logo

logo

logo

logo

logo

العقد (آثار-) (مقدمة)

عقد (اثار) (مقدمه)

effects of the contract (introduction) - effets du contrat (introduction)

 آثار العقد

آثار العقد

فواز صالح

القوة الملزمة للعقد من حيث الموضوع

قوة العقد من حيث الأشخاص

 

يمر العقد في مراحل عدة، تسبقها عادةً مرحلة المفاوضات، وهي مرحلة السعي إلى التعاقد إذ يمكن أن تؤدي إلى ولادة العقد. وإذا لم تنجح هذه المرحلة فيؤدي ذلك إلى إجهاض فكرة العقد. أما إذا نجحت، فتبدأ المرحلة الثانية من مراحل العقد بميلاده، ويكون ذلك بتوافر أركانه. وإذا نشأ العقد صحيحاً، تدب الحياة فيه، وتبدأ المرحلة الثالثة، وهي مرحلة حياة العقد، أي الآثار التي يرتبها إذا نشأ صحيحاً. وبمجرد أن ينشأ العقد صحيحاً تصبح له قوة ملزمة. وتقتصر هذه القوة من حيث المبدأ على المتعاقدين، وهذا ما يعرف بمبدأ نسبية آثار العقد، من ناحية، وعلى ما تضمنه العقد من ناحية أخرى.

أولاًـ القوة الملزمة للعقد من حيث الموضوع:

تنص المادة (148/1) مدني على أن "العقد شريعة المتعاقدين، فلا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين أو للأسباب التي يقررها القانون". وتنفيذ العقد احتراماً لقوته الملزمة يستوجب تحديد مضمونه وحدود هذا المضمون، وعندما يمتنع أحد المتعاقدين عن تنفيذ العقد لا بد أن يكون هناك مؤيد أو جزاء يضمن حقوق المتعاقد الآخر، وهذا الجزاء هو التعويض وهو موضوع المسؤولية العقدية (انظر بحث المسؤولية العقدية).

1ـ تعيين مضمون العقد: العقد هو توافق إرادتين، وتطابقهما، على إحداث أثر قانوني قوامه الحقوق والالتزامات التي ينشئها، وهذا التوافق بين الإرادتين قوام العقد يتطلب التعبير عنهما. ومن ثم يتصل مضمون العقد بصلة وثيقة بإرادة المتعاقدين، وذلك لأنه يشمل ما أراد المتعاقدان إنشاءه من حقوق والتزامات، مع طريقة التنفيذ المتفق عليها وفقاً لمقتضيات حسن النية. ويستخلص من ذلك أن تعيين مضمون العقد يتطلب معرفة مدلول العبارات التي عبر بها المتعاقدان عن إرادتهما، ومن ثم تحديد نطاق العقد، وتنفيذه وفقاً لما اشتمل عليه.

أ ـ تفسير العقد وتكييفه: يختلف تفسير العقد عن عملية تكييفه من حيث أن التفسير يهدف إلى تعرُّف النية المشتركة للمتعاقدين سواء من خلال عبارة العقد الواضحة التي تدل دلالة صريحة عليها، أو من خلال تفسير عبارات العقد الغامضة؛ أما تكييف العقد فيهدف إلى إعطاء العقد الوصف القانوني الصحيح من أجل تحديد آثاره. وعملية التكييف تأتي بعد تعرّف النية المشتركة للمتعاقدين.

1ـ تفسير العقد: تنص المادة (151) مدني على أنه " إذا كانت عبارة العقد واضحة، فلا يجوز الانحراف عنها من طريق تفسيرها للتعرف على إرادة المتعاقدين.

2ـ أما إذا كان هناك محل لتفسير العقد، فيجب البحث عن النية المشتركة للمتعاقدين دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ، مع الاستهداء في ذلك بطبيعة التعامل، وبما ينبغي أن يتوافر من أمانة وثقة بين المتعاقدين، وفقاً للعرف الجاري في المعاملات".

ويستفاد من ذلك أن تفسير العقد يعني تعرُّف القصد المشترك للمتعاقدين، وذلك من خلال العبارات المستعملة في التعبير عن الإرادة. وعبارة العقد التي تدل على الإرادة المشتركة للمتعاقدين إما أن تكون واضحة، وإما أن تكون غامضة.

ـ حالة وضوح عبارة العقد: إذا كانت عبارة العقد واضحة في الدلالة على ما اتجهت إليه الإرادة المشتركة للمتعاقدين فلا يجوز للقاضي الانحراف عنها وحملها على خلاف معناها الظاهر بحجة تفسيرها، وهذا ما نصت عليه المادة (151/1) مدني صراحة (نقض مدني، الغرفة المدنية الثانية، قرار 855/أساس 613، تاريخ 29/4/2007). وهذا تطبيق صريح للقاعدة الفقهية المتضمنة أنه "لا مساغ للاجتهاد في مورد النص"، والتي كانت مجلة الأحكام العدلية تنص عليها في المادة (14) منها. ولكن إذا قامت قرينة على أن المراد بعبارة العقد خلاف ظاهرها، يجب على القاضي عندئذ تفسيرها بما يتفق مع النية المشتركة للمتعاقدين. فلا يكفي من أجل اعتبار العبارة المستعملة في العقد واضحة أن تكون واضحة في ذاتها، وإنما يجب أن تكون واضحة أيضاً في دلالتها على النية المشتركة للمتعاقدين. فإذا كانت عبارة العقد واضحة في ذاتها، ولكنها غير واضحة في دلالتها على حقيقة ما قصدته الإرادة المشتركة للمتعاقدين، تكون هذه العبارة في حاجة إلى تفسير، ومن ثم يجوز للقاضي في مثل هذه الحال أن ينحرف عن معناها الظاهر من دون أن يعد ذلك تحريفاً للمعنى أو مسخاً له بشرط أن يبين في حكمه أسباب عدوله عن المعنى الظاهر ويعلل المعنى الذي رجحه وكيفية وصوله إليه. ومثال ذلك أن ينص عقد الإيجار في أحد مواده على أن الأجرة الشهرية هي عشرة آلاف ليرة سورية، ثم ينص في مادة أخرى أن هذه الأجرة هي خمسة عشر ألف ليرة سورية، فالعبارتان واضحتان في ذاتهما، ولكنهما متناقضتان ومن ثم فهما غامضتان وفي حاجة إلى تفسير يزيل هذا التناقض. كما يجوز للقاضي اعتبار المبلغ الذي دفعه المشتري إلى البائع جزءاً من الثمن حتى لو نص العقد صراحة على أنه عربون، وذلك لأنه يحق للقاضي أن يعدل عن المعنى الظاهر للفظ الواضح إلى معناه الحقيقي الذي قصده المتعاقدان (نقض سوري، الغرفة المدنية، قرار 580/ أساس 1193، تاريخ 3/6/1976).

ومن ثم، فإن وضوح عبارة العقد غير وضوح الإرادة، وفي حال الخلاف بينهما يتوجب على القاضي أن يعدل عن العبارة الواضحة إلى مدلول الإرادة (نقض سوري، الغرفة المدنية، قرار265/ أساس 888، تاريخ 22/3/1972 وفي المعنى ذاته قرار الغرفة المدنية الثانية رقم 916/أساس 1494، تاريخ 29/6/1997).

وإذا انحرف القاضي عن عبارة العقد الواضحة في ذاتها وفي الدلالة على حقيقة ما قصدته الإرادة المشتركة للمتعاقدين منها، وحمل هذه العبارة على معنى يخالف معناها الظاهر من طريق تفسيرها، فيكون قد خالف نص المادة (151/1)، فيكون حكمه عرضة للنقض، لأن محكمة النقض تبسط رقابتها على محكمة الموضوع في تفسير عبارة العقد الواضحة عن طريق رقابة أسباب الحكم (نقض سوري، الغرفة المدنية، قرار 144/ أساس 280، تاريخ 29/1/1981).

واعتبرت محكمة النقض السورية تفسير العقد في مثل هذه الحالة تحريفاً للعقد وتشويهاً له (نقض سوري، الغرفة المدنية الثانية، قرار 395/أساس 955، تاريخ 14/3/1999).

وأما إذا عدلت محكمة الموضوع عن المعنى الواضح إلى معنى آخر يعد هو الذي قصد إليه المتعاقدان وجب عليها أن تبين في أسباب حكمها أسباب العدول عن المعنى الواضح (نقض سوري، الغرفة المدنية الثانية، قرار 764/أساس 1228، تاريخ 21/5/2000).

ولا يعني تقيد القاضي بالمعنى الواضح لعبارة العقد وعدم جواز انحرافه عنه من طريق تفسيره أن المشرع قد أخذ في المادة (151/1) بالإرادة الظاهرة، وإنما افترض أن هذه الإرادة هي ذاتها الإرادة الباطنة. وهذا الافتراض يقبل إثبات العكس، فإذا ثبت أن هذه الإرادة الظاهرة المستخلصة من وضوح عبارة العقد في ذاتها تخالف الإرادة الباطنة، لأن هذه العبارة الواضحة في ذاتها غير واضحة في دلالتها على حقيقة ما قصدته الإرادة المشتركة للمتعاقدين، يمكن للقاضي أن يفسر العقد على نحو يفسح في المجال أمام تطبيق الإرادة الباطنة. ومن ثم يجب على القاضي، عندما يقوم بتفسير العقد، أن يحترم إرادة المتعاقدين طبقاً لمبدأ سلطان الإرادة، فالقاضي يفسر مظهر التعبير عن الإرادة سواء أكان هذا المظهر كتابةً أم شفاهةً أم إشارةً أم سكوتاً (نقض سوري، الغرفة المدنية الثانية، قرار 1729/أساس 2628، تاريخ 7/11/1999).

ـ حالة غموض عبارة العقد: أما إذا كانت عبارة العقد غير واضحة أي غامضة، بحيث يمكن حملها على أكثر من معنى، فيجب على القاضي استجلاء معانيها من طريق تفسيرها للوصول إلى النية المشتركة للمتعاقدين، من دون أن يقف عند المعنى الحرفي للألفاظ، لأن العبرة في العقود، كما تقول القاعدة الفقهية المنصوص عليها في المادة (3) من المجلة، للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني. ومن ثم فإن الغاية من التفسير في مثل هذه الحال ليست تعرّف إرادة كل متعاقد على نحو فردي، وإنما يهدف التفسير إلى تعرّف النية المشتركة للمتعاقدين، أي إرادتهما المشتركة، لأن العقد يتم بتوافق هاتين الإرادتين وتطابقهما. ويمتنع على القاضي في عملية بحثه عن النية المشتركة للمتعاقدين أن يقف عند المعنى الحرفي للألفاظ، وإنما عليه أن يغوص في داخل هذه الألفاظ من أجل أن يتوصل إلى حقيقة معانيها التي قصدها المتعاقدان. وعدم وقوف القاضي عند المعنى الحرفي للألفاظ في مثل هذه الحال أمر منطقي، إذ يمتنع على القاضي الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ في حال كانت عبارة العقد واضحة في ذاتها، ولكنها غير واضحة في الدلالة على حقيقة ما قصدته الإرادة المشتركة للمتعاقدين منها، فمن باب أولى ألا يتوقف القاضي عند المعنى الحرفي للألفاظ إذا كانت عبارة النص غير واضحة في ذاتها. ويجب على القاضي أن يستهدي، عندما يلجأ إلى تفسير عبارة العقد غير الواضحة، طبقاً لما نصت عليه المادة (151/2) مدني، بطبيعة التعامل، وبما ينبغي أن يتوافر من أمانة وثقة بين المتعاقدين، وفقاً للعرف الجاري في المعاملات.

ويقصد بطبيعة التعامل موضوع العقد الذي يتجلى منه هدفه، كما في عقد الصلح، فإذا احتملت عبارته شمول الصلح لجميع الحقوق محل الخلاف أو لبعضها، فالأقرب تفسيره بما يشملها جميعاً، لأن غاية الصلح هي فض النزاع.

وأما المقصود بالأمانة والثقة بين المتعاقدين، فهو أن الأمانة واجب على المتعاقد، والثقة حق له، فإذا وصف البائع المبيع بوصف معين كان للمشتري الحق في أن يفهم أن هذا الوصــف متوافر تماماً في المبيع.

وأما العرف الجاري في المعاملات، فيفترض أن يعتمده المتعاقدان في كل ما سكتا عن إيضاحه. وهذه العوامل الـثلاثة لم تذكر على سبيل الحصر في المادة (151/2)، وإنما ذكرت على سبيل المثال. فيمكن للقاضي أن يستدل على إرادة المتعاقدين من خلال الدلائل الاستئناسية، وأن يستعين بالقواعد الأصولية في فهم النصوص. ومن هذه القواعد: "أن إعمال الكلام أولى من إهماله"، (المادة 60 من مجلة الأحكام العدلية)، و"الأصل في الكلام الحقيقة"، (المادة 12 من المجلة)، و"لا عبرة للدلالة في مقابلة التصريـح"، (المادة 13 من المجلة)، و"أن العبرة للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني"، (المادة 3 من المجلة). كما يمكن للقاضي أن يستأنس، في عملية بحثه عن الإرادة المشتركة للمتعاقدين من أجل استجلاء معنى العبارة غير الواضحة، ببعض قواعد التفسير التي نص عليها التقنين المدني الفرنسي، ومنها إذا كان شرط من شروط العقد يحتمل معنيين، وجب حمله على المعنى الذي يترتب عليه أثر قانوني ما، (نقض سوري، الغرفة المدنية الثانية، قرار 210/أساس 187، تاريخ 28/2/1999)، لا على المعنى الذي لا يترتب عليه أي أثر؛ ويجب حمل العبارات التي تحتمل معنيين على المعنى الذي يلائم موضوع العقد أكثر من سواه (وهذا ما قررته محكمة النقض السورية، إذ جاء في قرار لها أنه "يفسر العقد حسب طبيعة التعامل أي بحسب طبيعة العقد وموضوعه، فإذا احتمل معان مختلفة اختار القاضي المعنى الذي تقتضيه طبيعة أو نوع المشارطة"، الغرفة المدنية الثانية، قرار 402/أساس 848، تاريخ 22/3/1998 وفي المعنى ذاته قرار 176/أساس 402، تاريخ 25/2/1996)؛ وكل شروط العقد تفسر بعضها بعضاً على نحو يعطي لكل منها المعنى الذي يستخلص من التصرف بأكمله. ومن ثم لا يجوز للقاضي الوقوف على عبارة واحدة في العقد دون بقية العبارات الواضحة فيه، وإلا عدَ ذلك خروجاً عن التطبيق السليم لقواعد التفسير، مما يجعل حكمه عرضةً للنقض (نقض سوري، الغرفة المدنية الأولى، قرار 238/أساس 322، تاريخ 29/6/2000).

وإذا كان العقد من العقود المطبوعة باستثناء بعض الفراغات التي ملئت بخط اليد، ففي حال التعارض بين الكتابة المطبوعة والكتابة الخطية يجب على القاضي ترجيح الكتابة الخطية على الأولى لأنها تدل على الإرادة الواضحة للمتعاقدين (نقض سوري، الغرفة المدنية الثانية، قرار 1318/أساس 1508، تاريخ 19/11/1995).

وليس ما يمنع القاضي من استجلاء كوامن العقد إن غمض بعضها بالكشف والخبرة وشهادة الشهود، ولا يكون القاضي بذلك قد أجاز الإثبات بالشهادة لموضوع أو واقعة لا تقبل الإثبات بالشهادة، وإنما من أجل توضيح الدليل الخطي وتعزيز قناعته (نقض سوري، الغرفة المدنية الثانية، قرار 1111/أساس 537، تاريخ 31/7/2000).

وإذا تمكن القاضي، بالاستناد إلى هذه العوامل والقواعد، من استجلاء الغموض الذي يعتري عبارة النص غير الواضحة، وتوصل إلى الإرادة المشتركة للمتعاقدين، فيتوجب عليه إعمال هذه الإرادة وتحديد مضمون العقد في ضوئها. والوصول إلى هذه الإرادة يجب أن يكون انطلاقاً من عبارة العقد ذاتها غير الواضحة. والإرادة المشتركة للمتعاقدين التي يجب أن يتوصل إليها القاضي في مثل هذه الحال هي الإرادة الباطنة أو الحقيقية التي تمكن القاضي من معرفتها، لا الإرادة الظاهرة المحضة، ولا الإرادة الباطنة أو الحقيقية المحضة. ويعد تعرّف القاضي الإرادة المشتركة للمتعاقدين في حالة عبارة العقد غير الواضحة مسألة واقع، لا مسألة قانون، فهي تخضع للسلطة التقديرية للقاضي، ولا تكون لمحكمة النقض رقابة عليه في ممارسة هذه السلطة بشرط أن يكون حكمه مسوغاً (نقض سوري، الغرفة المدنية الثانية، قرار 1380/أساس 610، تاريخ 22/10/2000 وفي المعنى ذاته قرار 103/أساس 691، تاريخ 15/1/1998).

أما نعت عبارة العقد بالوضوح أو بالغموض فهو مسألة قانون يخضع القاضي فيها لرقابة محكمة النقض (نقض سوري، الغرفة المدنية الثانية، قرار 1453/أساس 1236، تاريخ 27/12/1995 وفي المعنى ذاته قرار 93/أساس 43، 1/2/1995).

وإذا كان تفسير العقد، في حال عدم وضوح عبارته، يخضع لسلطة قاضي الموضوع التقديرية، إلا أنه يجب أن يكون تفسيره منسجماً مع مضمون العقد وما يقتضيه تنفيذه لا أن يخرج عنه خروجاً واضحاً على نحو ينحدر به إلى درجة الخطأ المهني الجسيم (نقض سوري، الهيئة العامة، قرار 295/أساس 164، تاريخ 25/6/2007 وفي قرار آخر ذهبت الهيئة العامة لمحكمة النقض أن تفسير العقد وكونه بيعاً منجزاً أم بيعاً بالعربون يدخل في السلطة التقديرية لقاضي الموضوع، وإن تقديره للوقائع واستخلاص النتائج القانونية منها لا يدخل، على فرض قيام الخطأ فيه، ضمن حالات الخطأ المهني الجسيم. قرار 350/أساس 1010، تاريخ 27/8/2007).

ـ قيام الشك في تعرف حقيقة معنى العبارة غير الواضحة: وإذا كانت عبارة العقد غامضة تحتمل عدة وجوه في التفسير، ومن ثم تحتمل أكثر من معنى، ولم يستطع القاضي ترجيح أحد هذه المعاني، فيبقى الشك حائماً حول حقيقة دلالة عبارة العقد، ويعد ذلك قرينة على عدم توافر إرادة مشتركة للمتعاقدين. وهذه هي حالة الشك الذي لا تمكن عوامل التفسير إزالته. وقد أوجب القانون في هذه الحالة أن يفسر الشك لمصلحة المدين، ويجب أن يأخذ القاضي في تحديد مدى التزام المدين بالتفسير الضيق. وهذا ما نصت عليه المادة (152/1) مدني بقولها "يفسر الشك في مصلحة المدين". وأساس هذه القاعدة هو القاعدة الفقهية القائلة: إن الأصل براءة الذمة (المادة 8 من المجلة). ويترتب على ذلك أن الالتزام هو الاستثناء، ويجب تفسير الاستثناء تفسيراً ضيقاً. زد على ذلك أن الأصل هو أن البينة على المدعي (المادة 76 من المجلة)، فإذا لم يستطيع الدائن إثبات الالتزام في مداه الواسع، يأخذ بمداه الضيق الثابت بالدليل. ويرى الفقه، بحق، أن المقصود بالمدين هنا ليس المتعاقد الذي يقع على عاتقه عبء الالتزام فقط، وإنما المقصود به المتعاقد الذي يقع على عاتقه الشرط أيضاً، ومن ثم يمكن أن يكون المدين مديناً بالالتزام كما يمكن أن يكون مديناً بالشرط أيضاً حتى لو كان دائناً بالالتزام، وإن كان المدين في معظم الأحيان هو المدين بالالتزام وبالشرط معاً. ففي نطاق العقود الملزمة لجانب واحد، إذا كانت عبارة العقد غامضة تحتمل أكثر من معنى ولم يتمكن القاضي من ترجيح أحدها، فيجب على القاضي أن يفسر الشك في مصلحة الملتزم. أما إذا كان العقد ملزماً للجانبين، وجب على القاضي تفسير الشك في مصلحة المتعاقد المدين بالالتزام محل التفسير، ومن ثم يمكن أن يكون التفسير في مصلحة أي من المتعاقدين. فإذا كانت عبارة العقد حول ضرورة إعذار المدين غير واضحة، وحام الشك حولها ولم يتمكن القاضي من جلائه، فيجب تفسير الشك في مصلحة المدين، فيوجب على الدائن إعذار المدين. وإذا تعاقد تاجر مع سمسار على أن يدفع له عمولة مقابل كل صفقة يبرمها عن طريق وساطته وذلك عند تمامها، من دون أن يحدد العقد وقت الدفع، ولم يتمكن القاضي من تفسير عبارة هذا العقد، فيجب عليه أن يفسر الشك في مصلحة المدين، فيوجب عليه دفع العمولة عند تنفيذ الصفقة لا عند إبرامها. أما إذا تضمن العقد شرطاً غامضاً، ولم يتمكن القاضي من جلاء معناه، فيجب تفسير هذا الشرط في مصلحة من يقع على عاتقه حتى لو كان هو الدائن بالالتزام، كما لو دهس شخص بسيارته عابر سبيل، ثم حكم للمضرور بالتعويض. وبعد ذلك اتفق المضرور مع المسؤول عن الضرر على إعفاء هذا الأخير من المسؤولية أو على تخفيفها، وقام بعد ذلك شك حول تفسير هذا الشرط، فيجب على القاضي أن يفسر شرط الإعفاء من المسؤولية أو تخفيفها في مصلحة المضرور لأنه هو المدين بهذا الشرط، حتى لو كان هو الدائن في الالتزام بالتعويض.

واستثنى المشرع من نطاق قاعدة "الشك يفسر لمصلحة المدين" عقود الإذعان، فأوجب تفسير الشك فيها لمصلحة الطرف المذعن مديناً كان أو دائناً، وهذا ما نصت عليه المادة (152/2) مدني بقولها: "ومع ذلك لا يجوز أن يكون تفسير العبارات الغامضة في عقود الإذعان ضاراً بمصلحة الطرف المذعن". وتبرير هذا الاستثناء هو أن الطرف المذعن له في عقود الإذعان هو الذي يصوغ العقد ولا يشاركه في ذلك الطرف المذعن، فمن المنطق أن يتحمل تبعة عدم وضوح بعض عبارات العقد.

وإذا خالف القاضي الحكم الذي نصت عليه المادة (152) والمتضمن تفسير الشك في مصلحة المدين، سواء المدين بالالتزام أم المدين بالشرط؛ وتفسير الشك في عقود الإذعان في مصلحة الطرف المذعن، سواء أكان مديناً أم دائناً، فيخضع حكمه لرقابة محكمة النقض، إذ إن مثل هذا الأمر لا يعد مسألة واقع، وإنما مسألة قانون.

(2) ـ تكييف العقد: إذا توصل القاضي إلى الإرادة المشتركة للمتعاقدين، سواء من طريق عبارة العقد الواضحة أو من طريق تفسير عبارة العقد غير الواضحة، يتوجب عليه إضفاء الوصف القانوني الصحيح على العقد حتى يتمكن من ترتيب آثاره القانونية عليه وإلزام طرفيه بها، من دون التقيد بالتكييف الذي أضفاه المتعاقدان على العقد (نقض سوري، الغرفة المدنية الثانية، قرار 432/أساس 570، تاريخ 31/3/1999، وقرار الغرفة المدنية الأولى رقم 857/أساس 923، تاريخ 20/7/2005، وقرار الغرفة المدنية الثانية رقم 1489/أساس 1318، تاريخ 25/6/2007).

والتكييف القانوني، بوجه عام، هو الإجراء الأولي الذي يقوم به القاضي لتحديد الوصف القانوني الصحيح للتصرف القانوني أو للواقعة القانونية موضوع النزاع، وذلك تمهيداً لتحديد القواعد القانونية التي سوف تطبق عليه. وفي بعض الأحيان يتوقف تحديد المحكمة المختصة بالنظر في النزاع على التكييف القانوني السليم للوقائع التي تشكل موضوع النزاع. ويترتب على ذلك أنه يتوجب على القاضي أن يكون متبحراً في دراسة وفهم أحكام القانون الذي يطبق في دولته.

ويمتاز التكييف بأهمية خاصة في نطاق العقد، إذ تختلف القواعد القانونية التي تطبق على العقد تبعاً لماهيته. فالقواعد التي تطبق على عقد البيع تختلف عن تلك التي تطبق على عقد الإيجار، أو على الهبة أو على الصلح. والقواعد التي تحكم العارية تختلف عن القواعد التي تطبق على الإيجار. ولا يتقيد القاضي بالوصف الذي يطلقه المتعاقدان على العقد، وإنما عليه أن يعطيه الوصف القانوني السليم من دون أن يغير من وقائع الدعوى (نقض سوري، الغرفة المدنية الثانية، قرار 793/أساس 1369، تاريخ 29/6/1997، وفي المعنى ذاته قرار الهيئة العامة رقم 23، تاريخ 18/5/1976؛ وقرار الغرفة المدنية الأولى رقم 123/أساس 258، تاريخ 19/3/1998).

فإذا أطلق المتعاقدان على العقد الذي يربط بينهما وصف البيع عن جهل، ولم يشترطا فيه دفع الثمن، فلا يقيد هذا الوصف القاضي، وإنما عليه أن يعطي العقد الوصف القانوني الذي ينطبق على موضوعه ويتفق مع الإرادة المشتركة للمتعاقدين، والوصف القانوني السليم الذي ينطبق على موضوع العقد في هذا المثال هو الهبة. ويقوم توصيف العقد في مثل هذه الحالات على تفسير القاضي لما هو معلوم من وقائع في ملف الدعوى تفسيراً عقلياً ومنطقياً من أجل تكوين اعتقاده من طريق استخلاص الواقعة المجهولة التي يراد إقامة الدليل عليها من مقدمات هذه الوقائع المعلومة (نقض سوري، الغرفة المدنية الأولى، قرار 470/أساس 871، تاريخ 5/12/2000، وفي المعنى ذاته قرار الغرفة المدنية الثانية رقم 492/أساس 811، تاريخ 6/4/1997). وقد يحاول المتعاقدان، في بعض الأحيان، التحايل على أحكام القانون، وذلك بإضفاء صفة على العقد لا تتفق مع موضوعه، فيتوجب على القاضي هنا أن يرد للعقد وصفه القانوني السليم، ومثال ذلك الصورية، كما لو أطلق المتعاقدان على الهبة وصف البيع، وذلك للتهرب من دفع الضرائب المرتفعة التي تفرض على الهبة. وتمارس محكمة النقض رقابتها على قاضي الموضوع في تكييفه لهذه الوقائع، وذلك لأن تكييف العقد يعد مسألة قانون لا مسألة واقع.

ب ـ تحديد نطاق العقد: بعد أن ينتهي القاضي من عملية تفسير العقد وتكييفه التكييف القانوني السليم، يتوجب عليه تحديد نطاقه، ويراد من ذلك تحديد الدائرة التي تحصر آثاره وتبين ما يتناوله وما لا يتناوله، إذ إن آثار العقد لا تقتصر فقط على ما اتجهت إليه الإرادة المشتركة للمتعاقدين صراحة في العقد، وإنما يشمل أيضاً ما يعد من مستلزماته حتى لو لم تتجه إليه تلك الإرادة، وهذا ما أكدته المادة (149/2) مدني بقولها "ولا يقتصر العقد على إلزام المتعاقد بما ورد فيه، ولكن يتناول أيضاً ما هو من مستلزماته وفقاً للقانون والعرف والعدالة بحسب طبيعة الالتزام". ويستخلص من ذلك أنه يتوجب على القاضي، من أجل تحديد نطاق العقد، أن يحدد هذه المستلزمات ويضيف إليها ما اتجهت إليه الإرادة المشتركة للمتعاقدين؛ ومن مجموع ذلك يتكون نطاق العقد. وعندما يقوم القاضي بهذا العمل فإنه لا يفسر العقد، وإنما يكمل أحكامه. ويتبين من ذلك أن تكميل العقد لا يكون إلا إذا كان العقد يعاني من نقص يتوجب سده.

(1) ـ عوامل تحديد مستلزمات العقد: ذكرت المادة (149/2) مدني عوامل عدة، على سبيل المثال لا الحصر، يمكن للقاضي أن يسترشد بها في عملية تحديد نطاق العقد، وهي:

ـ طبيعة الالتزام: يجب ألا يقتصر في تحديد نطاق العقد على ما يذكر صراحة فيه، بل يشمل أيضاً ما هو من توابع المحل ومستلزماته وفقاً لما تقضي به طبيعة الالتزام وفقاً للقانون والعرف والعدالة. ففي بيع السيارات، يشمل العقد ملحقات المبيع وكل ما أعد بصفة دائمة لاستعماله وذلك طبقاً لما تقضي به طبيعة الأشياء وعرف الجهة وقصد المتعاقدين وفقا لما جاء في المادة (400) مدني، والتي تنص على أنه "يشمل التسليم ملحقات الشيء المبيع وكل ما أعد بصفة دائمة لاستعمال هذا الشيء وذلك طبقاً لما تقضي به طبيعة الأشياء وعرف الجهة وقصد المتعاقدين". وكذلك إذا كان محل العقد بيع حق شخصي، بموجب حوالة الحق، فإن البيع يشمل ضمانات هذا الحق من رهن أو كفالة.

ـ القانون: سبقت الإشارة إلى أن العقد ينعقد بمجرد اتفاق الطرفين على الأمور الجوهرية بشرط عدم تعرضهما للقواعد التكميلية. وفي مثل هذه الحال يقوم القاضي بإكمال العقد استناداً إلى القواعد التكميلية التي ينص عليها القانون. ففي عقد البيع إذا اتفق المتعاقدان على المبيع والثمن، وسكتا عن الأمور الأخرى، كزمان دفع الثمن ومكانه، وزمان تسليم المبيع ومكانه، ونفقات العقد، فينعقد العقد على الرغم من ذلك، ويقوم القاضي بإكمال هذا العقد بالاستناد إلى القواعد التكميلية التي نص عليها القانون المدني بصدد عقد البيع، وتكون هذه القواعد جزءاً من عقد البيع في مثل هذه الحال. ويترتب على ذلك أن القانون الذي يتضمن قواعد تكميلية لا يطبق بأثر رجعي على العقود التي أبرمت قبل تاريخ صدورها ونشرها، بل تبقى هذه العقود خاضعة للأحكام التي كان ينص عليها القانون النافذ وقت إبرامها، وذلك لأنها وجدت في وقت كانت أحكام أخرى تكمل فيه إرادة المتعاقدين وكانت هذه الأحكام جزءاً من العقد، ومن ثم لا يجوز أن ينسخ جزء من العقد بقوانين لاحقة. ويترتب على ذلك أن مثل هذا القانون الجديد يسري على العقود التي تبرم بعد تاريخ صدوره ونشره.

ـ العرف: لا يعد العرف من عوامل تفسير العقد فحسب، بل يعد من عوامل تحديد نطاقه أيضاً. وتعد من العرف الشروط المألوفة التي جرت العادة على إضافتها في عقود معينة، بحيث أصبح وجودها في مثل تلك العقود أمراً مفروضاً حتى لو لم تدرج فيها، ما لم يتفق المتعاقدان صراحة على خلاف ذلك. ومثال ذلك ما جرت العادة في الفنادق الفخمة وفي المطاعم من أن يضاف إلى فاتورة الزبون نسبة مئوية توزع على العاملين.

ـ العدالة: يجب أن يشمل نطاق العقد، علاوة على ما تقدم، ما تقتضيه قواعد العدالة. فلا يقتصر التزام البائع على القيام بما هو ضروري من أجل نقل الحق المبيع إلى المشتري، وإنما يتوجب عليه أيضاً أن يكف عن أي عمل من شأنه أن يجعل نقل ذلك الحق مستحيلاً أو عسيراً، وفق ما نصت عليه المادة (396) مدني. مثال ذلك تعاقد مصنع مع عالم خبير على إجراء بحوث وتجارب، فإن ذلك يستتبع التزامه بأن يكون استثمار ما يصل إليه من اختراعات حقاً لإدارة المصنع ولو لم ينص العقد على ذلك، وهذا ما أكدته المادة (654) مدني. وكذلك العامل يتوجب عليه ألا يبوح بالأسرار الصناعية التي يطلع عليها، وفقاً لما نصت عليه المادة (685) مدني.

(2) ـ رقابة محكمة النقض على قاضي الموضوع في تكملة العقد: لا يلزم القاضي، عندما يقوم بتكميل العقد، بالبحث عن الإرادة المشتركة للمتعاقدين، وإنما يقوم بسد نقص اعترى العقد وذلك وفقاً لأحكام المادة (149/2) مدني، إذ يتوجب عليه أن يكمل العقد وفقاً للقانون والعرف والعدالة بحسب طبيعة الالتزام، لا وفقاً للإرادة المشتركة للمتعاقدين. ويترتب على ذلك أن تكملة العقد لا تعد مسألة واقع، وإنما هي مسألة قانون، وبالتالي يخضع قاضي الموضوع في قيامه بإكمال العقد لرقابة محكمة النقض. ويستنتج من ذلك أنه يتوجب على محكمة النقض نقض الحكم إذا لم يدخل القاضي في نطاق العقد ما تستلزمه طبيعة الالتزام، أو القانون أو العرف أو العدالة؛ أو إذا أدخل القاضي في نطاق العقد ما لا يعد من مستلزماته وفق العوامل السابقة.

ج ـ تنفيذ العقد: المبدأ، في مجال تنفيذ العقد، هو أن العقد شريعة المتعاقدين يجب تنفيذه وفقاً لمضمونه. ولكن لا يعد هذا المبدأ مطلقاً، وإنما أورد المشرع استثناءات عدة عليه.

(1) ـ المبدأ العام: العقد شريعة المتعاقدين: وجوب تنفيذ العقد وفقاً لمضمونه: تنص المادة (148/1) مدني على أن "العقد شريعة المتعاقدين، فلا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين، أو للأسباب التي يقررها القانون". كما تنص المادة (149/1) مدني على أنه "يجب تنفيذ العقد طبقاً لما اشتمل عليه وبطريقة تتفق مع ما يوجبه حسن النية". ويستخلص من هذين النصين أن العقد شريعة المتعاقدين وقانونهما الذي وضعاه بإرادتهما المشتركة، فيتوجب عليهما تنفيذ ما ينجم عنه من التزامات بحسن نية.

ـ العقد شريعة المتعاقدين: يلزم نص المادة (148/1) مدني، الذي يؤكد مبدأ العقد شريعة المتعاقدين والذي يعد نتيجة حتمية لمبدأ سلطان الإرادة، المتعاقدين بمضمون عقدهما، وبالنطاق الذي يحدده له القاضي. ولا يلزم العقد المتعاقدين إلا طبقاً لما يجيزه القانون، أي بشرط ألا يعارض النظام العام ولا الآداب. وهذا ما أكدته صراحة المادة (1134/1) مدني فرنسي، إذ جاء فيها أن الاتفاقات المنعقدة على وجه مشروع تقوم مقام القانون حيال من أبرمها. ويقصد بمبدأ العقد شريعة المتعاقدين أن الالتزامات والحقوق الناشئة من العقد لها قوة الالتزامات والحقوق الناشئة من القانون، وبمعنى آخر العقد هو القانون الذي ينظم العلاقة بين المتعاقدين (نقض سوري، الغرفة المدنية الثانية، قرار 1205/أساس 1265، تاريخ 28/5/2007).

وينتج من ذلك أن تعديل العقد أو نقضه يكون خاضعاً لاتفاق الطرفين، إلا إذا نص العقد على خلاف ذلك. ومن ثم لا يحق لأي من المتعاقدين أن يتحلل من التزاماته إلا بالاتفاق مع المتعاقد الآخر، أو باللجوء إلى القضاء (نقض سوري، الغرفة المدنية الأولى، قرار 783/أساس 890، تاريخ 21/6/2005).

ومن مقتضى مبدأ العقد شريعة المتعاقدين أن القاضي أيضاً يلزم بمضمون العقد، فليس له نقض العقد بإرادته، ولا تعديله بحجة العدالة، إذ ليس من شأن العدالة مسخ إرادة المتعاقدين أو نسخها، بل تكملة هذه الإرادة. ولذلك يجب تنفيذ العقد وفقاً لما اتفق عليه (نقض سوري، الغرفة المدنية الأولى، قرار 787/أساس 900، تاريخ 21/6/2005).

ولكن، في بعض الحالات يمنح القانون بعض السلطات للقاضي، في مجال إنشاء العقد، كما هو عليه الحال إذا لم يتم الاتفاق على المسائل الفرعية في العقد، وسلطة القاضي في تعديـل الشرط الجزائي إذا كان تقدير التعويض مبالغاً فيه.

ـ تنفيذ العقد بحسن نية: يُظل مبدأ حسن النية العقود جميعها، ويعد من أهم المبادئ القانونية التي تحكم مرحلة تكوين العقد وتنفيذه، بل مرحلة ما قبل العقد. ويقصد بذلك توخي المتعاقدين الاعتدال في تنفيذ التزاماتهم الناشئة من العقد، ومراعاة الأمانة والنزاهة في ذلك. فمن أستأجر سيارة مثلاً لإيصاله إلى مكان معين، بأجرة على المسافة، يجب على السائق سلوك أقرب الطرق، فإن لم يفعل ذلك يعد مخلاً بالتزامه ومسؤولاً مسؤولية عقدية عن ذلك الإخلال. وعدم مراعاة مثل هذه الأمانة والنزاهة ومثل هذا الاعتدال قي تنفيذ العقد يجعل المتعاقد سيئ النية. وسوء النية في تنفيذ العقد يسمى في اصطلاح القانون غشاً، وهو يقابل التدليس عند تكوين العقد. وحسن النية معيار ذاتي، ويعد من مسائل الواقع لا من مسائل القانون، ومن ثم فهو يخضع لسلطة قاضي الموضوع التقديرية، ولا معقب عليه من محكمة النقض. ويراعي القانون حسن النية في تنفيذ العقد، فيمنح المدين الذي لم ينفذ التزامه نظرة الميسرة إذا كان حسن النية، وفق ما نصت عليه المادة (344/2) مدني. كما أنه يعاقب على سوء النية، إذ يلزم المدين في المسؤولية العقدية إذا كان سيئ النية بالتعويض عن الضرر غير المتوقع وقت انعقاد العقد أيضاً، طبقاً لما نصت عليه المادة (222/2) مدني. ويستلزم مبدأ حسن النية في بعض العقود التعاون بين المتعاقدين في تنفيذ التزاماتهما، فمن يخل بهذا التعاون يعد سيئ النية. ومثال ذلك عقد الشركة، إذ أنه يتطلب التعاون بين الشركاء من أجل تنفيذ الالتزامات الناشئة منه. ومثال ذلك أيضاً قيام المشتري بإخطار البائع بدعوى الاستحقاق التي رفعها ضده شخص يدعي ملكيته للمبيع، وذلك في وقت ملائم وفق ما نصت عليه المادة (408) مدني.

ويغني مبدأ حسن النية في تنفيذ العقد عن نظرية التعسف في استعمال الحق في نطاق العقود في بعض الأحيان، إذ المتعاقد الذي يطالب بحقه من دون مراعاة مبدأ حسن النية يكون مخلاً بالتزامه بتنفيذ العقد بحسن نية، ومن ثم مسؤولاً عن ذلك مسؤولية عقدية؛ قبل أن يكون مسؤولاً عن ذلك، على أساس التعسف في استعمال الحق، مسؤولية تقصيرية.

(2) ـ الاستثناءات من المبدأ: نظرية الظروف الطارئة: ترد على مبدأ العقد شريعة المتعاقدين استثناءات عدة، منها العربون، وهو مبلغ من المال يدفعه أحد المتعاقدين إلى الآخر عند إبرام العقد محسوباً من العوض الذي التزم بدفعه في العقد. ويفيد أن لكل من المتعاقدين الحق في العدول عنه إلا إذا قضى الاتفاق بغير ذلك، وفق ما نصت عليه المادة (104) مدني. ومن ثم يحق لأي من الطرفين أن ينقض العقد بإرادته المنفردة، استثناء من مبدأ العقد شريعة المتعاقدين، إلا إذا تبين من اتفاق الطرفين أن دفع العربون كان لتأكيد العقد، فلا يمكن الرجوع عنه. ومن هذه الاستثناءات سلطة القاضي في تعديل الشروط التعسفية أو الإعفاء منها في عقود الإذعان، طبقاً لما قضت به المادة (150) مدني. ولكن أهم هذه الاستثناءات ما جاء في المادة (148/2) مدني بشأن نظرية الظروف الطارئة [انظر بحث نظرية الظروف الطارئة].

 ثانياً ـ قوة العقد من حيث الأشخاص:

لا يرتب العقد، من حيث المبدأ، آثاره إلا تجاه المتعاقدين، وذلك استناداً إلى مبدأ نسبية آثار العقد. ولكن في بعض الحالات الاستثنائية يمكن أن تسري آثار العقد على الغير.

1ـ أثر العقد في المتعاقدين: المبدأ العام هو أن المتعاقد وحده دون سواه يكون ملزماً بمضمون العقد، وهذا هو الأثر النسبي للعقد. وذلك لأنه من مقتضى مبدأ سلطان الإرادة أن يكون بمقدور الإنسان أن يلزم نفسه بما شاء من عقود، في نطاق القانون، ولكنه لا يستطيع إلزام غيره بما يبرمه من عقود. ويعد كالمتعاقد خلفه العام، وكذا خلفه الخاص في حالات معينة، وذلك لأن السلف يعد ممثلاً للخلف فيما يعقد من عــقود. ومن ثم يقصد بمبدأ نسبية آثار العقد أن العقد يرتب آثاره على المتعاقدين وخلفائهما، العام والخاص، على نحو يؤثر في حقوق دائنيهما. وبالمقابل، فهو لا يرتب من حيث المبدأ أي أثر على أي شخص لا تتوافر فيه صفة المتعاقد أو الخلف أو الدائن، وهذا هو الغير. والقاعدة العامة هي أنه لا ينتفع من العقد ولا يضار إلا عاقداه. ولكن هذه القاعدة تطورت في القوانين الحديثة التي أصبحت تنص على أن العقد لا يجعل الغير مديناً بمقتضاه إلا في حالات استثنائية، ولكن العقد قد يوجب للغير حقاً يجعله دائناً. وهذا ما نصت عليه المادة (153) مدني بقولها أنه "لا يرتب العقد التزاماً في ذمة الغير، ولكن يجوز أن يكسبه حقاً".

أ ـ أثر العقد في الخلف العام: المبدأ هو انصراف آثار العقد إلى الخلف العام Ayant cause à titre universel. ولكن هذا المبدأ ليس مطلقاً، بل ترد عليه استثناءات عدة.

(1) ـ المبدأ: انصراف آثار العقد إلى الخلف العام: تنص المادة (146) مدني على أنه: "ينصرف أثر العقد إلى المتعاقدين والخلف العام دون إخلال بالقواعد المتعلقة بالإرث، ما لم يتبين من العقد أو من طبيعة التعامل أو من نص القانون أن هذا الأثر لا ينصرف إلى الخلف العام". والخلف العام هو من يخلف غيره في كامل ذمته، كالوارث الوحيد، أو يخلفه في جزء شائع منها، أي حصة نسبية منها كالنصف والثلث والربع. ومثال الخلف العام الوارث والموصى له بحصة شائعة من التركة. ويترتب على ذلك أن التصرفات التي يجريها المورث في حياته تلزم الورثة، بحسبانهم خلفاً عاماً، بشرط أن تكون هذه التصرفات صحيحة (نقض سوري، الغرفة المدنية الثانية، قرار 1424/أساس 1287، تاريخ 11/6/2007وقرار 1558/أساس 1250، تاريخ 25/6/2007).

ويتبين من نص هذه المادة أن أثر العقد ينصرف إلى الخلف العام من دون الإخلال بقواعد الميراث (نقض سوري، الغرفة المدنية الثانية، قرار 1437/أساس 1215، تاريخ 17/10/2005).

فإنه يسري في حق الخلف العام ما يسري في حق سلفه. فإذا كان العقد صورياً، يسري في حق الخلف العام العقد الحقيقي لا الصوري. وإذا منح البائع أجلاً للمشتري ثم توفي المشتري انتقل حقه في الأجل إلى ورثته، كما يسري التزام البائع بهذا الأجل على ورثته أيضاً. ويترتب على ذلك أن الحقوق التي أنشأها العقد لمصلحة السلف تنتقل بعد وفاته إلى خلفه العام. وأما الالتزامات الناشئة من العقد في ذمة السلف فلا تنتقل إلى خلفه العام، بل تبقى في تركته، وفقاً لما قررته قواعد الميراث في الشريعة الإسلامية التي تسري في شأن تعيين الورثة وتحديد أنصبتهم في الإرث وانتقال أموال التركة إليهم، طبقاً لما جاء في المادة (836) مدني. والقاعدة في الشريعة الإسلامية أن لا تركة إلا بعد سداد الديون، ومن ثم فالالتزام لا ينتقل إلى ذمة الخلف العام وإنما يبقى في التركة حتى ينقضي بتصفية التركة. وقد نظم المشرع تصفية التركة في المواد من (836 وحتى 878) مدني تنظيماً دقيقاً يكفل حقوق دائني المورث، ويحمي الغير الذي يتعامل مع الوارث.

أما في القانون الفرنسي فإن شخصية الوارث هي امتداد لشخصية المورث، وذلك لأن المورث عندما يتعاقد إنما يتعاقد لحساب نفسه أولاً، ويعد ممثلاً لورثته ثانياً. وهذا ما أكدته المادة (1122) مدني فرنسي بقولها إنه يفترض في الشخص أنه تعاقد لحساب نفسه ولحساب ورثته وخلفائه ما لم ينص أو يستخلص من طبيعة الاتفاق خلاف ذلك. ولذلك فإن جميع آثار العقد تسري في حق الخلف العام من حقوق والتزامات. ويعد الخلف العام مسؤولاً عن الالتزامات التي ترتبت على عاتق المورث، لا في حدود ما ترك المورث من أموال فقط، وإنما يعد مسؤولاً عنها في كامل ذمته المالية، كما لو أن هذه الالتزامات نشأت مباشرة في ذمته المالية. ولكن بالمقابل، يحق للوارث في القانون الفرنسي أن يرفض التركة، عندئذ لا تنصرف آثار العقد الذي أبرمه المورث إليه. كما يجوز له أن يقبل التركة بشرط الجرد، أي إنه لا يعد مسؤولاً عن ديونها إلا في حدود ما انتقل إليه من المورث.

(2) ـ الاستثناء: عدم انصراف آثار العقد إلى الخلف العام: استثنت المادة (146) مدني ثلاث حالات لا يسري فيها أثر العقد في حق الخلف العام، وهي اتفاق المتعاقدين وطبيعة العقد ونص القانون؛ كما يمكن أن يعد الخلف العام من الغير في بعض الحالات فلا تسري عليه آثار العقد الذي أبرمه سلفه في مثل هذه الحالات.

ـ اتفاق المتعاقدين: إذا اتفق المتعاقدان على عدم انصراف أثر العقد إلى الخلف العام، فلا يسري هذا الأثر في حقه بشرط عدم مخالفة الشرط للنظام العام أو للآداب، كأن ينص عقد البيع على أن ورثة المشتري لا يستفيدون من الأجل الذي منحه البائع للمشتري، ومن ثم إذا مات المشتري يسقط الأجل، ويتوجب على ورثته دفعه من التركة في الحال. أو كما لو نص الوعد بالعقد على أنه ينقضي بوفاة الموعود له. ويلاحظ في مثل هذه الحالة أن آثار العقد التي ترتبت قبل وفاة المتعاقد تنتقل إلى خلفه العام، لأن أثر مثل هذا الاتفاق يقتصر على المستقبل. فإذا كان الموعود له قد عبر عن إرادته قبل وفاته، فإن آثار العقد المستقبل تسري في حق الخلف العام للموعود له. وكذا في عقد التأمين ضد الحريق الذي ينص على انقضاء العقد بوفاة المؤمن له، إذا وقع الحريق قبل وفاته فيستحق مبلغ التأمين، وينتقل هذا المبلغ بعد وفاته إلى ورثته بصفتهم خلفاءه العامين.

ـ طبيعة العقد: إذا كانت طبيعة العقد تقتضي عدم سريان أثر العقد في حق الخلف العام، فلا يسري أثره في حقه، كما في العقود التي يكون فيها لشخصية المتعاقد اعتبار خاص Intuitu personae في العقد (نقض سوري، الغرفة المدنية، قرار 265، تاريخ 20/6/1959)، كالرسام الذي يلتزم برسم لوحة لشخص مقابل ثمن متفق عليه، فطبيعة الالتزام الذي يرتبه العقد على عاتق الرسام تأبى أن ينتقل إلى ورثته إذا توفي قبل الانتهاء من رسم اللوحة المتفق عليها. وكذلك الحال في الوكالة، والمزارعة، والشركة، والمرتب مدى الحياة. ويلاحظ في هذه الحالة أيضاً أن آثار العقد التي ترتبت قبل وفاة المتعاقد تنتقل إلى خلفه العام، أما آثاره المستقبلية فتنقضي بوفاة المتعاقد الذي كان لشخصيته اعتبار خاص في العقد.

ـ نص القانون: نص القانون على عدم سريان أثر العقد على الخلف العام في بعض الحالات، ولاسيما تلك التي يكون فيها لشخصية المتعاقد اعتبار خاص في العقد، كما في عقد الوكالة الذي ينقضي بموت الموكل أو الوكيل وفق ما جاء في المادة (680) مدني، وعقد المزارعة الذي ينقضي بموت المزارع طبقاً لما نصت عليه المادة (593) مدني، وعقد الشركة الذي ينقضي بوفاة أحد الشركاء وفق ما ذهبت إليه المادة (496/1) مدني.

ـ الخلف العام من الغير: يعد الوارث في بعض الحالات من الغير حيال المورث في العقود التي يبرمها، فلا تنفذ هذه العقود في حقه. ويكون الوارث من الغير إذا كان يتلقى حقه من القانون مباشرة لا من طريق الميراث. ويهدف القانون من وراء ذلك إلى حماية الوارث من تصرفات مورثه الضارة به. وتبدو هذه الحماية في حالتين، وهما:

الحالة الأولى: الوصية فيما يجاوز الثلث: يعد المورث حراً في التصرف بأمواله في أثناء حياته، ولكن المشرع فرض عليه بعض القيود بشأن تصرفاته المضافة إلى ما بعد الموت، إذ منعه من التصرف بأكثر من ثلث أمواله الصافية، أي بعد تنزيل الديون منها، لأنه حق للورثة بموجب القانون. ولذلك فإن الورثة يعدون من الغير حيال تصرفات المورث المضافة إلى ما بعد الموت والتي تجاوز ثلث صافي تركته، فلا تنفذ بحقهم إلا بموافقتهم، وفق ما نصت عليه المادة (238) من قانون الأحوال الشخصية. زد على ذلك أن الوصية لوارث لا تنفذ في حق بقية الورثة حتى لو كانت في حدود الثلث.

الحالة الثانية: تصرفات المريض مرض الموت: لا يؤثر مرض الموت في أهلية المريض من حيث المبدأ، وإنما تقيد تصرفاته في هذه الحالة نتيجة تعلق حق الورثة بها. والتصرفات التي تقيد هي التبرعات فقط دون المعاوضات، إذ تأخذ حكم الوصية وفق ما نصت عليه المادة (877) مدني.

ب ـ أثر العقد في الخلف الخاص: تنص المادة (147) مدني على أنه "إذا أنشأ العقد التزامات وحقوقاً شخصية تتصل بشيء انتقل إلى خلف خاص، فإن هذه الالتزامات والحقوق تنتقل إلى هذا الخلف في الوقت الذي ينتقل فيه الشيء، إذا كانت من مستلزماته وكان الخلف الخاص يعلم بها وقت انتقال الشيء إليه". وهذا ما أكدته المادة (79) من قانون تنظيم العلاقات الزراعية لعام 2004، والتي تنص على أنه "…إذا طرأ تغييرعلى حالة صاحب العمل أو على مشروعه كاقتسام أرث أو بيع أو تحويل المشروع أو الأرض لشخص أخر أو دمجه بمشروع أخر أو أرض أخرى فإن عقود العمل السابقة بما تضمنته من حقوق والتزامات تنتقل حكماً إلى صاحب العمل الجديد". وكذلك المادة (101) من القانون ذاته بشأن عقد المزارعة، والتي تنص على أنه "إذا أنشأ العقد السابق حقوقاً شخصية أو التزامات تتصل بالعقار موضوع التعاقد الذي انتقل بعد ذلك إلى خلف خاص، فإن هذه الحقوق والالتزامات تنتقل إلى هذا الخلف في الوقت الذي ينتقل العقار إليه مقيداَ بجميع أنواع التصرفات".

إن آثار العقد الذي يبرمه السلف لا تسري في حق الخلف الخاص إلا إذا توافرت شروط معينة. وقبل بيان هذه الشروط لا بد من تحديد المقصود بالخلف الخاص.

(1) ـ تعريف الخلف الخاص: الخلف الخاص Ayant cause à titre particulier هو من يتلقى حقاً معيناً كان في ذمة سلفه ثم انتقل منها إليه، سواء أكان حقاً عينياً أم شخصياً. ومثال ذلك الموهوب له في الهبة، إذ يعد خلفاً خاصاً للواهب في ملكية الشيء الموهوب التي انتقلت إليه من الواهب، والموصى له بعين معينة في الوصية يعد خلفاً خاصاً للموصي في ملكية الشيء الموصى به التي انتقلت إليه من الموصي. وتقتصر صفة الخلف الخاص على الحق المعين العيني أو الشيء المعين بالذات الذي انتقل إليه من السلف. وهذا الشيء يمكن أن يكون هو ذاته حقاً عينياً، كما يمكن أن يكون حقاً شخصياً. فالمشتري خلف خاص للبائع لأنه يتلقى منه ملكية المبيع؛ وصاحب حق الانتفاع هو خلف خاص لمن تلقى منه هذا الحق العيني؛ والمحال إليه في حوالة الحق يعد خلفاً خاصاً للمحال في الحق المحال به وهو حق شخصي. ولكن إذا ترتب للإنسان ابتداءً حق شخصي في ذمة شخص آخر فإنه يكون دائناً لا خلفاً، كالمؤجر والمستأجر، فإن كلاً منهما دائن للآخر، فالمستأجر دائن بتسليم المأجور، وكذا المؤجر دائن بالأجرة. وكالبائع الذي تعود إليه ملكية المبيع نتيجة فسخ العقد أو إبطاله، إذ لا يعد خلفاً خاصاً للمشتري، وذلك لأنه لا يتلقى الملكية منه، لأن الفسخ أو الإبطال يؤدي إلى أن المشتري لم يتملك المبيع أصلاً. وكذلك من يتملك العين بالتقادم لا يكون خلفاً خاصاً للمالك الأصلي، وذلك لأنه لم يتلق الملكية منه.

(2) ـ شروط سريان آثار العقد على الخلف الخاص: لم يرد نص في التقنين المدني الفرنسي بشأن سريان آثار العقد في حق الخلف الخاص، ونتيجة ذلك يرى الفقه أن خلطاً كبيراً يهيمن على هذه المسألة بين الأثر النسبي للعقد وبين انصراف أثر العقد للخلف الخاص. ويقر الفقه بأن الخلف الخاص لا يضار ولا ينتفع من حقوق والتزامات أجنبية عن الحق الذي انتقل إليه. أما إذا كانت هذه الحقوق والالتزامات تتعلق بالحق الذي انتقل إليه، فيميز الفقه بين الحقوق وبين الالتزامات. فحقوق السلف المتعلقة بالشيء الذي انتقل إلى الخلف الخاص، يستفيد منها هذا الأخير فتنتقل إليه مع الشيء استناداً إلى المبدأ العام الذي أقره التقنين المدني الفرنسي بشأن حوالة الحق التي تقر بانتقال الحقوق المكملة مع الحق الأصلي. أما التزامات السلف المتعلقة بالشيء الذي انتقل إلى الخلف الخاص، فقد تشدد الفقه في مسألة انتقالها إلى الخلف الخاص استناداً إلى المبدأ الذي ينص على أنه لا يجوز أن يضر العقد بالغير. وترى محكمة النقض الفرنسية أن الخلف الخاص لا يلتزم بحكم القانون وعلى نحو مباشر بالالتزامات الشخصية لسلفه حتى لو كانت متعلقة بالشيء الذي انتقل إليه من السلف. ولكن تنتقل هذه الالتزامات إليه، على سبيل الاستثناء، إذا كانت محددة ومقيدة للشيء (نقض فرنسي، الغرفة المدنية، 15/1/1918، دالوز 1918، 1، 17. وكذلك قرار الغرفة المدنية الصادر بتاريخ 16/11/1988).

وقد بررت المحاكم الفرنسية انتقال الالتزامات في مثل هذه الحالة إلى الخلف الخاص بالاستناد بداية إلى فكرة أن الخلف الخاص قبل ضمناً أن يأخذ على عاتقه مثل هذه الالتزامات.

وأما في القانون السوري، فقد نصت المادة (147) مدني على انصراف آثار العقد إلى الخلف الخاص. ويشترط من أجل ذلك توافر الشروط التالية:

ـ أن يكون عقد السلف سابقاً لخلفية الخلف الخاص: يشترط من أجل سريان آثار العقد الذي أبرمه السلف على خلفه الخاص أن يكون سابقاً في التاريخ للعقد الذي انتقل الشيء بموجبه منه إلى الخلف الخاص. ومثال ذلك عقد التأمين على المسؤولية المدنية الذي أبرمه البائع بشأن السيارة التي انتقلت إلى المشتري بموجب عقد البيع. كما يجب أن يكون عقد السلف ثابت التاريخ حتى يمكن أن يسري في حق الخلف الخاص. ويكون العقد ثابت التاريخ وفقاً للمادة (11) من قانون البينات في الحالات التالية: من يوم مصادقة الكاتب بالعدل عليه، أو من يوم ثبوت مضمونه في ورقة أخرى ثابتة التاريخ، أو من يوم يؤشر عليه حاكم أو موظف مختص، أو من يوم وفاة أحد الأشخاص الذين لهم على السند أثر ثابت ومعترف به، أو من يوم وقوع أي حادث آخر يكون قاطعاً في أن السند صدر قبل وقوعه.

ـ أن يكون عقد السلف وثيق الصلة بالشيء، أو بالحق العيني أو الشخصي الذي انتقل إلى الخلف: والمعيار الذي نص عليه القانون هنا هو أن تكون الحقوق والالتزامات الناشئة من عقد السلف من مستلزمات الشيء، أو الحق العيني أو الشخصي، الذي انتقل إلى الخلف الخاص. وتعد الحقوق من مستلزمات الشيء إذا كانت مكملة له؛ كما تعد الالتزامات من مستلزمات الشيء إذا كانت محددة له. والمثال على الحق المكمل الحقوق العينية المترتبة لمنفعة الشيء الذي انتقل إلى الخلف الخاص. وكذلك الحق الذي يكون تأميناً للشيء، كما لو عقد السلف تأميناً للعقار من الحريق ثم باعه، فيسري عقد التأمين في حق الخلف الخاص. ومثال ذلك عقد التأمين الذي يبرمه مالك المركبة الآلية كي يغطي المسؤولية المدنية التي تترتب عليه أو على أي حائز لها أو على سائقها بموجب القوانين النافذة عن الأضرار الجسدية والمادية التي تنجم عن استعمال هذه المركبة. وتلزم المادة (186) من قانون السير الجديد لعام 2004 مالك المركبة بإبرام مثل هذا العقد. وإذا باع المركبة فإن عقد التأمين ينتقل مع المبيع إلى الخلف الخاص طبقاً لما جاء في المادة (192) من هذا القانون، والتي تنص على أنه "تنقل إلى المالك الجديد الحقوق والالتزامات الناشئة عن عقد التأمين ويحل محل المتعاقد حكماً في علاقته مع جهة التأمين، ولا يحق للمالك السابق أو اللاحق أن يطلب إلغاء عقد التأمين عند نقل الملكية ولا تلتزم جهة التأمين بإعادة أي جزء من بدل التأمين إلى المالك السابق". أما إذا لم يكن الحق الذي نشأ من عقد السلف مكملاً للشيء الذي انتقل إلى الخلف الخاص، فلا ينتقل إليه بانتقال هذا الشيء، كما لو كان مالك أرض قد تعاقد مع مقاول لتشييد بناء عليها وقبل أن يباشر المقاول باع الأرض، فلا ينتقل حقه الناشئ من عقد المقاولة إلى المشتري. وكذلك لا ينتقل حق السلف إلى الخلف بانتقال الشيء إذا كانت شخصية السلف محل اعتبار. ومثال الالتزامات المحددة للشيء الارتفاقات العينية المترتبة على الشيء وفقاً لأحكام القانون، والالتزام الذي يقيد حرية المالك في استعمال ملكه. ومثال ذلك أيضاً الحكم الصادر بمواجهة السلف بإزالة الشيوع قبل بيع العقار وانتقال ملكيته إلى المشتري (نقض سوري، الغرفة المدنية، قرار 677/ أساس 290، تاريخ 25/3/1965). ومثال ذلك أيضاً ما نصت عليه المادة (227) من قانون التجارة البحرية، إذ جاء فيها أنه "لا يترتب على بيع السفينة فسخ عقد النقل البحري"، فالالتزامات الناشئة من هذا العقد تنتقل إلى المشتري بوصفه خلفاً خاصاً للبائع. وكذلك التزام بائع المتجر بإغلاقه في يوم محدد، فهو ينتقل إلى المشتري بانتقال المتجر إليه. وإذا كانت شخصية السلف محل اعتبار، فلا ينتقل الالتزام إلى الخلف الخاص، وذلك على غرار الخلف العام.

ـ أن يكون الخلف الخاص على علم بالالتزامات أو الحقوق الناشئة من عقد سلفه: لا تنتقل الحقوق والالتزامات الناشئة من عقد السلف إلى الخلف، حتى لو كانت من مستلزمات الشيء، إلا إذا كان الخلف يعلم بها وقت انتقال الشيء إليه (نقض سوري، الغرفة المدنية الثالثة، قرار 540/أساس 84، تاريخ 10/2/2002)، وذلك لأن انتقال مثل هذه الحقوق والالتزامات لا يتم إلا بإرادة الشخص الذي تنتقل إليه. وتتوافر الإرادة إذا كان الخلف يعلم بوجود تلك الحقوق والالتزامات. ولا يكفي إمكان العلم، وإنما العلم الفعلي؛ أي لا يجوز أن يكون العلم مفترضاً، بل يشترط فيه أن يكون حقيقياً، لأن العلم الحقيقي هو الذي يمكن أن يعد قرينة على القبول. ويقوم مقام العلم التسجيل والشهر في الحقوق والالتزامات التي تخضع لها.

ج ـ أثر العقد في الدائنين: إذا كانت آثار العقد الذي يبرمه السلف تنصرف إلى الخلف العام والخلف الخاص وفق ما سبق شرحه، إلا أنها لا تنصرف بالمعنى ذاته إلى دائنيه، إذ لا يوجد نص في القانون على غرار المادتين (146 و147) مدني يقرر انصراف آثار عقد المدين إلى حق دائنيه. ولكن لا يمكن إنكار تأثر الدائن بعقود مدينه، إذ تؤثر مثل هذه العقود في الضمان العام لهم، هذا الضمان الذي قررته لهم المادة (235) مدني، إذ نصت على أن "أموال المدين جميعها ضامنة للوفاء بديونه". فالديون من حيث المبدأ تتعلق بذمة المدين المجردة، لا بعين أو جزء محدود من أمواله. والدائن، وإن كان لا يعد خلفاً عاماً أو خاصاً، يتأثر بعقود المدين على نحو غير مباشر. ونتيجة ذلك منح المشرع الدائن بعض الوسائل التي تهدف إلى حماية الضمان العام، وأهم هذه الوسائل:

(1) ـ دعوى شهر الإعسار: للمدين حرية إبرام العقود والتصرفات حتى لو أنقصت هذه التصرفات من الضمان العام لدائنيه. ولكن إذا أعسر المدين يجوز للدائن أن يطلب من المحكمة شهر إعساره، طبقاً لأحكام المادة (251) مدني، ومتى سجل هذا الطلب، فلا يسري في حق الدائنين أي تصرف للمدين يكون من شأنه أن ينقص من حقوقه أو يزيد في التزاماته، ولا أي وفـاء يقوم به المدين، وفقاً لما جاء في المادة 257 مدني.

(2) ـ دعوى الصورية: إذا أبـرم المدين عقـداً صورياً، جاز للدائن الحسن النية الطعن فيه بالصورية. تنص المادة (245) مدني على أنه "1ـ إذا أبرم عقد صوري فلدائني المتعاقدين وللخلف الخاص، متى كانوا حسني النية، أن يتمسكوا بالعقد الصوري، كما أن لهم أن يتمسكوا بالعقد المستتر ويثبتوا بجميع الوسائل صورية العقد الذي أضر بهم.

2ـ وإذا تعارضت مصالح ذوي الشأن، فتمسك بعضهم بالعقد الظاهر وتمسك الآخرون بالعقد المستتر، كانت الأفضلية للأولين". ويمكن أن تستنتج صورية العقد من الوقائع والقرائن الماثلة في الدعوى (نقض سوري، الغرفة المدنية الثانية، قرار 1372/أساس 1135، تاريخ 10/6/2007).

(3) ـ دعوى عدم نفاذ التصرف (الدعوى البولصية): إذا أبرم المدين تصرفاً ضاراً، ولو غير صوري، بدائنه جاز له أن يطلب عدم نفاذ التصرف في حقه، طبقاً لما جاء في المادة (238) مدني، التي تنص على أن "لكل دائن أصبح حقه مستحق الأداء وصدر من مدينه تصرف ضار به أن يطلب عدم نفاذ هذا التصرف في حقه، إذا كان التصرف قد انقص من حقوق المدين أو زاد في التزاماته وترتب عليه إعسار المدين أو الزيادة في إعساره. وذلك متى توافرت الشروط المنصوص عليها في المادة التاليـة". وهذه هي الدعوى البولصية. (تعرف دعوى عدم نفاذ التصرف باسم الدعوى البولصية نسبة إلى بولص، وهو والي القضاء بين الوطنيين في القانون الروماني"أي البريتور"، الذي أنشأ هذه الدعوى أول مرة في القانون الروماني. ومنه انتقل إلى القانون الفرنسي). وحتى تقبل هذه الدعوى يجب أن تستخلص محكمة الموضوع من وقائع الدعوى ما يثبت إعسار المدين المتصرف، وسوء نيته هو والمتصرف له، وتواطؤهما على الإضرار بالدائن، وكون التصرف أدى إلى إعسار المدين (نقض سوري، الغرفة المدنية الثانية، قرار 1185/أساس 2964، تاريخ 21/7/2002).

(4) ـ الدعوى غير المباشرة: إذا تقاعس المدين عن المطالبة بحقه، سمح القانون للدائن المطالبة بهذا الحق باســم مدينه، طبقاً لما ذهبت إليه المادة (236) مدني، إذ جاء فيها أنه:

« لكل دائن ولو لم يكن حقه مستحق الأداء أن يستعمل باسم مدينه جميع حقوق هذا المدين، إلا ما كان منها متصلاً بشخصه خاصة أو غير قابل للحجز.

ولا يكون استعمال الدائن لحقوق مدينه مقبولاً إلا إذا أثبت أن المدين لم يستعمل هذه الحقوق وإن عدم استعماله لها من شأنه أن يسبب إعساره أو أن يزيد من هذا الإعسار، ولا يشترط إعذار المدين لاستعمال حقه ولكن يجب إدخاله خصماً في الدعوى».

ثانياً ـ أثر العقد في الغير:

الغير هو كل من سوى الخلف العام والخلف الخاص ودائني المتعاقد. والأصل ألا ينصرف أي شيء من آثار العقد إلى الغير. أي إنه لا يصبح مديناً ولا دائناً بعقد غيره. وهذا هو مبدأ نسبية آثار العقد. ولكن قانوناً، هناك بعض الحالات الاستثنائية يوجب فيها منطق العدالة أو مبدأ استقرار المعاملات أن تسري فيها بعض آثار العقد على غير عاقديه. وفي بعض الحالات قد يفيد المتعاقد غيره من عقده، فلم يمنع القانون ذلك. ومن هذه الحالات الاستثنائية سريان عقد العمل الجماعي على غير أطرافه وفقاً لما جاء في المادة (189) من قانون العمل لعام 2010. ومن هذه الحالات أيضاً سريان تصرفات الوارث الظاهر، وهو من يظن أنه وارث ثم يتبين أن الوارث الحقيقي شخص آخر سواه، في حق الوارث الحقيقي الذي هو من الغير حيال هذه التصرفات. وكذلك حالة الصلح الواقي من الإفلاس، وهو اتفاق يبرمه الدائنون مع التاجر المتوقف عن دفع ديونه تحت إشراف ورقابة المحكمة المختصة، الذي يبقى في أثناء إجراءات الصلح قائماً بإدارة أمواله ويقوم بجميع الأعمال المادية المتعلقة بتجارته، مقابل أن يتعهد بالوفاء الجزئي لديونه. ولا يشترط لانعقاد هذا الصلح موافقة جميع الدائنين عليه، وإنما يكفي أن توافق عليه أغلبية الدائنين الذين اشتركوا في التصويت، بشرط أن تمثل هذه الأغلبية على الأقل ثلاثة أرباع الديون غير الممتازة وغير المؤمنة برهن أو تأمين منقول أو غير منقول. وعندما تقوم المحكمة المختصة بتصديق هذا الصلح الواقي فإنه يكون ملزماً لجميع الدائنين، ومن ثم ينتج هذا الصلح الواقي آثاراً في حقوق دائنين لم يكونوا طرفاً فيه، وفقاً لما نصت عليه المادة (413) من قانون التجارة لعام 2007 وما تليها. وفي هذه الحالات الاستثنائية يسري أثر العقد على الغير بحكم القانون رعاية للعدالة واستقرار التعامل. زد على ذلك أن المشرع نص في بعض الأحيان على انصراف آثار العقد إلى الغير، ولكن فقط من ناحية إنشاء حق له، لا ترتيب التزام عليه، كما في حالة الاشتراط لمصلحة الغير. إضافة إلى ذلك منح المشرع الغير في بعض الحالات دعوى مباشرة يمكن من خلالها أن يستند إلى عقد لم يكن طرفاً فيه من أجل أن يطالب بحق له. زد على ذلك أن المشرع أجاز للشخص أن يتعهد عن غيره، وقد يبدو للوهلة الأولى أن هذا التعهد يعد استثناء من مبدأ الأثر النسبي للعقد، ولكنه في حقيقة الأمر تطبيق لهذا المبدأ وليس استثناءً منه.

1 ـ التعهد عن الغير:

أ ـ مفهوم التعهد عن الغير:

تقتصر آثار العقد على المتعاقدين وفقاً لمبدأ نسبية أثر العقد. والأصل أن العقد لا يضر الغير، أي إن العقد لا يستطيع أن ينشئ التزامات على عاتق الغير. وقد يبدو التعهد عن الغير Promesse de porte-fort استثناء من مبدأ نسبية العقد، ولكنه في حقيقة الأمر تطبيق لهذا المبدأ؛ وذلك لأن العقد الذي يتضمن تعهداً عن الغير لا يرتب أي التزام في ذمة الغير، وإنما يرتب التزاماً على عاتق المتعهد، وهو طرف في العقد. وهذا على خلاف الاشتراط لمصلحة الغير؛ لأن المشترط فيه يرتب حقاً مباشراً للغير يكسبه من العقد ذاته، وبالتالي يعدّ الاشتراط لمصلحة الغير استثناءً على مبدأ نسبية أثر العقد.  ويهدف التعهد عن الغير غالباً إلى تدارك موقف لا يمكن فيه الحصول على رضا صاحب الشأن من أجل إبرام عقد، فيتعهد شخص آخر تعهداً شخصياً بأن يجعل صاحب الشأن يقبل بالتعاقد مستقبلاً.

(1) ـ تعريف التعهد عن الغير: هو العقد الذي يلتزم فيه شخص بحمل الغير على قبول التزام معيّن. كما في حالة تعهد بعض الشركاء في مال مشترك على الشيوع، بحمل الشركاء الغائبين على بيع حصصهم أيضاً. وكذلك إذا كان بعض الشركاء قصراً، فيتعاقد كاملو الأهلية عن أنفسهم، ويتعهدون بحمل القاصرين ـ بعد بلوغهم سن الرشدـ على التعاقد. وكما لو وجد الوكيل نفسه مضطراً إلى تجاوز حدود وكالته، ولم يكن باستطاعته أن يعلم الموكل بذلك، فيقدم على التعاقد باسمه، ويتعهد في العقد بأن يجعل الموكل يقبل التعاقد. ويسمى الذي يقوم بالتعهد متعهداً، والمتعاقد معه يسمى متعهداً له، والغير هو المتعهد عنه. والمبدأ هنا هو أن المتعهد عنه ( الغير) له مطلق الحرية في قبول التعهد أو رفضه. ويلتزم المتعهد بالعقد، ويترتب عليه التعويض في حالة رفض الغير التعاقد.

ويمكن التمييز بين نوعين من التعهد عن الغير، وهما: التعهد عن الغير الأصلي، وهو العقد الذي يتعهد فيه المتعهد بأن يحمل الغير على قبول التعهد. والتعهد عن الغير الفرعي، وهو بند في عقد أصلي يلتزم فيه المتعهد شخصياً، ويتعهد في الوقت ذاته بموجب ذلك البند بحمل الغير على التعاقد أيضاً، ويهدف مثل هذا البند إلى تسهيل عملية التعاقد بأكملها.

(2) ـ طبيعة التعهد عن الغير: عقد التعهد عن الغير يعدّ إيجاباً موجهاً إلى المتعهد عنه من قبل المتعهد له. وإذا قبل الغير هذا الإيجاب انعقد عقد جديد بينهما يختلف عن العقد السابق في النواحي الآتية:

ـ طرفا العقد: طرفا العقد السابق هما المتعهد والمتعهد لـه، أما طرفا العقد الجديد فهما المتعهد له والمتعهد عنه. ويلاحظ أنه هناك طرف مشترك في العقدين؛ وهو المتعهد له.

ـ آثار العقد: يلزم العقد السابق المتعهد بأن يحمل الغير على قبول التزام معيّن، أما العقد الجديد فيشغل ذمة المتعهد عنه بذلك الالتزام. ويترتب على ذلك أن العقد السابق الذي تضمن التعهد يكون في الغالب عقداً ملزماً لجانب واحد وهو المتعهد، في حين أن العقد الجديد يكون في الغالب عقداً ملزماً لجانبين، وهما المتعهد عنه والمتعهد له.

ـ تاريخ انعقاد العقد: ينعقد العقد السابق بمجرد تطابق إرادة المتعهد مع إرادة المتعهد له وتوافر بقية أركانه، في حين أن العقد الجديد ينعقد عند صدور القبول من الغير؛ إلا إذا تبين ـ صراحة أو ضمناًـ أن الغير أراد أن يكون لقبوله أثر رجعي.

ب ـ شروط التعهد عن الغير:

يتبين من نص المادة (154) من القانون المدني السوري أن شروط التعهد عن الغير هي الآتية:

أن يتعاقد المتعهد عن الغير باسمه الشخصي لا باسم الغير الذي يتعهد عنه، خلافاً للوكيل والفضولي. ففي الوكالة يتعاقد الوكيل باسم الموكل لا باسمه الشخصي؛ وبالتالي تسري آثار العقد على الموكل لا على الوكيل. وكذلك الحال في الفضالة، إذ يتعاقد الفضولي باسم رب العمل ولحسابه.

أن يقصد المتعهد إلزام نفسه بتعهده عن الغير، وليس إلزام الغير بقبول العقد. أما إذا قصد المتعهد إلزام الغير؛ فيعدّ العقد باطلاً، وذلك بسبب استحالة المحل استحالة مطلقة، إذ لا يجوز قانوناً أن يرتب العقد التزاماً في ذمة الغير الذي لم يكن طرفاً فيه.  

وأن يكون موضوع التعهد هو حمل الغير على قبول التزام معيّن، كالقيام بعمل أو الامتناع عن عمل. ويترتب على ذلك أن محل التزام المتعهد هو دائماً القيام بعمل، أما الغير في حال قبوله التعهد فيمكن أن يكون محل التزامه القيام بعمل، كإحياء حفل غنائي، أو الامتناع عن القيام بعمل، كامتناعه عن منافسة المتعهد له في نشاطه التجاري أو المهني، أو أن يكون نقل حق عيني.

ج ـ آثار التعهد عن الغير:

إذا توافرت شرائط التعهد عن الغير المشار إليها أعلاه ينعقد العقد صحيحاً بين المتعهد والمتعهد له. وهذا العقد في الغالب هو عقد ملزم لجانب واحد وهو المتعهد؛ إذ إنه التزم بموجب ذلك العقد بأن يجعل الغير يقبل ذلك التعهد. ولا يلزم الغير بذلك التعهد الذي يتضمن في جوهره إيجاباً موجهاً له من المتعهد له عن طريق المتعهد؛ وبالتالي فالغير له مطلق الحرية في قبول ذلك الإيجاب أو في رفضه. وتختلف آثار التعهد عن الغير تبعاً لقبول الغير التعهد أو رفضه له.

(1) ـ قبول الغير التعهد: يرتب التعهد عن الغير التزاماً على عاتق المتعهد، ومحله القيام بعمل، وهو جعل الغير يقبل التعهد. ويعدّ المتعهد عن الغير ملتزماً بتحقيق غاية، وهي قبول الغير التعهد. فمتى قبل الغير التعهد تحققت الغاية التي التزم المتعهد بتحقيقها؛ وبالتالي عدّ موفياً لالتزامه. وإذا نكل الغير عن تنفيذ الالتزام بعد قبوله التعهد، لا يكون المتعهد مسؤولا؛ لأنه لا يكفل تنفيذ المتعهد عنه التزامه بعد قبوله التعهد. وهنا يختلف المتعهد عن الكفيل الذي يكفل تنفيذ التزام موجود في ذمة المكفول قبل الكفالة. ولا يلزم الغير قانوناً بهذا التعهد، فيجوز له أن يقبله، كما يحق له أن يرفضه. ويمكن أن يكون قبول الغير صريحاً، كما يمكن أن يكون ضمنياً كأن يقوم الغير بتنفيذ التعهد دون أن يقبل به صراحةً. ولا يشترط في القبول أي شكل خاص باستثناء ما إذا كان محل التزام المتعهد هو حمل الغير على إبرام عقد شكلي، فيجب عندئذ توافر الشكلية التي يتطلبها القانون في قبول الغير، كأن يتبرع شخص بحصته في عقار مسجل في السجل العقاري لجهة خيرية ويتعهد بأن يحمل أخاه على أن يتبرع هو أيضاً بحصته عند عودته من السفر، فالقبول هنا يجب أن يكون بسند رسمي وفقاً لما نصت عليه المادة (456) من القانون المدني السوري. وحتى ينتج القبول أثره يجب أن تتوافر في الغير أهلية التعاقد وقت صدوره. ويترتب على قبول الغير التعهد انقضاء التزام المتعهد وانعقاد عقد جديد بينه وبين المتعهد له. ولا ينتج القبول ـ من حيث المبدأـ أثره إلا من تاريخ صدوره، ولكن المادة (154) من القانون المدني السوري أجازت أن يستند أثر القبول إلى تاريخ انعقاد التعهد عن الغير إذا تبين أن إرادة الغير وقت قبوله قد اتجهت إلى ذلك صراحةً أو ضمناً. وينسجم هذا المبدأ مع التكييف القانوني لطبيعة التعهد عن الغير بحسبانه إيجاباً موجهاً من المتعهد له إلى المتعهد عنه عن طريق المتعهد؛ وذلك لأن قبول الغير التعهد يؤدي إلى انعقاد عقد جديد، والعقد يتم؛ وبالتالي يرتب آثاره وفق أحكام المادة (92) من القانون المدني السوري بمجرد أن يتبادل الطرفان التعبير عن إرادتين متطابقتين، أي بمجرد صدور القبول. ولا يترتب على انعقاد العقد قبل ذلك التاريخ أي أثر. وبالمقابل فإن الاستثناء الوارد على هذا المبدأ، والمتضمن أن قبول الغير التعهد يمكن أن ينتج أثره بتاريخ رجعي، وهو تاريخ انعقاد التعهد عن الغير إذا اتجهت إرادته إلى ذلك صراحة أو ضمناً؛ يتناقض مع الطبيعة القانونية المقترحة للتعهد عن الغير؛ لأن العقد الجديد بين المتعهد له والمتعهد عنه ينتج آثاره في مثل هذه الحال حتى قبل تاريخ انعقاده. ونتيجة ذلك اقترح بعض الفقه تكييفاً آخر للتعهد عن الغير، إذ إن التعهد يعدّ وفق التكييف القانوني المقترح علاقة تعاقدية ثلاثية الأطراف تبدأ بتلاقي إرادتي المتعهد والمتعهد له وتطابقهما، وتكتمل بقبول المتعهد عنه الذي يعدّ إقراراً منه للتعهد الذي كان محلاً للتعاقد بين المتعهد والمتعهد له، ويمكن أن يستند هذا الإقرار إلى تاريخ العقد بين المتعهد والمتعهد له. وإذا أراد الغير أن يكون لقبوله أثر رجعي؛ فإن ذلك لا يمكن أن يضر بمن اكتسب بحسن نية حقاً من ذلك الغير قبل قبوله. فإذا باع شريك حصته في عقار مملوك على الشيوع بينه وبين شريك آخر مناصفة، وتعهد في العقد على أن يحمل شريكه على بيع حصته أيضاً، ولكن المتعهد عنه باع حصته من شخص آخر، وفرغها على اسمه في السجل العقاري، ثم بعد ذلك قبل التعهد بأثر رجعي، فلا يمكن أن يضر القبول هنا بالمشتري الذي اكتسب ملكية حصة المتعهد عنه بحسن نية. ويرى بعضهم أن هذا الحل ـ وإن كان منسجماً مع العدالة ـ فإنه لا يستند إلى أساس قانوني سليم؛ وذلك لأن قواعد التسجيل لا تكفي من أجل تعطيل حكم النص القاضي بأنه إذا تبين أن الغير قصد صراحة أو ضمناً أن يستند أثر قبوله إلى تاريخ انعقاد التعهد عن الغير؛ فإن قبوله ينتج أثره بمفعول رجعي. ولكن مثل هذا الحل يخل بمبدأ استقرار المعاملات، ويفتح الباب على مصراعيه أمام الاحتيال على القانون.

(2) ـ رفض التعهد: سبق القول إن المتعهد عنه له مطلق الحرية في قبول التعهد أو في رفضه. وإذا رفضه لا يعدّ مسؤولاً عن الضرر الذي يمكن أن يلحق بالمتعهد له؛ وذلك لأن عقد التعهد عن الغير لم يرتب أي التزام على عاتقه. وبما أن هذا العقد يرتب التزاماً على عاتق المتعهد، وهو حمل المتعهد عنه على قبول التعهد، فإن رفض المتعهد عنه التعهد يجعل المتعهد مسؤولاً عن الضرر الذي قد يلحق نتيجة ذلك الرفض بالمتعهد له بسبب إخلاله بالتزامه بحمل الغير على القبول، وهو التزام بتحقيق نتيجة  متمثلة بقبول الغير للتعهد، ولم تتحقق هذه النتيجة بسبب رفض المتعهد عنه التعهد. وبالتالي يعدّ المتعهد مقصراً مهما كان الجهد الذي بذله في سبيل حمل الغير على قبول التعهد. وتكون مسؤولية المتعهد عن تعويض ذلك الضرر مسؤولية عقدية ناجمة عن الإخلال بالتزام عقدي. ويمكن له أن يدفع المسؤولية عن نفسه بإثبات السبب الأجنبي، وإلا فإنه يلزم بالتعويض عن الضرر الذي لحق بالمتعهد له نتيجة رفض المتعهد عنه التعهد، ويقدر هذا التعويض وفق القواعد العامة. ويجوز للمتعهد ـ لكي يتخلص من التعويض ـ أن يقوم هو بتنفيذ الالتزام الذي تعهد بحمل الغير على قبوله شريطة أن يكون باستطاعته القيام به، وألا يكون ذلك مضراً بالدائن، وألا يكون متصلاً بشخص المتعهد عنه. ولكن لا يمكن إجبار المتعهد على القيام بتنفيذ ذلك الالتزام تنفيذاً عينياً حتى لو كان باستطاعته القيام به؛ وذلك لأنه لم يلتزم في عقد التعهد عن الغير بتنفيذ ذلك الالتزام شخصياً. والتزام المتعهد بتنفيذ الالتزام الذي كان يراد من الغير أن يقبله هو التزام بدلي؛ وذلك لأن التزامه بدفع التعويض للمتعهد له نتيجة الضرر الذي لحق به من جراء رفض الغير قبول التعهد هو الالتزام الأصلي الذي يقع على عاتقه. ولكن تبرأ ذمته من الالتزام بالتعويض إذا قام بتنفيذ الالتزام محل التعهد. ويشترط من أجل كل ذلك أن يكون عقد التعهد عن الغير صحيحاً، أما إذا كان هذا العقد باطلاً؛ فيؤدي هذا البطلان إلى بطلان التعهد أيضاً؛ وبالتالي لا يكون المتعهد مسؤولاً عن الضرر الذي لحق بالمتعهد له نتيجة رفض المتعهد عنه قبول التعهد بسبب بطلان ذلك التعهد. وإذا كان بطلان التعهد ناجماً عن خطأ المتعهد؛ فيعدّ مسؤولاً عن تعويض الضرر الذي لحق بالمتعهد له نتيجة بطلان التعهد، ويكون التعويض على أساس المسؤولية التقصيرية. ولا يؤدي رفض المتعهد عنه التعهد إلى بطلان عقد التعهد عن الغير أو إبطاله وإنما يبقى العقد صحيحاً بين المتعهد والمتعهد له، ولكنه غير نافذ بحق المتعهد عنه الذي رفض التعهد.

2 ـ الاشتراط لمصلحة الغير:

أ ـ مفهوم الاشتراط لمصلحة الغير

(1) ـ تعريفه: الاشتراط لمصلحة الغير La stipulation pour autrui هو عقد ينشأ بموجبه لشخص أجنبي عن العقد ـ ويسمى المنتفع ـ حق مباشر تجاه أحد المتعاقدين، ويسمى المتعهد، اشترطه عليه المتعاقد الآخر، ويسمى المشترط. والاشتراط لمصلحة الغير في هذا المعنى يعد استثناءً على مبدأ نسبية آثار العقد، لأنه طبقاً لهذا المبدأ لا يمكن أن تترتب على العقد منفعة لغير عاقديه.

(2) ـ تطوره: كان القانون الروماني يكرس مبدأ نسبية آثار العقد في بداياته. وعندما ظهرت الحاجة في بعض الحالات إلى الاعتراف للغير بحق نشأ عن عقد لم يكن طرفاً فيه ـ ومثال ذلك بيع الابن ماله واشتراطه على المشتري دفع إيراد مدى الحياة لأبيه ـ عالج الفقهاء الرومان هذه الحالات في البداية بإدراج شرط جزائي في العقد يمكن للمشترط أن يتمسك به إذا لم يوفِ المتعهد بما تم اشتراطه لمصلحة الغير. وبعد ذلك أصبح إدراج مثل هذا الشرط الجزائي قاعدة عامة في معظم العقود. فكان إدراج مثل هذا الشرط يعد وسيلة لإجبار المتعهد على الوفاء بما شرط لمصلحة الغير، ولكن لم يكن العقد يمنح الغير دعوى مباشرة يستطيع بموجبها مطالبة المتعهد بحقه الناشئ عن العقد الذي لم يكن طرفاً فيه. ثم بعد ذلك وفي مرحلة متطورة من القانون الروماني اعترف هذا القانون للغير بحق مباشر عن عقد لم يكن طرفاً فيه في بعض الحالات الاستثنائية، وبالتالي منحه دعوى مباشرة للمطالبة بهذا الحق في مثل هذه الحالات، ومنها اشتراط المورث حقاً لمصلحة ورثته، واشتراط المتعاقد حقاً لغيره في عقد الوديعة، أو في عقد العارية، أو في الرهن الحيازي. وعدّت هذه الحالات استثناءً من مبدأ نسبية آثار العقد. وانتقلت هذه الحالات مع حالات أخرى إلى القانون الفرنسي القديم، ومن ثم بعد ذلك كرس القانون المدني الفرنسي الاشتراط لمصلحة الغير قاعدة عامة في المادة (1121) منه.

(3) ـ طبيعته القانونية: أختلف الفقه في فرنسا حول الطبيعة القانونية للاشتراط لمصلحة الغير، فظهرت عدة نظريات تحاول أن تفسر هذه الطبيعة، وهذه النظريات هي الآتية:

ـ نظرية الإيجاب: يرى أنصار هذه النظرية أن الاشتراط لمصلحة الغير يتكون من عقدين، العقد الأول هو بين المشترط والمتعهد وبموجبه ينشأ حق للمشترط نحو المتعهد، في حين أن العقد الثاني هو حوالة حق، وهو بين المشترط والغير المنتفع، إذ إن المشترط يتقدم بإيجاب للغير يتضمن تنازلاً عن حقه الذي نشأ من العقد الأول، والغير يقبل ذلك الإيجاب. وكانت هذه النظرية عرضة للانتقادات؛ وذلك لأن عقد الحوالة ينعقد من التاريخ الذي يقبل فيه الغير ذلك الإيجاب، وبالتالي فإن الإيجاب يبطل إذا توفي المشترط أو فقد أهليته قبل صدور القبول من الغير المنتفع. كما أن هذه النظرية تدخل الحق الذي نشأ للمنتفع من عقد الاشتراط في ذمة المشترط حتى تاريخ قبول المنتفع للاشتراط، وبالتالي يمكن لدائني المشترط الحجز عليه بما أنه دخل ذمة مدينهم. يُضاف إلى ذلك أن حق المنتفع ينشأ من عقد الاشتراط مباشرة الذي يتم بين المشترط والمتعهد، ولا ينشأ من عقد جديد بين المشترط والمنتفع، أو بين المتعهد والمنتفع.

ـ نظرية الفضالة: يرى أنصار هذه النظرية أن الاشتراط لمصلحة الغير هو فضالة تتحول بأثر رجعي إلى عقد وكالة بمجرد قبول المنتفع الاشتراط. فالمشترط يقوم بعمل من أعمال الفضالة لحساب المنتفع، وذلك عندما يرتب على المتعهد التزاماً لمصلحة المنتفع. وقد كانت هذه النظرية أيضاً عرضة لانتقادات عدة، فالفضالة تتطلب أن يتدخل الفضولي في شأن ضروري للغير، أما في الاشتراط فيستطيع كل شخص أن يشترط لمصلحة الغير مادام له مصلحة شخصية في ذلك حتى لو لم يكن هناك ضرورة. زد على ذلك أنه يجب ألا تكون للفضولي من حيث المبدأ مصلحة شخصية في العمل الذي يقوم به لحساب رب العمل. كما أن من التزامات الفضولي أن يستمر في العمل الذي قام به، في حين أن المشترط يستطيع أن ينقض الاشتراط مادام المنتفع لم يقبل ذلك.

ـ نظرية الإرادة المنفردة: يذهب أنصار هذه النظرية إلى أن الاشتراط لمصلحة الغير هو من تطبيقات نظرية الإرادة المنفردة، وذلك لأن حق المنتفع مصدره هو إرادة المتعهد المنفردة، ومع ذلك فإن التزام المتعهد نحو المنتفع معلق على شرط فاسخ وهو عدم لجوء المشترط إلى نقض الاشتراط قبل قبول المنتفع  الاستفادة من الاشتراط. ولكن التقنين المدني الفرنسي لعام 1804 لا يكرس الإرادة المنفردة مصدراً للالتزام. يُضاف إلى ذلك أن هذه النظرية غير صحيحة؛ وذلك لأن المتعهد يستطيع أن يتمسك قبل المنتفع بجميع الدفوع المستمدة من عقد الاشتراط. كما لا يحق للمتعهد نقض الاشتراط، وإنما يحق ذلك للمشترط.

ـ الاشتراط لمصلحة الغير مفهوم مستقل: الاشتراط لمصلحة الغير هو نظرية قائمة بذاتها، ولا يستند إلى أي مفهوم آخر. وهو يعدّ استثناء على مبدأ نسبية العقد، إذ إنه ينشئ حقاً لشخص ليس طرفاً في العقد. ففي الاشتراط ينعقد العقد بين المشترط والمنتفع، وينشئ هذا العقد حقاً مباشراً للمنتفع الذي لا يعد طرفاً فيه. وبالتالي يملك المنتفع دعوى مباشرة يستطيع بموجبها أن يستند إلى العقد المبرم بين المشترط والمنتفع من أجل أن يطالب المنتفع بحقه الذي نشأ مباشرة من ذلك العقد، ومن دون أن يمر ذلك الحق بذمة المشترط.

وهذا ما كرسه القانون المدني السوري في المواد (155 ـ 157).

ـ تطبيقاته: تطبيقات الاشتراط عديدة منها: عقد التأمين الذي يبرمه الأب لمصلحته ولمصلحة أولاده، إذا مات قبل سن معينة. وعقد التأمين الذي يبرمه رب العمل لمصلحة العمال عن الأضرار التي تلحق بهم بسبب حوادث العمل.

وفي التزام المرافق العامة (الماء، الكهرباء، الهاتف …) يمكن أن تشترط الدولة على ملتزم المرفق العام شروطاً لمصلحة الجمهور، مثلاً تحديد السعر الأعلى لهذه الخدمات. وكذلك في عقد الإيجار يعد المستأجر مشترطاً لمصلحة الغير بالنسبة إلى زوجته المقبلة وأولاده الذين يلدون بعد انعقاد عقد الإيجار، فإذا ترك المستأجر العقار المأجور للسكن قبل 18/2/2001 ـ تاريخ نفاذ قانون الإيجار الجديد ـ فلا يجوز للمؤجر إخلاء زوجته وأولاده الذين دخلوا العقار المأجور بعد بدء العلاقة الإيجارية لأن الحق في التمديد القانوني انتقل إليهم، وبالتالي يعدون شركاء للمستأجر في الإجارة ، وتربطهم بالمؤجر علاقة إيجارية ناشئة عن العقد الذي أبرمه المستأجر. وكذلك الحال في عقد المقاولة، فقد يفرض رب العمل شروطاً على المقاول لمصلحة العمال تتعلق بالحد الأدنى للأجور أو بساعات العمل أو بالتعويض عن إصابات العمل، وخاصة إذا كان رب العمل جهة عامة، فتنص على ذلك في دفتر الشروط القانونية والمالية.

ب ـ شروط الاشتراط لمصلحة الغير

من الرجوع إلى المادة (155) من القانون المدني السوري يتبين أن شروط الاشتراط لمصلحة الغير هي الآتية:

(1) ـ أن يتعاقد المشترط باسمه لا باسم المنتفع: وهذا ما يميز الاشتراط لمصلحة الغير من الوكالة، إذ يتعاقد الوكيل باسمه ولكن نيابة عن موكله. وكذلك هذا ما يميزه من الفضالة، إذ إن الفضولي يقوم بتصرف قانوني في أثناء توليه شأناً عاجلاً للغير، فلا يشترط أن يبرمه باسم رب العمل وإنما يمكن أن يبرمه باسمه الشخصي. أما إذا تعاقد الشخص باسم الغير مباشرة فلا يكون مشترطاً، وبالتالي ليس ثمة اشتراط لمصلحة الغير، وإنما قد يتعلق الأمر في مثل هذه الحال بوكالة أو بفضالة.

(2) ـ أن تنصرف إرادة المتعاقدين إلى إنشاء حق مباشر للمنتفع: يشترط لانعقاد الاشتراط لمصلحة الغير أن تتجه نية المشترط والمتعهد إلى إنشاء حق مباشر للمنتفع من العقد المبرم بينهما. ويترتب على ذلك أن مصدر حق المنتفع هو العقد المبرم بين المشترط والمتعهد. وبالتالي إذا تبين أن المشترط قد اشترط الحق لنفسه مباشرة فلا يعد ذلك اشتراطاً لمصلحة الغير حتى لو عادت فائدة من هذا الاشتراط على الغير، كما لو أمن طبيب على مسؤوليته المدنية عن ما يمكن أن يلحقه من ضرر بمرضاه، فالطبيب هنا يشترط لنفسه لا لمرضاه، وبالتالي لا يعد ذلك اشتراطاً لمصلحة الغير. ولا يكفي أن يشترط المشترط حقاً للغير، وإنما يجب أن يكون مصدر حق الغير هو العقد المبرم بين المشترط والمتعهد مباشرة. فإذا اشترط المشترط الحق لنفسه مباشرة، ثم بعد ذلك حوله إلى الغير فلا يعد ذلك اشتراطاً لمصلحة الغير لأن حق الغير لم ينشأ هنا مباشرة من العقد المبرم بين المشترط والمنتفع، وإنما نشأ عن عقد آخر بين المشترط والغير وهو عقد الحوالة. وكذلك الحال إذا أمن شخص لمصلحة نفسه، ثم مات بعد ذلك وانتقل حق التعويض إلى ورثته فلا ينشأ حق الورثة مباشرة من عقد التأمين، وإنما انتقل إليهم عن طريق الميراث. كما لا ينشأ حق المشترط من عقد جديد ينشأ بينه وبين المتعهد، وذلك لأن المشترط لا يقصد في الاشتراط لمصلحة الغير إلزام المتعهد قبل المنتفع بموجب عقد جديد، كما لا يقصد المتعهد من وراء ذلك عرض إيجاب على المنتفع من أجل أن يقبله، فيؤدي ذلك إلى انعقاد عقد جديد بينهما.

ولا يشترط أن تكون إرادة المتعاقدين صريحة حتى ينعقد الاشتراط لمصلحة الغير، وإنما يمكن أن تكون هذه الإرادة ضمنية، وبالتالي يكون الاشتراط لمصلحة الغير ضمنياً. وهذا ما ذهبت إليه محكمة النقض الفرنسية عندما قررت أن عقد نقل الأشخاص يتضمن على اشتراط ضمني لمصلحة أقارب المسافر.

(3) ـ أن تكون للمشترط مصلحة شخصية: مادام الاشتراط لمصلحة الغير لا ينعقد إلا إذا كان المشترط يتعاقد باسمه لذا يجب أن تكون للمشترط مصلحة شخصية في الاشتراط. وهذا ما يميز الاشتراط لمصلحة الغير من الفضالة، إذ يشترط فيها ألا يكون ـ من حيث المبدأ ـ للفضولي مصلحة شخصية في العمل الذي يقوم به لمصلحة رب العمل. ووجود هذه المصلحة هو الذي يعطي الحق للمشترط في الرقابة على المتعهد في تنفيذ التزاماته لمصلحة المنتفع. ولا يشترط أن تكون هذه المصلحة مادية، وإنما يمكن أن تكون أدبية أيضاً، وهذا ما نصت عليه صراحة المادة (155/1) من القانون المدني السوري. وبالتالي يصح عقد التأمين الذي يبرمه الأب لمصلحة ابنه، أو الزوج لمصلحة زوجته، لأن الأب والزوج لهما مصلحة أدبية، وذلك لأنهما مدفوعان بعامل الأبوة والزوجية في مثل هذه الحال. وإذا توافرت مصلحة شخصية للمشترط في الاشتراط فليس من الضروري أن يكون له دور شخصي في العقد، كإنشاء حق له أو التزام عليه. فالأم التي تتعاقد مع والد ابنها أو بنتها على أن يتعهد الأب بترتيب إيراد للابن أو للبنت من دون أن يرتب العقد على عاتقها أي التزام قبل الأب مدفوعة بعامل الأمومة، وبالتالي لها مصلحة شخصية في هذا الاشتراط، على الرغم من أنه ليس لها أي دور شخصي فيه. زد على ذلك يجب أن تكون مصلحة المشترط مشروعة، أما إذا كانت المصلحة غير مشروعة فيكون الاشتراط باطلاً. ومثال ذلك أن يبرم شخص عقد تأمين على حياته لمصلحة عشيقته من أجل استمرار علاقتهما غير المشروعة.

(4) ـ يشترط أن يكون المنتفع موجوداً وقت أن ينتج العقد أثره: ويترتب على ذلك أنه لا يشترط أن يكون المنتفع شخصاً معيناً أو موجوداً حين إبرام عقد الاشتراط، وإنما يمكن أن يكون غير معين في ذلك الوقت، كما يمكن أن يكون شخصاً مستقبلاً، وهذا ما يستفاد من المادة 157 من القانون المدني السوري. ولكن يكفي أن المنتفع موجوداً وقت أن ينتج العقد أثره، أو أن يكون من المستطاع تعيينه في ذلك الوقت. فإذا لم يكن من المستطاع تعيين شخص المنتفع وقت أن ينتج العقد أثره كان الاشتراط باطلاً. ويبقى العقد في مثل هذه الحال صحيحاً، ولكن أثره ينتقل إلى المشترط نفسه أو إلى ورثته في حال وفاته. وينتقل الحق إلى الورثة عن طريق الميراث.

ج ـ آثار الاشتراط لمصلحة الغير:

ينعقد الاشتراط لمصلحة الغير بمجرد الاتفاق بين إرادتي المشترط والمتعهد، ولا يتوقف انعقاده على قبول المنتفع وذلك لأنه ليس طرفاً فيه. وبالمقابل فإن انعقاد الاشتراط يؤدي إلى إنشاء ثلاثة أنواع من العلاقات، وهي:

(1) ـ علاقة المشترط بالمتعهد: يحكم العلاقةَ بين المشترط والمتعهد العقدُ المبرم بينهما الذي يتضمن الاشتراط لمصلحة الغير، وبالتالي فإن هذا العقد يرتب جميع أثاره تجاههما باستثناء الحق الذي يشترطه المشترط لمصلحة الغير. ويترتب على ذلك أن المشترط لا يحق له أن يطالب بهذا الحق لنفسه، وذلك لأنه لا يعد دائناً به تجاه المتعهد. ولكن بالمقابل له الحق في مراقبة المتعهد في تنفيذ هذا الحق لمصلحة المنتفع، وذلك لأن للمشترط مصلحة شخصية في الاشتراط. واستناداً إلى ذلك يحق للمشترط أن يطالب المتعهد بتنفيذ هذا الحق لمصلحة المنتفع مباشرة، ما لم يتبين من العقد أن المنتفع وحده يستطيع أن يطالب بذلك. وتكون المطالبة في مثل هذه الحال بموجب دعوى مباشرة يرفعها المشترط باسمه الشخصي لا باسم المنتفع. كما يحق للمشترط في حال ما إذا أخل المتعهد بالتزامه تجاه المنتفع أن يطالب المتعهد بتعويضه شخصياً عن الضرر الذي لحق به نتيجة ذلك، بغض النظر عن الضرر الذي يلحق بالمنتفع أيضاً. فضلاً عن أنه يحق للمشترط أن يطالب بفسخ العقد نتيجة إخلال المتعهد بالتزامه تجاه المنتفع، أو أن يتمسك بالدفع بعدم التنفيذ.

(2) ـ علاقة المشترط بالمنتفع: وقد تكون هذه العلاقة من قبيل التبرع، أو من قبيل المعاوضة. فإن قصد المشترط التبرع عدّ ذلك هبة غير مباشرة منه إلى المنتفع، ولا تخضع هذه الهبة غير المباشرة إلى القواعد الشكلية للهبة، وإنما فقط للقواعد الموضوعية. ويمكن أن يكون الاشتراط لمصلحة الغير مبنياً على أساس المعاوضة، كأن يقصد المشترط الوفاء بدين عليه للمنتفع. ولا بد هنا من بيان نقطتين:

ـ حق المشترط في نقض المشارطة: يستفاد من نص المادة (156) من القانون المدني السوري أنه يجوز للمشترط نقض المشارطة وذلك قبل تصريح المنتفع برغبته في الاستفادة منها. ويترتب على ذلك حرمان المنتفع مما سبق اشتراطه لمصلحته. ويسقط حق المشترط في ذلك إذا صرح المنتفع برغبته قبل وقوع النقض. وهذا الحق مقصور على المشترط فقط من دون دائنيه وورثته، وذلك لأنه حق شخصي له. وللمشترط بعد النقض أن يعين منتفعاً آخر، وحق المنتفع الجديد يعد مستمداً من العقد. وللمشترط أن يستأثر لنفسه بالانتفاع. ويشترط ألا يكون حق النقض مخالفاً لما يقتضيه العقد، كما لو كان حق المنتفع الناشئ من العقد المبرم بين المنتفع والمتعهد هبة لا تقبل الرجوع فيها، عندئذ لا يقوم حق المشترط في نقض الاشتراط. كما قد يكون هذا الحق مقيداً بموافقة المتعهد، وبالتالي لا يستطيع المشترط نقض المشارطة في مثل هذه الحال إلا إذا وافق المتعهد على ذلك. ولم ينص القانون على طريقة معينة لممارسة المشترط حق نقض الاشتراط، وبالتالي يمكن للمشترط نقض المشارطة بمجرد التعبير عن إرادته بهذا الاتجاه. ويمكن أن يكون النقض بتعبير صريح أو ضمني. وهو تصرف قانوني ينعقد بإرادة منفردة.

ـ حق المنتفع وأثر  تصريحه برغبته أو رفضه: ينشأ حق المنتفع من العقد المبرم بين المشترط والمتعهد مباشرة و بمجرد انعقاده، ولا يتوقف على إقراره لهذه المشارطة. ولكن تصريح المنتفع له تأثير على كل حال، سواء أكان بالقبول أم بالرفض. فإذا عبر عن رغبته بقبول الاشتراط فيمتنع المشترط من نقض المشارطة، ويثبت له الحق من تاريخ انعقاد العقد بين المشترط والمتعهد. ولا فرق أن يكون إقرار المنتفع صريحاً أو ضمنياً، لأن القانون لم يشترط شكلاً معيناً لهذا الإقرار. والإقرار ـ على غرار النقض ـ تصرف قانوني ينعقد بإرادة منفردة. ويمكن للمنتفع أن يعلن إقراره للمشترط أو للمتعهد، ولا يسري الإقرار بحق المتعهد إلا من تاريخ إعلانه به. وإذا أهمل استعمال حقه في مدة التقادم سقط حقه. وإذا كان تصريح المنتفع سلبياً، بأن رفض المشارطة يعود الحق المشروط له إلى  المشترط أو إلى ورثته من وقت انعقاد العقد. ويجوز في مثل هذه الحال لدائنيه أن يطعنوا في هذا الرفض بموجب دعوى عدم نفاذ التصرف، أو الدعوى البولصية، إلا إذا تبين أن المشترط كان قد قصر استعمال الحق في إقرار المشارطة بالمنتفع وحده، عندئذٍ يكون هذا الحق حقاً شخصياً. وحق المنتفع في إقرار المشارطة ليس له طابع شخصي من حيث المبدأ، وبالتالي يحق لدائنيه أن يستعملوه نيابة عنه بموجب الدعوى غير المباشرة. كما ينتقل هذا الحق إلى الورثة بعد وفاة المنتفع، إلا إذا كان المشترط قد قصر استعمال هذا الحق على المنتفع وحده، عندئذٍ لا ينتقل إلى ورثته بعد وفاته.

(3) ـ علاقة المنتفع بالمتعهد: ينشأ للمنتفع حق مباشر قبل المتعهد بمجرد انعقاد عقد الاشتراط بين المشترط والمتعهد، ولا يتوقف ذلك على قبوله للمشارطة، وذلك لأنه ليس طرفاً في ذلك العقد. ومع ذلك يعد قبول المنتفع ضرورياً وذلك لأنه يثبت حقه ويمنع المشترط من نقض المشارطة. كما أنه لا يمكن إجبار شخص على قبول حق من دون رضاه.

وينشئ العقد للمنتفع حقاً مباشراً لا يمر بذمة المشترط. وينشأ هذا الحق من وقت العقد وينتقل إلى ورثته، وبالتالي يحق له أن يطالب المتعهد بهذا الحق بموجب دعوى مباشرة. وهو ليس بحاجة إلى المطالبة به بموجب الدعوى غير المباشرة التي يمكن أن يرفعها باسم المدين، باستثناء ما إذا كان المشترط قد حصر في نفسه حق مطالبة المتعهد بتنفيذ التزامه لمصلحة المنتفع وأداء حقه له. كما يحق للمنتفع أن يطالب المتعهد بالتعويض عن الضرر الذي لحق به نتيجة عدم تنفيذه لذلك الالتزام. 

ويترتب على كون حق المنتفع حقاً مباشراً غير منتقل إليه من ذمة المشترط النتائج الآتية:

ـ لا يحق لدائني المشترط استيفاء ديونهم من حق المنتفع، وذلك لأن المنتفع لا يتلقى حقه من المشترط، وبالتالي لا يمر حق المنتفع بذمة المشترط. ويترتب على ذلك أنه لا يحق لدائني المشترط أن يحجزوا على هذا الحق.

ـ لو مات المشترط لم يدخل حق المنتفع في تركته، وذلك لأن المنتفع لا يتلقى هذا الحق من المشترط عن طريق الميراث.

ـ يصبح المنتفع بموجب عقد الاشتراط دائناً للمتعهد، ويستطيع أن يطالبه بتنفيذ العقد. ويحق له أن يشترك مع بقية دائني المتعهد في قسمة الغرماء في حال ما إذا كانت أموال المتعهد غير كافية لسداد ديونه. كما يجوز له بهذه الصفة أن يستعمل حقوق المتعهد بموجب الدعوى غير المباشرة. ولكن لا يجوز له طلب فسخ العقد لأنه لم يكن طرفاً فيه بالأصل. ويـستطيع المتعهد أن يتمسك قبل المنتفع بجميع الدفوع الناشئة عن عقد المشارطة، كبطلان العقد أو إبطاله، أو عدم تنفيذ المشترط لالتزاماته.

وحق المنتفع مصدره عقد الاشتراط المبرم بين المشترط والمتعهد، ويترتب على ذلك النتائج الآتية:

ـ يتكيف حق المنتفع وفقاً لعقد الاشتراط. فهذا العقد هو الذي يحدد نطاق هذا الحق وطريقة استعماله. فيمكن أن ينص العقد على أن المشترط وحده يحق له مطالبة المتعهد بتنفيذ التزامه وأداء حق المنتفع له. كما يمكن أن ينص العقد على حرمان المشترط من حقه في نقض الاشتراط، أو تقييد هذا الحق بموافقة المتعهد عليه.

ـ ينشأ حق المنتفع من وقت العقد لا من وقت تصريحه بقبول الاشتراط لمصلحته، وبالتالي ينتقل هذا الحق بعد وفاته إلى ورثته.

ـ يحق للمتعهد أن يدفع مطالبة المنتفع له بكل الدفوع التي ترد على عقد الاشتراط، وفقاً لما نصت عليه المادة (155/2) من القانون المدني السوري، كالبطلان أو القابلية للإبطال. ولكن لا يحق له أن يتمسك بالدفوع الخاصة بالمشترط تجاه المنتفع، كالمقاصة.

3 ـ الدعوى المباشرة: منح المشرع الدائن حماية خاصة في بعض الحالات، إذ أجاز له أن يرجع مباشرة على مدين مدينه بموجب دعوى مباشرة يرفعها باسمه شخصياً، لا باسم مدينه، وذلك نظراً للارتباط الوثيق بين التزام مدين المدين وبين التزام المدين نحو الدائن. ويستخلص من ذلك أن الدعوى المباشرة هي أداة حلول، إذ يحل الدائن الذي يرفع هذه الدعوى باسمه محل مدينه بالحق الذي له قبل مدين المدين. ويكون هذا الحلول في حدود ما للدائن من حق نحو المدين، وفي حدود ما لهذا المدين من حق نحو الغير المدعى عليه في الدعوى المباشرة. ولم ينص القانون المدني السوري على تطبيق عام للدعوى المباشرة، على العكس من الدعوى غير المباشرة ودعوى عدم نفاذ التصرف، إذ نص القانون على تطبيق عام لهما، وإنما اكتفى بالنص عليها في بعض الحالات الخاصة. زد على ذلك أن قوانين أخرى أيضاً نصت على بعض هذه الحالات. وقد وردت هذه الحالات، سواء في القانون المدني أو في القوانين الأخرى، على سبيل الاستثناء، ومن ثم لا يجوز القياس عليها.

أ ـ حالات الدعوى المباشرة في القانون المدني: نص القانون المدني في أماكن متفرقة منه على بعض الحالات الخاصة للدعوى المباشرة، وأهم هذه الحالات:

(1) ـ عقد الوكالة: يحق لكل من الموكل والوكيل الثانوي، وكيل الوكيل، الرجوع على الآخر بدعوى مباشرة، على الرغم من أن الموكل يعد من الغير حيال عقد الوكالة الثاني بين وكيله والوكيل الثانوي، وكذا حيال الأخير وفقاً لما جاء في المادة (674/3) مدني، والتي تنص على أنه:

«1ـ إذا أناب الوكيل عنه غيره في تنفيذ الوكالة دون أن يكون مرخصاً له في ذلك، كان مسؤولاً عن عمل النائب كما لو كان هذا العمل قد صدر منه، ويكون الوكيل ونائبه في هذه الحالة متضامنين في المسؤولية.

أما إذا رخص للوكيل في إقامة نائب عنه دون أن يعين شخص النائب، فإن الوكيل لا يكون مسؤولاً إلا عن خطئه في اختيار نائبه أو عن خطئه فيما أصدره من تعليمات.

ويجوز في الحالتين السابقتين للموكل ولنائب الوكيل أن يرجع كل منهما مباشرة على الآخر».

(2) ـ عقد المقاولة: أعطى القانون الحق للمقاولين الثانويين وعمالهم في إقامة الدعوى على رب العمل بما لا يتجاوز القدر الذي يكون مديناً به للمقاول الأصلي، وهذا ما نصت عليه المادة (628) مدني بقولها:

«1ـ يكون للمقاولين الثانويين وللعمال الذين يشغلون لحساب المقاول في تنفيذ العمل، حق مطالبة رب العمل مباشرة بما لا يجاوز القدر الذي يكون مديناً به للمقاول الأصلي من وقت رفع الدعوى. ويكون لعمال المقاولين الثانويين مثل هذا الحق قبل كل من المقاول الأصلي ورب العمل.

ولهم في حالة إلقاء الحجز من أحدهم تحت يد رب العمل أو المقاول الأصلي امتياز على المبالغ المستحقة للمقاول الأصلي أو للمقاول الثانوي وقت إلقاء الحجز، ويكون الامتياز لكل منهم بنسبة حقه. ويجوز أداء هذه المبالغ إليهم مباشرة.

وحقوق المقاولين الثانويين والعمال المقررة بمقتضى هذه المادة مقدمة على حقوق من يتنازل عن دينه قبل رب العمل».

(3) ـ عقد الإيجار: ألزم القانون المستأجر الثانوي بأن يدفع للمؤجر ما يكون ثابتاً في ذمته للمستأجر الأصلي اعتباراً من تاريخ إنذاره من قبل المؤجر، طبقاً لما نصت عليه المادة (563) مدني.

ب ـ حالات الدعوى المباشرة في القوانين الأخرى: أكدت قوانين أخرى مبدأ الدعوى المباشرة في بعض الحالات الخاصة، وأهم هذه الحالات:

(1) تنص المادة (190) من قانون السير لعام 2004 وتعديلاته على أنه "أـ يعطي عقد التأمين الإلزامي للمتضرر حقاً مباشراً تجاه جهة التأمين، ولا تسري بحقه الدفوع التي يجوز لجهة التأمين أن تتمسك بها قبل المؤمن له على أن لا يتجاوز حق المتضرر بأي حال حدود نسبة مسؤولية المركبة المؤمن عليها من الأضرار التي سببها الحادث. ب ـ تسقط دعوى المتضرر تجاه جهة التأمين بمرور الزمن بعد انقضاء ثلاث سنوات على تاريخ وقوع الحادث إذا لم يقطع هذا التقادم بالمراجعة الإدارية أو القضائية".

(2) منحت المادة (135) من قانون التجارة السوري لعام 2007 المرسل إليه أو الشخص المنقول، إذا لم يكن طرفاً في عقد النقل، حقاً مباشراً تجاه الناقل من أجل مطالبته بجميع الالتزامات المترتبة عليه بموجب عقد النقل. وبالمقابل لا يلتزم المرسل إليه أو الشخص المنقول، في مثل هذه الحال، بالالتزامات التي يرتبها عقد النقل ما لم يقبل بذلك صراحة أو ضمناً، وفقاً لما نصت عليه المادة (133) من القانون المذكور.

ويلاحظ في جميع هذه الحالات أن الدعوى المباشرة تعد استثناءً من مبدأ نسبية آثار العقد، إذ تجيز للغير الأجنبي عن العقد المطالبة بحق نشأ لمدين عن ذلك العقد كونه طرفاً فيه.

 

مراجع للاستزادة:

 

ـ أحمد حشمت أبو ستيت، نظرية الالتزام في القانون المدني الجديد (مطبعة مصر، الطبعة الثانية، القاهرة 1954).

ـ توفيق حسن فرج، النظرية العامة للالتزام ـ في مصادر الالتزام (الدار الجامعية للطباعة والنشر، بلا تاريخ).

ـ سليمان مرقس، الوافي في شرح القانون المدني ـ2ـ، في الالتزامات ـ المجلد الأول: نظرية العقد والإرادة المنفردة، (1987).

ـ عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، نظرية الالتزام بوجه عام، مصادر الالتزام، المجلد الأول (القاهرة، بلا تاريخ).

ـ عبد الفتاح عبد الباقي، موسوعة القانون المدني المصري، نظرية العقد والإرادة المنفردة ـ دراسة معمقة ومقارنة بالفقه الإسلامي (1984).

ـ عبد المنعم البدراوي، النظرية العامة للالتزامات في القانون المصري، الجزء الأول، مصادر الالتزام (القاهرة 1975).

ـ فواز صالح ومحمد عرفان الخطيب، عقد الإيجار، مركز التعليم المفتوح ـ قسم الدراسات القانونية (مطبعة جامعة دمشق، 2005/2006).

ـ مصطفى الزرقاء، شرح القانون المدني السوري، نظرية الالتزام العامة ـ1ـ المصادر، العقد و الإرادة المنفردة (مطبعة دار الحياة، ط/4، دمشق 1964).

ـ مصطفى الزرقاء، الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، الجزء الأول: المدخل الفقهي العام، المجلد الأول (مطبعة جامعة دمشق، الطبعة السادسة، 9591).

ـ محمد وحيد الدين سوار، شرح القانون المدني، النظرية العامة للالتزام، الجزء الأول مـصادر الالتزام، 1، المصادر الإرادية، و2، المصادر غير الإرادية (مطبعة رياض، دمشق 1982ـ1983).

- J. FLOUR,  J.-L. AUBERT et  E. SAVAUX, Les obligations, I, L’acte juridique, 10 éd., (Armand Colin, Paris, 2002).

- Ch. LARROUMET, Droit civil, Tome 3, Les obligations, Le contrat, 3e édition, (Economica  -Delta, 1996).

- H., L., J. MAZEAUDET F. CHABAS, Leçon de droit civil, Tome II, Volume I, Obligations- théorie générale, 9ème édition, (Delta, 2000).

- F. TERRÉ , Ph. SIMLER et Y. LEQUETTE, Droit civil, Les obligations, 8ème édition, (Dalloz, 2002).


التصنيف : القانون الخاص
النوع : القانون الخاص
المجلد: المجلد الخامس: طرق الطعن في الأحكام الإدارية ــ علم العقاب
رقم الصفحة ضمن المجلد : 133
مشاركة :

اترك تعليقك



آخر أخبار الهيئة :

البحوث الأكثر قراءة

هل تعلم ؟؟

عدد الزوار حاليا : 534
الكل : 31765331
اليوم : 40792