الأنشطة التي لا تعد كذلك، وفي الحقيقة، لم يكن التمييز صعباً فيما مضى، لأن السلطات العامة كانت تتولى وحدها المرافق العامة التي كانت محدودة نوعاً وكماً، وبالمقابل فقد كان الأفراد ينصرفون إلى نشاطاتهم الموجهة لتحقيق مصالحهم الذاتية، لذلك كان أمر التفريق بين النشاطات التي تعدّ مرافق عامة، وتلك التي لا تعدّ كذلك ميسوراً، فما تتولاه السلطات العامة يعد مرافق عامة، ويخضع لقواعد القانون الإداري، في حين يمارس الأفراد نشاطاتهم الخاصة تحت مظلة القانون الخاص.

غير أن التطور أدى إلى تداخل النشاط العام والنشاط الخاص، وذلك من زاويتين: فقد دخلت الدولة إلى مجال الأنشطة التجارية والصناعية، فنشأت المرافق العامة الاقتصادية، ومن جانب آخر، فقد ثبت أن النشاط الفردي ليس دائماً، وبالضرورة نشاطاً (أنانياً)، وبعيداً عن المصلحة العامة، إذ كثيراً ما يتولى الخواص نشاطاً مرفقياً عاماً، أو يسهمون في إدارته، كما أنهم قد يقومون أحياناً بإنشاء الجمعيات والمؤسسات، لا بقصد الحصول على فوائد مادية إنما لتحقيق النفع العام للجماعة، وهذه الجمعيات والمؤسسات هي التي تسمى بالمشروعات الخاصة ذات النفع العام.

وإنه لمن الواضح أن هذه المشروعات تعد من أشخاص القانون الخاص Des personnes de droit privé، لذلك فإنها تخضع أساساً لقواعد القانون الخاص، إلا أنها ما دامت تعمل من أجل تحقيق النفع العام والمصلحة العامة، فإنها تمنح في غالب الأحوال بعض مزايا القانون العام في سبيل تمكينها من تحقيق أهدافها، لذلك يمكن التفريق بين أربعة أنواع من النشاطات في الدولة المعاصرة، يختلف كل منها عن الآخر على النحو التالي:

1ـ نشاط خاص محض: وهو الذي يتولاه الأفراد، ويخضع لأحكام القانون الخاص كلياً.

نشاط خاص ذو نفع عام: وهو الذي يتولاه الأفراد، ويخضع من حيث الأصل للقانون الخاص، وإن كان يخضع في بعض الحالات للقانون العام، نتيجة استفادته من مزايا هذا الأخير، وأخذه بأساليبه.

3ـ مشروعات عامة: وتتولاها الدولة وغيرها من السلطات العامة، وتخضع بصفة شبه كاملة لأحكام القانون الخاص، ولا تلجأ إلى أساليب القانون العام إلا فيما ندر، وتسمية المشروعات العامة هي تسمية رديفة للمرافق العامة الاقتصادية.

مرافق عامة: وهي المعروفة بتسمية المرافق العامة الإدارية، وتتولاها السلطات العامة، ولا يتدخل فيها الأفراد إلا على نحو استثنائي جداً، وتخضع بصورة شبه كلية للقانون الإداري.

ولما كانت الحاجة ملحة إلى إيجاد معيار مميز للمرافق العامة، فقد ظهر في هذا المضمار معياران:

المعيار الموضوعي: وهو الذي يحاول البحث في المرفق العام على أساس اعتبارات مادية تتعلق بطبيعة النشاط موضوع البحث، مثل النظر إلى أهمية النشاط وحيويته في حياة الجماعة، وعدم الاستغناء عنه بسهولة.

المعيار الشخصي: وهو يحكم على النشاط من خلال إرادة السلطة العامة التي أحدثته ونظمته، فإذا أرادته مرفقاً عاماً كان كذلك، والعكس صحيح.

سادساً ـ إنشاء المرافق العامة:

إن المرافق العامة إنما تنشأ من جانب السلطة العامة في الدولة، وذلك بخلاف المشروعات الخاصة، ولو كانت تستهدف تحقيق النفع العام، فإن الأصل فيها أنها تكون من صنع إرادة الأفراد والنشاط الخاص.

ويجمع القضاء والفقه على أن إنشاء المرافق العامة هو أمر اختياري للسلطة العامة، فهو يدخل إذاً في إطار السلطة التقديرية للدولة، ولكن إذا كان هذا هو الأصل العام إلا أن سلطة الدولة تكون مقيدة، إذ تجبر في بعض الحالات على إحداث المرافق العامة، وتسمى هذه المرافق التي تلزم الدولة بإنشائها المرافق العامة الإجبارية، وذلك إلى جانب تلك المرافق التي تكون الأصل وهي التي لا تلزم الدولة بإنشائها والتي تسمى المرافق العامة الاختيارية، والمرافق العامة الإجبارية هي تلك التي تدخل في إطار وظيفة الدولة الأساسية كمرفقي الدفاع والأمن الداخلي، ومن ثم تتصل بالأهداف الأساسية التي وجدت لأجلها الإدارة العامة في الدولة، وقد تكون المرافق العامة إجبارية لأنها وردت بناء على نصوص دستورية أو قانونية صريحة.

ويترتب على وجود المرافق العامة الإجبارية نتيجتان أساسيتان:

التزام السلطات التي يقع على عاتقها القيام بإنشاء هذه المرافق وإدارتها، ويترتب على إخلالها بهذا الالتزام أن يكون للسلطة المركزية ممارسة اختصاصات الوصاية الإدارية، بالحلول محلها في إنشاء هذه المرافق وذلك طبعاً إذا كان إنشاء هذه المرافق منوطاً بوحدات الإدارة المحلية.

حق الأفراد في التظلم إدارياً وقضائياً حتى يتوصلوا إلى إجبار السلطة المختصة على إنشاء المرفق العام.

وعلى ذلك فإن إنشاء المرافق العامة لا يكون إلا بإرادة عامة، وإن كان نوع هذه الإرادة يختلف بالطبع داخل الدول باختلاف الأنظمة الدستورية القائمة، لذلك فإن إنشاء المرافق العامة قد يتم بقوانين تصدر عن السلطة التشريعية المختصة، كما يمكن أن يتم بقرارات إدارية تصدر عن السلطة التنفيذية.

ويلاحظ أن الطريقة التي تنشأ بها المرافق العامة في سورية تختلف باختلاف نوع المرفق محل الإنشاء، إذ ينشأ المرفق العام بقانون إذا كان إدارياً، أما إذا كان اقتصـادياً فينشأ بمـرسـوم (المادة 2 من القانون رقم 50 لعام 2004 المتضمن النظام الأساسي الموحد للعاملين في الدولة)، كما يلاحظ أن إلغاء المرافق العامة يكون بالأداة التي أحدثت بها.

سابعاً ـ المبادئ التي تحكم سير المرافق العامة:

يخضع سير المرافق العامة على اختلاف أنواعها، وتباين أشكالها، وتنوع أغراضها لجملة مبادئ أساسية، وهي مبادئ تفرضها المصلحة العامة، والاعتبارات العملية المختلفة، وتنسجم مع منطق عمل هذه المرافق ذاتها، لذلك ومن أجل توضيح مضامينها، لا بد من استعراضها بشيء من التفصيل:

1ـ مبدأ دوام سير المرافق العامة:

وينبع هذا المبدأ من طبيعة المرفق العام ذاتها، إذ إن الحاجة الجماعية التي ينشأ المرفق العام لإشباعها لا تعد مشبعة، إذا تم ذلك الإشباع على نحو وقتي أو متقطع وبلا انتظام، لذلك لا بد أن يكون أداء الخدمة التي أنشئ المرفق العام في سبيـل إشباعها دائماً ومنتظمـاً، لأن الأفـراد ـ متى ما نشأ المرفق العام ـ إنما يرتبون حياتهم على أساس وجوده، مفترضين استمرار سيره، فالطالب والموظف والعامل الذي رتب حياته على أساس وجود مرفق النقل، والأفراد الذين اعتمدوا في حياتهم على مرافق الماء والكهرباء، سوف يصيبهم أبلغ الضرر إذا توقفت مثل هذه المرافق عن أداء خدماتها فجأة.

وإن مبدأ دوام سير المرافق العامة يعد مبدأ أساسياً، حتى ذهب جانب من الفقه الفرنسي إلى القول إن هذا المبدأ يشكل جوهر المرفق العام L’essence même du service public، لذلك فإن القضاء الدستوري الفرنسي اعتبره من قبيل المبادئ الدستورية، على أساس ارتباط دوام سير المرافق العامة بديمومة وجود الدولة ذاتها.

واستناداً إلى ما تقدم، فإن هذا المبدأ إنما يقضي بأن كل ما من شأنه إيقاف أو تعطيل سير المرفق العام يجب أن يستبعد ويمنع بشدة، وإن كل ما من شأنه تدعيم دوام سير المرفق العام بانتظام واطّراد يجب أن يهتم القانون الإداري بتشجيعه وتقويته، لذلك:

أ ـ تم تحريم إضراب الموظفين العامين: والإضراب هو في حقيقته أن يترك عمال المرافق العامة عملهم، وقيامهم بواجبات وظيفتهم، مع تمسكهم بمزاياها، لذلك فهو يعدّ من أهم الأمور التي تعوق سير المرافق العامة بانتظام واطّراد، وفي ضوء ذلك يمكن تحديد عناصر الإضراب بما يلي:

(1) يتسم الإضراب بالصفة الجماعية، ومعنى ذلك أن الامتناع عن العمل يجب أن يكون من جانب جميع العاملين أو بعضهم، ومن ثم فإن توقف عامل واحد بمفرده لا يعدّ إضراباً بالمعنى السليم.

(2) يجب أن تظهر نية القائمين بالإضراب في عدم ترك العمل بصفة نهائية، وإلا عد ذلك من قبيل الاستقالة.

(3) يجب أن يكون الغرض الأساسي من الإضراب هو الضغط على الإدارة لتحقيق مطالب تتعلق بالعمل أو الوظيفة، ومعنى ذلك أنه لا يجوز استخدام الإضراب لتحقيق أهداف لا علاقة لها بالعمل ضمن الإدارة صاحبة العلاقة.

وقد كان إضراب العاملين محظوراً على الإطلاق قبل سنة 1946 في فرنسا، وقد علل الفقه ذلك على أساس أنه فضلاً عن تسببه في انقطاع المرافق العامة، يتعارض مع مبدأ الطاعة واحترام الرؤساء، كما أن الدولة ليست مجرد رب عمل أو مخدوم يمكن السماح لعماله بالإضراب للحصول على مطالبهم، إنما هي أساساً سلطة سياسية، ومن ثم فإن إباحة الإضراب في مواجهتها يعد عملاً من أعمال التحدي، ومن ناحية أخرى فإن الموظف العام يوجد في مركز نظامي، ومن ثم فإن شروط العمل في الوظيفة العامة تحددها القوانين واللوائح دون التوقف على إرادة شاغلي هذه الوظيفة، ومن ثم فهم لا يستطيعون أن يقوموا بالإضراب كما هو حال عمال القطاع الخاص الذين يوجدون ضمن مركز تعاقدي، ويقومون بالإضراب في سبيل تعديله.

وقد أيد مجلس الدولة الفرنسي ذلك في قضية Winkel (الصادر في 7/8/1909، والمنشور في سيري، سنة 1909، القسم الثالث، ص145)، إذ رأى أن الإضراب يعد عملاً غير مشروع للموظفين العموميين، فالموظف العام، حين دخل السلك الوظيفي قد قبل بالخضوع لكل التزامات الوظيفة، كما أنه ملتزم بعدم اللجوء إلى أية أفعال تتعارض مع الاستمرار الضروري لحياة الجماعة وحاجاتها اليومية، وقد عبر المجلس عن ذلك كما يلي:

«.. وإن الموظف بقبوله الوظيفة التي عهد بها إليه يخضع نفسه لكل الالتزامات الناشئة عن ذات ضرورات المرفق العام، وأن العاملين التابعين للمرفق العام تحت أية تسمية لا يرتكبون فقط بإضرابهم خطأ فردياً، ولكنهم يضعون أنفسهم بأنفسهم بعمل جماعي خارج مجال تطبيق القوانين واللوائح الموضوعة بهدف ممارسة الحقوق الناشئة لكل منهم عن عقد القانون العام الذي يربطهم بالإدارة، وأنه في حالة التخلي عن المرفق العام بصورة جماعية أو بالتواطؤ تلتزم الإدارة باتخاذ التدابير العاجلة وتقوم بإحلال من يحل محلهم فوراً …».

ولكن منذ سنة 1946 أصبح حق الإضراب مباحاً، وذلك بموجب الفقرة السابعة من مقدمة دستور 1946، التي نصت على أن حق الإضراب يباشر في إطار القوانين التي تنظمه، ولا يزال هذا النص سارياً حتى في ظل الدستور الحالي الصادر سنة 1958، وقد وجد هذا النص قبولاً وترحاباً، من جانب الفقه المؤيد لحق الإضراب، ذلك لأن انتشار المرافق العامة التجارية والصناعية، واقتراب النظام القانوني الذي يخضع له موظفو هذه المرافق من النظام الذي يخضع له العاملون في القطاع الخاص، يجعل من غير المنطقي إباحة الإضراب لهؤلاء العاملين مع حظره على موظفي الدولة.

ويلاحظ أن مجلس الدولة الفرنسي قد اتخذ موقفاً مرناً بعد ذلك، حين قرر أن حق الإضراب وإن كان معترفاً به دستورياً، إلا أنه ليس طليقاً من كل قيد، خاصة مع غياب التشريع الذي ينظمه، فيجب ـ بناء عليه أن توضع القيود على ممارسة حق الإضراب من جانب الموظفين العموميين، بما يكفل التوازن بين المصالح المهنية لهؤلاء الموظفين من جهة، والمصلحة العامة من جهة أخرى.

وبناء على ذلك، فقد أباح المجلس للإدارة باعتبارها القوامة على سير المرافق العامة أن تضع بنفسها القيود والضوابط التي تراها مناسبة بخصوص ممارسة حق الإضراب في هذه المرافق.

وقد تعددت التشريعات التي تحكم الإضراب في فرنسا، ولكن أهمها على الإطلاق ذلك القانون الصادر في 31/5/1963، والذي نص على حظر أنواع معينة من الإضراب، كما استلزم ضرورة استيفاء مجموعة من الشروط الإجرائية قبل إعلان الإضراب، كما نص القانون نفسه على أن الإضراب يجب أن يكون في سبيل تلبية مصالح مهنية تتعلق بأوضاع الوظيفة فقط، ومن ثم فإن أي إضراب يقع خارج هذا النطاق يعدّ غير مشروع.

كما حظر القانون المذكور أعلاه الإضراب بالتناوب La grève tournante، وهو الذي يأخذ صورة التوقف الجزئي عن العمل بصفة دورية بين العاملين، وذلك نظراً لخطورة هذا النوع من الإضراب على تنظيم المرفق وما يسببه من انخفاض في مستوى الإنتاج.

وقد وضع المشرع التزاماً على عاتق التنظيم النقابي ذي العلاقة يتعلق بضرورة إخطار السلطة الرئاسية أو الإدارة المعنية قبل خمسة أيام على الأقل من اللجوء إلى الإضراب، على أن يوضح في هذا الإخطار أهداف وبواعث الإضراب ومكانه وتاريخه والساعة المحددة لبدايته، فضلاً عن المدة التي سوف يستغرقها.

والهدف من وراء اشتراط مثل هذا الإخطار إنما يتمثل في الحيلولة دون اندلاع إضرابات مفاجئة، قد تشل السير المنتظم للمرفق العام فجأة أيضاً، كما أن هذه المهلة يمكن أن تعطي الفرصة للإدارة كي تتفاوض مع نقابات العمال، ومن ثم إمكانية حل المشكلات التي تسببت في الإضراب.

وفي جميع الأحوال، فإنه يترتب على الإضراب حق الإدارة في حسم أجر الموظفين عن الأيام التي تم فيها الإضراب، ولا يعدّ ذلك جزاء مقنعاً، إنما يعد تطبيقاً لقاعدة أن لكل عمل أجر. وقد حاولت النقابات في فرنسا تفادي الحسم من الراتب الذي يتم على أثر الإضراب، وذلك عن طريق التفكير في أشكال أخرى للتوقف عن العمل أو تنفيذه بطريقة رديئة، أو رفض استقبال المراجعين على الرغم من وجود العاملين في المرفق ذي العلاقة.

وللقضاء على هذه المحاولات قرر المشرع الفرنسي بالقانون الصادر في 2/7/1977 المساواة بين عدم القيام بالعمل، والقيام به بصورة رديئة، وأجاز للإدارة توقيع عقوبة الحسم من الأجر في الحالتين.

أما في الجمهورية العربية السورية، فقد حظر قانون العاملين الأساسي على العاملين في الدولة أن يتركوا العمل، أو يتوقفوا عنه أو يعطلوا الإنتاج أو أن يحرضوا العاملين الآخرين على ذلك (الفقرة ح من البند ثانياً من المادة 64 من القانون 50/2004).

ب ـ تم تنظيم استقالة الموظفين العامين: تعد الاستقالة أحد أسباب انتهاء خدمة الموظف العام، وهي تعني رغبة الموظف في ترك الخدمة نهائياً، بإرادته الحرة، قبل انتهاء المدة القانونية المحددة لها، وهي بذلك تختلف عن الإضراب المتجسد في التوقف عن العمل مع التمسك بالوظيفة، وفي الحقيقة إن القاعدة العامة هي عدم إجبار أحد على تقلد وظيفة ما، وكذلك عدم إجباره على البقاء في الوظيفة رغماً عن إرادته، إلا أنه إذا كانت الاعتبارات الإنسانية تقتضي احترام رغبة الموظف في ترك العمل، إلا أن طبيعة عمل الموظف، وعلاقته بالإدارة، لا بد أن تنعكس في هذا المجال ببعض القيود التي توفق بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، فالموظف الذي يعمل في خدمة مرفق عام إنما يعمل في النهاية لخدمة الجماعة، لا لخدمة بعض الأفراد، ومن ثم فإن انقطاعه عن عمله فجأة وفي وقت غير مناسب، وبدون أن تتدبر الإدارة أمرها لشغل الوظيفة الخالية، قد يترتب عليه تعطيل سير المرفق العام بانتظام واطّراد.

وتتجلى أبرز القيود التي توردها التشريعات عادة على الاستقالة في أن الرابطة الوظيفية لا تنقطع بين الإدارة والموظف بمجرد إعلان هذا الأخير عن رغبته في ذلك، إنما من تاريخ قبول الإدارة لهذه الاستقالة، صراحة أو ضمناً، وعليه فإنه يقع على عاتق الموظف أن يستمر في أداء عمله على أتم وجه في الفترة الفاصلة بين تقديم الاستقالة وقبولها.

ج ـ تم تبرير نظرية الموظفين الفعليين: الموظف الفعلي Fonctionnaire de fait هو الذي يقوم ببعض الأعمال الوظيفية من دون أن يصدر قرار بتعيينه، أو صدر وكان معيباً، وكان مقتضى الأصل العام أن تبطل أعماله لصدورها عن شخص غير مختص، أو مغتصب للسلطة، إلا أن القضاء يعد تصرفاته سليمة في بعض الأحيان ضماناً لاستمرار سير المرفق العام بانتظام واطّراد، وحماية للجمهور الذي يتعامل مع الإدارة، ولا تمكنه الظروف من معرفة حقيقة الموظف الذي يتعامل معه.

2ـ مبدأ مساواة المواطنين أمام المرافق العامة:

ويستند هذا المبدأ إلى أسس دستورية، تتعلق بفكرة المساواة أمام القانون، التي تتكون بدورها من فكرتين متلازمتين:

أ ـ المساواة ضمن قاعدة القانون L’égalité dans la règle de droi: باعتبارها أمراً موجهاً إلى هؤلاء الذين يسنون قاعدة القانون، ومفاده أن لا يرتكبوا تمييزاً أو محاباة بين المخاطبين بها، ومن ثم فإن القانون يجب أن يعامل المراكز المتماثلة بطريقة متطابقة، ومن ثم فإن الاختلاف في التعامل لا يجب إلا إذا وجد اختلاف في المراكز.

ب ـ المساواة أمام قاعدة القانون L’égalité devant la règle de droit: باعتبارها أمراً موجهاً إلى هؤلاء الذين يطبقون قاعدة القانون، بألا يرتكبوا تمييزاً بين الخاضعين لقاعدة القانون، لا يكون منصوصاً عليه من جانب هذه القاعدة.

وقد أبرز دستور الجمهورية العربية السورية هذه المفاهيم جميعها لمبدأ المساواة، إذ نصت الفقرة الثالثة من المادة (25) منه على أن «.. سيادة القانون مبدأ أساسي في المجتمع والدولة، والمواطنون متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات، وتكفل الدولة مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين..».

ومادام المرفق العام ـ بطبيعة وجوده ـ خدمة للجميع، ولمصلحة الجميع فمن الطبيعي أن يتساوى أمامه الجميع، بغير تمييز لأي سبب كان، ومبدأ المساواة أمام المرافق العامة لا يسري على المنتفعين فقط، إنما يتمتع به طالبو الانتفاع أيضاً، بمعنى أن هذا المبدأ يجب أن يطبق على جميع من تتوافر فيهم شروط الاستفادة من المرفق العام بغير تمييز بينهم أو محاباة، وإن مبدأ المساواة يحتج به طالبو الانتفاع أكثر مما يحتج به المنتفعون فعلاً، لأنه يثور غالباً عندما ترفض الإدارة القائمة على المرفق العام طلب أحد الأفراد الاستفادة من خدمات المرفق العام، على الرغم من توافر الشروط فيه، ويتمتع الأفراد بمبدأ المساواة أمام المرافق العامة أياً كان نوعها إدارية أم اقتصادية. ويعتبر مبدأ المساواة أمام المرافق العامة من قبيل المبادئ العامة للقانون، التي تطبق، وإن لم يأت بشأنها نص.

ولكن القول بوجوب مراعاة مبدأ المساواة، لا يعني تحقيق المساواة المطلقة بين جميع المواطنين، وإنما يعني المساواة بين الأفراد الذين تتحقق فيهم الشروط التي فرضها المرفق العام لإمكان الاستفادة من نشاطه، ومن ثم لا يعد إخلالاً بهذا المبدأ أن يقفل المرفق العام أبوابه في وجه أشخاص لم تتحقق فيهم الشروط الضرورية للاستفادة من خدماته.

وتختلف هذه الشروط شدة وتساهلاً من مرفق إلى مرفق، فمرفق الشرطة مثلاً يجب أن يباح اللجوء إليه ـ كقاعدة عامة ـ لكل قاطن على أرض الدولة، مهما كانت جنسيته، في حين أن مرفق التعليم الجامعي يحتاج إلى جملة من الشروط يجب تحققها للانتفاع من خدماته، مثل نيل الشهادة الثانوية، ودفع الرسوم، والكشف الطبي، والمجموع المناسب.. إلخ، ولكن يلاحظ أن هذه الشروط المطلوبة للانتفاع قد تختلف باختلاف المكان (كأن تكون تعرفة خدمة النقل إلى الأماكن البعيدة أعلى من تعرفة الخدمة ذاتها إلى الأماكن القريبة، كما قد تختلف باختلاف الخدمة المطلوبة (فالمنتفع بمرفق النقل في الدرجة الأولى يجب أن يدفع مبلغاً من المال أكبر من راكب الدرجة الثانية أو الثالثة)، كما قد تختلف الشروط باختلاف الغرض الذي يهـدف إليــه الأفراد (فالانتفاع بالتيار الكهربائي لأغراض صناعية يكون عادة بشروط مغايرة للانتفاع به في حالات الاستهلاك العادي).

ولعل من أهم شروط الانتفاع بخدمات المرفق العام دفع مبلغ معين من المال، وفي هذه الحالة تثور مسألة مجانية المرافق العامة، إذ من المسلّم به أنه ليكون المرفق مرفقاً عاماً، لا يشترط أن تكون الخدمات التي يقدمها مجانية للجميع، بل يجوز أن يفرض رسماً يؤديه كل منتفع من دون أن يفقد المرفق صفته مرفقاً عاماً، وفي جميع الأحوال يجب أن لا يكون الرسم مغالىً فيه، بحيث يخرج المرفق عن عموميته، والغاية التي أحدث لأجلها، والمتمثلة في المصلحة العامة، ويلاحظ عموماً توجه المشرع حديثاً إلى توسيع نطاق مجانية المرافق العامة.

وإذا خالفت الإدارة القائمة على أمر مرفق معين مبدأ المساواة سالف الذكر، فإنه يحق لصاحب المصلحة أن يطعن في قراراتها الصادرة بهذا الشأن أمام القضاء الإداري، كما يحق له المطالبة بالتعويض عن الأضرار الناجمة عن ذلك.

3ـ قابلية المرفق العام للتغيير والتعديل Le principe de mutabilité: ويقصد بهذا المبدأ تمكين المرفق العام من تحقيق المنفعة التي أنشيء من أجلها على أفضل وجه، ومواجهة الظروف المتغيرة التي تحيط بنشاط المرفق، فإذا تغيرت الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي نشأ المرفق في ظلها، ونظم ابتداء على أساسها، أو ظهر للإدارة خلال ممارسة المرفق لنشاطه أنه يستحسن تغيير طريقة الإدارة لزيادة كفاءته، فإنها تملك ذلك، وتتمتع بسلطة تقديرية في هذا المجال، وعلة ذلك تتمثل في أنه إذا ألزمت الإدارة بالإبقاء على تنظيم المرفق بكيفية معينة على الدوام، ولم تتمتع بقدرة على التغيير والتبديل في أساليب تشغيله وإدارته، لمواجهة الظروف والحاجات المتغيرة، فإنه سيترتب على ذلك جمود المرفق وعجزه عن تحقيق المصلحة العامة التي أنشيء من أجلها.

ويترتب على ذلك أنه ليس لأحد أن يحتج في مواجهة الإدارة، عندما تعمل سلطتها التقديرية في تغيير القواعد المنظمة للمرفق، بوجود حق مكتسب له، إلا أنه من ناحية أخرى، يتوجب على الإدارة عند إعمال سلطتها التقديرية في هذا المجال، أن تتقيد بدواعي المصلحة العامة، وبعدم التعسف في استعمال السلطة

ثامناً ـ طرق إدارة المرافق العامة:

تختلف طرق إدارة المرافق العامة باختلاف مدى تدخل الدولة في إدارة المرفق، فقد يكون تدخلها كبيراً وشاملاً لجميع النواحي، كما في طريقة الاستغلال المباشر، وقد يكون تدخلها محدوداً كما في طريقة الالتزام، وقد يكون تدخلها وسطاً بين الطريقتين، وبذلك يمكن القول إن طرق إدارة المرافق العامة تتدرج من حيث مدى هيمنة الدولة عليها، فتوجد مرافق عامة تقوم الدولة بإدارتها إما عن طريق الاستغلال المباشر، وإما عن طريق هيئات عامة تتمتع بالشخصية الاعتبارية، ويقابل طريقة الإدارة المباشرة عن طريق الدولة أو إحدى هيئاتها طريقة أخرى يتولى فيها الأفراد إدارة المرفق العام، هذه الطريقة هي طريقة الالتزام، وبين هذين الأسلوبين توجد أساليب إدارة مشتركة يسهم فيها الإدارة والأفراد معاً بدرجات متفاوتة في تسيير المرفق العام، وتمثل هذه الطرق المشتركة أساساً في أسلوب مشاطرة الاستغلال، وفقاً لما يلي:

الإدارة المباشرة La régie directe:

توجد إدارة مباشرة عندما تقوم الدولة ذاتها بإدارة المرفق، بحيث تضع بين يديها وعلى عاتقها مهمة تسيير المرفق بأموالها، وبواسطة موظفيها، وباستخدام أساليب القانون العام، وتدار بهذه الطريقة جميع المرافق الإدارية، وتفضل الدولة اللجوء إلى هذه الطريقة إما لأن الأفراد لا يقبلون على إدارة مثل هذه المرافق لأنها لا تدر عليهم ربحاً، وإما لأن هذا المرفق على درجة من الأهمية فتحرص الدولة على إدارة هذه المرافق بنفسها، مستبعدة الأفراد من مجالها، ويلاحظ أن هذه الطريقة لا تقتصر على إدارة المرافق العامة الإدارية ـ وإن كانت تلك هي القاعدة ـ بل يمكن أن تستخدم في نطاق إدارة المرافق العامة الاقتصادية وإن كان ذلك محدوداً.

وتخضع المرافق التي تدار بهذه الطريقة ـ سواء أكانت مرافق إدارية أم اقتصادية ـ لقواعد القانون الإداري، فموظفوها موظفون عموميون، يعينون مباشرة عن طريق الدولة، ويخضعون في تعيينهم ومرتباتهم وترفيعهم ونهاية خدمتهم، لقواعد القانون الإداري، وكذلك فإن أموال هذه المرافق تعتبر أموالاً للدولة، تخضع لقواعد المالية العامة.

ويؤخذ على اتباع هذه الطريقة في إدارة المرافق العامة، أنها قد تعرض المرفق العام لأضرار التعقيدات المكتبية والإدارية والمحاسبية التي تسود الإدارات الحكومية عادة، مع ما يرتبه ذلك من إضعاف لروح الخلق والتجديد والابتكار.

2ـ المؤسسات العامة Les établissements publics:

المؤسسة العامة هي وسيلة من وسائل إدارة المرافق العامة، عن طريق منظمة عامة تمنح الشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي، وتخضع في الوقت نفسه للرقابة المالية من جانب الدولة، ومن ثم يمكن القول إن المؤسسة العامة تقوم على العناصر التالية:

أ ـ تقوم المؤسسة العامة على أساس وجود مرفق عام: أي إن النشاط الذي تقوم به تنطبق عليه الأحكام الرئيسية التي تنطبق على المرفق العام. ومن ثم يجب أن تتوافر فيه شروط وصفات المرفق العام.

ب ـ إنها هيئة أو منظمة عامة Organisme public: أي إنها جزء من إدارة الدولة، ووسيلة لمباشرة السلطة الإدارية، ولإدارة المرافق العامة، وهناك نتائج مهمة تترتب على صفة العمومية هذه، فأموالها تعدّ أموالاً عامة، والقرارات التي تصدرها تعتبر قرارات إدارية، وموظفوها موظفون عامون، والأعمال التي تقوم بها يجب أن تستهدف المصلحة العامة … إلخ.

ج ـ إن هذه المنظمة أو الهيئة تتمتع بالشخصية الاعتبارية، وتعود أهمية منح المؤسسة مثل هذه الشخصية إلى أن ذلك يحقق لها الاستقلال، فلا استقلال لها إذا كانت هذه المنظمة جزءاً من شخصية الدولة، ولا شخصية ذاتية لها، ويترتب على ذلك أن المؤسسة يصبح لها ذمتها المالية المستقلة عن ذمة الدولة، فيكون لها إيراداتها ومصروفها (أي أن لها استقلالاً مالياً)، ولها حق التقاضي والتعاقد، وتكون أهلاً لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات.

ولكن ـ من جهة أخرى ـ يلاحظ أن هذا الاستقلال يكون مقيداً بقيدين: الأول يتمثل في قيد التخصص، بحيث يجب أن لا تخرج المؤسسة العامة عن حدود الهدف الذي أنشئت من أجله، وفي سبيل تحقيقه، والثاني يتمثل في سلطة الإدارة المركزية ورقابتها على المؤسسة العامة من أجل ضمان التزامها بتحقيق السياسة العامة، وعدم الخروج عنها، وذلك تبعاً لما نص عليه صك إحداثها.

وتدار المؤسسة العامة عن طريق سلطتين إحداهما تتولى التقرير، والأخرى تتولى التنفيذ، ويمثل سلطة التقرير مجلس إدارة المؤسسة، ويبين الصك الصادر بإنشاء المؤسسة العامة تشكيل مجلس الإدارة في كل مؤسسة عامة على حدة، أما سلطة التنفيذ فيمثلها رئيس مجلس الإدارة أو المدير العام للمؤسسة العامة.

 وسلطة التقرير هي السلطة العليا المهيمنة على شؤون المؤسسة، وتصريف أمورها، واقتراح السياسة التي تسير عليها، وله أن يتخذ ما يراه لازماً من القرارات لتحقيق الغرض الذي قامت من أجله، وفقاً لأحكام الصك الصادر بإحداثها.

وبذلك تتولى سلطة التقرير مهام إصدار القرارات واللوائح الداخلية والقرارات المتعلقة بالشؤون المالية والإدارية والفنية للمؤسسة، والموافقة على مشروع الموازنة الخاص بها، والنظر عموماً في كل ما يرى الوزير المختص ضرورة عرضه من مسائل تدخل في اختصاص المؤسسة.

أما سلطة التنفيذ (أي رئيس مجلس الإدارة أو المدير العام)، فتتولى تصريف شؤون المؤسسة العامة، وتمثيلها أمام القضاء وفي صلاتها بالأشخاص الأخرى العامة والخاصة، كما تعدّ سلطة التنفيذ مسؤولة عن تنفيذ السياسة العامة الموضوعة لتحقيق أغراض المؤسسة.

وفي الجمهورية العربية السورية تتم التفرقة بين الهيئات العامة والمؤسسات العامة، ووجه التفرقة أن الهيئات العامة هي مرافق عامة ذات استقلال مالي وإداري، وتقوم بممارسة نشاطات ذات طبيعة خدمية، أي إن المرفق في هذه الحالة يعدّ مرفقاً عاماً إدارياً، أما المؤسسات العامة فإنها مرافق عامة ذات استقلال مالي وإداري، وتقوم بممارسة نشاطات ذات طبيعة اقتصادية، أي إن المرفق يعدّ عندئذ مرفقاً عاماً اقتصاديا، وتحدث الهيئات العامة بقانون، أما المؤسسات العامة فتحدث بمرسوم (المادة 2 من القانون رقم 50 لسنة2004).

وتعد المؤسسة العامة تاجراً في علاقاتها بالغير، وتمارس جميع الأنشطة المترتبة على ذلك (الفقرة ج من المادة 2 من القانون 2/2005)، ويتولى إدارة المؤسسة العامة مجلس إدارة ومدير عام، ويجتمع مجلس الإدارة مرة على الأقل في الشهر، وله أن يجتمع ـ عند الضرورة ـ بدعوة من رئيسه أو بطلب من غالبية أعضائه (البند 2 من الفقرة د من المادة 7 من القانون 2 لسنة 2005)، وتتخذ قرارات مجلس الإدارة بأغلبية الأصوات، وفي حال تساوي الأصوات يرجح جانب رئيس مجلس الإدارة (البند 5 من الفقرة د من المادة 7 من القانون 2 لسنة 2005)، وفي الحالات كلها فإن مجلس الإدارة هو السلطة المختصة برسم السياسة التي تسير عليها المؤسسة العامة لتحقيق الغرض الذي قامت من أجله، ويتمتع بالصلاحيات في إدارة المؤسسة وتسيير أعمالها، ويعد مسؤولاً مسؤولية كاملة عن إقرار الخطط وحسن تنفيذها والإدارة الاقتصادية للمؤسسة وتحقيق الريعية الاقتصادية لها (المادة 10 من القانون 2 لسنة 2005)، أما المدير العام فيعين بمرسوم يحدد فيه أجره وتعويضاته، ويكون عضواً في مجلس الإدارة ومسؤولاً أمام المجلس والوزير المختص (الفقرة ب من المادة 7 من القانون 2 لسنة 2005)، ولا يكون المدير العام رئيساً في مجلس الإدارة بل عضواً فيه (البند 1 من الفقرة د من المادة 7 نمن القانون 2/2005)، ويعين رئيس مجلس الإدارة بمرسوم من غير العاملين فيها في ضوء مؤهلات يتمتع بها ويحدد في المرسوم الصادر بهذا الشأن الأجر الذي يستحقه (الفقرة أ من المادة 7 من القانون 2 لسنة 2005)، ويختص المدير العام بحسبانه سلطة التنفيذ في المؤسسة العامة بتنفيذ قرارات مجلس الإدارة، وإدارة المؤسسة وتطوير أساليب العمل فيها، وممارسة حق تعيين العاملين في المؤسسة وترفيعهم ونقلهم وندبهم وفق الأحكام الواردة بهذا الشأن، في القوانين والأنظمة النافذة، والإشراف على الشركات العامة والمنشآت العامة التابعة للمؤسسة العامة ورقابتها (المادة 13 من القانون 2 لسنة 2005). ويعد المدير العام عاقد النفقة فيها ويستطيع أن يفوض في صلاحياته المالية (المادة 41 من القانون 2 لسنة 2005).

وأما حسابات المؤسسة العامة فتمسك وفقاً لأسس المحاسبة التجارية والصناعية وتنظم موازناتها على هذا الأساس، وتعد أموالها من أموال الدولة الخاصة إلا ما خصص منها لمنفعة عامة بقانون (المادة 18 من القانون 2 لسنة 2005).

ولا تدار المرافق العامة الاقتصادية في الجمهورية العربية السورية فقط عن طريق المؤسسات العامة، إنما تدار عن طريق الشركات والمنشآت العامة أيضاً، والتي عرفها القانون بأنها شخص اعتباري عام يتمتع بالاستقلال المالي والإداري، ويشارك في تنمية الاقتصاد الوطني، ويتكون من وحدة أو مجموعة وحدات اقتصادية تمارس عملاً زراعياً أو صناعياً أو تجارياً أو مالياً. (الفقرة ب من المادة 1 من القانون 2 لسنة 2005)، وتدار الشركة العامة أو المنشأة العامة من لجنة إدارية (سلطة التقرير) ومن مدير عام (سلطة التنفيذ)، وتجتمع اللجنة الإدارية مرة على الأقل في الشهر، ولها أن تجتمع عند الضرورة بدعوة من رئيسها أو بطلب من غالبية أعضائها، ولا تعد اجتماعاتها قانونية إلا بحضور غالبية أعضائها من بينهم رئيس اللجنة الإدارية، وفي حال غيابه ينوب عنه في رئاسة اللجنة نائب رئيس اللجنة الإدارية، وتتخذ القرارات بأغلبية الأصوات، وفي حال تساوي الأصوات يرجح جانب رئيس اللجنة الإدارية. (المادة 20 من القانون 2 لسنة 2005). وتتمتع اللجنة الإدارية بالكثير من الصلاحيات وفقاً لما نص عليه القانون، فهي السلطة المختصة برسم السياسة العامة التي تسير عليها الشركة العامة أو المنشأة العامة لتحقيق الغرض الذي قامت من أجله، وتتمتع بالصلاحيات في إدارة الشركة العامة أو المنشأة العامة وتسيير أعمالها، وتعد مسؤولة مسؤولية كاملة عن حسن تنفيذ الخطط والإدارة الاقتصادية للشركة العامة أو المنشأة العامة، وذلك وفق سياسة الدولة وخططها العامة وأحكام القانون (المادة 21 من القانون 2 لسنة 2005). ومن الملاحظ أن هذه الصلاحيات المذكورة قد أعطاها القانون للشركات العامة التابعة للمؤسسات العامة، أما إذا كانت الشركة العامة مستقلة أي غير تابعة لمؤسسة عامة، فإن صلاحيات مجالس إدارتها تكون أكثر اتساعاً، ولا سيما في نطاق الخطة السنوية بمختلف عناصرها (الاستثمارية والإنتاجية والتجارية، وخطة اليد العاملة وخطة التكاليف والريعية والموازنة التقديرية.. المادة 25 من القانون 2 لسنة 2005).

أما المدير العام للشركات التابعة لمؤسسة عامة فإنه يعين بقرار من رئيس مجلس الوزراء (الفقرة ب من المادة 20 من القانون 2 لسنة 2005)، وأما المدير العام للشركات غير التابعة لمؤسسة عامة فيعين بمرسوم (الفقرة ب من المادة 23 من القانون 2 لسنة 2005)، وفي كلتا الحالتين فإن رئيس مجلس الإدارة يسمى من خارج العاملين في الشركة، ولكن بقرار من رئيس مجلس الوزراء بناء على اقتراح الوزير المختص في الشركات التابعة (الفقرة أ من المادة 20 من القانون 2 لسنة 2005)، وبمرسوم في الشركات غير التابعة لمؤسسة عامة (الفقرة أ من المادة 23 من القانون 2 لسنة 2005).

وفي كلتا الحالتين، يكون للمدير العام في الشركة العامة أو المنشأة العامة، صلاحيات سلطة التنفيذ، في إطار تنفيذ قرارات اللجنة الإدارية وممارسة حق التعيين والترفيع والنقل والندب وفقاً للقوانين والأنظمة النافذة بهذا الشأن، والإشراف على الوحدات الاقتصادية التابعة للشركة العامة أو المنشأة العامة ورقابتها، ويعد المدير العام عاقد النفقة فيها ويستطيع أن يفوض في صلاحياته المالية (المادة 41 من القانون 2 لسنة 2005).

 ويكون المدير العام للشركة العامة أو المنشأة العامة التابعة مسؤولاً أمام المدير العام للمؤسسة التي تتبع لها هذه الشركة أو المنشأة. (المادة 28 من القانون 2 لسنة 2005).

وعلى غرار المؤسسات العامة تمسك حسابات الشركات العامة والمنشآت العامة وفقاً لأسس المحاسبة التجارية والصناعية وتنظم موازناتها على هذا الأساس.

ومن الملاحظ أن القانون أعطى المؤسسات العامة والشركات العامة والمنشآت العامة جملة من الامتيازات، فهي تعفى من تقديم الضمانات والكفالات لجميع الجهات العامة في المناقصات التي تشترك بها، أو العقود التي تبرمها مع هذه الجهات (المادة 45 من القانون 2 لسنة 2005)، وكذلك تعفى من تقديم الكفالات القضائية في جميع الحالات التي يفرض فيها القانون مثل هذا الالتزام، وتعفى العقود التي تجريها من تصديق مجلس الدولة (المادة 44 من القانون 2 لسنة 2005).

ومن الملاحظ أن (المادة 35 من القانون 2 لسنة 2005)، قد أجازت فصل الإدارة عن الملكية في بعض الأعمال والخدمات، بموافقة مجلس الوزراء، وبناء على قرار معلل من الوزير المختص، ولعل ذلك يطرح جدياً التساؤل عن جدوى بقاء المؤسسة أو الشركة أو المنشأة في هذه الحالة، ومدى دورها وقدرتها في الاضطلاع بأعباء المرفق العام المنوط بها.

التزام المرافق العامةLa concession de service public:

عقد التزام مرفق عام هو تصرف قانوني تعهد بموجبه الدولة تنفيذ مرفق عام على نحو اتفاقي إلى شخص آخر من أشخاص القانون الخاص من حيث المبدأ، وتنتقيه من حيث الأصل بملء حريتها، وتسمى الإدارة في هذه الحالة بالسلطة المانحة L’autorité concédante، أما المتعاقد معها فيطلق عليه تسمية الملتزم Concessionnaire، وإن الالتزامات الأساسية المترتبة على عقد الالتزام تتمثل في أن يؤمن الملتزم على نفقته ومسؤوليته سير المرفق طبقاً لدفاتر الشروط، وأن يقوم بإعداد الإنشاءات الأولية للمرفق، في مقابل أن تمكنه الإدارة من تحصيل رسوم من المنتفعين بالمرفق محل الالتزام، لمدة محدودة هي مدة العقد نفسه، والتي بعد انقضائها يلتزم المتعاقد بنقل المرفق مع إنشاءاته إلى حوزة الإدارة بحال جيدة.

ويلاحظ في هذا المقام، أن المرفق العام في هذه الحالة يدار عن طريق شخص آخر غير الإدارة، وهذا الشخص من حيث المبدأ هو أحد أشخاص القانون الخاص، وتلجأ الإدارة عادة إلى هذا الأسلوب في الإدارة للاستفادة من مزايا الإدارة الخاصة للأعمال، من دون أن تفرط في ملكية المرفق، أو في حقها في تنظيمه وفقاً لمقتضيات المصلحة العامة، كما يلاحظ أيضاً أن أسلوب الإدارة عن طريق الالتزام إنما يكون للمرافق العامة الاقتصادية أساساً.

مشاطرة الاستغلال La régie intéressée:

مشاطرة الاستغلال عقد تعهد بموجبه الدولة لأحد أشخاص القانون الخاص من حيث المبدأ مهمة إدارة وتسيير مرفق عام معين، مقابل مكافأة مالية تحدد غالباً عن طريق النتائج المالية للاستغلال.

ويتشابه عقد مشاطرة الاستغلال وعقد الالتزام في أن فرداً عادياً (أو شركة خاصة) هو الذي يقوم بإدارة المرفق العام واستغلاله، كما يتشابهان أيضاً في أن العمال اللازمين لإدارة المشروع ليسوا موظفين عموميين، على الرغم من مساهمتهم في إدارة واستغلال المرفق.

ولكنهما يختلفان في أن الملتزم في عقد الالتزام هو الذي يقدم رأس المال اللازم لإعداد المرفق وتشغيله، أما في مشاطرة الاستغلال، فالمستغل لا يقدم رأس المال، ولا يقوم بإعداد المرفق، إنما يقوم فقط بمهمة الإدارة والاستغلال.

ويختلفان أيضاً من حيث اقتضاء المقابل المالي لإدارة المرفق، فالملتزم يحصل على المقابل المالي لإدارة المرفق من منتفعي هذا المرفق مباشرة في حين أن المستغل في مشاطرة الاستغلال يحصل على المقابل المالي من الإدارة محسوباً على أساس النتائج المالية لاستغلال المرفق.

5 ـ الاستغلال المشترك:

الاستغلال المشترك تعبير اصطلح على إطلاقه على المشروعات التي تدار بواسطة الدولة أو إحدى الوحدات الإدارية من جانب، والأفراد من جانب آخر، فيسهم الطرفان في تكوين رأس المال اللازم لإنشاء المشروع، وفي إدارته.

وتقوم طريقة الاستغلال المشترك على فكرة أساسية تتمثل في التوفيق بين اعتبارات المصلحة العامة التي تستهدفها الإدارة من جهة، والمصلحة الخاصة في تحقيق الربح الذي يستهدفه المساهمون من الأفراد. وكذلك تحقق هذه الطريقة التوفيق بين أساليب الإدارة المباشرة، وبين أسلوب الالتزام، وذلك للتغلب على عيوب الإدارة المباشرة من بطء وتعقيد وروتين، وعلى عيوب طريقة الالتزام والتي تتمثل في أن الملتزم لا يقصد في النهاية إلا تحقيق الربح.

واستناداً إلى ما تقدم، فإن طريقة الاستغلال المشترك تستند إلى أساسين:

أ ـ تتخذ طريقة الاستغلال المختلط عادة صورة شركة مساهمة تخضع لأحكام القانون التجاري لتمويل المشروع، وقد تكون مساهمة الدولة أو إحدى الوحدات الإدارية ذات طابع مالي، أي تتخذ صورة اكتتاب في جزء من رأس المال على شكل أسهم أو سندات، وتترك بقية الأسهم والسندات للأفراد والشركات، أو قد تكون مساهمة الدولة أو الوحدة الإدارية عينية، كما هو الحال إذا تمت المساهمة بما تملكه الدولة من منجم أو محجر أو بئر بترول.

ب ـ يجب أن يسهم الطرفان في إدارة المشروع، ومقتضى ذلك أن يكون للدولة أو إحدى الوحدات الإدارية ممثلون في مجلس إدارة الشركة بنسبة نصيبها في رأس المال، إلى جانب ممثلي أصحاب الأسهم من الأفراد والشركات، وبذلك تسهم السلطة الإدارية في الإدارة الداخلية للشركة، ويحدد قانون تأسيس الشركة اختصاصات ممثلي كل من الطرفين: الإدارة والأفراد المساهمين. وتسمى مثل هذه الشركات بشركات الاقتصاد المختلط Les sociétés d’économie mixte.

وتعد طريقة الاستغلال المختلط أكثر قبولاً لإدارة المرافق ذات الطابع الاقتصادي، بيد أنه لا يوجد ما يمنع السلطة الإدارية من أن تساهم بهذه الطريقة في مشروع خاص، سواء أقصدت بذلك مجرد إعاقة هذا المشروع، أم استهدفت توظيف أموالها.

ومادام المشروع الذي يدار بهذه الطريقة يأخذ شكل شركة مساهمة، ويخضع من حيث الأصل في علاقاته القانونية للقانون الخاص، فإن العاملين في المشروع لا يعدون ـ بالطبع ـ موظفين عامين، إنما أجراء خاضعون لقانون العمل.

إن التطبيق العملي لهذا الأسلوب في إدارة المرافق العامة أثبت أن هناك ثلاثة أنواع من الشركات المختلطة فهناك من جهة الشركات المختلطة الحقيقية وهي تلحظ مشاركة حقيقية وفعالة على الأقل للقطاع الخاص، وهناك من جهة أخرى الشركات المختلطة الزائفة وتكون مشاركة القطاع الخاص فيها ذات طابع رمزي أو شكلي، وهناك من جهة ثالثة الشركات المختلطة الوهمية وهي التي تضم شركاء من أشخاص القانون العام، ومساهمين آخرين هم من أشخاص القانون الخاص إنما ينتمون إلى القطاع العام.

لذلك فقد اتجه الفقه إلى إيجاد حل لتمييز الشركات المختلطة، فتم وضع معياريين في هذا المجال:

(1) المعيار العضوي: وهو لا يكترث بمصدر تمويل الشركة، ويذهب إلى اعتبار أن وجود شراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص في رأس المال كاف بذاته للقول بوجود شركة اقتصاد مختلط، أي يغض هذا المعيار عن مدى مساهمة القطاع الخاص في الشركة ولو كانت مشاركة بسيطة. كما يعترف هذا المعيار بوجود شركة الاقتصاد المختلط، وإن كان الشخص الخاص الشريك في مثل هذه الشركات هو في حقيقته منتم إلى القطاع العام.

(2) المعيار المادي: ويرى أن شركات الاقتصاد المختلط لا توجد إلا إذا حدث تداخل بين المصالح الخاصة والمصالح العامة، ومن ثم فلا يمكن تصور وجود شركات اقتصاد مختلط إلا بمشاركة أشخاص من القانون الخاص على نحو حقيقي مع أشخاص القانون العام، ويعلق هذا المعيار أيضاً الأهمية الكبيرة على مصدر رأس مال الشركة، والجهة ذات المساهمة الأكبر. وقد تردد القضاء الإداري الفرنسي في الأخذ بأحد هذين المعيارين، ولا يوجد أي موقف للقضاء الإداري السوري حول ذلك.

ومن أبرز ما يعاب على طريقة الاستغلال المختلط أن القطاع الخاص قد يتجه ـ على الرغم من مشاركته للقطاع العام ـ إلى تغليب المصالح الخاصة على المصالح العامة.

تاسعاً ـ الانتفاع من المرافق العامة:

تسمى عملية الاستفادة من الخدمات التي تقدمها المرافق العامة انتفاعاً، والأفراد الذين يقتضون هذه الخدمة يطلق عليهم تسمية المنتفعين Les usagers، ويختلف المركز القانوني للمنتفعين تبعاً لاختلاف الخدمات التي يسديها المرفق العام، وما إذا كانت خدمات مباشرة أو غير مباشرة، إذ تقوم في الحالة الأولى علاقة مباشرة بين المرفق والمنتفعين، وتنعدم في الحالة الثانية الصلة المباشرة بين المرفق والمنتفعين، فقد تكون الخدمات التي تؤديها المرافق العامة غير مباشرة أي إن المرفق في هذه الحالة يقدمها للأفراد الذين يستفيدون من نشاطه من دون تخصيص أفراد محددين، وفي هذه الحالة لا تنشأ روابط مباشرة بين المرفق وأولئك الأفراد، فلا يوجد بين هؤلاء الأخيرين والمرفق العام أي عقد أو اتفاق، ولا تستلزم إدارة المرافق العامة وتنظيمها إنشاء صلات خاصة بينها وبين المنتفعين بخدماتها، ويعد الانتفاع من المرافق العامة الإدارية الحالة النموذجية لذلك، إذ لا يتطلب الانتفاع بخدمات تلك المرافق أي رابطة شخصية بين المنتفع والمرفق العام، فكل فرد في الدولة يستفيد مما تقدمه الإدارة من خدمات مرفق الأمن في أناء الليل أو أطراف النهار، وكذلك مرفق الدفاع، والسير في الطرقات … إلخ، من دون أن تنشأ رابطة شخصية بين المنتفع والمرفق.

إلا أنه إذا كان هذا هو الأصل في مجال الانتفاع من خدمات المرافق العامة الإدارية، إلا أنه ليس أصلاً عاماً، إذ توجد حالات للانتفاع من خدمات المرافق العامة الإدارية، تتطلب وجود علاقة شخصية بين المرفق والمنتفع، وذلك كالمنتفع من خدمات مرفق عام صحي على سبيل المثال أو كالمنتفع من الخدمات التعليمية للجامعة، وعندئذ فإن الرابطة التي تقوم بين المنتفع الذي يطلب الخدمة والمرفق الذي يقدم هذه الخدمة لا تعد من قبيل الروابط العقدية، على الرغم من الإيجاب والقبول المتبادلين بين المرفق والمنتفع من خدماته، وذلك لأن شروط وأوضاع تقديم الخدمة للمنتفع لا تحدد بإرادة الأطراف إنما تحدد بالطريق اللائحي أو القانوني، بحسبانها قواعد تنظيم المرفق التي تنأى بطبيعتها عن المجالات التعاقدية تحت طائلة البطلان. ومن ثم فإنه لا يوجد في هذه الحالة وضع عقدي إنما وضع اتفاقي، تتمثل آثاره في إسناد القواعد العامة المجردة التي تتعلق بتنظيم المرفق على حالة انتفاع محددة، وهذا يعني أن الوضع الاتفاقي الموجود في هذه الحالة إنما يكون ذا طابع شرطي Conditionnelle، إذ يكون هذا الاتفاق شرطاً لإمكانية الانتفاع من خدمات هذا المرفق أو ذاك.

لذلك فإن الفقه مجمع على أن مركز المنتفعين إزاء المرافق العامة الإدارية يكون دائماَ مركزاً قانونياً عاماً تحكمه القوانين واللوائح المتعلقة بتلك المرافق، وأن المنتفعين يستمدون حقهم في المطالبة بأداء الخدمة من قانون المرفق ذاته، ويترتب على ذلك:

يحق للإدارة أن تعدل من أوضاع تنظيم المرفق وسيره، ويسري هذا التعديل على المنتفعين الحاليين والمستقبليين، ولا يكون لأحد الاحتجاج بالحقوق المكتسبة، كما يترتب على ذلك المركز، حق الفرد في مطالبة الإدارة بضرورة سير المرفق العام بانتظام واطّراد في خدمة المصلحة العامة.

يجوز للفرد أن يطالب الإدارة القوامة على سير المرفق باقتضاء الخدمة وفقاً لقواعد تنظيم المرفق المتجسدة في شكل قواعد نشريعية، فإذا لم تجب الإدارة طلبه كان له أن يتوجه إلى القضاء طالباً إلغاء قرارها المتضمن عدم منحه الخدمة التي يقدمها المرفق، فإذا تراءى للقضاء عدم مشروعية القرار قام بإلغائه، ووجه عدم المشروعية الموجب للإلغاء في هذه الحالة، هو امتناع الإدارة عن تقديم الخدمة بالمخالفة لشروط تنظيم المرفق التي تعطي الحق للمنتفع بذلك. وهنا يجب على الإدارة أن تلتزم بتقديم الخدمة لصاحب العلاقة. مع عدم الإخلال بحق الفرد في التعويض إن كان له مقتضى.

وإذا كان الانتفاع من المرافق العامة الإدارية يتبلور على النحو المذكور سابقاً، فإن الانتفاع من المرافق العامة الاقتصادية لا يكون إلا مباشراً، إذ يقتضي المنتفعون الخدمات من هذه المرافق على أساس إيجاب وقبول متبادلين بينهم وبين الإدارة القوامة على هذه المرافق. وقد استقر الفقه والقضاء على أن العلاقة بين المرافق العامة الاقتصادية ومنتفعيها هي علاقة عقدية يحكمها القانون الخاص، ويعد ذلك قرينة غير قابلة لإثبات العكس.

 

مراجع للاستزادة:

 

ـ محمد عبد الحميد أبو زيد، دوام سير المرافق العامة (دار النهضة العربية، القاهرة 1976).

ـ محمود أبو السعود، الموظف العام وممارسة الحقوق والحريات السياسية (منشورات جامعة عين شمس 1997).

ـ ناصف إمام سعد هلال، إضراب العاملين بين الإجازة والتحريم، رسالة دكتوراه (جامعة عين شمس 1984).

ـ مهند نوح، الإيجاب والقبول في العقد الإداري، منشورات الحلبي الحقوقية (بيروت 2005).

ـ عبد الله طلبة، محمد الحسين، مهند نوح، المدخل إلى القانون الإداري (جامعة دمشق 2004).

ـ مهند نوح، عقود البناء والتشغيل والتحويل (هيئة الموسوعة العربية، دمشق 2007).

ـ سليمان الطماوي، الوجيز في القانون الإداري (دار الفكر العربي، القاهرة 1991).

ـ مصطفى أبو زيد فهمي، الوجيز في القانون الإداري، نظرية المرافق العامة (الاسكندرية 1957).

ـ سعاد الشرقاوي، القانون الإداري، وتحرير الاقتصاد (دار النهضة العربية، القاهرة 1994).

ـ فؤاد العطار، القانون الإداري، دار النهضة العربية (القاهرة 1977).

ـ محمد عبد اللطيف، الاتجاهات المعاصرة في إدارة المرافق العامة الاقتصادية (دار النهضة العربية، القاهرة 2000).

ـ محمد عبد اللطيف، تفويض المرفق العام (دار النهضة العربية، القاهرة 2000).

ـ محمد فؤاد مهنا، حقوق الأفراد إزاء المرافق العامة الاقتصادية (معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة 1970).

ـ محمد المتولي، الاتجاهات الحديثة في خصخصة المرافق العامة بين النظرية والتطبيق (دار النهضة العربية، القاهرة 2004).

- G. Guglielmi - G. Koubi, Droit du service public (Montchrestien, Paris 2000).

- G. Braibant, Le droit administratif français (Dalloz, Paris 1988).

- C. Debbasch, Le droit administratif (P.U.F, Paris 1992).

- L. Duguit, Les tranformations du droit public (Armand.Colin, Paris 1913).

- R. Drago, Les crises de la notion d établissement public (Pédon, Paris,1950).

- N. Frier, Le principe d égalité (A.J.D.A 1998).

- P.Terneyre.PH, La notion de convention de délégation (A.J.D.A 1996).

- A. Laubadère, Gaudemet et J.C.Venizia, Traité de droit administratif )L.G.D.J, Paris 1999).

- R.Chapus, Droit administratif général (Delta, Paris 2001).

- A.V. Lang - G. Gonduin & V. Inserguet - Drisset, Dictionnaire de droit administratif (A.Colin, Paris 2005).


التصنيف : القانون العام
النوع : القانون العام
المجلد: المجلد السابع: المحكمة الجنائية الدولية _ ولاية المظالم في الإسلام
رقم الصفحة ضمن المجلد : 63
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 551
الكل : 29616385
اليوم : 71301