تكيف
Adaptation -



التكيف

عماد القاضي

أنماط التكيف

آليات التكيف البيئي وحدوده

 

مع أن مفهوم التكيف adaptation يعد محوراً أساسياً في دراسات علوم الحياة، فإنه في واقع الأمر غير متفق عليه، ولكن عموماً يمكن تعريف التكيف بأنه امتلاك الكائن الحي بنية خاصة، أو حالة فيزيولوجية أو سلوكاً خاصاً، يساعده على البقاء والتكاثر ضمن بيئة دقيقة محددة أو في عشه البيئي. يؤكد علماء الأحياء أن الكثير من الأحياء يستطيع التكيف؛ فالحيتان متكيفة مع الحياة المائية، والحشرات متكيفة لتتنفس الهواء، والديدان الشريطية تتكيف مع الحياة الطفيلية. فلكل مجموعة من هذه المجموعات كثير من الخصائص المورفولوجية والتشريحية والفيزيولوجية التي تسهم في تكيفات هذه الكائنات مع بيئتها. توضح هذه الأمثلة حقيقة بدهية وهيأنكل نوع متكيف مع أسلوب الحياة الذي يمارسه، ومع البيئة التي يواجهها، وإلا فإنه سينقرض.

أنماط التكيف

 يمكن تمييز الأنماط الآتية للتكيف:

التكيف البنيوي structural: هو سمات جسدية للكائن، كالشكل والكساء والتسلح والتنظيم الداخلي.

- التكيف السلوكي b:ehavioral هوالسلوك الموروث (الغرائز) و/أو القدرة على التعلم. وأمثلة ذلك: البحث عن الطعام، التزاوج، التغريد.

- التكيف الفيزيولوجي physiological: هو قيام جسم الكائن الحي بأعمال، مثل صنع السموم، إفراز مادة لزجة، التوجه إلى الضوء "الانتحاء الضوئي"، وهناك أيضاً وظائف عامة، مثل: النمو والتنامي، تنظيم درجة الحرارة، توازن الإيونات والجوانب الأخرى من الاستتباب "الاستقرار الداخلي".

 فالتكيف يشمل جميع مناحي حياة الكائن الحي. وهكذا يعد التخفي أو التمويه camouflage تكيفاً (الشكل 1)، وكذلك حاسة الشم المذهلة لدى القرش، والمنقار الدقيق المتطاول المسطح لطائر الشاطئ shore bird هي أيضاً تكيفات. وبما أن التكيفات تساعد الكائن الحي على البقاء، فإن هذا الكائن الناجي ستكون له فرصة أفضل لتوريث هذه الخصائص المميزة التي كانت مفيدة لبقائه إلى ذريته. ونظراً لارتباط التكيف بالظروف المحيطة بالكائن الحي فقد يسمى أحياناً تكيفاً بيئياً ومنه أيضاً التكيف اللوني والتكيف نتيجة الإجهاد والتأقلم.

الشكل (1) أربع صور لسمكة مسطحة (Bothus mancus)  أُخذت بفارق بضع دقائق تبين قدرة هذه السمكة على تغيير ألوانها لتناسب المناطق المحيطة بها، للتمويه وحماية نفسها.

 

يعود مفهوم التكيف - الذي كان يستخدم للإشارة إلى العلاقة بين البنية والوظيفة - إلى بدايات التاريخ الطبيعي، غير أن أول استخدام لكلمة تكيف كان في أوائل القرن السابع عشر. ومع أن التكيف حقيقة من حقائق الحياة قَبِلها علماء الكائنات الحية، فإنهم اختلفوا في تفسيرها، وفي كيفية نشوء التكيف. ويمكن تلخيص هذا الاختلاف بثلاثة مفاهيم أساسية (أو ثلاثة استخدامات أساسية) يمكن استعراضها بإيجاز:

- المفهوم الأول: يشمل التكيف مجموعة من الحالات أو المشاهدات البنيوية - الوظيفية للكائنات الحية التي يظهر فيها توافق الكائن الحي مع الشروط الخارجية المحيطة، بحيث يكون أداء الأعضاء في أكمل وجه، ويتيح للكائن البقاء والتكاثر في مهد معين. أو بمعنى آخر هو التناسق الملاحظ بين المتعضية والوسط الذي تعيش فيه. يبين هذا المفهوم للتكيف أن العلاقة  بين الكائن ومهده ثابتة،ويتفق هذا المفهوم للتكيف مع مصطلح الملاءمة convenience والانسجام harmony.

يطابق هذا المعنى الثابت للتكيف المفهوم الذي وضعه العالم الفرنسي كوفييه Cuvier (1769-1832) تحت اسم "شروط الوجود existence conditions". فإذا كان هناك نوعان من الأسماك يعيشان في بيئتين مختلفتين فستكون لغلاصم كل منهما ميزات خاصة وفارقة، ويمكن ربط ذلك مباشرة بخصائص البيئات التي يعيش فيها هذان النوعان، فيكون الحديث حينئذٍ عن تكيف نظامها الغلصمي مع بيئته. وأمثلة ذلك كثيرة جداً، بل هو ملاحظ في كل عمل تحليلي جرى منذ قرنين على الكثير من الكائنات الحية (الشكل 2).

الشكل (2)  تكيفات بعض الحيوانات مع الموئل الذي تعيش فيه.

 

المفهوم الثاني: يتمثل التكيف بالتحولات المفيدة، التي تكون غالباً فيزيولوجية، ويتأثر بها الكائن الحي الخاضع لظروف بيئية جديدة، فيستجيب بهذه التحولات بفعالية أكبر لهذه الشروط المستجدة.

على صعيد الفرد؛ كل فرد يقوم بالوظائف الحيوية الأساسية ضمن طيف واسع إلى حد ما من الظروف البيئية، ولكن حين تتغير الظروف سيؤدي هذا إلى عدد من التغيرات الفيزيولوجية في جسم المتعضية، وربما يقترن ذلك بتغيرات مورفولوجية،مثل تأقلم الجسم مع البرد أو تطوير الكائنات مقاومتها للجراثيم أو الفيروسات. وغالباً ما يشار إلى هذه القدرة على التكيف مع مختلف الحالات البيئية باسم الاستقرار الداخلي أو الاستتباب homeostasis، وهو مفهوم قديم أيضاً؛ فمصطلح المثردة Mithridatism (اكتساب المناعة لمادة سامة بتناول كميات صغيرة ومتتالية منها) معروف، وهو يدل على التكيف عند حدوث بعض التنوع  في المواد الغذائية. ويتفق هذا المعنى للتكيف مع المصطلحين: الجسدنة somation (من soma، وتعني في اليونانية الجسم، ويقصد به الاختلافات في بنية الجسم غير الوراثية) والتأقلم acclimation.

- المفهوم الثالث: يعرّف التكيف على أنه التغيرات (التعديلات) التي تطرأ على صفة تشريحية أو على عملية فيزيولوجية أو على ميزة سلوكية ضمن مجتمع من الأفراد، بحيث يسهم امتلاك الأفراد لهذا الوضع الجديد في تحسين بقائها ونجاحها التكاثري. ويعد التكيف هنا عملية ديناميكية "متغيرة باستمرار"، وآلية تُحدِث تحولات بين الأنواع، وتشكل أنواعاً جديدة في أثناء مسيرة التطور، وهي ما يُعرف في النظرية التركيبية للتطورsynthetic theory of evolutionبالتباين الوراثي والاصطفاء الطبيعي؛ ويمثل المصطلح الأول مكوناً عشوائياً، ويعبر الثاني عن الضرورة (البقاء أو لا)، وهذا يجعل التكيف في قلب الآلية التطورية.

أحد الأمثلة التقليدية المشهورة لعرض هذا المفهوم وبيان كيفية حدوث التكيف يتعلّق بنوع من العثّ الذي يعيش في إنكلترا ويُسمّى عث الفلفل peppered moth، (اسمه العلمي Biston betularia). قبل القرن التّاسع عشر كانت مُعظم سُلالات هذا العث - التي تعيش في براري إنكلترا- ذات لون أبيض مُصفرّ تتخلّله بقعٌ داكنة، في حين كان بعضها رماديّاً أو أسود (الشكل 3)، لكن بيئة إنكلترا تغيّرت تغيراً شديداً على مرّ السّنين اللاحقة بسبب آثار الثّورة الصناعيّة؛ إذ أدّت الثّورة إلى اصطباغ الأشجار بألوان باهتة نتيجةً لتلوّث الهواء وتراكم السخام عليها. من هُنا تغيّرت هيئة العثّ مُباشرة استجابة لبيئته؛ إذ ازداد عدد السّلالات الداكنة اللّون فجأةً (نحو 90%)؛ وذلك لأنّ لونها القاتم سمحَ لها بالتمويه والاختفاء بسهولة على جذوع الأشجار المُلوَّثة، فأصبحت رؤيتها ومُطاردتها أصعب على الطّيور التي تفترسُها.

الشكل (3) حشرة عث الفلفل بنمطيها: (آ) الفاتح، (ب) الداكن اللون.

غير أن أصحاب هذا الاتجاه في فهم التكيف لا يرون أن جميع سمات المتعضية هي ناتج عملية التكيف، أو أن كل تطور يتحقق بالضرورة ودائماً من خلال التكيفات المفيدة داخل المجتمع؛ إذ يرى هؤلاء أن لتاريخ الحياة (التغيرات التي يمر بها الكائن في أثناء تطوره) دوراً في ظهور هذه السمات. فقد تكون السمة دالة على تاريخ تطوري بدلاً من التكيف؛ فما يسمى بإبهام الباندا، أو العظام السِّمسمانية الشعاعية هو في الواقع عظم الرسغ الذي يعمل مقابل الإبهام؛ مما يسمح للباندا العملاقة بالإمساك بسوق الخيزران والتعامل معه ببراعة. أما أسلاف الباندا العملاقة وجميع الأنواع ذات الصلة الوثيقة بها، مثل الدببة السوداء والراكون والباندا الحمراء فلها أيضاً عظام سمسمانية، علماً أن الأنواع الأخيرة لا تتغذى بالخيزران لذا لا يعد بعض العلماء وجود هذه العظام تكيفاً للتغذية بالخيزران.

 آليات التكيف البيئي وحدوده

إن تعريف التكيف بمعنييه الأول والثاني مقبول عند العلماء، ولكن يبقى التكيف بالمعنى الثالث -الذي يفترض أن التكيف الذي يحدث نتيجة الاصطفاء الطبيعي (الذي يؤدي وظيفته بفعل وجود التباين الوراثي بين أفراد النوع)، ويتولد عنه تدريجياً ظهور صفات جديدة، ومن ثَم أنواع جديدة -موضع خلاف. ويرى عدد من العلماء أن هذا المفهوم غامض ومحدد، ولا يصمد أمام النقد؛ لأن الاصطفاء الطبيعي هو مجرد آلية تحفظ المورثات الموجودة ولا تخلق مورثات جديدة، فهو قوة تسعى إلى الحفاظ على الأنواع؛ إذ تبقى الأفراد الجيدة وتستأصل الأفراد غير الصالحة. ومثال ذلك عث الفلفل؛ فلم يتطور نوع هذه الحشرات ولم تتطور وظائفها البيولوجية ولا لونها كذلك، فقد بقيت الحشرات بلونيها الفاتح والغامق، لكن الاختلاف كان بعددها فقط؛ فجماعات العث التي بدلت لونها عبر الأجيال من الفاتح إلى الغامق (ومثلها جماعات البعوض التي تبدي مقاومة للمبيد الحشريثنائي كلورو ثنائي فينيل ثلاثي كلورو الإيثان (د.د.ت) Dichlorodiphenyltrichloroethane (DDT) لا تدل إلا على تغيرات صغيرة في تكرار المورثات للمجتمعات الحيوية. لا يتطلب الانزياح في اللون السائد للعث أي معلومات مورثية جديدة؛ لأن الأليلات - أشكال المورثات- موجودة سابقاً في الجماعة، والتغيرات لا تخرج عن الحوض المورثي gene pool للنوع.

تقدم مبادئ الوراثة المندلية تفسيراً صحيحاً لذلك؛ إذ يمكن أن تختفي صفة ما مؤقتاً، لكن المورثة المسؤولة عن الصفة تظل موجودة ضمن الكائن أو الجماعة بشكل متنحٍّ، وتُمرر إلى الذرية. فعندما يقوم مهجن بإخفاء بعض الخواص أو إظهارها فإن ذلك لا يمثل مكسباً حقيقياً ولا خسارة حقيقية، إنه مجرد تمثيل للتفاعل بين المورثات السائدة dominant (المورثات التي تظهر الصفات المرتبطة بها) والمورثات المتنحية recessive (المورثات التي تختفي الصفات المرتبطة بها مؤقتاً)، ومن ثمَ فإن الصفة التي يبدو أنها ضاعت تظل موجودة وتظهر من جديد. من جهة أخرى، الصفة التي يبدو أنها ظهرت من العدم ربما لا تكون جديدة، وإنما هي نتيجة التعبير عن مورثة متنحية كانت موجودة طوال الوقت. كما أن بعض السمات قد تكون مرتبطة بعدة مورثات، فمثلاً يحدد لون الجلد عدة مورثات، حيث يؤثر عدد من المورثات الغامقة والفاتحة التي تعمل في توليفة واحدة في التعبير عن هذه الصفة، ومن ثمَ يمكن مبدئياً لفردين؛ كل منهما لديه مجموعة كاملة من المورثات الغامقة والفاتحة أن ينتجا ذرية يشمل لون جلد أفرادها المجال الكامل من ألوان الجلد الممكنة، ولكن يكون اللونان الأفتح والأغمق هما الأندر في توزيع كهذا، في حين يكون لون معظم جلد الأفراد متوسطاً بين هاتين النهايتين. ويقوم المهجنون بعملية خلط المورثات لإنتاج ذُرة أحلى أو أبقار أسمن.

يُستحسن إجراء التعديل الوراثي لتوليد صفات جديدة قبل أن يعمَل الاصطفاء الطبيعي على اصطفائها. والسؤال المطروح؛ هل يمكن أن تقدم الطفرات الصبغية والنقطية -التي تعمل معاً- المادةَ الخام للتكيف؟ لقد درست الطفرات دراسة مكثفة في منتصف القرن العشرين بِعَدِّها المصدَر الأساسي للإبداعات التكيفية، وذلك وفق النظرية الداروينية الجديدة. وتُعد ذبابةُ الفاكهة مثالاً مناسباً على هذه الدراسة؛ لأن دورتها التكاثرية قصيرة، ويمكن التلاعب بمورثاتها بسهولة؛ مما يسمح بملاحظة عدد من الأجيال وتتبعها. أخضع العلماء ذبابة الفاكهة لعدة تجارب، وحين قُذفت بإشعاع زاد معدل الطفرات، نتيجة التجارب توفرت معلومات دقيقة عن نوعية الطفرات الممكنة. وتبين أنه ليس هناك أي دليل على أن الطفرات في ذبابة الفاكهة توجِد بنى جديدة، وإنما هو مجرد تغيير للبنى الموجودة، فمثلاً أنتجت الطفرات أجنحة مجعدة أكبر من المعتاد وأصغر من المعتاد، كما أنتجت مجموعة مضاعفة من الأجنحة (مجموعتان إحداهما لا تعمل، وهي مؤذية للكائن)، لكنها لم توجِد نوعاً جديداً من الأجنحة. ولّدت الطفرات أيضاً ذبابات فاكهة مسوخاً ذات أرجل تنمو مكان نمو قرون الاستشعار في حالة تعرف باسم antennapedia (الشكل 4)، لكن حتى هذه المسوخ ليست إلا مجرد إعادة ترتيب لبنى موجودة وإن كانت بطرائق غريبة، ولم تحول الطفرات ذبابة الفاكهة إلى نوع جديد من الحشرات، بل أنتجت ذبابات فاكهة متغايرة.

 

الشكل (4) بعض أفراد من ذبابة الفاكهة الطافرة بعد تعريضها لعوامل مطفرة صنعياً: أ. فرد امتلك أربعة أجنحة بدلاً من جناحين في الحالة العادية، ب. فرد نمت على رأسه أرجل بدلاً من قرون الاستشعار. 

 

إن الطفرات التي تصيب مورثات التنامي ضارة دائماً، والطفرات الوحيدة المفيدة هي التي تؤثر في التداخلات المباشرة بين بروتين طافر وجزيئات أخرى. يمكن لهذه الطفرات في الدنا DNA حمل مقاومة للصادات أو المبيدات الحشرية، لكنها لا تؤدي أبداً إلى التغيرات البنيوية الكبيرة المطلوبة للتكيف بالمفهوم التطوري. وعليه لم يثبت مصطلح الطفرات العشوائية المتراكمة طوال الوقت علمياً.

مراجع للاستزادة:

- K. N. Lala, T, Uller et al., Evolution Evolving: The Developmental Origins of Adaptation and Biodiversity, Princeton University Press 2024.

-G. D. Ruxton, N. Colegrave, Experimental Design for the Life Sciences, OUP Oxford, 2016.

-   J. Sanders, Adaptation and Appropriation,  Routledge, 2015.

 


- التصنيف : علوم البيئة والتنوع الحيوي - النوع : علوم البيئة والتنوع الحيوي - المجلد : المجلد العاشر، طبعة 2025، دمشق مشاركة :

بحث ضمن الموسوعة

من نحن ؟

الموسوعة إحدى المنارات التي يستهدي بها الطامحون إلى تثقيف العقل، والراغبون في الخروج من ظلمات الجهل الموسوعة وسيلة لا غنى عنها لاستقصاء المعارف وتحصيلها، ولاستجلاء غوامض المصطلحات ودقائق العلوم وحقائق المسميات وموسوعتنا العربية تضع بين يديك المادة العلمية الوافية معزَّزة بالخرائط والجداول والبيانات والمعادلات والأشكال والرسوم والصور الملونة التي تم تنضيدها وإخراجها وطبعها بأحدث الوسائل والأجهزة. تصدرها: هيئة عامة ذات طابع علمي وثقافي، ترتبط بوزير الثقافة تأسست عام 1981 ومركزها دمشق 1