المصالح المرسلة: أحد المصادر الاجتهادية التبعية في التشريع الإسلامي، التي لم ينص الشرع صراحة على حجيتها، وإنما أرشد إليها في العمل بجنس المصالح المتفق على العمل بها. وتعريفها: أنها الأوصاف التي تلائم تصرفات الشرع ومقاصده، ولكن لم يشهد لها دليل معيّن بالاعتبار أو الإلغاء، ويحصل من ربط الحكم بها جلب مصلحة معتبرة، أو دفع مفسدة عن الناس.

"/>
استصلاح (مصالح مرسله)
al-istislah - al-istislah

 

الاستصلاح (المصالح المرسلة)

وهبة الزحيلي

 تعريف المصالح المرسلة

شروط العمل بها

تعارض المصالح والنصوص

آراء العلماء في حجية المصالح

الأمثلة والتطبيقات

 

تعريف المصالح المرسلة:

المصالح المرسلة: أحد المصادر الاجتهادية التبعية في التشريع الإسلامي، التي لم ينص الشرع صراحة على حجيتها، وإنما أرشد إليها في العمل بجنس المصالح المتفق على العمل بها. وتعريفها: أنها الأوصاف التي تلائم تصرفات الشرع ومقاصده، ولكن لم يشهد لها دليل معيّن بالاعتبار أو الإلغاء، ويحصل من ربط الحكم بها جلب مصلحة معتبرة، أو دفع مفسدة عن الناس. أي إنه إذا وجد للواقعة أو الحادثة المستجدة نظير أو شبيه معيّن في الشرع من قرآن أو سنة نبوية أو إجماع؛ لجأ المجتهد إلى القياس، فيلحق ما لم ينص عليه بالمنصوص، فإن لم يوجد للوصف المناسب (أي المحقق لمصلحة شرعية) الذي يصلح بناء الحكم عليه نظير منصوص عليه؛ عمل المجتهد بالمصالح المرسلة أو الاستصلاح. والمصلحة كما قال الغزالي في الأصل: جلب منفعة، أو دفع مضرة، ونعني بها في أصول الفقه: المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة كما سيأتي، وكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة؛ فهو مصلحة، وكل ما يفوِّت هذه الأصول؛ فهو مفسدة، ومراعاتها مصلحة.

ومقاصد الشريعة أو المصالح المناسبة المعتبرة شرعاً ثلاثة أقسام:

1- الضروريات: وهي التي يتوقف عليها حياة الناس الدينية والدنيوية، بحيث إذا فقدت؛ اختل نظام الحياة في الدنيا، وضاع النعيم، وحل العقاب في الآخرة، وهي تعرف بالأصول الخمسة الكلية المعتبرة في كل دين وهي خمس: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسب أو العرض، والمال.

2- الحاجيات: وهي التي يحتاج الناس إليها لرفع الحرج (المشقة) عنهم فقط، بحيث إذا فقدت؛ وقع الناس في الضيق والإحراج من دون أن تختل الحياة، مثل إباحة أصناف المعاملات من بيع وإجارة، وأنواع الرخص من قصر الصلاة الرباعية، والجمع بين الصلاتين للمسافر، وإباحة الفطر في رمضان للحامل والمرضع والمريض والمسافر، وسقوط فريضة الصلاة عن الحائض والنفساء.

3- التحسينيات: وهي المصالح التي يقصد بها الأخذ بمحاسن العادات ومكارم الأخلاق، مثل مشروعية الطهارات من وضوء أو غسل للصلوات، والتزين باللباس وتحسين الهيئة، ومسّ الطيب، وتحريم الخبائث من المطعومات، والرفق والإحسان.

هذه الأقسام الثلاثة هي مقاصد العمل بالمصالح المرسلة، فإذا لم يوجد نص معيّن على حكم مسألة، ولكنها تتفق في الجملة مع هذه الأقسام؛ جاز جعلها مناطاً لحكم شرعي بالإيجاب أو التحريم أو الإباحة، كما سيأتي البيان في التطبيقات أو الأمثلة.

شروط العمل بها:

يشترط للعمل بالمصالح المرسلة ثلاثة شروط ذكرها المالكية والحنابلة وهي ما يأتي:

1- أن تكون المصلحة ملائمة لمقاصد الشرع، بحيث لا تنافي أصلاً من أصوله، ولا تعارض نصاً أو دليلاً من أدلته القطعية، بل تكون متفقة مع المصالح التي قصد الشرع إلى تحصيلها، وأن تكون من جنسها، وليست غريبة عنها، وإن لم يشهد لها دليل خاص بها.

2- أن تكون معقولة في ذاتها، جرت على الأوصاف المناسبة المعقولة التي يتقبلها العاقل، بحيث يقطع بأن المصلحة تترتب على هذا الحكم، وليس ذلك مظنوناً ولا متوهماً، أي أن يتحقق من تشريع الحكم جلب نفع أو دفع ضرر. مثل تسجيل العقود في دائرة السجلات العقارية فإنه يقلل حتماً من شهادة الزور، ويحقق استقراراً في المعاملات، فلا مانع من الحكم به شرعاً.

3- أن تكون المصلحة التي يشرع الحكم بسببها عامة للناس، وليس لمصلحة شخصية أو طائفة معيّنة؛ لأن أحكام الشريعة موضوعة لتطبق على الناس جميعاً. وعليه لا يجوز شرعاً أن يكون تشريع الحكم لمصالح ملك أو رئيس أو أمير أو لحاشيته وأسرته، وهذا ما يعرف بامتيازات الأسرة الحاكمة في بعض الدساتير الملكية وغيرها؛ لأن جميع الناس يخضعون في الشريعة لنظامها من دون استثناء، ولا فرق بين الحاكم والمحكومين، ولا بين الرئيس والرعية.

تعارض المصالح والنصوص:

يترتب على هذه الشروط أنه إذا تعارضت الأحكام المبنية على المصالح والنصوص الشرعية، فيقدم النص الخاص، ولا تراعى أحكام المصلحة الاجتهادية إلا إذا كانت المصلحة عامة فتقدم - في رأي المالكية دون غيرهم - المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، كمصادرة أدوات الجريمة، وتقدم المصلحة الملائمة لجنس تصرفات الشرع كتضمين الصناع والأجراء، وليست المصلحة التي حكم بها العقل، أو المبنية على محض الرأي والهوى والتشهي، ويدفع أشد الضررين بارتكاب أخفهما كتوظيف الخراج (الضريبة) على الأغنياء إذا خلا بيت المال عما يفي بحاجات الجيش المدافع عن البلاد، ومن أجل المحافظة على النفس يحكم بقتل الجماعة بالواحد، ويجوز الأكل من الحرام بمقدار الحاجة إذا أطبق الحرام الأرض.

ويترتب على ذلك نتيجتانعند الإمام مالك:

الأولى: أن الاستدلال بالمصلحة المرسلة طريقة معيّنة للاستدلال بالنصوص الشرعية، فيقدم ما تدل عليه مجموعة نصوص على ما دل عليه نص واحد.

الثانية: كل مصلحة ملائمة يمكن إجراء قياس المصالح فيها، فتقدم المصلحة الملائمة التي شهدت لجنسها أصول شرعية على مصلحة يقتضيها القياس حيث شهدت لنوعها نصوص معيّنة، فيحد شارب الخمر ثمانين جلدة، ويضمن الصناع، وتجوز العقوبة في المال، ويوظف الخراج، ويولى الخلافة من ليس مجتهداً؛ حفظاً للنظام وقمعاً للشرور ومنعاً للفتنة والفوضى.

والحاصل: أن المصلحة المرسلة عند الإمام مالك: هي المصلحة التي لا يشهد نص معيّن باعتبارها ولا بإلغائها. وكونها ملائمة: يعني دخولها تحت جنس اعتبرته الشريعة أو تحت أصل كلي دل عليه الاستقراء (التتبع) من مجموعة النصوص، فما دلت عليه نصوص أولى مما دل عليه نص خاص.

آراء العلماء في حجية المصالح:

العلماء في الاحتجاج بالمصلحة المرسلة فريقان:

1- الفريق الأول - المالكية والحنابلة:يقولون: المصلحة المرسلة (أو المناسب المرسل) حجة مطلقاً، والحنفية مثلهم لكن تحت اسم «الاستحسان».

2- الفريق الثاني - الشافعية والشيعة والظاهرية، وابن الحاجب المالكي يقولون: ليست المصلحة المرسلة دليلاً شرعياً، علماً أن الشافعية يأخذون بالمصلحة المرسلة إذا كانت ضرورية قطعية كلية، وإلا فلا، كالقول بجواز قتل أسارى المسلمين إذا تترس بهم الأعداء في المعركة.

استدل الفريق الأول – و هم المثبتون - بالأدلة الآتية:

1- دلَّ الاستقراء (التتبع أو الإحصاء) على أن أحكام الشرع روعي فيها الأخذ بمصالح الناس، واعتبار جنس المصالح في جملة الأحكام يوجب ظن اعتبار هذه المصلحة في تعليل الأحكام؛ لأن العمل بالظن الغالب واجب، كالعمل بالأحاديث غير المتواترة، والحكم بالشهادة ونحو ذلك. ودليل اعتبار المصالح قوله تعالى: )وَما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ([الأنبياء107]، ومقتضى الرحمة تحقيق مصالح الناس. وقوله سبحانه: )يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ([البقرة 185]، وقوله r: «لا ضرر ولا ضرار».

2- الحياة في تطور مستمر، وأساليب الناس للوصول إلى مصالحهم تتغير في كل زمان وبيئة أو مكان، وفي مسيرة التطور تتجدد مصالح الناس، فلو اقتصرنا على الأحكام المبنية على مصالح نص الشرع عليها لتعطل كثير من مصالح الناس، وفي ذلك إضرار بهم كبير لا يحقق مقاصد التشريع من جلب المصالح ودرء المفاسد، فلابد من التجديد في الأحكام المبنية على المصلحة بما يلائم مقاصد الشريعة العامة، حتى يتحقق خلود الشريعة وصلاحيتها الدائمة لكل زمان ومكان.

3- صدرت اجتهادات كثيرة من الصحابة والتابعين، روعي فيها المصلحة الراجحة دون اقتصار على قواعد القياس الضيقة، ولم ينكر عليهم أحد، فهو إجماع سكوتي. مثل جمع أبي بكر t المصحف من الصحف المتفرقة، وإيقاف عمر t سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة، وإسقاطه حد السرقة عام الرمادة (المجاعة) لعموم الابتلاء والحاجة، ومشاطرته المتهم من الولاة ماله منعاً من الظلم والاستغلال، وقوله بقتل الجماعة بالواحد في الاشتراك الجرمي أو التواطؤ والاتفاق الجنائي، وإمضائه الطلاق الثلاث بكلمة واحدة ثلاثاً، وإبقائه الأراضي المفتوحة عنوة بيد أصحابها، ووضع الخراج على أهلها.

ومثل كتابة عثمانt المصحف على حرف واحد وتوزيعه في الأمصار وإحراق ما عداه، وحكمه بإرث الزوجة التي طلَّقها زوجها في مرض موته فراراً من إرثها؛ معاملة له بنقيض مقصوده.

واتفاق الصحابة على تضمين الصناع ما يتلف بأيديهم، أو يضيّع، مع أنهم أمناء، قال علي t: «لا يصلح الناس إلا ذاك». وإفتاء فقهاء المدينة السبعة بجواز التسعير.

واستدل الفريق الثاني - وهم النفاة - بما يأتي:

1- الأخذ بالمصالح المرسلة يهدر قدسية أحكام الشريعة بسبب اختلاف الأهواء ومراعاة المصلحة المرسلة؛ بناء على تغير وجه المصلحة بتطور الزمان والمكان، فالقول بها من باب التلذذ والتشهي.

2- تتردد المصالح المرسلة بين اعتبارين: إلغاء الشرع لبعضها واعتباره لبعضها الآخر، ولا يترجح أحد الاحتمالين لعدم المرجح، فلا تصلح حجة في إثبات الأحكام الشرعية؛ لأن الأصل براءة الذمة حتى يقوم الدليل على شَغْلها.

3- الأخذ بالمصالح المرسلة ينال من وحدة التشريع وعمومه، حيث تختلف الأحكام باختلاف الزمان والحال والشخص.

ويلاحظ أن هذه الأدلة محل نظر لأن العمل بالمصالح يتفق مع مقاصد الشريعة، ويرجح الاعتبار على الإلغاء لترجح المصلحة على المفسدة، ولبناء أحكام الشرع على رعايته مبدأ المصالح في التشريع، ويعمل بالمصالح حيث لا نص في الشريعة على الاعتبار أو الإلغاء، فلا يتصادم ذلك ووحدة التشريع وعمومه، وإنما يؤدي الأخذ بها إلى جعل الشريعة صالحة لكل زمان ومكان.

الأمثلة والتطبيقات:

أورد فقهاء المذاهب أمثلة مهمة وعملية للعمل بالمصالح، منها في المذهب المالكي: عدم وجوب الإرضاع على الزوجة الشريفة عملاً بعرف أهل مكة في وقت نزول الوحي، تضمين الأجير المشترك أو العام (وهو الذي يعمل للناس كافة) كأصحاب الحرف من خياط وقصار ونحوهما، وقبول شهادة الصبيان في الجراح، وجعل عدة ممتدة الطهر (وهي التي زال عنها الحيض) مدة سنة، ومشروعية قتل الزنديق المتستر وعدم قبول توبته لمداومته على نشر الإلحاد، وجواز التسعير عند الحاجة، وجواز الأكل من الغنيمة عند الحاجة، وقطع الشوك الذي يؤذي الحجيج في حرم مكة.

ومنها في المذهب الحنبلي: جواز التصرف في مال الغير عند الحاجة وتعذر الاستئذان، الإلزام بفعل لا ضرر منه على فاعله، وفي المنع منه ضرر بآخر، وجوب بذل المنافع كمنافع الدور التي لا ضرر في بذلها بغير عوض في أحوال الحرب والأزمات، الفرار من الزكاة بالحيل لا يمنع من وجوب الزكاة، وطلاق الفرار في مرض الموت لا يمنع حق الإرث من الزوج، العبرة بالباعث أو الدافع السيئ في الحكم على صورية العقود التي يراد بها التحايل على الربا مثل بيوع الآجال، عدم نفاذ تبرعات المدين في حق الدائنين، إجبار الشريك على بناء الحائط المشترك إذا تهدم، ومثله تهدم السقف، منع التعسف في استعمال الحق، الإنفاق على الزوجات والأقارب وتوابع الإنسان يجيز الرجوع على ملزمها إذا تعذر استئذانه، وضع الخشب على جدار الجار إذا لم يضر به، ولو من غير إذنه، وإجبار الزوج على الإذن لزوجته في حجة الفريضة، وأخذ فاضل الكلأ والماء من أرض الغير، العمل بمبدأ سد الذرائع إلى الفساد، وغَلْق أبواب الشرور والمضار؛ عملاً بالمصلحة المقررة في نصوص الشريعة.

في المذهب الحنفي: الأخذ بمقتضى الاستحسان (القياس الخفي أو استثناء مسألة جزئية من أصل كلي أو قاعدة عامة لدليل دل عليه) عند توافر المصلحة أو الضرورة أو العرف، كتوريث زوجة المطلِّق ثلاثاً طلاق فرار في مرض الموت؛ معاملة له بنقيض مقصوده، وضمان القابض على سوم الشراء إذا تلف المقبوض بيده؛ لأنه في حكم المشتري، وضمان المرتهن المرهون بقبضه.

في المذهب الشافعي: مشروعية قتل المتترس بهم من الأعداء ولو كانوا مسلمين؛ أخذاً بالضرورة وكون المصلحة قطعية كلية، تحريم جميع المسكرات وعقوبة السكران - قياساً على الخمر - لضرورة حفظ العقل، مشروعية القياس في الأسباب والشروط والموانع، مثل قياس القتل بالمثقَّل كالخشب والحجر على القتل بالمحدَّد كالسيف والسكين بجامع القتل العمد العدوان، وقياس اللواط على الزنى في إيجاب الحد، وجعل طهارة المكان كطهارة الثياب في اشتراطها لصحة الصلاة، وقياس النفاس على الحيض في منع صحة الصلاة.

 

مراجع للاستزادة:

 

- محمد بن علي الشوكاني، إرشاد الفحول (مطبعة صبيح، 1349).

- حسين حامد، مقاصد الشريعة (المطبعة العالمية، مصر 1389هـ/1969م).

- وهبة الزحيلي، أصول الفقه الإسلامي (دار الفكر، دمشق 1418هـ/1998م).

 


- التصنيف : العلوم الشرعية - النوع : العلوم الشرعية - المجلد : المجلد الأول، طبعة 2009، دمشق - رقم الصفحة ضمن المجلد : 203 مشاركة :

بحث ضمن الموسوعة

من نحن ؟

الموسوعة إحدى المنارات التي يستهدي بها الطامحون إلى تثقيف العقل، والراغبون في الخروج من ظلمات الجهل الموسوعة وسيلة لا غنى عنها لاستقصاء المعارف وتحصيلها، ولاستجلاء غوامض المصطلحات ودقائق العلوم وحقائق المسميات وموسوعتنا العربية تضع بين يديك المادة العلمية الوافية معزَّزة بالخرائط والجداول والبيانات والمعادلات والأشكال والرسوم والصور الملونة التي تم تنضيدها وإخراجها وطبعها بأحدث الوسائل والأجهزة. تصدرها: هيئة عامة ذات طابع علمي وثقافي، ترتبط بوزير الثقافة تأسست عام 1981 ومركزها دمشق