logo

logo

logo

logo

logo

النظام المختلط

نظام مختلط

mixed regime - régime mixte

 النظام المختلط

النظام المختلط

سام دلة

مفهوم النظام المختلط

خصائص النظام المختلط

النظام الفرنسي بوصفه نموذجاً للنظام المختلط

التطبيق العملي للنظام السياسي الفرنسي

 

لا يوجد وفقاً للتقسيمات التقليدية للأنظمة السياسية من منظور الفقه الدستوري نظام سياسي دستوري تحت اسم "النظام المختلط"؛ على الرغم من أن هذا النمط من الأنظمة بدأ ينتشر في الحياة السياسية منذ منتصف القرن الماضي.

والنظام المختلط هو النظام الدستوري الذي يجمع بين خصائص الحكم وتقنياته في كل من النظامين الرئيسيين من الأنظمة السياسية: النظام البرلماني والنظام الرئاسي. بتعبير آخر: النظام المختلط هو النظام الذي يرتكز في أصله على النظام البرلماني مع إدخال تقنيات النظام الرئاسي، حيث تمت تقوية السلطة التنفيذية ولا سيما صلاحيات رئيس الدولة، الذي أضحى يتمتع بصلاحيات أوسع مما يتمتع به رئيس الدولة في النظام البرلماني التقليدي، بحيث أضحت قريبة من تلك التي يتمتع بها رئيس الدولة في النظام الرئاسي. وهذا ما دعا بعض الفقه إلى تسمية هذا النموذج من الأنظمة بالنظام "شبه الرئاسي".

هذا النوع من الأنظمة السياسية أخذ به العديد من دول العالم، ونموذجه الرئيسي هو نظام الحكم الذي كرسه دستور الجمهورية الخامسة في فرنسا عام 1958، وتم الاستئناس بهذا النظام في البرتغال، وإيسلندا، وفنلندا، وإيرلندا، وروسيا،… ومعظم الدول العربية.

أولاً ـ مفهوم النظام المختلط:

يقوم النظام المختلط على دستور يجمع بين تقنيات النظام البرلماني ومظاهره وتقنيات النظام الرئاسي ومظاهره. فهذا النظام يتميز بثنائية السلطة التنفيذية (رئيس للدولة ورئيس للحكومة) يشتركان في ممارسة صلاحيات هذه السلطة، وهو أهم مظاهر النظام البرلماني. ولكن يختلف عن النظام البرلماني التقليدي في أن رئيس الدولة يتم اختياره من الشعب عن طريق الاقتراع العام، وبالتالي لا يمكن تصور قيام النظام المختلط إلا في الدول ذات الشكل الجمهوري على خلاف النظام البرلماني الذي نشأ في قلب الدول ذات الشكل الملكي. ويختلف هذا النظام عن النظام الرئاسي في أن الحكومة مسؤولة أمام البرلمان الذي يستطيع محاسبتها وإسقاطها عن طريق تقنية سحب الثقة، والسلطة التنفيذية (رئيس الدولة أو الحكومة أو كلاهما معاً) تملك حق حل البرلمان.

وتختلف الدول التي تأخذ بالنظام المختلط في آليات عملها باختلاف الموقع الفعلي لرئيس الدولة في السلطة التنفيذية، وذلك بحسب تمتعه بأغلبية برلمانية (يصبح أقرب للنظام الرئاسي) أو عدم تمتعه بالأغلبية البرلمانية (يصبح أقرب للنظام البرلماني).

1ـ الرئيس يتمتع بأغلبية برلمانية:

كلما كان الرئيس يتمتع بمساندة الأغلبية البرلمانية فإن الرئيس يكتسب قوة كبيرة تتجاوز حتى قوة الرئيس في النظام الرئاسي. ففي هذه الحالة تتشكل في البرلمان ما يعرف بالأغلبية البرلمانية ـ الرئاسية، تعطي رئيس الدولة الحرية المطلقة في تعيين رئيس الحكومة وعزله. والنظام الفرنسي هو أفضل مثال لهذه الحالة باستثناء بعض الفترات القصيرة التي عرفت ما سمي بـ"المساكنة" أو "التعايش" بين رئيس دولة من لون سياسي لا يملك الأغلبية في البرلمان ورئيس حكومة يستند إلى أغلبية برلمانية من لون سياسي معارض لرئيس الدولة. ولكن في عدد من الدول التي أخذت بالنظام المختلط ـورغم تمتع رئيس الدولة بأغلبية برلمانية ورغم تمتعه بصلاحيات دستورية تجعله في موقف قوي ـ يفضل أن يترك (نتيجة لاعتبارات مرتبطة بالحياة السياسية والحزبية) سلطات أوسع لرئيس الحكومة، وهذا ما يمكن أن يُلمس على سبيل المثال في النمسا.

الرئيس لا يتمتع بأغلبية برلمانية:

إذا كان الرئيس لا يتمتع بالأغلبية البرلمانية، فإن الحكومة لا تملك الكثير من المبادرة مما يؤثر في استقرارها. وفي هذا النموذج قد يوجد حزب يملك الأغلبية في البرلمان؛ وفي هذه الحالة يكون دور رئيس الدولة شبيهاً بالنظام البرلماني. وقد يُرى في بعض الدول أن الأحزاب التي تملك الأغلبية في البرلمان عاجزة عن تكوين ائتلاف للحكم؛ مما يدفع برئيس الدولة لاستخدام سلطاته لإرغام الأحزاب على تكوين ائتلاف يسمح بتسيير شؤون البلاد.

ثانياً ـ خصائص النظام المختلط:

يمكن إجمال عناصر وخصائص النظام الرئاسي بأمرين أساسيين:

1ـ ثنائية السلطة التنفيذية وتفوق سلطة رئيس الدولة:

يُعدّ مبدأ ثنائية السلطة التنفيذية مستوحى من النظام البرلماني. فإلى جانب رئيس الدولة حكومة تتمتع بصلاحيات دستورية تمكنها من رسم السياسة العامة وتسيير شؤون الدولة، وتُعدّ الحكومة مسؤولة أمام البرلمان.

 بيد أن انتخاب رئيس الجمهورية من قبل الشعب بالاقتراع العام يمنحه سلطات واسعة تسمح له بالظهور بمظهر المهيمن أو المتفوق في السلطة التنفيذية. ويتجلى هذا التفوق بعدد من المظاهر في الدستور. فالرئيس يرأس مجلس الوزراء أو له الحق في ترؤسه، وله سلطة تعيين رئيس الحكومة وتعيين الوزراء بناءً على اقتراح رئيس الحكومة، ويعين كبار الموظفين، ويتمتع بسلطات تنظيمية واسعة إضافةً إلى أن بعض الدساتير تمنحه سلطات تشريعية. كذلك فإن الرئيس يمتلك سلطات واسعة في الظروف الاستثنائية، كما أنه يمكنه اللجوء إلى الشعب لاستفتائه. وعلى الرغم من الصلاحيات التي يتمتع بها رئيس الدولة؛ فهو غير مسؤول سياسياً إلا أمام الهيئة الناخبة، في حين يمارس البرلمان المسؤولية السياسية على الحكومة. ولذلك فإن الرئيس يمارس صلاحياته من خلال إشراك الحكومة في التوقيع على معظم قراراته من خلال ما يعرف دستورياً تحت اسم "التوقيع الإضافي".

2ـ التعاون والتوازن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية:

تتجلى مظاهر هذا التعاون في العديد من الآليات. فالحكومة تملك سلطة المبادرة التشريعية، ويمكنها طلب تفويض تشريعي من البرلمان للتشريع في بعض القضايا خلال فترات زمنية محددة، وتمتلك سلطة تنظيمية واسعة.

أما مظاهر التوازن فتتجلى خصوصاً من خلال سلطة البرلمان في ممارسة الرقابة على الحكومة التي تُعدّ المسؤولة سياسياً أمامه، والذي يمكنه في الدرجة النهائية من تقنيات الرقابة إمكانية سحب الثقة من أحد الوزراء أو من الحكومة. في المقابل تمتلك الحكومة وبواسطة رئيس الدولة سلطة حل البرلمان والدعوة لانتخابات مبكرة.

ثالثا. النظام الفرنسي بوصفه نموذجاً للنظام المختلط

بعد إخفاق النظام السياسي الذي أقامه دستور الجمهورية الرابعة في مواجهة بعض المشاكل على الصعيدين الداخلي والخارجي، وخصوصاً بعد عجز السلطات العامة عن السيطرة على التمرد العسكري في الجزائر، استنجد رئيس الجمهورية رينه كوتي René Coty بالجنرال شارل ديغول Charles de Gaulle بوصفه رئيساً للحكومة (29 أيار/مايو إلى أول حزيران/يونيو 1958)، حيث فوضت الجمعية الوطنية حكومة الجنرال ديغول بإعداد دستور جديد للبلاد. وفي 28 أيلول/سبتمبر 1958 عرض مشروع الدستور على الاستفتاء الشعبي، حيث حصل على الأغلبية، ووضع موضع التنفيذ في 4 تشرين الأول/أكتوبر 1958، ومعه يبدأ عصر ما يسمى بالجمهورية الخامسة. هذا الدستور لا يزال قيد النفاذ مع بعض التعديلات.

وقد أقام الدستور الجديد للدولة الفرنسية نظاماً سياسياً مستحدثاً؛ إذ أخذ من النظام الرئاسي بعض آلياته، ومن النظام البرلماني بعض آلياته، إضافةً إلى محاولة عقلنة البرلمانية. لذلك تُعدّ مسألة تحديد طبيعة هذا النظام صعبة للغاية. ويضاف إلى هذه الصعوبة الإبهام والتشابك في الاختصاصات الذي تبرزه صياغة الدستور وكذلك التطبيق العملي له خلال أكثر من أربعين عاماً. وهذا ما دعا جانباً من الفقه الدستوري الفرنسي وعلى رأسهم الفقيه موريس ديفرجيه M. Duverger إلى وصف هذا النظام المستحدث بالنظام "شبه الرئاسي"، أو النظام "البرلماني ـ الرئاسي".

1ـ المؤسسات الدستورية الرئيسية

جاء دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة لعام 1958، عقب ما تميزت به مؤسسات الجمهوريتين الثالثة والرابعة من عدم استقرار وعدم إمكانية مواجهة احتياجات المجتمع الفرنسي، وخاصةً تلك المتعلقة بالتقدم المادي أو الاقتصادي. لذلك فإن الدستور الجديد عمل على تلافي محاذير النظام البرلماني وعدم الاستقرار الحكومي؛ من خلال إصلاح السلطة التنفيذية وعقلنة البرلمانية.

فمن الناحية الشكلية فإن دستور 1958ـ الذي جاء بمقدمة قصيرة و(92) مادة ـ قد أعطى أولوية ولو رمزية للسلطة التنفيذية على السلطة التشريعية. فنظم في بابه الثاني (المواد 5ـ19) رئاسة الجمهورية، ونظم في بابه الثالث (المواد 20ـ23) الحكومة، في حين نظم البرلمان في الباب الرابع منه (المواد 24ـ33). هذا التنظيم الشكلي الجديد ـ ولو كانت قيمته الأساسية رمزية ـ جاء لقلب المفاهيم الدستورية التي سادت في الجمهورية الرابعة خصوصاً، والتي أعطت أولوية للبرلمان على السلطة التنفيذية. وفي الباب الخامس المنظم للعلاقة بين البرلمان والحكومة عمل الدستور الجديد على عقلنة البرلمانية، حيث أقام توازناً بين امتيازات البرلمان والحكومة، دون المساس بسيادة التمثيل الوطني، ومتجنباً عدم الاستقرار الحكومي.

وأهم المؤسسات الدستورية التي جاء بها دستور الجمهورية الخامسة هي:

أ ـ السلطة التنفيذية

تتألف السلطة التنفيذية من ثنائية مستوحاة من النظام البرلماني التقليدي: رئيس جمهورية وحكومة.

> رئيس الجمهورية:

ينتخب رئيس الجمهورية من الشعب بالاقتراع العام (بعد تعديل 1962) وذلك بالأغلبية المطلقة (على دورتين) لولاية مدتها خمس سنوات (بعد تعديل 2000). ويتمتع بصلاحيات واسعة:

< صلاحيات تنفيذية: يقوم بتعيين الوزير الأول والوزراء (مع مراعاة الأغلبية في البرلمان في حالة التعايش) وكبار الموظفين. كذلك هو القائد الأعلى للجيوش، ويرأس المجالس واللجان العليا للدفاع الوطني. ويمارس اختصاصات واسعة في العلاقات الدولية من اعتماد السفراء وتعيينهم وإبرام المعاهدات والاتفاقيات.

< صلاحيات تشريعية: لرئيس الجمهورية سلطة إصدار القوانين بعد إقرارها من البرلمان، وله حق الاعتراض على القوانين، ولا يملك البرلمان تجاوز اعتراض الرئيس إلا بإعادة إقرار القانون المعترض عليه بأغلبية ثلثي أعضائه. وللرئيس حق توجيه رسائل للبرلمان.

< صلاحيات قضائية: يملك رئيس الجمهورية سلطة تعيين ثلاثة من أعضاء المجلس الدستوري بينهم الرئيس، وهو الضامن لاستقلال القضاء من خلال ترؤسه مجلس القضاء الأعلى، وله حق العفو العام.

< صلاحيات دستورية ذات صبغة سياسية: حق اللجوء إلى استفتاء الشعب، حق حل الجمعية الوطنية (البرلمان)، اللجوء إلى المجلس الدستوري، اقتراح تعديل الدستور.

< صلاحيات استثنائية: استخدام المادة (16) من الدستور التي تعطيه صلاحيات مطلقة لمواجهة الظروف الاستثنائية.

> الحكومة:

الحكومة هي المؤسسة التي تدير شؤون الدولة؛ وفق السياسة العامة التي يرسمها مجلس الوزراء. ولا يمكن الجمع بين عضوية الحكومة وعضوية البرلمان. فالنائب الذي يعين وزيراً يحل محله ما يعرف بـ"النائب الرديف" الذي ينتخب مع النائب. ويمكن أن يُميز بين تشكيلين في العمل الحكومي:

< مجلس الوزراء: وهو اجتماع الحكومة الدوري الذي يعقد برئاسة رئيس الجمهورية في قصر الإليزية (أو برئاسة الوزير الأول بناء على تفويض من رئيس الجمهورية بناء على جدول أعمال محدد)، وهو الذي يملك سلطة التقرير في القضايا الحكومية.

< مجلس الوزارة: هو اجتماع تحضيري تنسيقي يعقد برئاسة الوزير الأول في مقر إقامته، وهذا المجلس لا يملك سلطة التقرير.

وتمارس الحكومة تسيير أعمال الدولة، وتملك سلطة إعلان حالة الطوارئ، وتستطيع ممارسة سلطة التشريع بناءً على تفويض من البرلمان.

ب ـ السلطة التشريعية (البرلمان):

يتألف البرلمان الفرنسي من مجلسين (غرفتين):

< الجمعية الوطنية: يدل تعبير الجمعية الوطنية Assemblée nationale على أحد مجلسي البرلمان، الذي ينتخب عن طريق الاقتراع المباشر. وقد خصص قصر بوربون PalaisـBourbon مقراً لعقد جلسات الجمعية الوطنية. وتتكون الجمعية الوطنية من 577 نائباً (555 ينتخبون في فرنسا الأم، و22 في مقاطعات ما وراء البحار). وتنتخب لولاية مدتها خمس سنوات. ويشترط فيمن يرشح نفسه لعضوية الجمعية أن يكون متمتعاً بصفة الناخب، وقد أتم /23/ عاماً من العمر. ويتم الانتخاب وفق نظام الانتخاب الفردي بالأغلبية المطلقة (على دورتين).

< مجلس الشيوخ: يضمن مجلس الشيوخ Sénat تمثيل الهيئات المحلية Collectivités locales والفرنسيين المقيمين خارج فرنسا، وهذا ما يفسر كيفية تعيين أعضائه. ويؤدي هذا المجلس دوراً أقل من الجمعية الوطنية في المجالين التشريعي والرقابي. وعلى خلاف الجمعية الوطنية لا يمكن حل مجلس الشيوخ. وقد خصص قصر اللوكسمبورغ Palais du Luxembourg مقراً لعقد جلساته. ويبلغ عدد أعضاء مجلس الشيوخ /331/ شيخاً Sénateurs. وينتخب مجلس الشيوخ لولاية مدتها /6/ سنوات، يجدد نصفه كل ثلاث سنوات(بعد تعديل 2003). ويشترط فيمن يرشح لعضوية مجلس الشيوخ الشروط نفسها بالنسبة إلى عضوية الجمعية الوطنية، باستثناء سن المرشح والذي حدد بإتمام /35/ عاماً. وينتخب أعضاء مجلس الشيوخ بطريق الاقتراع أو الانتخاب غير المباشر. ويختلف نظام انتخاب الشيوخ تبعاً لعدد الشيوخ الذين ينتخبهم كل إقليم.

ج ـ المجلس الدستوري:

يتألف المجلس من فئتين من الأعضاء:

> أعضاء بحكم القانون ولمدى الحياة: وهم رؤساء الجمهوريات السابقون الذين لا يزالون على قيد الحياة.

> أعضاء معيّنون: يبلغ عددهم تسعة أعضاء، يعينون لمدة تسع سنوات، ويجدد ثلثهم كل ثلاث سنوات. ويعيّن كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الشيوخ ورئيس الجمعية الوطنية؛ ثلاثة من أعضاء المجلس.

ويمارس المجلس الرقابة على دستورية القوانين مسبّقاً بناءً على طلب مقدم من قبل: رئيس الجمهورية، أو الوزير الأول أو رئيس الجمعية الوطنية أو رئيس مجلس الشيوخ، أو 60 نائباً أو 60 شيخاً (بعد تعديل 1974). كذلك يفصل في المنازعات الانتخابية المتعلقة بالانتخابات الرئاسية والتشريعية.

رابعاً ـ التطبيق العملي للنظام السياسي الفرنسي

تبدو البنية العامة للسلطات التي أنشأها دستور الجمهورية الخامسة تقليدية. فالبرلمان مؤلف من مجلسين: الأول (الجمعية الوطنية) منتخب بالاقتراع العام المباشر، والثاني (مجلس الشيوخ) بالاقتراع غير المباشر، مع تقاسم غير متساوٍ للسلطات بين المجلسين لمصلحة المجلس الأول. حيث تستطيع الجمعية الوطنية وحدها إسقاط الحكومة من خلال طرح الثقة، وتكون لها الكلمة الأخيرة في العملية التشريعية. يضاف إلى هذه الثنائية البرلمانية؛ ثنائية في السلطة التنفيذية: رئيس جمهورية غير مسؤول سياسياً، وحكومة يقودها الوزير الأول مسؤولة أمام الجمعية الوطنية. وأخيراً الاعتراف باستقلال السلطة القضائية تحت رعاية رئيس الجمهورية ومجلس القضاء الأعلى.

ولكن التعمق في آلية عمل هذه المؤسسات، والتركيز على الواقع الذي أفرزته؛ يدلان على أن النظام السياسي الفرنسي أنتج ظاهرتين أساسيتين: الظاهرة الأولى هي تقوية السلطة التنفيذية على حساب السلطة التشريعية، والثانية هي التعايش أو المساكنة بين رئيس جمهورية وبين وزير أول (أو حكومة) من اتجاهين سياسيين مختلفين أو متنافسين.

1ـ تفوق السلطة التنفيذية:

في الحقيقة أنّ الجهد المندفع جداً باتجاه إقامة برلمانية معقلنة أفرز هذا التفوق الملحوظ للسلطة التنفيذية على حساب السلطة التشريعية، كذلك فإن طريقة انتخاب رئيس الجمهورية وصلاحياته أفرزت أيضاً تقدماً أو أولوية لهذا الأخير في مواجهة الحكومة.

عقلنة النظام البرلماني:

تهدف البرلمانية المعقلنة إلى إقامة توازن بين امتيازات البرلمان وتلك العائدة للسلطة التنفيذية أو الحكومة؛ بحيث لا يؤدي ذلك من جهة إلى المساس بالتمثيل الوطني، ولا إلى عدم الاستقرار الحكومي من خلال انبثاق الحكومة من أغلبية متجانسة في البرلمان.

هذه العقلنة للبرلمانية تتضح من خلال الآليات الجديدة التي جاء بها دستور 1958. فالسلطة التشريعية للبرلمان جاءت محددة على سبيل الحصر، ويمكن أن يفوضها للحكومة إذا طلبت ذلك؛ أي إن الحكومة أصبحت وفقاً لذلك صاحبة الاختصاص العام في التشريع.

يضاف إلى ذلك جملة من الامتيازات المعترف بها للحكومة في علاقتها بالبرلمان فيما يتعلق بالعمل التشريعي: أفضلية مشاريع القوانين المقدمة من الحكومة في التسجيل على جدول أعمال البرلمان، طلب الحكومة التصويت الإجمالي لتسريع الإجراءات أو لتجاوز أي تعديل أو تشويه لنصوص مشاريع القوانين المقدمة من قبلها، إعطاء الحكومة للجمعية الوطنية الكلمة الحاسمة في حال عدم التوافق مع مجلس الشيوخ حول إقرار نص ما…إلخ.

وهذه العقلنة البرلمانية تتضح أيضاً من خلال تنظيم مسؤولية الحكومة أمام البرلمان. فلم يعد بإمكان الجمعية الوطنية أن تسقط الحكومة عن طريق إجراءات "تافهة"، ورفض الثقة عن طريق رفض النصوص التي تقترحها الحكومة (المادة 49 من الدستور). يضاف إلى ذلك إجراءان أساسيان نصت عليهما المادة (49) المذكورة: الأول يتعلق بالأكثرية المطلقة للتصويت على اقتراح بحجب الثقة عن الحكومة، التي تحتسب على أساس عدد الأعضاء الذين يؤلفون الجمعية الوطنية، بحيث يُعدّ المتغيبون والممتنعون عن التصويت كالمصوتين لمصلحة الحكومة. والثاني مفاده بأنه في حال عدم وجود اقتراح بحجب الثقة أو عدم التصويت عليه في حال وجوده؛ يُعد النص الذي ربطت الحكومة مسؤوليتها على أساسه مصدقاً.

هذه الرزمة من الإجراءات تسمح بالاستقرار الحكومي، حيث تتمكن الحكومة من أن تحصل بسهولة على القوانين والاعتمادات المالية الضرورية للقيام بمهامها.

يضاف إلى ذلك، أنّ حق الحل ـ الذي يُعدّ عنصراً رئيساً للتوازن بين البرلمان والحكومة ـ انتقل من يد الحكومة إلى رئيس الجمهورية؛ مما يسهم في تدعيم عقلنة النظام البرلماني.

3ـ تفوق سلطة رئيس الجمهورية:

كما أقام دستور الجمهورية الخامسة نظاماً سياسياً يظهر تفوق السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية أو البرلمان، إذ يظهر هذا النظام تفوقاً أو أولوية داخل الثنائية التنفيذية لمصلحة رئيس الجمهورية في مواجهة الحكومة.

هذا التفوق يتضح خاصةً من خلال المادة (5) من الدستور، التي أناطت برئيس الجمهورية مهام تتجاوز بكثير الصبغة الاحتفالية التي تمنح لرئيس الدولة في الأنظمة البرلمانية، مثل: ضمان احترام الدستور، وتأمين السير المنتظم للسلطات العامة واستمرارية الدولة، وضمان الاستقلال الوطني، واحترام الاتفاقيات الدولية.

كذلك يتمتع رئيس الجمهورية بالعديد من الصلاحيات المهمة؛ دون الحاجة إلى التوقيع الإضافي للحكومة: تعيين الوزير الأول، واللجوء إلى استخدام صلاحياته الاستثنائية المنبثقة من المادة (16) من الدستور، واللجوء إلى الاستفتاء، وحل الجمعية الوطنية، وتوجيه الرسائل إلى البرلمان، وتعيين ثلاثة من أعضاء المجلس الدستوري بينهم رئيسه، وحق مراجعة المجلس الدستوري.

هذه الصلاحيات المعفاة من التوقيع الإضافي تمنح رئيس الجمهورية ثلاثة أسلحة لحل مختلف الأزمات التي يمكن أن تتعرض لها البلاد أو تجاوزها: ـ فسلطة حل الجمعية الوطنية تمكنه من حماية الاستقرار الحكومي وبالتحديد عندما تكون الحكومة متضامنة معه، ـ وسلطة اللجوء إلى الاستفتاء تمكنه من التضييق على البرلمان في مجال إقرار القوانين، خصوصاً في حالة الرغبة في تجاوز رفضه، ـ أما سلطة اللجوء إلى المادة (16) فتمكنه من إخراج البلاد من أزمة قد تعصف بحسن سير عمل المؤسسات الدستورية، أو يهدد سلامة البلاد واستقلالها. حتى في المجالات التي يمارس فيها رئيس الجمهورية صلاحياته بالاشتراك مع الحكومة، أي تحتاج إلى التوقيع الإضافي، فإن رئيس الجمهورية يؤدي دوراً أساسياً، أو تكون له الأولوية على الأقل. ففي خارج فترات المساكنة أو التعايش؛ فإن الرئيس هو الذي يقرر؛ على الأقل في القضايا المهمة، والحكومة هي التي تسجل القرار وتنفذه. أما في فترات المساكنة أو التعايش، إذا لم يكن بإمكان رئيس الجمهورية فرض إرادته على الحكومة؛ فإن هذه الأخيرة لا يمكنها فرض إرادتها على رئيس الجمهورية في المجالات التي يكون توقيعه مفروضاً، خصوصاً فيما يتعلق بالمراسيم التي تتخذ في مجلس الوزراء. وأكثر من ذلك يمكن لرئيس الجمهورية استخدام حق النقض بلا قيد أو شرط لمعارضة المراسيم التشريعية التي تتخذها الحكومة بناءً على تفويض من البرلمان.

يضاف إلى ذلك أن رئاسة رئيس الجمهورية لمجلس الوزراء فسرت بأنها أكثر من إدارة للمناقشات فيه. ولا حاجة إلى الإشارة في هذا الإطار إلى أن رئيس الجمهورية هو قائد الجيش والمحرك الأساسي للعلاقات الخارجية.

كل ذلك دعا بعضهم لوصف النظام السياسي الفرنسي بالنظام الرئاسي. وفي الواقع أن القول بذلك انطلق من ثلاثة عوامل:

ـ العامل الأول يتعلق بالإرث والأثر الذي تركته شخصية الجنرال ديغول عندما كان رئيساً للجمهورية؛ في العلاقات بين السلطات.

 ـ العامل الثاني يتعلق بالتعديل الدستوري عام 1962، الذي جعل انتخاب رئيس الجمهورية يتم بالاقتراع العام المباشر؛ مما دعا بعضهم للقول: إنّ هذا التاريخ يُعدّ نقطة انطلاق الجمهورية الخامسة.

ـ العامل الثالث يتعلق بدوام التوافق بين أغلبية رئاسية وأغلبية برلمانية منذ بداية الجمهورية الخامسة حتى عام 1986، تاريخ أو حالة مساكنة أو تعايش بين رئيس جمهورية من اتجاه سياسي وحكومة منبثقة من أغلبية برلمانية من اتجاه سياسي مغاير أو منافس.

4ـ التعايش أو المساكنة:

منذ حدوث أول حالة مساكنة أو تعايش Cohabitation عام 1986 (حدثت هذه المساكنة في ظل دستور الجمهورية الخامسة ثلاث مرات في الفترات التالية: 1986ـ 1988، 1993ـ1995، 1997 ـ2003) أخذ بعض الفقه يقرأ دستور الجمهورية الخامسة قراءة برلمانية؛ أي أخذ ينظر إلى النظام السياسي الناجم عن هذا الدستور وكأنه نظام برلماني.

ففي الفترات السياسية التي يواجه رئيس جمهورية منتخب بالاقتراع العام المباشر انتخابات تشريعية غير ملائمة له، أي أفرزت جمعية وطنية الأغلبية فيها من اتجاه سياسي منافس لرئيس الجمهورية، فإنّ ولاية هذا الأخير تستمر حتى حلول أجلها الطبيعي، ولكن يكون مرغماً على التعايش مع هذه الأغلبية المنافسة ولو لفترة قصيرة.

وبالتالي فإنه في حالة المساكنة أو التعايش؛ يكون رئيس الجمهورية مرغماً على تعيين وزير أول وحكومة مقبولين من الأغلبية البرلمانية الجديدة والمنافسة له.

هذا الأمر يؤثر في الصلاحيات التي يتمتع بها رئيس الجمهورية، وخصوصاً تلك التي يمارسها بالمشاركة مع الحكومة. بحيث يصبح رئيس الجمهورية مجرداً من بعض الأسلحة التي كان يتمتع بها، في حالة وجود حكومة منبثقة من أغلبية برلمانية من حزبه أو اتجاهه السياسي نفسيهما.

لذلك فإنه في فترات التعايش أو المساكنة يرى أن النظام السياسي الفرنسي ـ القائم على أساس دستور 1958ـ ينحو باتجاه النظام البرلماني أكثر منه باتجاه النظام الرئاسي.

من كل تلك الاعتبارات التي تقدمت، فإنه من الصعوبة بمكان إعطاء توصيف حقيقي لطبيعة النظام السياسي الذي أقامه دستور الجمهورية الخامسة. وهذا ما دعا بعضهم لوصفه بأنه رئاسي، وبعضهم الآخر لوصفه بأنه برلماني، وآخرون لوصفه بأنه بين ـ بين: شبه رئاسي أو شبه برلماني. وفي الواقع أن أي توصيف لطبيعة هذا النظام السياسي تتوقف على المعطيات السياسية المتعلقة بمرحلة ما: شخصية رئيس الجمهورية، الاتجاهات السياسية لرئيس الجمهورية والأغلبية البرلمانية…إلخ

 

مراجع للاستزادة:

 

ـ سام دلة، القانون الدستوري والنظم السياسية (منشورات جامعة حلب، 2005).

ـ كمال الغالي، القانون الدستوري والنظم السياسية (منشورات جامعة دمشق، 1991).

ـ محمد كامل ليلة، النظم السياسية (دار الفكر العربي، القاهرة 1971).


التصنيف : القانون العام
النوع : القانون العام
المجلد: المجلد السابع: المحكمة الجنائية الدولية _ ولاية المظالم في الإسلام
رقم الصفحة ضمن المجلد : 425
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 1029
الكل : 33285845
اليوم : 19730