logo

logo

logo

logo

logo

الخلايا والآليات المناعية والقواعد الوراثية في الأمراض الرثوية (الروماتيزمية)

خلايا واليات مناعيه وقواعد وراثيه في امراض رثويه (روماتيزميه)

cells and immune mechanisms and genetic bases of rheumatic diseases - cellules et mécanismes immunitaires et bases génétiques des maladies rhumatismales

الخلايا والآليات المناعية والقواعد الوراثية في الأمراض الرثوية (الروماتيزمية)

 

إلهام حرفوش

الاستجابة المناعية المناعة والالتهاب
آليات تحمل الذات الشيخوخة المناعية
آليات المناعة الذاتية العوامل الوراثية في الأمراض المناعية الذاتية
   

 

 يتألف الجهاز المناعي من أنسجة لمفاوية مركزية (التوتة ونقي العظم)، ومحيطية (العقد اللمفاوية والطحال والتشكلات اللمفاوية في مخاطية الجهاز الهضمي والتنفسي). يضاف إلى ذلك خلايا جائلة (كريات بيض)، وخلايا مقيمة في الأنسجة (البلاعم والخلايا المتغصنة والخلايا البدينة)، ومكونات خلطية (المتممة والأضداد والسيتوكينات).

أولاً- الاستجابة المناعية  :immune response

الاستجابة المناعية هي ارتكاس الجهاز المناعي للمحرضات المختلفة. ويعمل الجهاز المناعي وفقا لنمطين من الآليات الدفاعية: آليات المناعة الخلقية Innate  وآليات المناعة المكتسبة acquired التي تدعى أيضاً التلاؤمية adaptive. إن ما يفعّل هذه الآليات هو التعرف المناعي recognition للجسيمات التي تمثل تهديداً للعضوية، وإن الصفة البارزة لحادثة التعرف في منظومة المناعة المكتسبة هي القدرة على التفريق بين كل ما هو خاص بعضوية الثوي (الذات (self وما هو غريب عنها (الغير .(nonself ويؤدي تحريض آليات المناعة المكتسبة من خلال تعرف الذات إلى الأمراض المناعية الذاتية، ويتم تجنب هذه الأمراض الذاتية بضبط آليات التعرف المناعي بآليات دقيقة تدعى آليات التحمل المناعي للذات. ومن جهة أخرى يؤدي تفعيل آليات المناعة الخلقية غير الخاضع للآليات المنظمة إلى الأمراض الالتهابية المزمنة. ولكلٍ من الالتهاب المزمن والمناعة الذاتية شأن مهم في الأمراض الروماتيزمية.

1- المناعة الخلقية  :innate immunity

يمكن إطلاق الاستجابة المناعية الخلقية إما عن طريق تعرف مكونات خاصة بالعوامل الممرضة وإما عن طريق إشارات الخطر danger signal التي تنطلق حين وجود أذية خلوية لدى الثوي، مثل بروتين الصدمة الحرارية  heat shock protein (HSP) الإنساني. تشمل آليات المناعة الخلقية على نحو رئيس كلاً من البلعمة وتفعيل المتممة، وآليات القتل التي تؤديها الخلايا القاتلة الطبيعية.

أ- البلعمة :phagocytosis تمثل عمليات البلعمة الحاجز الدفاعي الأول في الجهاز المناعي. تدعى الخلايا التي تقوم بعملية البلعمة الخلايا البالعة  phagocytes، وتضم العدلات  neutrophils، والبلاعم المقيمة في الأنسجة .macrophages تنحدر هذه الأخيرة من وحيدات النوى  monocytes، ويزداد تحول وحيدات النوى إلى بلاعم في أثناء الالتهاب.

هناك خلايا تصنف خلايا بالعة لكنها لا تسستطيع بلعمة العوامل الممرضة كاملة، بل تقوم بابتلاع بعض مكوناتها، هذه الخلايا هي الخلايا المتغصنة dendritic cells وتدعى أيضاً الخلايا المقدمة للمستضد .antigen presenting cells (APCs) تنتشر الخلايا المتغصنة كالبلاعم في كل الأنسجة وتقوم بمراقبة دخول العناصر الغريبة عن العضوية، وحين تلامس  أحد المستضدات المريبة تقوم بابتلاعه، وتتحرك إلى العقدة اللمفاوية المجاورة لمكان وجود العامل الممرض، أو إلى التشكلات اللمفاوية الأخرى في الجسم لتستقر في منطقة الخلايا التائية في القشر العميق للعقدة اللمفاوية. وفي أثناء هجرتها هذه تقوم بمعالجة المستضد antigen processing وإبراز أحد أجزائه الببتيدية على سطحها لتقديمه إلى الخلايا اللمفاوية التائية.

 (1)- آليات التعرف في الخلايا البالعة والخلايا المتغصنة: تكتشف الخلايا البالعة والخلايا المتغصنة وجود العوامل الممرضة المختلفة بفضل مجموعة من المستقبلات التي تميز الجزيئات الموجودة في العوامل الممرضة المختلفة. تدعى هذه المجموعة مستقبلات تعرّف النمط  pattern recognition receptor (PRR)، وتدعى جزيئات العوامل الممرضة التي تتعرفها  الجزيئات النمطية المتشاركة مع العوامل الممرضة .pathogen associated molecular pattern (PAMPs) من هذه الجزيئات الليبيدات عديدة السكاريد LPS التي تميز الجراثيم سلبية الغرام، وحمض الليبوتييك في الجراثيم إيجابية الغرام، وأبرز المستقبلات في المناعة الخلقية مستقبلات التول toll- like receptors (TLRs)، التي لها أهمية كبيرة في إطلاق الفعاليات الالتهابية وفي آليات المناعة الذاتية.

الشكل (1)
مستقبلة ذات النمط في الخلايا البالعة والمتغصنة
الشكل (2)
قبط العوامل الممرضة في الخلايا البالعة عن طريق الطهو

 

تضم مستقبلات التول إحدى عشرة مستقبلة يختص كل منها بتَعَرُّف مكون محدد من المكونات الجرثومية. غير أن المستقبلات الموجودة على السطوح الخلوية لا يمكنها أن تتبين العوامل الممرضة التي تنمو داخل الخلايا، وهنا يأتي دور مستقبلات النمط التي توجد داخل البلاعم والخلايا المتغصنة التي تكشف الفيروسات والجراثيم التي تتمكن من النمو داخل هذه الخلايا.

من جهة أخرى تستعين الخلايا البالعة بمجموعة من البروتينات المناعية التي تساعدها على اقتناص العوامل الممرضة عبر مستقبلات خاصة، تدعى هذه البروتينات الطاهيات  opsonins وتشمل على نحو رئيس الأضدادantibodies   وبعض مكونات المتممة  complement، إضافة إلى البروتين الرابط للمانوز mannose- binding protein (MBP)   والسرفاكتانت surfactant والبروتين الارتكاسي .CRP تلتصق الطاهيات على سطوح العضيات الدقيقة المختلفة مما يسمح للبالعات بتثبيت العامل الممرض المرتبط بها.

(2)- آليات البلعمة وقتل الجراثيم: يؤدي تفعيل كل من المستقبلات سالفة الذكر إلى تفعيل البلعمة  phagocytose  وقتل الجراثيم bactericide بتشكل الفجوات البالعة (يبلوع) phagosome والفجوات البالعة الحالة (يحلول يبلوعي)  phagolysosome وإنتاج الوسائط الأكسيجينية الفعالة reactive oxygen  .intermediates (ROI) تتواسط الأخيرة عملية قتل الجرثوم، إذ إنها ذات تأثيرات مخربة للأغشية الخلوية والجزيئات الحيوية والمادة الوراثية. وتقوم كل من إنزيمات الكاتالاز  catalase وsuperoxide dismutase  بحماية خلايا الثوي من التأثيرات الضارة للمركبات السابقة. يمكن أيضاً قتل العامل الممرض بطريقة لا تحتاج إلى الأكسجين، وذلك عن طريق مجموعة من الإنزيمات الحالة للبروتين. تجدر الإشارة إلى أن وسائط القتل الجرثومي الموصوفة أعلاه لها شأن مهم في الأذية النسيجية الحادثة في سياق الأمراض الالتهابية المزمنة إذ يكون هناك تحريض مستمر للخلايا الالتهابية لإنتاج وسائط السمية الخلوية.

 ب- المتممة :complement تتألف منظومة المتممة من تسعة مركبات بروتينية رئيسية توجد في المصل بشكل خامد    (C1- C9)، وتتفعل على نحو شلالي بوجود المعقدات المناعية (الطريق الكلاسيكي) وبعض المركبات الجرثومية (الطريق البديل وطريق المانوز). تعرف مركبات المتممة بالرمز C، ينتهي تفعيل المتممة إلى تشكيل معقد حالٍّ للخلايا، يؤدي انغراسه في الغشاء الخلوي  إلى موت الخلية. يؤدي تفعيل المتممة أيضاً إلى إنتاج الطاهيات التي تتمثل على نحو رئيس بالمركب C3b والتي تساعد على عملية قبط العامل الممرض من قبل الخلايا البالعة، كما يؤدي إلى إنتاج المركبات التي تعرف بالذيفانات التأقية anaphylatoxin، وهي وسائط التهابية شديدة التأثير، تؤدي إلى توسع وعائي وتبدلات وعائية تروج لخروج الكريات البيض من الحيز الوعائي إلى بؤر الالتهاب في الأنسجة، يضاف إلى ذلك أن العوامل المحدثة للتأق  تجذب الكريات البيض.

 تساعد مستقبلات المتممة الموجودة على سطوح الخلايا البالعة على قبط العوامل الممرضة المغطاة بمركبات المتممة الطاهية مما يؤدي إلى تفعيل عملية البلعمة (الشكل 2)، كما تساعد على التخلص من المعقدات المناعية المكونة من معقدات جزيئية عملاقة من المستضدات والأضداد. تمثل تصفية المعقدات المناعية وظيفة فيزيولوجية مهمة، نظراً للضرر الذي يحدثه استمرار بقاء هذه المعقدات بتراكيز عالية في الجسم.

 ج- الخلايا القاتلة الطبيعية:natural killer (NK)   تشبه الخلايا القاتلة الطبيعية الخلايا اللمفاوية، لكنها تتميز منها بعدم وجود مستقبلات نوعية للمستضد، ويتم ضبط فعالياتها السامة للخلايا عن طريق نمطين من المستقبلات: المستقبلات المثبطة(KIR) ، والمستقبلات المفعلة .(KAR) يتحدد سلوك الخلية القاتلة الطبيعية بمحصلة الإشارات المفعلة والمثبطة التي ترد إليها. تمارس هذه الخلايا وظائفها القاتلة بإفراز حبيبات سمية تدعى برفورين perforin وغرانزيم granzyme ، وكذلك عامل نخر الورم  TNF، وهي الآليات نفسها التي تستعملها الخلايا التائية السمية (الشكل 3).

الشكل (3)
مستقبلات المستضد في الخلايا التائية. ويبدو في الشكل تنوع
هذه المستقبلات بحيث يكون كل منها نوعياً لمستضد معين. 

2- المناعة المكتسبة أو التلاؤمية :acquired or adaptive immunity

تتواسطها كل من الخلايا اللمفاوية التائية T cells والبائية .B cells تشمل الخلايا التائية كلاً من الخلايا التائية المساعدة (T helper)  التي تحمل المستضد  CD4، والخلايا التائية السمية  (CTLs) cytotoxic T cells  التي تحمل المستضد .CD8 تتواسط الخلايا البائية المناعة الخلطية humoral immunity، وتتواسط الخلايا التائية السمية المناعة الخلوية cellular immunity، في حين تقوم الخلايا المساعدة بدعم كل من المناعة الخلطية والخلوية عن طريق إفراز السيتوكينات وإصدار الإشارات الخلوية.

 أ- آلية تعرف المستضد في المناعة التلاؤمية:

(1)- مستقبلات المستضد التائية والبائية  :TCR, BCR

تحدث الاستجابة المناعية التلاؤمية نتيجة وجود جسيمات تعرف بالمستضدات، وهي كل مادة تستطيع إثارة الاستجابة المناعية للخلايا اللمفاوية. تتنبه هذه الخلايا لوجود العوامل الممرضة بفضل ما يعرف بمستقبلات المستضد التائية TCR (الموجودة على الخلايا التائية)، ومستقبلات المستضد البائية   BCR   (الموجودة على الخلايا البائية). هذه المستقبلات هي  جزيئات بروتينية مهمتها تعرف المستضدات المختلفة وإطلاق إشارة تنبه الخلية اللمفاوية لوجود المستضد الذي يعكس وجود العامل الممرض (الشكل 3). تكون هذه المستقبلات نوعية للمستضد وتتشكل في أثناء تخلق الخلايا اللمفاوية في الأعضاء اللمفاوية المركزية (التوتة ونقي العظم). يشار هنا إلى أن تشكلها لا علاقة له بالتعرض للعوامل الممرضة المختلفة إذ إنه يبدأ منذ المرحلة الجنينية. تكون مستقبلات المستضد متماثلة على سطح الخلية اللمفاوية الواحدة من حيث نوعيتها للمستضد لكنها تختلف من خلية إلى أخرى. تتشكل مستقبلات المستضد اللمفاوية بآلية فريدة من نوعها في عضوية الكائن الحي عديد الخلايا، وهي آلية المراتبة الجينية rearrangement  التي تعني اختيار قطع  جينية وإعادة وصلها تبعاً لقانون المصادفة، مما يتيح المجال لإنتاج عدد هائل من المستقبلات المتنوعة. وهكذا تمتلك المنظومة اللمفاوية ما يقدر بملايين مستقبلات المستضد المتنوعة والمختلفة.

يعرف مجمل ما يملكه الجهاز المناعي من نوعيات مستقبلات المستضد بالفهرس المناعي .repertoire  ويستطيع الفهرس المناعي للإنسان أن يتعرف أي بنية مستضدية لا تشبه أياً من البنى الموجودة في عضوية الذات.

(2)- جزيئات الهلا :human leukocytes antigen (HLA)   

الشكل (4)
الشكل (5)
الانتشار النسيلي في الخلايا التائية بتأثير الأنتيرلوكين 2

 

لا تستطيع الخلايا التائية تعرف المستضدات المختلفة من دون مساعدة جزيئات الهلا  HLA، وهي جزيئات بروتينية توجد على سطوح الخلايا، ولها نمطان: جزيئات الهلا من الصنف الأول، وجزيئات الهلا من الصنف الثاني. وهي ترتبط عموماً بالببتيدات المستضدية لتتمكن الخلايا التائية من تعرّفها بوساطة المستقبلات .TCR

ب- آلية تفعيل الخلايا اللمفاوية التائية الساذجة: تدعى الخلايا اللمفاوية بعد نضجها في التوتة وفي نقي العظم الخلايا الساذجةnaïve ، وتبقى خلايا ساذجة ما دامت هي لم تلتقِ المستضد النوعي لها. تجول الخلايا الساذجة في الأعضاء اللمفاوية الثانوية حيث تتركز المستضدات المختلفة بعد أن تساق من الأنسجة عن طريق النزح اللمفاوي وعن طريق الخلايا المقدمة للمستضد. ولكي تستشعر الخلايا التائية الساذجة وجود المستضد تحتاج إلى الخلايا المقدمة للمستضد التي تنقل المستضدات المختلفة من مكان وجود العامل الممرض إلى العقد اللمفاوية الموضعية لتقدمها إلى الخلايا التائية. تقوم هذه الخلايا بإبراز أحد الأجزاء الببتيدية للمستضد على سطحها بعد أن يرتبط بجزيئات الهلا.

يؤدي تلاقي الببتيد المستضدي المحمول على سطح خلية مقدمة للمستضد مع مستقبلات المستضد التائية المضادة له إلى إطلاق ما يعرف بالإشارة التفعيلية الأولى .first signal ولا يكتمل تفعيل الخلية التائية من دون ورود إشارة تفعيلية ثانية تعرف أيضاً بالإشارة المساعدة .cosignal

ج- آلية تفعيل الخلايا اللمفاوية البائية: تلتقي الخلايا البائية الساذجة المستضد النوعي لأول مرة حصراً في الأنسجة اللمفاوية الثانوية حيث تتم الاستجابة المناعية البدئية. ولا تحتاج الخلايا البائية إلى وساطة جزيئات الهلا لكي تعرف المستضد، بل تستطيع تعرف المستضدات الحرة  وتثبيتها على سطحها كاملة عبر المستقبلات .BCR بعد ذلك تقوم باستبطان المستقبلات المرتبطة بالمستضد وتتم مثيلته methylation  بطريق جزيئات الهلا من الصنف الثاني، حيث تقدم الببتيدات الناشئة إلى الخلايا التائية المساعدة ممثلة بذلك دور خلية مقدمة للمستضد. تتمثل الإشارة التفعيلية الأولى للخلية البائية بارتباط المستضد بالمستقبلات BCR، ويحتاج التفعيل الكامل إلى إشارات خلوية وخلطية تصدر عن الخلايا التائية المساعدة (الشكل 4).

د- الوظائف الفاعلة للخلايا اللمفاوية التائية: بعد تفعيل الخلية التائية تفعيلاً كاملاً تقوم بإفراز الأنتيرلوكين 2   (IL-2) وتظهر على سطحها مستقبلة الأنتيرلوكين 2 .(IL-2R) يمثل هذا السيتوكين عامل تكاثر الخلايا التائية، وبما أن الخلايا التائية هي ذاتها التي تفرزه، يدعى هذا التأثير بالذاتي  autocrine. يؤدي انقسام الخلايا اللمفاوية بتأثير الأنتيرلوكين 2 إلى  إنتاج عدد كبير من الخلايا المطابقة للخلية الأم من حيث نوعية مستقبلة المستضد، وتدعى هذه الظاهرة الانتشار النسيلي clonal expansion (الشكل 5).

تقوم الخلايا اللمفاوية المفعلة في أثناء تكاثرها بالتمايز إلى نمطين وظيفيين مختلفين، هما خلايا الذاكرة memory cells والخلايا الفاعلة المسلحة armed effector cells تكتسب الخلايا التائية الفاعلة جزيئات جديدة تسمح لها بالخروج من الحيز الوعائي إلى الأنسجة حيث البؤرة الالتهابية. وهناك تتجلى الوظائف الفاعلة للخلايا التائية السمية  بمهاجمة الخلايا التي تحوي على سطحها ببتيداً يطابق ذلك الذي أدى إلى تفعيلها سابقاً في العقدة اللمفاوية، حيث تستطيع أن توجه ضربة قاتلة إلى الخلية الهدفية بإفراز حبيبات سمية هي البرفورين perforin التي تحدث ثقوباً في الغشاء الخلوي، والغرانزيم granzyme الذي يؤدي إلى الاستماتة، كذلك قد تفرز الخلايا التائية السمية عامل نَخَر الورم TNF الذي يحدث الاستماتة apoptosis  حين تآثره مع  مستقبلة من النمط الأول TNFR-I (الشكل 6).

أما الوظائف الفاعلة للخلايا التائية المساعدة فتتجلى بشكل رئيس بإفراز السيتوكينات التي تتحكم بطبيعة الاستجابة المناعية. يمكن للخلايا التائية المساعدة الساذجة أن تتمايز بعد تفعيلها إلى خلايا مساعدة من النمط الأول Th1 أو الثاني Th2 أو من النمط Th17 وكذلك إلى خلايا منظمة   Treg(الشكل 7). تتميز الخلايا  Th1بأنها تفرز على نحو رئيس الأنترفيرون غاما INF الذي يفعل البلاعم ويزيد قدرة القتل لديها، في حين تقوم الخلايا المساعدة من النمط الثاني Th2 بإفراز السيتوكينات IL-4, 5, IL-10 التي تروج لحدوث التأتب .atopy وتوجد تأثيرات متعاكسة بين سيتوكينات النمط Th1 والنمط  Th2، ولهذا شأن في ضبط الاستجابة المناعية.

تقوم الخلايا المساعدة من النمط Th17 بإفراز السيتوكين IL-17 الذي يمثل عامل نمو العدلات، كما تفرز أيضاًIL-21  و.IL-22  وهذه الخلايا مسؤولة عن الاستجابة المناعية ضد أنماط خاصة من الجراثيم التي لا يمكن تصفيتها بمساعدة الخلايا  Th1أو Th2، مثل الكليبسييلا الرئوية، السيتروباكتيريا، والبورَلية Borrelia، إضافة إلى بعض الفطور كالمبيضات البيض.

الشكل (8) آلية التساعد بين خلية بائية وتائية. الخلية البائية تثبت المستضد الحر (1)،
ثم تقوم باستبطانه (2)، ثم تقوم بتجزئته وتقديمه إلى خلية تائية مساعدة (3)،
مما يؤدي إلى إطلاق الإشارات التي تساعد على إنتاج الأضداد.
الشكل (7) تمايز الخلايا التائية المساعدة إلى خلايا فاعلة الشكل (6) الآليات الفاعلة للخلية التائية الفاعلة السمية. تبدو الخلية المعدية
بعامل ممرض وهي تبرز مستضدات هذا العامل على سطحها من خلال جزيئة هلا
من الصنف الأول، وتبدو الخلية التائية السمية وهي تتعرف هذا المستضد من خلال
مستقبلة TCR نوعية، وتطلق إشارات الموت عن طريق العامل TNF والحبيبات السمية.

 

هـ- الوظائف الفاعلة للخلايا اللمفاوية البائية: بعد تثبيت المستضد في الخلايا البائية تقوم هذه الخلايا باستبطانه، ومن ثم مَثيلته وتقديم  بعض ببتيداته إلى الخلايا التائية المساعدة من النمط الثاني   Th2 (الشكل 8) التي تستجيب بإفراز السيتوكينات التي تساعد على تكاثر الخلايا البائية وتمايزها إلى خلايا بلازمية مفرزة للأضداد .(IL-4,IL-10, IL-13)  كما يساهم التشابك الجزيئي CD40-CD40L الموجود في تحول صنف الأضداد من IgM إلى الأصناف الأخرى. تتجلى الوظائف الفاعلة للأضداد  بتفعيل المتممة بالطريق الكلاسيكي، وبتفعيل السمية الخلوية المعتمدة على الأضداد وتفعيل البلعمة عن طريق المستقبلات .FCR 

ثانياً- آليات تحمل الذات  :self-tolerance

في أثناء تكون اللمفاويات في التوتة ونقي العظم يتم التخلص من الخلايا التي تحمل مستقبلات المستضدات الذاتية بآليات دقيقة تدعى الانتقاء السلبي .negative selection غير أن هذه الآليات مع دقتها العالية لا ترقى إلى الكمال المطلق، وهي لذلك لا توفر التنظيف الكامل للفهرس المناعي من الخلايا التي تحمل في مستقبلاتها التائية أو البائية ما يمثل خطراً على الذات. وهكذا يتمكن عدد قليل جداً من الخلايا اللمفاوية المضادة للذات من الهروب من آليات المراقبة الصارمة التي تمارس في الأعضاء اللمفاوية المركزية على تشكل الفهرس المناعي. تجول تلك الخلايا كغيرها من الخلايا اللمفاوية الأخرى في الأنسجة اللمفاوية الثانوية، غير أنها تُمنع من ممارسة أي نشاط  وذلك بآليات عديدة: الحذف النسيلي، والتجاهل المناعي والاستعطال والتوازن  Th2/Th1/Th17، وعن طريق الخلايا التائية المنظمة.

1- الحذف (الخبن) النسيلي :clonal deletion

يتطلب تفعيل الخلايا التائية الساذجة عن طريق الإشارة الأولى تركيزاً عالياً من الببتيد المستضدي، وكثافة عالية من جزيئات الهلا على سطح الخلية المقدمة للمستضد. يتم توفير هذين الشرطين في ظروف العدوى، إذ يكون تركيز مستضدات العامل الممرض كبيراً نتيجة لتكاثره في عضوية الثوي، كما يتضاعف عدد جزيئات الهلا على سطوح الخلايا المقدمة للمستضد تحت تأثير الأنترفيرون الذي يفرز من الخلايا المناعية في سياق الالتهاب الحادث نتيجة تحريض العامل الممرض لآليات المناعة الخلقية. في حين يكون تركيز المستضدات الذاتية دون عتبة تنبيه الخلايا التائية الساذجة من خلال الإشارة الأولى، وكذلك يكون عدد جزيئات الهلا في حدوده الدنيا لدى غياب الالتهاب. في هذه الشروط تكون الإشارة الأولى المنطلقة إلى الخلية التائية - ذاتية النشاط عن طريق تقديم المستضد الذاتي إليها- ضعيفة مما يؤدي إلى فناء هذه الخلية بآلية الموت الخلوي المبرمج. وتدعى هذه الآلية الحذف النسيلي (الشكل 9).

2- التجاهل المناعي  :ignorance

يتطلب إطلاق الجواب المناعي الأولي وصول المستضد إلى الأعضاء اللمفاوية الثانوية. وفي الظروف العادية لا يصل قسم كبير من مستضدات الذات إلى الأعضاء اللمفاوية الثانوية، وخاصة المستضدات الداخلة في المكونات داخل الخلايا. في هذه الظروف تجول الخلية اللمفاوية المضادة للذات من دون أن تصادف المستضد الذاتي الذي تستهدفه مما يحول دون تفعيلها؛ ولذلك تدعى هذه الآلية التجاهل المناعي، لأن المستضد الذاتي يبقى محتجزاً في الأنسجة السليمة فلا تلتقيه الخلايا المضادة له كما لو  أنها تجهل وجوده (الشكل 10).

الشكل (10) آلية التجاهل المناعي. تبدو في الشكل المستضدات الذاتية محتجزة
في مكانها الطبيعي ضمن الخلية، فلا يتسنى للخلية اللمفاوية الذاتية مصادفتها.
الشكل (9) تركيز المستضدات الذاتية (إلى اليسار)،
والجرثومية (إلى اليمين) على سطوح الخلايا المتغصنة

3- الاستعطال  :anergy

يحتاج التفعيل الكامل للخلية التائية الساذجة - كما ذكر سابقا- إلى إطلاق إشارة تفعيل ثانية تتلو الإشارة الأولى الناجمة عن تعرف المستضد. وفي حالة راحة الجهاز المناعي، أي في غياب الخمج لا تتوافر هذه الإشارات، فإذا حدث تقديم المستضد الذاتي في هذه الشروط يكون ذلك من دون الإشارة الثانية. يؤدي تقديم المستضد إلى الخلايا التائية الساذجة في غياب الإشارة الثانية إلى حالة تدعى الاستعطال، أي إن الخلية لا تستطيع إفراز الأنتيرلوكين 2 وبالتالي فهي لا تستطيع إتمام خطوات الاستجابة المناعية. من جهة أخرى يحدث استعطال الخلايا البائية المضادة للذات نتيجة التقائها المستضد الذاتي من دون تلقي السيتوكينات والإشارات الغشائية الضرورية لانتشارها النسيلي وتمايزها إلى خلية بلازمية مفرزة للأضداد ومتلقية للإشارات التي تأتيها عن طريق خلية تائية مساعدة  تشاركها العداء للمستضد الذاتي نفسه.

4- التوازن  :/Th2/Th1/Th17 balance

توجد تأثيرات متعاكسة بين الخلاياTh1 والخلايا Th2، وكذلك بين الخلايا Th1 والخلايا Th170 ولهذا شأن في ضبط الاستجابة المناعية.

يعد التوازن بين هذه الخلايا آلية مهمة من الآليات التي توفر حماية العضوية، ومما يدل على أهمية هذه الآلية هو أن إلغاء السيتوكينات من النمط Th1 يحمي فئران التجربة من الإصابة بالسكري المعتمد على الإنسولين الذي يحدث نتيجة لآليات مناعية ذاتية خلوية. كما أن الانتحاء الزائد بالاتجاه Th17 له شأن مهم في آليات الأمراض الالتهابية المزمنة.

5- التنظيم المناعي  :immune regulation

تنشأ الخلايا التنظيمية في التوتة وتدعى الخلايا المنظمة الطبيعية، كما تنشأ في الأعضاء اللمفاوية الثانوية في سياق الاستجابة المناعية للخلايا التائية وتدعى الخلايا المنظمة المحرضة. تقوم الخلايا التائية التنظيمية بضبط فعاليات الخلايا الفاعلة بإفراز السيتوكينات IL-10, TGF وتعبير العامل FoxP3، إذ تمنع تكاثر الخلايا التائية الفاعلة كما تمنعها من إفراز السيتوكينات.

ثالثاً- آليات المناعة الذاتية:

يؤدي خرق الآليات الموصوفة أعلاه إلى حدوث الاستجابة المناعية الذاتية. يحدث ذلك في الأفراد الذين لديهم تربة وراثية ملائمة، كما تهيئ بعض العوامل البيئية التي يتعرض لها هؤلاء الأفراد الجو الملائم لتفعيل الخلايا اللمفاوية المضادة للذات، وهكذا يظهر المرض المناعي الذاتي نتيجة لتوفر عوامل وراثية وعوامل بيئية يتفاعل كل منها مع الآخر لينتهي ذلك إلى إثارة عراك مناعي ضد الذات.

تتمثل العوامل البيئية على نحو رئيس في العدوى بالعوامل المختلفة مثل الحمى الرثوية التي تحدث عقب الخمج بالمكورات العقدية. وفيما يلي الآليات التي تؤدي العوامل البيئية من خلالها إلى الخلل في تحمل الذات.

1- آليات تجاوز حاجز تحمل الذات :break of tolerance 

أ- تحرر المستضدات الذاتية المحتجزة :release of sequestered antigens  ذكر في فقرة التجاهل المناعي أن معظم المستضدات الذاتية تكون غائبة عن الأعضاء اللمفاوية الثانوية التي تمثل المكان الحصري لالتقاء الخلايا اللمفاوية المستضدات المستهدفة. لكن قد تتحرر تلك المستضدات في سياق الخمج داخل الخلايا (الڤيروسات والجراثيم ذات النمو داخل الخلايا)، وذلك  نتيجة لفعل الخلايا التائية التي تستهدف بضرباتها القاتلة خلايا الثوي التي تؤوي العامل الممرض. وقد تتحرر أيضاً المستضدات المحتجزة بسبب الرض. وفي كلتا الحالتين ينتهي الأمر بظهور هذه المستضدات في العقد اللمفاوية المجاورة وبتراكيز عالية مما يعني انتفاء شرطي التجاهل المناعي والحذف النسيلي في الحفاظ على عدم فعالية الخلايا اللمفاوية ذاتية النشاط.

ب- توفر الإشارة الثانية: ذكر سابقاً أنه إذا حدث  تقديم المستضدات الذاتية إلى الخلايا التائية المضادة لها، فهو يتم من دون الإشارة الثانية، مما يعني فشل الخلية في الوصول إلى حالة التفعيل الكامل. لكن حين وجود جو التهابي نتيجة لمحرض خارجي أو داخلي المنشأ للمناعة الخلقية، يتم توفير الشروط الملائمة لتأمين مستلزمات نضج الخلايا المقدمة للمستضد مما يعني بروز إمكان تفعيل الخلايا التائية الذاتية.

ج- اضطراب شبكة السيتوكينات: ذكر سابقاً أهمية التوازن بين Th2/Th1/Th17 في الحؤول دون نشاط الخلايا اللمفاوية المضادة للذات. غير أن حرف هذا التوازن لمصلحة النمط Th1 أو Th17 قد يحدث نتيجة للحث المستمر بمحرض بيئي. من جهة أخرى، يمكن لحرف هذا التوازن أن يحول دون تمايز الخلايا التائية إلى خلايا تنظيمية وهي التي يعد وجودها ضرورياً للحد من نشاط الخلايا اللمفاوية الذاتية النشاط.

 د- المحاكاة الجزيئية (التمويه الجزيئي) :molecular mimicry قد تحوي بعض مستضدات العوامل الممرضة محددة determinant مستضدية مطابقة لمحددة موجودة ضمن مستضد ذاتي. وحين وجود خلايا تائية مضادة لمثل هذه المحددات الذاتية تبقى ساكنة بفعل آلية التجاهل المناعي. لكن حين ولوج العامل الممرض الذي يحرر المستضد الحاوي المحددة المشابهة يختلف الأمر، إذ يؤدي تمثيل هذا المستضد في الخلايا المتغصنة أو الخلايا البائية إلى تقديم المحددة المشتركة مع المستضد الذاتي إلى الخلايا التائية الملائمة مما يؤدي إلى تفعيلها (الشكل11).

هـ- تعديل المستضد الذاتي أو ظهور المستضدات المستحدثة :neoantigen قد تتحد بعض المستضدات الدوائية أو مستضدات العوامل الممرضة بمستضد ذاتي مما يؤدي إلى تعديل الشكل الفراغي للمستضد الذاتي، ويؤدي ذلك إلى استهداف من قبل الجهاز المناعي.

 و- انتشار الجواب المناعي الذاتي لحواتم (محددات مستضدية) ذاتية إضافيةepitope :spreading   يؤدي التشابه الجزيئي في البداية إلى جواب أولي نوعي لمحددة ذاتية واحدة. لكن ذلك يؤدي إلى إدخال محددات ذاتية أخرى واقعة على المستضد الذاتي نفسه أو إلى إدخال مستضدات بروتينية ذاتية أخرى في الدائرة الهدفية للجواب المناعي الذاتي (الشكل 12). هذه الظاهرة تدعى انتشار المحددات المستضدية.

الشكل (12) آليات المناعة الذاتية الشكل (11) آلية المحاكاة الجزيئية في المناعة الذاتية. إلى اليمين يمثل الشكل حالة التحمل المناعي للمستضد
الذاتي بآلية التجاهل المناعي، إلى اليسار يمثل الشكل خلية بائية تقوم بتثبيت مستضد جرثومي يمتلك محددة
مستضدية مماثلة لمحددة ذاتية مشار إليها بسهم صغير (1) ثم تستبطنه (2) وتقوم بمعاملته وتقديم المحددة
المشتركة مع المستضد الذاتي إلى خلية تائية مساعدة (3).

2- الآليات الفاعلة في الأمراض المناعية الذاتية:

تحدث الأذية النسيجية أو الخلوية في الأمراض المناعية الذاتية إما بآليات خلطية تتواسطها الأضداد، وتعرف بفرط التحسس من النمط الثاني والثالث، وإما بآليات خلوية تعرف بفرط التحسس من النمط الرابع في حالات المناعة الذاتية التي تتواسطها آليات فرط تحسس من النمط الثاني، تتوضع الأضداد الذاتية على نحو نوعي في الأنسجة أو على الخلايا الجائلة. ففي الوهن العضلي الوخيم يؤدي توضع أضداد مستقبلة الأسيتيل كولين إلى تفعيل المتممة مما يثير ارتكاساً التهابياً يؤدي إلى أذية نسيجية على مستوى التشابك العضلي العصبي. وفي فقر الدم المناعي الذاتي تُبتلع الكريات الحمر في البالعات الطحالية بسبب وجود أضداد الكريات الحمر على سطحها. أما فرط التحسس من النمط الثالث فيتميز بوجود المعقدات المناعية على نحو زائد مما يؤدي إلى ترسبها على نحو غير نوعي في الأماكن التشريحية التي تكون فيها قوى هيموديناميكية زائدة مثل غشاء الترشيح الكبي، مما يؤدي إلى تفعيل المتممة والعدلات وبالتالي إطلاق وسائط التهابية تسبب أذية نسيجية (الشكل 13).

وفي فرط التحسس من النمط الرابع هناك ارتشاح بخلايا التهابية. وقد تشترك الآليتان الخلطية والخلوية في إحداث الآفة النسيجية كما في الداء الروماتوئيدي (الشكل 14).

الشكل (14) الالتهاب المفصلي في الداء الروماتوئيدي كنموذج لفرط التحسس من النمط الثالث والرابع.
يبدو الغشاء الزليلي مرتشحا بأنماط خلوية مختلفة، وللخلايا التائية المساعدة تأثير مهم
في تفعيل البلاعم وجذب الخلايا الالتهابية وتفعيلها. كما تبدو في الجوف المفصلي المعقدات المناعية
التي تفعل المناعة الخلقية والالتهاب.
الشكل (13) آليات فرط التحسس من النمط الثاني.
على اليمين تبدو كرية حمراء مغلفة بأضداد (باللون الزيتي) قد تكون ذاتية أو خيفية (غَيروية
heterophilic )، أو مضادة
لمادة دوائية مدمصة على سطح الكرية، مما يؤدي إلى تفعيل المتممة التي تبدو باللون الزهري مما يؤدي إلى انحلال الكرية الحمراء.
وإلى اليسار تبدو خلية بالعة تقوم بقبط الكرية الحمراء المغلفة بالأضداد.

 

رابعاً- المناعة والالتهاب:

يبدأ الالتهاب مع الاستجابة المناعية الخلقية، وهو يمهد لنشوء الاستجابة المناعية التلاؤمية التي تسهم بدورها في آليات الالتهاب وذلك بتحفيزها المناعة الخلقية. على سبيل المثال تؤدي الأضداد إلى تفعيل المتممة والبلعمة، وكلاهما يحفز الآليات الالتهابية. يتوقف الارتكاس الالتهابي عادة حين يزول المحرض.

يرافق الالتهاب أذية نسيجية نتيجة لتأثير الوسائط التي تحررها الخلايا الالتهابية، لكنها تكون عادة محدودة ويتم إصلاحها في الطور النهائي للالتهاب بآليات تضمن التخلص من الخلايا التالفة وتعويضها بخلايا جديدة.

ففي الحالات الاعتيادية يتوقف الالتهاب خلال فترة محدودة من الزمن، وذلك مع زوال المحرض. في أحيان أخرى قد تعجز هذه الآليات المنظمة للالتهاب عن الحد من الالتهاب زمانياً فيحدث الالتهاب المزمن.

يمثل الالتهاب المزمن مشكلة جدية في العديد من الأمراض المفصلية بسبب العقابيل التشريحية والوظيفية التي يتركها. كما أن آلية الإزمان ليست واضحة تماماً، ففي بعض الحالات تعود إلى استمرار المادة الممرضة التي تفشل العضوية في التخلص منها، وفي حالات أخرى قد يوفر الالتهاب لنفسه الاستمرار الذاتي على الرغم من التخلص من المادة الممرضة. هذه الآلية كانت قد اقترحت بوصفها إحدى آليات بعض أمراض المناعة الذاتية.

يتميز الاندمال في الالتهاب المزمن بإنتاج البروتينات وهدمها تحت تأثير إنزيمات الكولاجيناز. هذه الظاهرة تعرف بإعادة القولبةremodeling  التي تتم بفعل البالعات الكبيرة ومصورات الليف. يتميز الالتهاب المزمن بالظهور المبكر لظواهر إعادة القولبة في النسيج الضام الذي تقع فيه البؤرة الالتهابية؛ مما يؤدي إلى تخربه فيستبدل به نسيج ضام التهابي غني بألياف الكولاجين ولا يمتلك الخواص الوظيفية للنسيج المتخرب. فعلى سبيل المثال في التهاب المفاصل المزمن لا يمكن لمصورات الليف التي تتدخل بغية إصلاح الأنسجة المتخربة أن تحل مكان الخلايا الزليلية synoviocytes ومصورات العظم والغضروف التي تعمل على نحو معقد ومتناسق.

1- دور مستقبلات النمط في الالتهاب:

تقوم مستقبلات تعرّف النمط الموجودة على البلاعم والخلايا المتغصنة بتأثير شديد الأهمية في إطلاق محرك الآلة الالتهابية؛ إذ يؤدي ارتباط هذه المستقبلات بلجائنها ligand المختلفة إلى إفراز السيتوكين IL-1، وعامل نَخَر الورم  TNFإضافة إلى الكيموكينات .chemokines تعد السيتوكينات السابقة وسائط التهابية شديدة التأثير لأنها تؤدي إلى تبدلات في خلايا البطانة الوعائية، وتتجلى هذه التبدلات بظهور جزيئات الالتصاق adhesion molecules التي تساعد الكريات البيض على الخروج من الأوعية إلى حيث البؤرة الالتهابية. كما تساعد الكيموكينات (وهي سيتوكينات ذات فعالية جذب كيميائي للكريات البيض) على تشوه هيكل الكرية البيضاء مما يساعدها على الحركة باتجاه البؤرة الالتهابية.

من الجدير بالذكر أن المناعة الخلقية لا ترتكس فقط إزاء وجود الأجسام الغريبة خارجية المنشأ، بل تستجيب لمؤثرات ذاتية المنشأ، تصدر على شكل إشارات شدةٍ خلوية stress، هذه الإشارات تنبه على وقوع حالة شدة على الخلية، قد تكون هذه الشدة من منشأ فيزيائي كالتعرض للحرارة الزائدة أو الإشعاعات الضارة أو الرض، وقد تكون من منشأ بيولوجي داخل الخلية كإنتاج جزيء بروتين شاذ. يدعى مجمل إشارات الشدة تلك  بالجزيئات المرافقة لإشارات الخطر danger-associated molecular pattern (DAMP)، مثل حمض البول وبروتينات الصدمة الحرارية (HSPs) والبروتين السكري .(gp96) يؤدي ظهور إشارات الخطر تلك في الخلية إلى تشكل الجسيمات الالتهابية التي تعد الآلة المحركة للارتكاس الالتهابي الذاتي الذي يطلق بدوره شلالاً من الاستجابات المناعية الخلقية والتلاؤمية.

2- الجسيمات الالتهابية  :inflammasomes

هي معقدات جزيئية عملاقة، تتواسط تفعيل السيتوكينات الالتهابية ولاسيما السيتوكين 1bβ .(IL- 1bβ)  تتألف من مستقبلة وبروتين مُلئم adaptor protein ومن إنزيم الكاسباز1. هناك نمطان رئيسان من المستقبلات التي يمكنها تكوين جسيمات التهابية هي المستقبلات  NLRs، .AIM2 تمثل المستقبلات السالفة الذكر أهمية خاصة في تفعيل المناعة الخلقية في النسيج الظهاري حيث يكون تعبير المستقبلات toll-like receptor (TLRs) ضعيفاً أو معدوماً.

دور الجسيمات الالتهابية في الأمراض الالتهابية المزمنة:

برزت أهمية الجسيمات الالتهابية في الأمراض بالكشف عن طفرة في الجزيء NLRP3 في المرضى المصابين بالمتلازمة الالتهابية التي تعرف بالمتلازمة الدورية المتشاركة مع البيرين البارد cryopyrin-.associated periodic syndrome  تلا ذلك الكشف عن العلاقة بين الأمراض الالتهابية وفرط إفراز السيتوكين.IL-1bβ

3- دور الخلايا المتغصنة في المناعة الذاتية والالتهاب:

للخلايا المتغصنة أثر مهم في التحمل المركزي (الانتقاء السلبي) والمحيطي (الحذف النسيلي والاستعطال والتمايز إلى خلايا منظمة).

يؤدي نضج الخلايا المتغصنة إلى إلغاء التحمل الذاتي في الأنسجة المحيطية. وتتحول الخلايا المتغصنة إلى الشكل الناضج  في الأنسجة المحيطية  تحت تأثير عدد من العوامل الممرضة وعلى نحو رئيس عن طريق التفعيل عبر مستقبلات التول  TLRs، لكن المعقدات المناعية أو السيتوكينات التي تتشكل في أثناء الالتهاب قد تفعّل هذه المستقبلات.

يمكن تصنيف الخلايا المتغصنة إلى نمط مدرسي (كلاسيكي) أو اعتيادي (cDCs) ونمط بلازماوي الشكل .pDCs تقدم الأولى المستضد إلى الخلايا الساذجة وتتوسط التحمل المحيطي، في حين تؤثر الثانية تأثيراً مهماً في تغيير الاستجابة المناعية المضادة للفيروسات، وهي تفرز كمية كبيرة من الأنترفيرون نمط I جواباً على التحريض بالفيروسات.

4- السيتوكينات الالتهابية:

 أ- السيتوكين 1bβ  :(IL-1bβ)  للسيتوكين شأن أساسي في الالتهاب، وهو يفرز من خلايا الخط النقوي .myeloid cell lineage يفرز على شكل طليعة خامدة هي  proIL-1bβ، وذلك جواباً عن محرضات الالتهاب، يتلو ذلك تحرير الشكل الناضج للسيتوكين .IL-1bβ تحدث هذه الخطوة تحت تأثير أحد الجسيمات الالتهابية .inflammasome يؤدي الإنتاج الزائد لهذا السيتوكين إلى ظهور أعراض التهابية موضعية وجهازية، وهذا ما يتجسد في الأمراض الالتهابية المزمنة ذات المنشأ الوراثي أو المكتسب. وقد أثبت دور IL-1bβ الالتهابي بالتحسن السريري حين استعمال مضاد IL-1bβ في النقرس والتهاب المفاصل الشبابي الجهازي .systemic juvenile arthritis  

 ب- عامل نَخَر الورم :tumor necrosis factor (TNF) يؤثر هذا العامل بوساطة مستقبلة  TNF  بطريقين، يؤدي أحدهما إلى تفعيل شلال إنزيمات الكاسباز التي تسبب الاستماتة الخلوية، ويؤدي الثاني إلى تأثيرات التهابية.

الشكل (15) التأشير عبر مستقبلة ذات الأنترفيرون.

للعامل TNFaα تأثير مهم في أذية المفصل في الداء الروماتوئيدي، وهو ينتج على نحو رئيس من البلاعم الزليلية، وكذلك من الخلايا التائية المفعلة والمرتشحة في المفصل، فيثبط إنتاج البروتيوغليكان proteoglycan   في الغضروف المفصلي، ويؤثر مباشرة في قولبة العظم، إذ يزيد من تخلق كاسرات العظم. في حين يثبط تمايز بانيات العظم osteoblast ونضجها.

ج- الأنترفيرونات نمط :I تشمل الأنترفيرونات من النمط I كلاً من الأنترفيرون ألفا والأنترفيرون بيتا، ولهذه السيتوكينات عمل مهم في المرحلة الباكرة من الاستجابة المناعية للأخماج الفيروسية. وعلى الرغم من أن الكريات البيض تفرز الأنترفيرونات نمط I  تعد  الخلايا المتغصنة البلازماوية الشكل (pDCs)  المصدر الرئيس لها. بعد ارتباط الأنترفيرون نمط I بمستقبلاته من النمط الأول (الشكل 15) تنطلق إشارة عبر الطريق  JAK/STAT، ويؤسس ذلك لنسخ جينات تدعى الجينات المحفزة بالأنترفيرون التي ينوف عددها على 300 جين. يؤدي IFN إلى نضج الخلايا المتغصنة وإلى زيادة كفاءتها في تقديم المستضد مما يروج لتفعيل الخلايا التائية والبائية، كما يسهل انقلاب صنف الغلوبيولين المناعي إلى IgG بتفعيل إنتاج .IL-10 كذلك يسهل تعبير جين الجزيئة Fas في الخلايا NK مما يزيد من قدرتها المسببة للاستماتة. وهكذا وبتحفيز نسخ الجينات المسؤولة عن التأثير المضاد للعوامل الممرضة وتمثيل (َمثْيلة) المستضد تمارس الأنترفيرونات تأثيرات متعددة في الاستجابة المناعية لكل من المناعة الخلقية والمناعة المكتسبة.

 د- السيتوكين :IL-6 يؤدي إلى تمايز الخلايا البائية إلى خلايا بلازمية وإفراز الغلوبيولين المناعي IgG، كذلك يسهم في تكاثر الخلايا التائية وتمايزها، كما يثير تمايز كاسرات العظم. وهو أيضاً المؤثر الرئيس في خلايا الكبد لإنتاج بروتينات الطور الحاد. ولهذا السيتوكين فعل مهم في بدء الداء الروماتوئيدي ويسهم في تأكل العظم والالتهاب المفصلي.

هـ- أنتيرلوكين 17 :(IL-17) يؤدي IL-17 إلى ارتشاح الخلايا الالتهابية لأنه يؤثر إيجابياً في تعبير جزيئة الالتصاق  ICAM-1 في الخلايا البطانية الوعائية. يؤدي أيضاً إلى إفراز العديد من البروتينات الالتهابية مثل البروستاغلاندين  E2، مما يؤدي إلى أذية نسيجية. يؤثر IL-17 في عدد من الخلايا: الظهارية والبطانية والميزانشيمية، والبلاعم؛ مما يؤدي إلى حشد العدلات ووحيدات النوى إلى الأنسجة الملتهبة. ولـIL -17   شأن مهم في إمراضية الداء الروماتوئيدي بمساعدته على تخلق ناقضات العظم osteoclast  المسؤولة عن ارتشاف العظم. ويؤدي قطع طريق IL-17 إلى تخفيف كلٍ من الالتهاب وتأكل العظم، مما يجعل الأنظار تتجه إليه بوصفه هدفاً علاجياً في الداء الروماتوئيدي.

خامساً- الشيخوخة المناعية:

تعرف الشيخوخة أنها فقد الكفاءة البيولوجية على مستوى الخلايا والعضوية كلها، وتنجم عن تراكم الجزيئات الضارة في الخلايا. يحدث تسارع الشيخوخة الخلوية في عدد من الأمراض المزمنة كأمراض الكلية المزمنة وتليف الرئة وانتفاخ الرئة والتهاب الكبد المزمن وتنكس القرص بين الفقرات وفرط تصنع البروستات الحميد. تتراجع آليات المناعة المكتسبة على نحو شديد في العقد الثامن من العمر. ومما يدل على الشيخوخة المناعية، زيادة الأخماج مع التقدم بالعمر وكذلك مراضة هذه الأخماج والفشل في الاستجابة للقاح وتفعيل الأخماج الفيروسية المزمنة مع العمر. وكذلك اضطراب الاستجابة للتنبيه بالمستضدات ونقص الخلايا اللمفاوية وقصر عمرها.

 وعلى النقيض من المناعة المكتسبة تتفعل المناعة الخلقية على نحو أساسي في عمر متقدم ويزداد تركيز السيتوكينات الالتهابية ولاسيما IL-6 مما يسرع العديد من الأمراض التنكسية ويعقدها. والمثال المدرسي (الكلاسيكي) هو تصلب الشرايين. إن الآلية التي تفعل المناعة الطبيعية غير واضحة، وقد يكون ذلك بسبب تراجع المناعة المكتسبة التي أثبتت الدراسات العديدة تراجعها مع العمر. تفسر الشيخوخة المناعية بتراجع نشاط التوتة وبقصر القسيم الطرفي telomere مع العمر.

العمر عامل خطورة على المناعة الذاتية:

هناك العديد من الأمراض الالتهابية المزمنة التي تظهر في عمر متأخر، كالتهاب الشرايين  ذي الخلايا العملاقة giant cell arteritis والداء الروماتوئيدي، مما يبدو العمر معه عامل خطورة على المناعة الذاتية. وهذا الأثر المهم للعمر في حدوث إمراض المناعة الذاتية يدعو إلى التساؤل عمّا إذا كان العمر يعدّ عامل خطورة لأنه يرافقه اضطراب آليات التحمل المناعي. ومن الملاحظ أن الأضداد الذاتية ظاهرة شائعة في المسنين. ومعظم هذه الأضداد يكون نوعياً لمستضد ذاتي  شائع كالعامل الروماتوئيدي وأضداد النواة، في حين أن الأضداد النوعية لعضو معين لا يبدو أنها ناتج طبيعي للعمر.

وعلى نحو عام يكون الجهاز المناعي الشائخ أقل قابلية لإنتاج استجابة مناعية مما هو عليه في اليافعين؛ ولذلك تنخفض الاستجابة للقاحات مع العمر.

سادساً- العلاقة بين الجهاز المناعي والنسيج العظمي:

1- معطيات عامة:

 تتحدد الكتلة العظمية بالتوازن بين الارتشاف resorption والتعظم. وللسيتوكينات والكيموكينات وعوامل النسخ والمستقبلات الغشائية التي تظهر في سياق الاستجابة المناعية شأن مهم في تنظيم استقلاب العظم على نحو مباشر أو غير مباشر. وتعد كل من المناعة الخلقية والمكتسبة عاملاً محدداً في قولبة العظم، إذ تمثل الخلايا التائية والبائية والبدينة والبلاعم مصادر للتأشيرات التي تنسق فعاليات بانيات osteoblast  وكاسرات العظم عبر العديد من الطرق. تنحدر كاسرات العظم عن سلائف وحيدات النوى، وهي تشبه البلاعم والخلايا المتغصنة في نمطها الظاهري. يتحرض تشكل كاسرات العظم بدءاً من وحيدات النوى بفعل العديد من السيتوكينات، مثل IL-11, IL-6, OSM, CT-1، تفرز الخلايا المسؤولة عن قولبة العظم هذه السيتوكينات. ويتأثر إنتاجها في بانيات العظم كثيراً بالسيتوكينات الالتهابية مثل .IL-1 ويؤدي اضطراب بيئة السيتوكينات إلى فقد العظم الموضعي أو الجهازي.

2- العوامل النووية كابا :NF-B  

 أ- المستقبلة المفعِّلة للعامل النووي كابا :receptor activator of NF-kB (RANK) تتواسط المستقبلة RANK تمايز الخلايا الكاسرة للعظم وتفعيلها وتساعد على بقائها، كما أن لها تأثيراً مهماً في فعالية الخلايا المتغصنة لأنها تثبط الاستماتة في هذه الخلايا وتساهم في تفعيلها. يؤدي ارتباط المستقبلة RANK  باللجين RANKL ligand إلى تعبير العديد من عوامل النسخ مثل NF-kB وAP-1      و.NF-AT  ولتفعيل العامل النووي كابا NF-B أثر في تعظم الغضروف أو تخربه في النموذج الحيواني للداء الروماتوئيدي والفصال العظمي؛ مما يجعل بالإمكان عمل مقاربة علاجية تعتمد على تثبيط NF-B للوقاية من أمراض العظم الشائعة. على سبيل المثال، إن  Denosumab، وهو أضداد وحيدة النسيلة تحزم الجزيئات RANKL فتمنع ارتباطها مع  اللّجين RANK فتمنع التأشبر .NF-B

تؤدي المستقبلة  osteoprotegerin (OPG) الذوابة إلى تثبيط إفراز السيتوكينات، وهي  تتنافس مع الجزيئة RANKL على الارتباط بالمستقبلة RANK، مما يفسر حماية فأر التجربة من أذية العظم والغضروف حين حقنه بهذه الجزيئة رغم استمرار الحالة الالتهابية المفصلية  لديه. هذا ويؤدي حذف الجين الذي يرمز للّجين RANKL إلى تصخر العظم لدى الفأر بسبب فقد كاسرات العظم.

تحرض السيتوكينات IL-11, IL-17,  IL-6, TNFa, OSM, CT-1 صانعات العظم على إنتاج الجزيئات RANKL وكبت إنتاجها من الجزيئات   OPG؛ مما يروج  لتشكل كاسرات العظم.

ب- المستقبلة المتشاركة مع ناقضات العظم :osteoclast- associated receptors (OSCAR)  تقوم المستقبلة OSCAR بضبط التآثرات بين العظم والجهاز المناعي، وتكون معبرة في كاسرات العظم الإنسانية ووحيدات النوى، والبلاعم، والخلايا المتغصنة المشتقة من وحيدات النوى m) (DCs)  وتستطيع التأثير في كل من الاستجابة المناعية الخلقية والمكتسبة.

لهذه المستقبلة فعل في تمايز كاسرات العظم وفي نضج الخلايا المتغصنة ووقايتها من الاستماتة، كما تساعدها على قبط المستضد وتقديمه، إذ تساعد على تعبير العديد من الجزيئات الضرورية لهذا الغرض مثل CD40 و B7 و .HLA-DR ويؤدي تفعيل المستقبلات OSCAR الإنسانية إلى تحرير الكلسيوم داخل الخلية مما ينتهي إلى تعبير مستوىً عالٍ من IL-12 وإلى إفراز زائد للكيموكين IL-8 والكيموكينات التي تجذب الخلايا Th2 والخلايا المنظمة.

سابعاً- العوامل الوراثية في الأمراض المناعية الذاتية:

تدل الدراسات الوبائية للأمراض المناعية الذاتية على وجود مركب وراثي. يمكن إجراء الدراسة الوبائية بتحديد تواتر المرض ضمن العائلات التي يوجد فيها فرد مصاب بالمرض ثم مقارنته بالتواتر العام للمرض، وهنا يعبر عن التمركز العائلي للمرض بالرمز  λ s الذي نصل إليه بتقسيم نسبة حدوث المرض في أشقاء المرضى على نسبة حدوثه في الجمهرة العامة. وتدل قيمة العامل  λ s القريبة من الواحد على عدم وجود علاقة وراثية بالمرض، وكلما كانت قيمة العامل  λ s كبيرة كان خطر العامل الوراثي أكبر، فعلى سبيل المثال يبلغ العامل  λ s للسكري المعتمد على الأنسولين 15، مما يعني أن أفراد عائلة المصاب بالسكري معرضون للإصابة بالداء السكري أكثر بـ 15 مرة من الناس الذين لا يوجد في عائلتهم قصة لهذا المرض. وهناك طريقة ثانية لتقدير أثر العوامل الوراثية هي حساب نسبة تواتر المرض في التوائم الحقيقية والتوائم الكاذبة. على سبيل المثال تبلغ نسبة توافق حدوث الداء الروماتوئيدي 15% في التوائم الحقيقية، و3% في التوائم الكاذبة.  يفسر الاختلاف في الاستعداد الوراثي لمرض ما بين فرد وآخر باختلاف الأنماط الوراثية للجينات ذات الصلة الوظيفية بالفيزيولوجيا الإمراضية لهذا المرض، والذي يعرف بتعبير التعدد الشكلي polymorphism  للجين. حين وجود تعدد شكلي لجين ما تعرف الأنماط الوراثية المختلفة لهذا الجين بالأليل  .allele

يمكن حساب الخطر الوراثي لمرض ما والمرتبط بوجود أليل محدد بوساطة القيمة  (OR) odd ratio، وذلك بمقارنة تكرار الأليل في مجموعة مرضى بتكراره في مجموعة أصحاء يتم انتقاؤهم عشوائياً من العرق البشري نفسه للمرضى. فإذا كانت القيمة OR معادلة للواحد يعني عدم وجود لترابط الجين المدروس مع المرض، وكلما ارتفعت قيمة OR كان الخطر الذي يسببه الجين أكبر. على سبيل المثال بلغت القيمة OR  لترابط الأليل HLA-B*27 مع التهاب الفقار المقسط في عينة من المرضى السوريين 107 مما يعني أن هذا الأليل يمثل مصدر خطورة عالية للإصابة بهذا المرض. إن أحد أهم أهداف الدراسات الوراثية هو الكشف عن الآليات البيولوجية التي تهيئ لحدوث المرض، مما يساعد على وضع مقاربات علاجية فعالة، وكذلك تحديد واسمات وراثية تساعد في التشخيص.

1- سمات العوامل الوراثية في الأمراض المناعية الذاتية:

يتسم المركب الوراثي في الأمراض المناعية الذاتية إجمالاً بأنه متعدد الجينات  polygenic، وهو - على النقيض من المرض الوراثي أحادي الجين monogenic  - لا ينتقل وراثياً وفقاً لقوانين مندل سمةً مندلية بسيطة.

وإجمالا إن الأمراض المفصلية هي عديدة الجينات ما عدا الأدواء الدورية التي تكون أحادية الجين، فعلى سبيل المثال، تم الكشف عما ينوف على 30 جيناً يبدي ترابطاً مع الذئبة. يؤدي الشذوذ الوراثي في المرض الوراثي وحيد الجين إلى فقد وظيفة البروتين الذي يرمز له هذا الجين. وعلى سبيل المثال تؤدي الطفرات المختلفة في الجين المرمز لبروتين البيرين إلى حمى البحر الأبيض المتوسط بسبب فقد وظيفة البيرين الذي يوجد في السوائل المصلية serosal ويقوم بتخريب كل من  C5a,IL-8؛ مما يؤدي إلى بقاء الفعالية الالتهابية لكل من هذين العاملين وهي المسؤولة عن حدوث نوبات راجعة من الحمى والالتهاب المؤلم في الأجواف الصفاقية والمفصلية، وقد يؤدي العيب الوراثي في المرض وحيد الجين إلى زيادة وظيفة البروتين المرمز. على سبيل المثال تنجم متلازمة الحمى الدورية المرتبطة بمستقبلة عامل نَخَر للورم tumor necrosis factor receptor- associated periodic syndrome (TRAPS)  عن طفرات في مستقبلة العامل المنخر للورم TNFRSF1 تؤدي إلى مقاومة سقوطها وبالتالي إلى زيادة الفعالية الالتهابية الناشئة منها، وهذا ما يفسر الاستجابة الإيجابية للعلاج بمضادات العامل TNF مثل .etanercept يكون تأثير العوامل البيئية في الأمراض الوراثية وحيد الجين معدوماً أو ضعيفاً، ويكون الظهور السريري للمرض محتماً، في حين أن العامل الوراثي المرافق للمرض المناعي الذاتي لا يؤدي بالضرورة إلى ظهور المرض، فآليات الخطورة المرافقة للأمراض المناعية الذاتية توجد في الناس الأصحاء. ويفسر ذلك بتعقيد المركب الوراثي المتمثل بالعديد من الجينات التي تتبادل التأثير مع العوامل البيئية، كما تتبادل التأثير فيما بينها، لتتحدد بعد ذلك إمكانية حدوث المرض المناعي الذاتي. وإذا كان التأثير المتبادل إيجابياً دُعي التأثير التآزري synergism، أما إذا كان سلبياً دُعي الروكبة  epistasis، أي كبت صفات جينية بفعل جين آخر. هذا والجدير بالذكر أن أياً من تلك العوامل لا يعد ضرورياً ولا كافياً بذاته لحدوث المرض. ويتجلى تعقيد العوامل الوراثية أيضاً بالتباين الوراثي بين المرضى، إذ إن المشهد السريري الواحد في مرض مناعي ذاتي ما يمكن أن يحدث عن جمل وراثية مختلفة، وتكون مثل هذه الاختلافات الوراثية أوضح بين الأعراق والشعوب. على سبيل المثال يعبر نحو 90% من المصابين بالسكري الأوربيين الجين HLA-DRB1*40 أو الجين  HAL-DRB1*30 أو كلاهما، في حين يرتبط خطر حدوث السكري بالجين HLA-DRB1*70 في الشعوب الآسيوية.

2- جينات المعقد الأعظمي للتوافق النسيجي  :major histocompatibility complex (MHC)

تحتل جينات المعقد الأعظمي للتوافق النسيجي المكان الأبرز بين العوامل الوراثية للأمراض المناعية الذاتية على نحو عام، فعلى سبيل المثال تمثل منطقة المعقد الأعظمي للتوافق النسيجي MHC   30-50% من العوامل الوراثية في الداء الروماتوئيدي.

تعد منطقة جينات المعقد الأعظمي للتوافق النسيجي أكثر مناطق الجينوم الإنساني تعقيداً، بسبب الأعداد الكبيرة لأنماط التعدد الشكلي من جهة، ولوجود ظاهرة عدم توازن الارتباط linkage disequilibrium   - التي تعني انتقال مجموعة من الجينات المتجاورة على نحو متلازم وكأنها جين واحد- من جهة أخرى. تدعى المنطقة الجينية التي تحمل مثل هذه الجينات النمط الفرداني .haplotype تؤدي ظاهرة عدم توازن الارتباط هذه إلى صعوبة تفسير نتائج التنميط الوراثي لمواقع التعدد الشكلي.

غير أن ظاهرة عدم توازن الارتباط تجعل من الصعب تحديد الأليل المسؤول عن الخطر الوراثي من بين الأليلات المحمولة على كل من هذين النمطين الفردانيين.

هناك عدة آليات تفسر ارتباط الأمراض المناعية بالهلا. منها الآلية القائلة إن جزيئة الهلا المتشاركة مع المرض تكون ذات ميل للارتباط ببتيدات ذاتية يؤدي تقديمها إلى خلايا تائية ذاتية إلى إطلاق استجابة مناعية ذاتية، ومنها الآلية القائلة إن جزيئات الهلا المترابطة إيجاباً مع المرض المناعي الذاتي تتحكم في تشكيل الفهرس المناعي في التوتة بحيث تسمح ببقاء خلايا تائية ذاتية في أثناء الانتقاء السلبي، أو أنها تفشل في المساعدة على انتقاء خلايا كابتة.

3- الجينات الأخرى:

أنتجت تقنية التنميط الجيني لمواقع التعدد الشكلي وحيد النكليوتيدsingle nucleotide polymorphism (SNP)   معطيات هائلة حول الوراثة في الأمراض المناعية الذاتية، إذ استطاع الباحثون تنميط ما يقارب 1000000 موقع، وتمثل هذه المواقع 65-70% من مجمل مواقع التعدد الشكلي الشائعة في الجينوم الإنساني.

إن التحدي الأكبر في الدراسة الجينية للأمراض المناعية الذاتية هو اختيار المواقع التي ستتم دراسة علاقتها بالمرض، ويمكن التوجه إلى الجينات المرشحة لأن تكون ذات دور في المرض. وهنا يختار الباحث موقعاً محدداً لـ  SNPاعتماداً على معرفة وظيفته المناعية أو دوره في أمراض مناعية أخرى أو وجود بيّنة سابقة في سياق دراسات وراثية سابقة، وقد ساعدت هذه الطريقة على الكشف عن العديد من الجينات المترابطة مع التهاب المفاصل الروماتويدي والذئبة.

4- التبدلات نظيرة الوراثية :epigenetics

الآليات نظيرة الوراثية هي الآليات التي تحكم تعبير الجين أو كبته، وهي أساسية لتطور الخلايا وتمايزها، وهي تمنح الخلية مرونة استقلابية تسمح لها بالتكيف مع التبدلات البيئية. ويمكن لهذا أن يفسر التآثراتinteractions  بين العوامل البيئية والوراثية في الأمراض المناعية الذاتية حيث تؤدي العوامل البيئية إلى تعديل في تعبير الجينات.

 المثال الأبرز على هذا المفهوم هو الأفراد الألمان الذين تعرضوا للمجاعة في مرحلة الأجنة ومرحلة الطفولة في أثناء الحرب العالمية الثانية. يبدي هؤلاء الأفراد انخفاضاً في (مثيلة (methylation المنطقة التي تنظم تعبير الجين IGF2 مقارنة بالأفراد الذين لم يتعرضوا لمثل هذه المجاعة. وتمثل التوائم الحقيقية مثالاً بارزاً عن تأثير التبدلات نظيرة الوراثية التي تفسر جزءاً كبيراً من الاختلاف في حدوث الأمراض المناعية الذاتية.

هناك العديد من الدراسات الحديثة التي بينت أن إمتال الدنا يتعلق بالتعرض للعديد من العوامل البيئية كالتعرض للتدخين في أثناء المرحلة الجنينية والكحول والملوثات البيئية. وبناء على هذه الملاحظات أصبح جلياً أن الآليات نظيرة الوراثية تعد اليوم الجبهة الجديدة للتآثر بين العوامل البيئية والوراثية.

تشمل التبدلات آليات ضبط النسخ الجيني، وليس لها علاقة بالشذوذات في الترميز الوراثي لبروتين ما. يعتقد وجود عيب نظير وراثي يضبط النسخ الجيني بإضافة الزمر الميتيلية إلى الدنا (الإمتال) وإلى الرنا الدقيق وكذلك بإضافة زمر أسيتيل إلى الهيستونات.

أ- إضافة الزمر الميتيلية إلى الدنا (المَثْيلة :(methylation  يُضبط نسخ الجينات عن طريق إضافة زمر ميتيل إلى ثمالات السيتوزين في الدنا مما يؤدي إلى كبت نسخ الجين. يتم هذا التفاعل بوساطة إنزيمات خاصة تدعى DNA methyltransferases (DNMTs)، ويؤدي الخلل في إمتال الدنا إلى زيادة النسخ الجيني.

يضبط التبدل في إمتال الدنا عن طريق إشارة خارج خلوية extracellular signal-regulated .kinase (ERK)  ولوحظ أن قطع هذا الطريق في الخلايا التائية في الفأر يؤدي إلى نقص في تعبير DNMT1، وإلى فرط تعبير جينات المناعة الذاتية الحساسة للمتيلة، وفي دراسة قارنت الإمتال في مجمل الجينوم بين التوائم الحقيقية التي لا تتطابق في حدوث الذئبة والتهاب المفاصل الرثياني (الروماتوئيدي)، والتهاب الجلد والعضلات لوحظ فرق مهم في الإمتال الإجمالي وتعبير الجينات المعروفة بدورها الإمراضي.

 ب- الرنا الدقيق :microRNAs (miRNA) هو رنا غير مرمز يضم 22 نكليوتيداً، ويقوم بكبت الترجمة من خلال ارتباطه بشكل نوعي إلى تعاقبات متممة في الرنا الرسول مما يؤدي إلى تحطيمه. يتم نسخ هذا النوع من الرنا بوساطة الخميرة  RNA polymerase II، وهي تستقصى حديثاً في المناعة الذاتية وفي الالتهاب المزمن. وأفضل مثال على الضبط نظير الجيني الذي يعود إلى التآثر miRNA-DNA و إزالة تفعيل الصبغي X في النساء. إذ إن أحد الصبغيين X يكون ملغياً في عضوية الأنثى وذلك بآليات نظيرة وراثية. ولذلك فقد اعتقد أن الخطأ في كبت الصبغي X قد يكون مسؤولاً عن الآليات الإمراضية في الكثير من الأمراض بما فيها الأمراض المناعية الذاتية. هذه النظرية يمكن أن تفسر ميل الذئبة الحمامية للحدوث عند النساء.

ج- التأثيرات الدوائية في الإمتال: لوحظ أن الخلايا التائية المساعدة الإنسانية التي تعالج بمثبط DNMT1  مثل  5-azacitidine تصبح ذات فعالية ذاتية النشاط، وأن هذه الظاهرة تتراجع حين إيقاف هذا الدواء. يشار هنا إلى أن الدواء يحدث هذه التأثيرات في مجموعة من المرضى فقط مما يدل على وجود تفاعل مجهول للدواء هو الذي يفسر اقتصار تأثيره على جزء من المرضى. ومن غير الممكن توقع أي فئة من الناس يمكن أن ترتكس بهذا الدواء. من أكثر الأدوية إحداثاً لمرض نظير للذئبة والأضداد ANAs هي procainamide  و.hydralazine  والجدير بالذكر أن كلا الدواءين يثبطان مثيلة الدنا وينافسان مثبط الإنزيم .DNMT1 تبدي الخلايا التائية المعالجة بـ  5-azacitidine  -الذي يزيل ميتيل الجين CD11a  -جواباً شاذاً ضد المستضدات الذاتية وتآثراً غير طبيعي مع جزيئات .MHC من جهة أخرى يزيل5-azacitidine   ميتيل جينات البرفورين في الخلايا التائية السمية، كما يزيل ميتيل الجين CD70 في الخلايا البائية؛ مما يؤدي إلى زيادة تعبير هذه الجينات، وهو ما يلاحظ في الخلايا اللمفاوية للمصابين بالذئبة. وتسهم زيادة تعبير هاتين الجزيئتين في زيادة فعالية قتل البلاعم الذاتي، مما يشكل مصدراً للجسيمات النووية nucleosome  المتحررة عقب الاستماتة الخلوية، وكذلك زيادة إنتاج الأضداد.

لوحظ أن استخدام مثبطات إزالة الأسيتيل من الهستونات مثل trichostatin A (TSA) أو suberoylanilide hydroxamic acid (SAHA)  يؤدي إلى تحسن في التهاب الكلية الذئبي وضخامة الطحال الحادثة في سياق الذئبة. هذه النتائج تتفق مع التجارب في الزجاج.

الخلاصة:

يرتكس الجهاز المناعي للمحرضات المختلفة وفقاً لنمطين من الآليات: آليات المناعة الخلقية التي تتفعل فور ظهور المحرض وتكون غير نوعية له، والمناعة المكتسبة التي تظهر على نحو متأخر وتكون نوعية للمحرض. هناك صلات وثيقة بين المناعة الخلقية والمكتسبة، تفعّل المناعة الخلقية آليات الالتهاب وتهيئ الجو الملائم لتفعيل الخلايا اللمفاوية التائية، وتؤثر المناعة المكتسبة بدورها إيجاباً في المناعة الخلقية بإفراز السيتوكينات التي تفعّل خلايا المناعة الخلقية والأضداد التي تفعّل المتممة. تمثل الأمراض المفصلية جزءاً من الأمراض المناعية الذاتية التي تنشأ من تجاوز الآليات المحيطية لتحمل الذات. ويحدث ذلك تدريجياً تحت تأثير كل من العوامل الوراثية والعوامل البيئية. يتسم المركب الوراثي في الأمراض المناعية الذاتية بأنه عديد الجينات التي تتبادل التأثير فيما بينها. تمثل العدوى بالعوامل الممرضة المؤثر البيئي الأبرز، إذ تؤدي إلى تجاوز آليات التحمل المناعي المحيطية في الأفراد الذين لديهم استعداد وراثي لذلك تحديداً. إن المعرفة الدقيقة للعوامل الوراثية وآليات تأثيرها في المرض المناعي الذاتي لها أهمية كبيرة في وضع مقاربات علاجية أكثر فعالية.

 

   

 


التصنيف : الأمراض الرثوية
النوع : الأمراض الرثوية
المجلد: المجلد الثالث عشر
رقم الصفحة ضمن المجلد : 32
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 458
الكل : 31650802
اليوم : 5384