الإنسان المنتصب
انسان منتصب
Homo erectus - Homo erectus
بشير الزالق
الإنسان المنتصب Homo erectus نوع من البشر يشبه الإنسان العاقل، لكن دماغه أصغر وأسنانه أكبر. كان يمشي منتصب القامة (الشكل 1)، صَنَع الأدوات الحجرية، وهو من أوائل البشر الذين استخدموا النار. ظهر منذ 1.5 مليون سنة في إفريقيا، وهاجر إلى شمالي آسيا وأوربا، وانتشر في معظم أنحاء العالم القديم؛ في إفريقيا الشرقية وإفريقيا الشمالية (الجزائر) وآسيا (شمال الصين وجاوا) وأوربا (جنوبي فرنسا وألمانيا وإيطاليا وغيرها). لكن الدراسات التي أجريت في السنوات العشر الأخيرة والتي استعملت التقنيات الإشعاعية للأرغون 39Ar و 40Ar عدلت تاريخ ظهوره، واعتُمِد على أنه ظهر منذ 1.8 مليون سنة في منطقة Koobi Fora في كينيا، ومنذ 1.7 مليون سنة في منطقة دمانيزي Dmanisi في جمهورية جورجيا، ومنذ 1.6 مليون سنة في ساننغيران Sangiran في إندونيسيا، ومنذ 1.8 مليون سنة في منطقة بيرنينغ Perning في إندونيسيا. ويبدو أن النوع استمر العيش في إفريقيا حتى أقل من مليون سنة السابقة، لكنه بقي فترة أطول في آسيا حتى منذ 200,000 سنة في الصين، وربما حتى منذ 50,000 سنة في إندونيسيا. وبدأ بالانقراض عندما بدأت الأجناس الأخرى بالظهور والانتشار، أي منذ ما يقرب من 400,000 سنة.
الشكل(1): الإنسان المنتصب الصياد. |
عُثِر على عظامه لأول مرة في حوض نهر سولو Solo في جزيرة جاوا عام 1891م على يد الطبيب الهولندي دوبوا Dubois حيث اكتُشِفَت مستحاثات لأجزاء من جمجمة مع فكوك تحمل أسناناً وعظم ساق متحجرة بنية اللون داكنة مستقرة في طبقات الصلصال والرماد
البركاني، مما يشير إلى أن صاحبها كان يمشي منتصباً. كانت جمجمته ثقيلة وسميكة، ذات أقواس حجاجية فوق العين. كل ذلك دعا دوبوا إلى تسمية هذا الكائن بالإنسان القرد pithecanthropus. وقد تعمد دوبوا هذه التسمية، وأردفها بصفات مهمة جداً تميز الإنسان
من بقية الكائنات الحية، وهي القامة المنتصبة والمشي المنتصب. ونظراً لاكتشاف هذا النوع البشري في جاوا فقد أطلق عليه إنسان جاوا.
تتابعت الاكتشافات منذ ثلاثينيات القرن الماضي في العديد من المناطق في آسيا وأوربا وإفريقيا، ومعظمها يؤرخ بين 600-200 ألف سنة مضت، ولها تسميات مختلفة بحسب مناطقها.
أتت أحدث الاكتشافات من منطقة بيلزينغزليبن Bilzingsleben في ألمانيا، ومن منطقة وادي نورمادا Normada من موقع هاتنورا Hatnora في الهند، ودمانيزي
من جمهورية جورجيا، وبينيتا Pineta (إيطاليا)، وسانداليا Sandalya في كرواتيا، وموقع ناريوكوتوم Nariokotome قرب بحيرة تركانيا في إفريقيا. وهناك الإنسان الذي وجد في موقع العبيدية في حوض نهر الأردن بفلسطين وأُرِّخَ نحو 700 ألف سنة خلت. ولكن هذه اللُقى كانت غير كافية لتحديد صفات هذا الإنسان، إذ لم يعثر إلا على سن قاطعة، على حين أتت الأجزاء الأخرى من سطح الموقع. لكن هناك لُقى متفرقة للإنسان المنتصب عُثِر عليها في مواقع مختلفة، بينها عظم فخذ في جسر بنات يعقوب، وعظم فخذ آخر عند موقع الطابون، وجمجمة في موقع الزطية، التي تُنسَب- بحسب بعض علماء أجناس الإنسان anthropologists- إلى نوعٍ متأخر من الإنسان المنتصب. وأهم المكتشفات لهذا الإنسان في سورية هو العظم الجداري اليساري للرأس الذي وجد في موقع الندوية.
يميز الباحثون بين صنفين من الإنسان المنتصب: الأول آسيوي ويسمونه Homo erectus، والثاني إفريقي ويطلقون عليه Homo ergaster (أو الإنسان المنتصب المبكر) الذي عُرِف في شرقي إفريقيا.
يتصف الإنسان المنتصب بأنه كائن منتصب القامة، يراوح طوله بين 150-160 سم ومتوسط حجم دماغه بين 800-1000 سم3. أما سعة دماغ إنسان جاوا فيراوح بين 750-975 سم3، أي يزيد مرة ونصفاً على دماغ الغوريلا، أما إنسان بيتِكانتروبوس Pithecanthropus الصيني فتبلغ سعة دماغه 915-1225 سم3 بمتوسط 1043 سم3. الجمجمة مدورة، وتبدي من الناحية الخلفية شبهاً شديداً بجمجمة الإنسان الحديث، وهي أقل ميلاً نحو الخلف، والصندوق القحفي متطاول، مع جبهة عالية تشبه جبهة الإنسان، وعظامه الأنفية عريضة ومسطحة والنتوء الوجني شديد البروز، والأسنان كبيرة الحجم، والقواطع بشكل مجرفة أو رفش بحافة حادة. وعند بعض الأنواع تجتاز الأنياب خط الإطباق السني بعض الشيء، ويكون لها مظهر الوتد، ويكون للأنياب السفلية حافة حرة بارزة، وهذه صفة إنسانية. لكن الجمجمة تُظهِر بعض الصفات المختلفة عن الإنسان والقريبة من صفات القردة؛ فعظام الحواجب (الأقواس الحجاجية) بارزة فوق العين ومتصلة، والذقن ما زالت غير واضحة، والجمجمة ثقيلة وسميكة ( الشكلان 2 و 3).
الشكل(2): جمجمة الإنسان المنتصب Homo erectus |
وتدل الصفات التشريحية والمستحاثية لهذه البشريات على صفات إنسانية كثيرة، ما يشبه كثيراً الإنسان العاقل Homo sapiens.
الشكل(3): بقايا العظام المستحاثة، وأسنان لإنسان بيتكانتروبوس |
كان هذا النوع البشري أكثر سيطرة على البيئة، لأنه دخل مناطق باردة جديدة في أوربا وآسيا، واستفاد كثيراً من الملاجئ والمغاور الطبيعية. كما اهتدى لأول مرة إلى بناء الأكواخ البسيطة التي دلت عليها الاكتشافات في تنزانيا وسورية وفرنسا، وبفضل هذه الأكواخ استطاع الإقامة في مختلف المناطق، بغض النظر عن طبيعة الطقس، بعد أن ارتدى أوراق الشجر وجلود الحيوانات. كما أنه عرف مبكراً النار التي حققت له فوائد كبيرة من حيث
التدفئة والإنارة والدفاع عن النفس والطبخ، فقد كان من أوائل البشر الذين مارسوا الطبخ، وغير ذلك.
صنع الأدوات الخشبية والعظمية، لكن لم يصل إلينا منها إلا النزر اليسير، كما صنع الأدوات الحجرية وعلى رأسها الفؤوس اليدوية التي تُنسَب إلى الثقافة الآشولية التي تعود إلى 1.7 مليون سنة، لذا أطلق عليها الأدوات الآشولية، وهي أدوات واسعة الانتشار، استخدمت في صيد الحيوانات وحفر التربة وقطع الأشجار والدفاع عن النفس وغير ذلك (الشكل 4).
الشكل(4): الأدوات الحجرية الآشولية التي صنعها الإنسان المنتصب |
ويعتقد أن هذا الإنسان تمتع بحياة اجتماعية منظمة وشكَّل الأسرة الأولى (الشكل 5) التي يقف الأب على رأسها، تتبعه زوجة أو عدة زوجات والأولاد، وعرف تقسيم العمل بحسب الجنس والسن، فاشتغل الرجال في المجالات الشاقة مثل الصيد، على حين عملت النساء في اللقط وتدبير البيت والعناية بالصغار.
الشكل(5): أسرة الإنسان المنتصب وهي توقد النار |
ويقتنع الباحثون بأن لدى الإنسان المنتصب لغة واضحة المفردات والمعاني، كونت الرباط النفسي القوي بين مختلف أفراده وجماعاته التي تناقلت تجاربها ومعارفها بوساطة هذه اللغة على مر الأجيال. وتخطت تلك الكائنات مرحلة العزلة الفردية، وتطورت ضمن المجموعة الإنسانية التي تعاونت في السراء والضراء فكانت متكافلة متضامنة، تدافع عن نفسها مجتمعة، كما تجوع وتشبع معاً. وقد استهلكت من الموارد الطبيعية ما يكفي لسد حاجاتها فقط، ولم تشعر برغبة في التملك الخاص، بل كانت خيراتها مشاعة، فبقيت بعيدة عن متاهات تجميع الثروة وصراعات الغنى والفقر.
ليس هناك إلا بقايا قليلة لأطفال الإنسان المنتصب؛ لذا يصعب مقارنة أنماط نموها مع أنماط نمو الإنسان الحديث. لكن لُقى حديثة تشير إلى أن أسنان الإنسان المنتصب تشكلت وظهرت أسرع من أسنان الإنسان الحديث. وعلى هذا الأساس ربما كان طفل ناريوكوتوم Nariokotome boy (من كينيا)- مثلاً- أقرب إلى عمر الثامنة. وهكذا يبدو أن الإنسان المنتصب قد نضج بسرعة أكبر من الإنسان الحديث.
وعلى الرغم من أن متوسط حجم الجسم ربما ازداد في كلا الذكور والإناث في أنواع البشر الباكرة، ثمة ما يشير إلى أن الفرق بين حجم ذكور الإنسان المنتصب وإناثه قد انخفض. وقد يعود ذلك إلى تزايد الصعوبات وما يُصرَف من الطاقة عند الإناث، بسبب الحمل وولادة المواليد كبيرة الحجم. ويزيد بعضهم على ذلك أن هذه الولادات والعناية بها كانت تتطلب مساعدة الذكور، لكن في الواقع يصعب تأكيد ذلك من خلال سجلات المستحاثات.
استمر الإنسان المنتصب- على الأقل بحسب مستحاثاته من جنوب شرقي آسيا- 1.5 مليون سنة، ازداد خلالها متوسط حجم دماغه ببطء، رغم أن بعض النماذج في بعض المناطق، مثل إندونيسا بقي حجم دماغه كما هو طوال فترة وجوده. لكن اختلف حجم دماغ بعضها في مناطق أخرى من آسيا كما هو بين إنسان الصين وإندونسيا، بغض النظر عن العمر، مما يشير إلى انعزال الجماعات الصينية عن الإندونيسية، الذي كان ربما بسبب ارتفاع سطح البحر على نحو متكرر، أو بسبب تقدم جليديات فصلت الجماعات الصينية عن الجماعات الجنوبية.
وبخلاف ما حدث في آسيا اختفى الإنسان المنتصب من إفريقيا منذ نحو مليون سنة. وسواء كان هذا الإنسان هو الآسيوي H. erectus أو الإفريقي H. ergaster، فإنه يعتقد أنه قد أعطى الإنسان العاقل H. sapiens، واستمر الإنسان الآسيوي في التطور واحتل موقعاً جانبياً بالنسبة لتطور الإنسان فيما بعد.
وهكذا تشير الدراسات العديدة المتعلقة بأصول الإنسان أن أصل الإنسان المعاصر، أو العاقل، وكذلك إنسان نياندرتال يعود إلى الإنسان المنتصب Homo erectus (المتمثل بإنسان جاوا)، حيث كان ظهور الإنسان العاقل والنياندرتالي في آن واحد تقريباً. لكن وفق آخر الفرضيات المعمول بها حالياً في الأوساط العلمية انطلقت كل الفروع البشرية من السلف المشترك وهو الإنسان المنتصب.
مراجع للاستزادة: -بشير الزالق، التطور ونشأة الحياة على الأرض، جامعة دمشق، 1987. -سلطان محيسن، عصور ما قبل التاريخ، جامعة دمشق، 2004. -S. C. Antón, Natural History of Homo erectus, Yearbook of Physical Anthropology. 37: 126-170, 2003. -G. P. Rightmire, The Evolution of Homo erectus: Comparative Anatomical Studies of an Extinct Human Species, Cambridge University Press. New York, 1993. |
التصنيف : التطور
النوع : التطور
المجلد: المجلد الثالث
رقم الصفحة ضمن المجلد : 0
مشاركة :اترك تعليقك
آخر أخبار الهيئة :
- صدور المجلد الثامن من موسوعة الآثار في سورية
- توصيات مجلس الإدارة
- صدور المجلد الثامن عشر من الموسوعة الطبية
- إعلان..وافق مجلس إدارة هيئة الموسوعة العربية على وقف النشر الورقي لموسوعة العلوم والتقانات، ليصبح إلكترونياً فقط. وقد باشرت الموسوعة بنشر بحوث المجلد التاسع على الموقع مع بداية شهر تشرين الثاني / أكتوبر 2023.
- الدكتورة سندس محمد سعيد الحلبي مدير عام لهيئة الموسوعة العربية تكليفاً
- دار الفكر الموزع الحصري لمنشورات هيئة الموسوعة العربية
البحوث الأكثر قراءة
هل تعلم ؟؟
الكل : 57434652
اليوم : 134015