تنظيم ذاتي
Selfordering -

التنظيم الذاتي

فوزي عوض

 

 

التنظيم (الانتظام) الذاتي self- organization أو الترتيب الذاتيself- ordering  عملية ترتيب شامل أو توافق ناشئ من تآثرات محلية بين مركّبات منظومة فوضوية غير مرتبة في البدء، وهو يحدث في منظومات متنوعة؛ فيزيائية وكيميائية وحيوية واجتماعية وإدراكية استعرافية. ومن الأمثلة على ذلك ظاهرة التبلور في الفيزياء؛ فعند تنمية البلورات على سطح صلب يُسمح للذرات أو الجزيئات بالحركة معتمدة على طاقتها الذاتية في مدة زمنية كافية؛ وفي ظروف مناسبة من التراكيز ودرجة الحرارة؛  لتلاقي ذرة أو ذرات أخرى، فتتجمع الذرات مرتبة منتظمة في بنية بلّورية مميزة. تتكون البلورةّ من تكرار منتظم في شبكة بلورية لخلية الوحدة، تحتل الذرات أو الجزيئات زواياها. يعتمد الميل إلى هذا الترتيب على القوة المتبادلة بين ذرتين؛ ثم على القوى المتبادلة مع مجموعة من الذرات، مما يجعل الطاقة الكلية للمنظومة عند النهاية الصغرى، وقد يكون نمو البلورة في ثلاثة اتجاهات، والمثال على ذلك نمو بلورات الثلج المسمى نموّاً تغصنياً dendrite (الشكل 1).

الشكل (1) بلورة الثلج التغصني.

 

يحدث أيضاً بعض التنظيم التحريكي في حالة تيارات الحمل في الموائع ، فقد  تبدأ الحركة مضطربة ولكنها قد تصير طبقية أو وفق أنماط معينة؛ كما في الصورة التي التقطها أحد السواتل  (الشكل 2) في الأجواء العليا لحركة بعض الغيوم، حيث يبدو في أسفل اليسار ما يشبه الشوارع؛  في حين يظهر في أسفل اليمين بدء تشكل إعصار.

الشكل (2) انتظام على اليمين وإعصار اضطرابي في الوسط.

 

كذلك يظهر مثل هذا الانتظام لتيارات الحمل بالمحاكاة الحاسوبية عند تسخين مائع من الأسفل محاط بحلقة باردة؛ حيث تبدو أنماط من تيارات حمل مختلفة بمرور الزمن، فيبدأ ظهور نمط سداسي عندما تكون الحلقة (الحدود) باردة، فإذا سخنت فإنها تميل إلى تشكيل أنماط حلزونية بأنواع مختلفة من فرع واحد أو فروع متعددة (الشكل 3).

الشكل (3) تشكل أنماط تيارات مختلفة عند تسخين مائع من الأسفل، وعند الأزمنة المذكورة أسفل كل نمط.

 

يلاحظ مثل ذلك عند تنقل مجموعة من الحيوانات؛ أو في الإشارات العصبية في شبكة عصبية (الشكل 4)، حيث يعمم مفهوم التنظيم الذاتي ليشمل الدماغ brain  بوصفه منظومة يجري فيها  تنظيم ذاتي للأفكار أو المدركات.

 

الشكل (4): انتقال الإشارات العصبية ذات المعنى بين خليتين عصبيتين بوساطة التغصنات؛ مع وجود إشارات حرارية اضطرابية دائمة.

 

إن السمة المشتركة في المنظومات المذكورة هي امتلاكها مكوّنات عديدة تشكل ما يسمى المنظومات المعقدة complex systems، ويلزم لتوصيف كلٍ منها عدد كبير من المتحولات المجهرية microscopic؛ مثل مواقع ذرات غازٍ ما وسرعاتها، فتوصف منظومة الغاز في فضاء الطور، ويتعين تطور سلوكها في هذا الفضاء. يمكن أن يعتمد فضاء الطور على متحولات جهرية macroscopic مثل ضغط الغاز ودرجة حرارته. وقد أمكن- باستعمال الحواسيب العالية القدرة - الربط بين المتحولات المجهرية والجهرية؛ وإظهار أنماط متباينة تختلف باختلاف شروط البدء، وبذلك بدأ استخلاص المبادئ المشتركة في تحريك المنظومات المعقدة.

كان البريطاني ويليم روس أشبي W. Ross Ashby - عام 1947 - أول من شرع في وضع المبادئ التحريكية للتنظيم الذاتي في صورته الشاملة؛ في السبرانية cybernetics. كان أشبي عالم نفس وأعصاب ورياضيات، حين كان يدرس نظرية تكون الذكاء وعمل الدماغ مقارنة بالآلات. ينص المبدأ الأول على ميل أي منظومة تحريكية إلى الوصول إلى حالة التوازن تلقائياً؛ مخلِّفة الحالات الأخرى لتبقى في حالتها هذه التي تسمى "الجاذب"attractor ، في حين تُسمى الحالات الأخرى "حوض الجاذب" basinattractor. وقد أعاد أشبي النظر في المدلولات الشائعة وعرفها تعريفاً يشمل المنظومات المادية وغير المادية؛ مثل منظومة الاستعراف cognitive ودرجة تعقيدها complexity، وقال إن بقاء المنظومة في حالة التوازن هذه يُقَيِّدُ المنظومة كلها، ويُعَبِّر عن اعتماد مركباتها (منظوماتها الجزئية) بعضها على بعض اعتماداً متبادلاً؛ أو ميلها إلى التنسيق فيما بينها، فتتكيف كل منظومة جزئية في بيئة المنظومات الجزئية الأخرى المحيطة بها كافة. وقد عرّف أشبي آلية التنظيم تجريدياً بأنها الآلية التي تسلك سبيل حالتها الذاتية الداخلية مع حالات بيئتها باتجاه حالة وحيدة تالية مرغوبة. ووصف هذه المنظومة عندئذ بأنها متحولات مستمرة أو متقطعة وخاضعة لمعادلات تفاضلية؛ وأن مثل هذا التمثيل بالمعادلات مقيدٌ جداً لعلوم الحياة، واعتمد تمثيل المنظومة بمجموعة رياضية S من الحالات الداخلية مع وجود مجموعة I من حالات البيئة المحيطة أو من المُدْخلات، ويُدعى حاصل الضرب  I× S  وفق التطبيق  fفي المجموعة S. ويمكن وفق ذلك أن تناقش عملية التنظيم إن كانت "جيدة" باتجاه الانتظام  أم لا،  وقال بعدم وجود عملية جيدة بالمطلق؛ وإنما هي نسبية دائماً بحسب ما تلبيه من تنسيق بين مكوِّناتها، حتى إنه قال بعدم وجود "دماغ" جيد (طبيعي أو صنعي ) بالمطلق، فكل شيء يعتمد على الظروف وعلى المطلوب. فقد يعمل أحد أقسام الدماغ -مثل الذاكرة- بصورة جيدة ضمن ظروف معينة تتطلب التذكر، ويعمل في ظروف أخرى -مثل اتخاذ القرار- بصورة سيئة، غير أن المهم هو النتيجة المطلوبة من الدماغ، فقد تساعد الذاكرة على نسخ الماضي إذا كان هو المطلوب، لكنها تصبح مُعوّقة وسيئة إذا كان المطلوب تجاوزه، فالذاكرة هي قيد على حوادث الماضي والحاضر والعلاقة بينهما.

أطلق عالم التواصل هاينز فون فورستر Heinz von Foerster مبدأ الترتيب من الضجيج عام 1960، وهو يقول إن التنظيم الذاتي يصير أسهل بوجود اضطرابات عشوائية (ضجيج) تجعل المنظومة تكتشف حالاتها المختلفة في فضاء الطور مما يزيد من حظوظ وصول المنظومة إلى حوض جاذب عميق أو قوي P ثم إلى الجاذب نفسه بسرعة. وثمة ما يشبه هذا المبدأ في التحريك الحراري (الترموديناميك) تحت اسم ترتيب من الترجحات fluctuations؛ أو ترتيب من الشواش chaos، مع أن هذا يتعارض ظاهرياً مع القانون الثاني في الترموديناميك؛ الذي يقول بعدم وجود عملية تلقائية توصل منظومة ما إلى حالة  قيمة إنتروبية (التي تعني الترتيب عادة) لها في نهاية العملية أقل من قيمتها الأولية، وينص على أن اتجاه التحولات التلقائية الجهرية دائماً باتجاه تزايد الإنتروبية، لكن إدخال تأثير الاضطرابات من البيئة يتجاوز هذا التناقض الظاهري.

أما سومرفيلد Sommerfield فقد بيّن وجوب إعطاء منظومة ما مجموعة من الاضطرابات؛ ثم إعطائها مجموعة من الأهداف، عندئذ تهدد الاضطرابات مُخْرَجات المنظومة خارج أهدافها، وسيكون التنظيم جيداً عندما يُلبي تلك الأهداف وسيئاً غير ذلك. يتطلب هذا الإقرار بأن التنظيم الذاتي ليس ذاتياً بالفعل؛ وإنما هو بتأثير منظومة خارجية أخرى، ومن ثم يستحسن استعمال التعبير " التوليد الذاتي للتنظيم"the spontaneous generation of organization وقد صنَّف الانتظام الذاتي في صنفين: يرافق الانتظام الأول اختزال في عدد درجات حرية المنظومة؛ مثل فرض قيود عليها نتيجة التآثر، في حين لا يرافق الصنف الثاني مثل ذلك.

هناك تطبيقات عديدة يمكن النظر إليها على أنها نتيجة ترتيب ذاتي؛ مثل عمل الليزر المعتمد على الإشعاع التعاوني المتزامن لعدد كبير من الذرات؛ وظهور المحرقة الذاتية في المواد الضوئية اللاخطية؛ وحدوث الناقلية الفائقة superconductivity أو السيولة الفائقة superfluidity، وفي الواقع يمكن النظر إلى العديد من التحولات الطورية على أنها نتيجة ترتيب ذاتي وتأثيرات محيطة بالمنظومة.

وفي الكيمياء يحصل الانتظام ذاتياً في بعض التفاعلات مثل تفاعل بيلوزوف وزابوتينسكي Belousov-Zhabotinsky الدوري الاهتزازي وتفاعل برغز وراوشر Briggs-Rauscher؛ اللذين يظهران بلونين مختلفين على التناوب.

كذلك يستفاد من الانتظام الذاتي عند تقليد عمل الدماغ في تصميم الإنسالات robots وأنماط التعرّف وفي الحواسب والشبكات العنكبوتية أو التوزيعية.

وقد لا يقتصر الانتظام على النمو البلوري وإنما يتعداه إلى دراسته في نمو النباتات، مثل الانتظام في نمو زهرة عباد الشمس (الشكل 5) حيث يظهر أنها مكونة من منظومتين حلزونيتين متعاكستي اتجاه الدوران تلتحمان بزاوية معينة، ويمكن كذلك أن يعد بعض أنماط التطور عند الحيوانات أو آلياتها انتظاماً.

الشكل (5) الانتظام في زهرة عباد الشمس.

 

كذلك فإن النظر في تطور المجتمعات وسلوكياتها على أنها منظومة معقدة قابلة للتغيير نتيجة تغير الظروف البيئية أو الفكرية، وميلها إلى الترتيب الذاتي، ودفعها في ذلك الاتجاه يوفر الكثير من الوقت والجهد.

 

مراجع للاستزادة:

       -   A. Berezin, Isotopic Randomness and Self-Organization: In Physics, Biology, Nanotechnology, and Digital Informatics,De Gruyter 2018.

        -    W. Ebeling, R. Feistel, Physics of Self-Organization and Evolution, Wiley-VCH 2012.

        -  C. Jooss, Self-organization of Matter: A dialectical approach to evolution of matter in the microcosm and macrocosmos,De Gruyter 2020.

 

 


- التصنيف : الكيمياء والفيزياء - النوع : الكيمياء والفيزياء - المجلد : المجلد العاشر، طبعة 2025، دمشق مشاركة :

بحث ضمن الموسوعة

من نحن ؟

الموسوعة إحدى المنارات التي يستهدي بها الطامحون إلى تثقيف العقل، والراغبون في الخروج من ظلمات الجهل الموسوعة وسيلة لا غنى عنها لاستقصاء المعارف وتحصيلها، ولاستجلاء غوامض المصطلحات ودقائق العلوم وحقائق المسميات وموسوعتنا العربية تضع بين يديك المادة العلمية الوافية معزَّزة بالخرائط والجداول والبيانات والمعادلات والأشكال والرسوم والصور الملونة التي تم تنضيدها وإخراجها وطبعها بأحدث الوسائل والأجهزة. تصدرها: هيئة عامة ذات طابع علمي وثقافي، ترتبط بوزير الثقافة تأسست عام 1981 ومركزها دمشق 1