تكون انواع
Speciation -

تَكَوُّن الأنواع

بشير الزالق

آليات تكون الأنواع

 

تكوّن الأنواع speciation هو الآلية التي تشرح ظهور الأشكال المختلفة للكائنات الحية عبر الزمن. وقد سعى علماء الطبيعة منذ القدم إلى إعطاء تعريف يحدد فيه مفهوم النوع، وكان أول من أطلق على هذه الوحدة التصنيفية اسم النوع species هو الفيلسوف اليوناني أرسطو الذي عَرَّف النوع: هو مجموعة من الأفراد المتشابهة شكلاً. في المرحلة الثانية اعتُمِدَ على ما يسمى المفهوم الحيوي (البيولوجي) للنوع الذي وضعه الباحثان سترِسمان Stressman وماير Mayr، وهومجموعة من الكائنات الحية القادرة على التكاثر فيما بينها في الطبيعة، وتحقق الخصب، وتعيش في الحدود الجغرافية ذاتها، وتشكل جماعة طبيعية. كما وضع باحثون آخرون المفهوم الوراثي للنوع- مثل دوبجانسكي Dobzhansky- جاء فيه أن النوع مجموعة وراثية مغلقة؛ لأن الأفراد لا تتناسل إلا فيما بينها، ويجري تبادل المورثات (الجينات) بين أفراد النوع نفسه من دون أفراد الأنواع الأخرى. وفي هذا المجال وضع باحثون آخرون التعريف التالي: النوع مجموعة وراثية متماثلة، تتزاوج  الجماعات فيما بينها، وتكون معزولة عن جماعات الأنواع الأخرى، أي إن الباحثين هنا قد عَرَّفوا النوع بجماعات، وليس أفراداً.

اعتمد بعض الباحثين أيضاً إعطاء مفاهيم مختلفة للنوع، كالمعيار الفيزيولوجي والشكلي والطبعي، لكن لم تكن هذه المفاهيم تُعَرِّف النوع وتحدده على نحو كامل، إلى أن وضع الباحث الفرنسي غراسيه Grassé تعريفاً شاملاً للنوع  جاء فيه أن النوع مجموعة من الكائنات الحية التي ينحدر بعضها من بعض، وطوابعها الوراثية متقاربة جداً، ولا تحقق التهجين في الظروف الطبيعية مع الكائنات الحية من أي زمرة أخرى لأسباب وراثية وتشريحية أو طبعية أو بيئية؛ أي يكون تشابهها الشكلي والفيزيولوجي والطبعي هو المعيار الأساسي.

أما التنوع أو تَكَوُّن الأنواع فهو عملية تطورية يتشعب فيها النوع الواحد إلى نوعين أو أكثر، وهي تنطبق على الكائنات الحية التي تتكاثر جنسياً، ويحدث فيه عزل تكاثري يؤدي إلى تباعد بين جماعات النوع.

يجب الإشارة إلى أن العزل الجغرافي (أو المكاني) geographic isolation يؤدي دوراً مهماً في تكون الأنواع حيث إنه يُسْهِم في عزل جماعات النوع الواحد في أنماط بيئيّة مختلفة، وتستطيع الاستمرار في العيش فيها. ولكي تستمر حياة هذه الجماعات يتحتم عليها التكيف مع البيئة الجديدة التي سكنتها، وهذا يدفع النوع نفسه للتطور، وتكون نتيجة العزل الجغرافي تكوين أنواع جديدة. يجرى العزل الجغرافي عبر حواجز طبيعية مثل الأنهار والمرتفعات الجبلية والانجرافات القارية والجزر البحرية وهجرة الحيوانات وغير ذلك، حيث تنقسم الجماعة population إلى جماعتين صغيرتين أو أكثر. يُشاهد ذلك في يرقات ذبابة الفاكهة التي انقسم النوع فيها إلى جماعات منعزلة بعيد بعضها عن بعض، فَصَلها مجرى نهر وجبال مرتفعة، فشكلت تلك المواقع الجغرافية وسائلَ عزلٍ تُباعِد بين الجماعات؛ الأمر الذي أدى إلى خلق حاجز تناسلي بينها، فلم تعد تلك الجماعات قادرة على التزاوج وتبادل المورثات فيما بينها بسبب البعد الجغرافي الشاسع (الشكل1).

الشكل (1) تقسم الجماعة إلى جماعتين صغيرتين او أكثر.

 مثال آخر عن العزل عبر مساحات جغرافية واسعة يُذكَر الضفدع النمر leopard frog حيث تعرضت جماعات هذا النوع لتغيرات سببها بيئي ومناخي، جعلت جماعة تعيش في شرقي أمريكا الشمالية وجماعة أخرى في أقصى غربِها، ظهرت في بداية الأمر بعض الاختلافات الشكلية، ثم ظهر عدم القدرة على التزاوج وتبادل المورثات، وكانت النتيجة تشكل أنواع جديدة مغلقة وراثياً. فأصبح النوع معزولاً وراثياً عن الأنواع الأخرى.

آليات تكون الأنواع

حدد الباحثون أربع آليات تطورية تؤدي إلى تكون الأنواع،هي:

1- تَكَوُّن الأنواع اللامواطِنة (الألوباترية) allopatric، وهي كلمة إغريقية تضم كلمتي allo وتعني الآخر وpatric وتعني أرض الأجداد أي الموطن الأصلي؛ أي الأنواع التي تعيش في مواطن مختلفةعن موطن أجدادها، أو تَكَوُّن الأنواع التبايني. يحدث هذا النمط نتيجة للعزل الجغرافي، أي تجزؤ الموطن، ممّا يؤدي إلى تشكل أنواع جديدة من الجماعات الحيوية (البيولوجية) التابعة للنوع نفسه، ويُعدّ هذا النمط من العزل أسهل أنواع العزل المعروفة.

يُحْدِث الاصطفاءُ الطبيعي في هذه الظروف تغيراتٍ سريعة في الطابع الظاهري (الشكلي) phenotype في جماعات النوع وسلوكياتها، وبما أن الجماعة المنعزلة عن الجماعة الأصلية تتعرض للاصطفاء الطبيعي  والانحراف المورثي (الجيني) على نحو مستقل ومختلف عن بقية جماعات النوع؛ فإن العزل الجغرافي قد ينجم عنه في النهاية تشكل كائنات جديدة أو أنواع جديدة، تكون غير قادرة على التزاوج فيما بينها. ويُعدّ هذا النمط من تَكَوُّن الأنواع أبسط أنواع العزل الجغرافي، حيث يمكن أن ينعزل النوع بحواجز جغرافية مثل وجود سلسلة الجبال أو استيطان سرب من أسراب الطيور لجزيرة بحرية معزولة.

قد تكون الحواجز الجغرافية ضخمة أو صغيرة، يقلل مثل هذه الحواجز إتمام تبادل الجينات بين الجماعات، مما يجعل هذه الجماعات المنعزلة مختلفة وراثياً بعضها عن بعض وغير قادرة على تبادل المورثات والتكاثر، وهو في الواقع نمط من أنماط "العزل التكاثري"، تتراكم فيه التغيرات الوراثية مع مرور الزمن؛ مما يؤدي إلى انعزالٍ داخل النوع حالَ دون ظهور جماعات النوع الواحد في مكان واحد لانعدام فرصة التناسل بينها، ويترتب على هذا الوضع تكون أنواع جديدة مختلفة الموطن أو لا متواطنة.

مثال عن هذا النمط من التنوع اللامواطن، ما شوهِد على جانبي قناة بنما Panama  التي تربط البحر الكاريبي بالمحيط الهادئ، حيث تكوّن برازخ بحرية في تلك المنطقة  لِقشريات القريدس (الروبيان) shrimp حواجزَ جغرافية أدت إلى تغيراتٍ بيئية قسمت النوع إلى جماعات معزولة، شكلت مع مرور الزمن أنواعاً بحرية جديدة مميزة على جانبي القناة (الشكل 2).

الشكل (2) العزل اللامتواطن قسم جماعة القريدس إلى أنواع جديدة مميزة الصفات.

لقد شكلت فكرة تكون الأنواع اللامواطنة معياراً مهماً لنظرية "تكون الأنواع" التي تعتمد على أن العزل الجغرافي مصدر مهم وأساسي في تكون الأنواع الجديدة، كما أشار إلى ذلك الباحثان إلدريدج  Eldredge وغولدGould  عام1974 .

2- تكون الأنواع المواطِنة أو تكون الأنواع التماثلي sympatric speciation: وهي كلمة إغريقية تضم كلمتي sym وتعني معاً، وpatric وتعني أرض الأجداد؛ أي الموطن الأصلي، يتشعب النوع في هذا النمط دون حدوث عزل جغرافي أو تغيير في "الموطن"، وهي طريقة أكثر تعقداً من العزل اللامتوطن، حيث تعيش الجماعات في المكان أو الموطن نفسه بعكس النمط السابق، لكن لا يتطلب العزل هنا وجود حواجز فيزيائية. لقد ظل العلماء حائرين حول ما إذا كان العزل الجغرافي ممكناً أم لا، لكنهم أدركوا بعد ذلك إمكان حدوث ذلك حتى في غياب الحواجز الجغرافية؛ بحيث تتكون أنواع جديدة داخل بيئة النوع الأصلي (السلفي) نفسه مع تقاسم الحدود فيما بينها. ولكن ما يحدث في هذا النمط من العزل انخفاضُ تبادلِ الجينات بين أفراد الجماعة الواحدة نتيجة للاختلافات الجينية وحدوث "عزل وراثي جزئي" يمكن توضيحه في مثال جماعة الذباب التي قُسِمَت أفراد الجماعة فيها إلى مجموعتين تختلفان في نمط الغذاء المفضل لديهما؛ الأمر الذي أدى مع الزمن إلى خلق اختلافات وراثية فيما بينها، وحال دون تبادل الجينات فيما بينها، فتكونت منهما جماعتان معزولتان وراثياً، وليس جغرافياً؛ لأن الجماعتين ما زالتا تتقاسمان الحدود الجغرافية ذاتها (الشكل 3)، لذا يمكن تسمية هذا النمط من تَكَوُّن الأنواع بـ "العزل البيئي" الذي يعود إلى تفضيل  كل نوع نمطاً معيّناً من الغذاء وبيئةً محدودة دون أخرى.

الشكل (3) العزل المتواطن يحدث فيه انخفاض في تبادل المورثات بين أفراد جماعة الذباب التي أخذت تتناول أنواعاً مختلفة من الأغذية مع وجودها في المنطقة الجغرافية ذاتها.

وتُذكَر هنا مشاهداتُ العالم داروين حول عصفور الشرشور (عصفور داروين) pinson of  Darwin الذي كان يعيش في مستعمرات على الجزر المختلفة لغالاباغوس مشكلة أعشاشاً بيئية مختلفة، يعيش بعضها في الغابات الكثيفة، وبعضها الآخر في المروج الفسيحة و السهول وغير ذلك؛ الأمر الذي أدى إلى  تمايز 14 عِرقاً مستوطناً (مُواطِناً) منها، تخصص كل منها بموقع حيوي وبـ "نمط غذائي مختلف"، وهذا ما دعا هذه الطيور إلى تغيير شكل منقارها، فانعزلت، وتشكلت عروق مختلفة (الشكل 4).

الشكل (4) تكون الأنواع المستوطنة بدءاً من العصفور السلفي للشرشور وتغير شكل المنقار للأنواع المنتشرة على جزر غالاباغوس ( رحلة داروين).

 3- الآلية الثالثة من تَكَوُّن الأنواع هو التنوع المحاذي parapatric speciation لدى الأنواع شبه المُواطِنة.ليس ثمة حواجز فيزيائية (جغرافية) تقف في طريق تبادل المورثات داخل الجماعة، وإنما ينجم عن تنوع آليات التطور التي تؤدي إلى خفض تبادل المورثات بين الجماعات الجديدة، يدل على ذلك استمرار أفراد الجماعة بالتزاوج ولكن "على نحو عشوائي"، فالأفراد التي تزاوجت مع جاراتها القريبة تصبح في موقع أكثر تمييزاً من الأفراد الأخرى. ويمكن تفسير العزل وانقسام الجماعة إلى جماعتين أو أكثر بأنه نتيجة لانخفاض تبادل المورثات بين أفراد الجماعة الواحدة (عزل تكاثري) تَرافَق مع تغيرات بيئية جذرية في موطن النوع. يُعَدُّ العشب الربيعي Anthoxanthum odoratum  مثالاً واضحاً عن التنوع المحاذي (التكون المحاذي للأنواع) الذي يتسم بالاستجابة للتلوث المعدني الموضعي الصادر عن المناجم، حيث تتطور نباتات مقاوِمة لامتصاص المعادن الثقيلة من التربة، وهنا يُوَطِّد الاصطفاءُ الطبيعي تنافرَ التزاوج بين جماعات النوع وبين الجماعة الاصلية له (الجماعة الحساسة للمعادن). يرافق هذا العزل التكاثري بين الجماعات الجديدة والجماعة الأصلية اختلاف زمن الازهرار في النباتات المقاومة للمعادن الثقيلة؛ الأمر الذي يؤدي إلى إنشاء عزلٍ تكاثريّ كامل يفضي إلى تكون أنواع جديدة.

  4- التنوع الخارجي peripatricspeciation الذي يحدث عندما تنفصل جماعات صغيرة عن الجماعة الكبيرة الأصلية للنوع في بيئة جديدة. يشبه هذا النمط من التنوع التنوعَ التبايني (اللامواطن allopatric) من حيث الانعزال الجغرافي والتكاثري، لكنه يختلف عنه في كون حجم الجماعة المفصولة أصغر بكثير من حجم الجماعة الأصلية؛ ممّا يؤدي إلى حدوث تنوع سريع بعد تزايد التوالد الداخلي وزيادة في الضغط الاصطفائي مصحوباً بتغير جيني سريع(الشكل5).

الشكل (5) آليات التطور الربع وتكون الأنواع.

أنماط تكون الأنواع:

1-     تكون الأنواع التدريجي gradual  speciation:هو نمط من التطور تحدث فيه تغيرات مظهرية (مورفولوجية) طفيفة وفق خطى ثابتة ومتدرجة، على مدى زمني طويل، حيث تنقسم أفراد النوع الواحد مع تقسم الموائل (مكان العيش)، وتتراكم فيه التغيرات، ويحدث ذلك عندما تعلق جماعات من نوع واحد في جزر متباعدة على نحو كبير، فيصبح التنقل بين هذه الجماعات صعباً جداً، فيحدث الانعزال الوراثي؛ أي تصبح الجماعات غير قادرة على تبادل المورثات وبذلك تنتج أنواعٌ جديدة مختلفة بخصائصها عن النوع الأصلي. سُمِّي هذا النمط من تكون الأنواع بالتطور التدريجي للنوع، لأنه يحتاج إلى زمن طويل حتى تتراكم فيه التغيرات داخل النوع "السلفي"، فينقسم النوع مشكلاً أنواعاً جديدة منعزلة تكاثرياً وغير قادرة على التزاوج  بسبب الاختلافات الوراثية بينها.

أقر داروين بالتطور التدريجي والمستمر للنوع؛ ولكن ليس وفق قفزات، كما جاء في نظريته في التطور (الداروينية darwinism) وفي كتابه "أصل الأنواع Origin of Species ""أن التغيرات التي تصيب النوع هي تغيرات مستمرة تتراكم مع الزمن مؤدية إلى تكون أنواع جديدة اعتباراً من النوع الأصلي السلفي". كما يرى أن "النوع يخضع خلال حياته إلى تغيرات تكيفية adaptations يقوم الاصطفاء الطبيعي بتوجيهها، وأن أكثر التغيرات التطورية كانت بطيئة وثابتة ومتدرجة".

أما العلماء الآخرون - مثل جيفري سانت- إيتين Geoffroy Saint–Étienne - فإنهم يرون أن التطور يحدث بشكل قفزات بين الأنواع من دون تدرج، وعلى هذا النحو فإنه سوّغ غياب "الأشكال الوسطى" بين الأنواع في سجل مستحاثات. وقد كتب هذا العالم أن الظروف البيئية قد تسبب حدوث تغير مفاجئ في النوع، فتنقل النوع إلى نوع آخر جديد. ففي مثال نمطٍ من الفَراش، يؤدي التطور التدريجي فيه إلى تشكيل نوعين من الفراشات، حيث تكون التغيرات المظهرية صغيرة وتراكمية وتحدث على مدى زمني طويل (الشكل 6).

الشكل (6) تكون الأنواع التدريجي لدى جماعة الفراشات.

وفي مثال آخر عن الضفادع المذنبة (السلمندر)؛ فقد حدث زلزال في منطقة كاليفورنيا تشكل نتيجته فالق أدى إلى انفصال أفراد نوع من هذا الحيوان إلى جماعتين توزعت أفرادهما على جانبي الفالق، ومع مرور الزمن وتحت تأثير الاختلافات المناخية والبيئية انتاب الجماعتين تغيرات وراثية أدت إلى تكوين جماعات مختلفة بصفاتها المورفولوجية، الشكلية واللونية؛ مما جعل أفرادهما غير قادرة على التزواج فيما بينها؛ أي حدث عزل تكاثري، فتحولت الجماعات مع الزمن تدريجياً إلى أنواع جديدة منفصلة بعضها عن بعض (الشكل7).

الشكل (7) جماعات السلمندر بعد الزلزال، وتكوين أنواع جديدة معزولة.

2-     تكون الأنواع المحافظ (أو النقطي) punctuated speciation: يقال عن بعض الأنواع التي لا تُظهِر تغيراتٍ تطورية منذ ظهورها حتى تشكل مستحاثاتها: إنها محافِظَة متوازنة أو أنواع تمر بفترة ركودstasis تطوري، وقد تطرأ عليها تغيرات خلال فترة زمنية قصيرة - بضعة ملايين من السنين- وتظهر هذه التغيرات بتطور سريع يجري فيه عزل جماعة صغيرة ضمن الجماعة الكبيرة، وتصبح التغيرات الوراثية فيها أكثر شيوعاً بسبب سهولة انتشار أفراد الجماعة الصغيرة وهجرتها إلى بيئات جديدة؛ الأمر الذي يتطلب حدوث تطور سريع كي تستطيع العيش والتكيف مع البيئة الجديدة التي وصلت إليها.

 في مثال جماعة الفراشات يتضح ما يسمى بالتطور المحافِظ المتوازن punctuated equilibrium الذي يتصف بتغيرات أسرع من التدريجي، وتكون النتيجة تَكَوُّن ثلاثة أنواع جديدة من الفراشات بدلاً من نوعين؛ مقارنة مع التطور التدريجي السابق (الشكل 8).

الشكل (8) التطور المحافظ المتوازن لدى جماعة الفراشات.

 

يلاحظ في تطور مجموعة الرخويات نموذج واضح لحالتي الركود والتطور السريع للنوع، يرافقه اصطفاء طبيعي قوي يؤدي إلى عزل سريع للجماعة المهاجرة إلى البيئة الجديدة، حيث تمارس البيئة هنا ضغطاً اصطفائياً  يوطد عملية عزل جماعة الرخويات إلى جماعات صغيرة، ترافقه انحرافات وراثية تؤثر في ظهور أنواع جديدة وتشكيلها بدءاً من هذه الجماعات (الشكل 9). يرافق التطور السريع عادة حدوث انقراض جماعي ينجم عن التغيرات المناخية والبيئية الجديدة.

الشكل (9) الركود التطوري والتطور السريع لجماعة الرخويات (الحلزون).

 

وبالمقارنة بين نمط تكون الأنواع التدريجي والتكون المحافظ (أو النقطي) يلاحَظُ أن التطور المحافِظ يكون سريعاً وبشكل قفزات حادة مرتبطة بمجريات تكون الأنواع، في حين يكون التطور المتدرج (التكون المتدرج للأنواع) بطيئاً، ويحدث خلال فترات زمنية طويلة  يرافقها تغيرات في تعاقب أليلات الجماعة وتغيرات شكلية في أفرادها.

3-     التغيرات ضمن السلالة anagenesis (ana كلمة إغريقية تعني جديداً وgenos تعني سلالة)،  وبعض الباحثين  قد عرفه  بالتطور السلالي phyletic evolutionary، وهي تغيرات تطورية تكيفية تسير بخط تطوري وحيد في بيئة خاصة، ترافقها أيضاً تغيرات مظهرية تؤدي إلى تشكل نوع جديد واحد بدءاً من النوع السلفي كما في  تطور جماعة من الطيور (الشكل 10). تكون هذه التغيرات بطيئة ومتدرجة، ترافقها تكيفات جديدة مع البيئة في كل مرحلة حتى تصل إلى تشكل نوع جديد مختلف كليا ًبتعاقباته المورثية عن الجماعة السلفية. ويذهب بعض الباحثين إلى أبعد من ذلك؛ فيطلقون على هذا النوع من التطور اسم الإفراط الوراثي anagenetic، حيث إنهم يرون أن التغيرات التي تحدث هنا تغيرات تكيفية تسير بخط تطوري وحيد (أي يكون التطور بخط وحيد من التغيرات في بيئة خاصة). كما يمكن أن يُدرَج هذا النمط من التطور تحت مفهوم التطور الصغير microevolution (أي التطور داخل النوع أو داخل جماعة النوع)، وتحدث فيه التغيرات ضمن السلالة lineage، ولهذا يدعى هذا النمط  من التطور بالتغير السلالي الذي يحدث عادة تحت تأثير الاصطفاء الطبيعي natural selection إضافة إلى عامل الانجراف الوراثي genetic drift

 

الشكل (10) نمطان من تكون الأنواع:

أ‌) التغير ضمن السلالة Anagenesis   أو تغير سلالي لا يؤدي إلى تفرعات.

ب‌) التغير التفرعي Cladogenesis  وهو تغير سريع يؤدي إلى تشكل نوعين جديدين أو أكثر.

يعتقد أن تطور الإنسان قد جرى وفق هذا الخط التطوري الوحيد بدءاً من السلف المسمى الاسترالوبتيكوس Australopithecus (أشباه البشر Hominoida)مروراً بمرحلة الإنسان المنتصب وانتهاء بمرحلة الإنسان العاقل، ويدل على ذلك أن ذرية الإنسان قد مرت بتعاقبات تكيفية وفق مسار مستقيم، جرى في الحقب الجيولوجي الأخير.

النمط الثاني من التغير التطوري في تكون الأنواع هو التغير التفرعي cladogenesis، )كلمة إغريقية  klado تعني شعبة أو فرعاً)، لهذا سماه الباحثون أيضاً التطور التفرعي branching evolution، وفيه تحدث تغيرات مظهرية سريعة تسير وفق خطوط متشعبة، أو هي "تشعب تكيفي" يؤدي إلى تقسم النوع الواحد (السلفي) إلى نوعين جديدين أو أكثر مختلفين في صفاتهما عن النوع السلفي، ويحدث فيه أيضاً انفصال في المُجَمَّع المورثي gene pool إلى  مُجَمَّعَين مورثيين أو أكثر، يتشكل منهما نوعان جديدان أو أكثر. يمثل هذا النوع من التطور النمط الوحيد الذي يؤدي إلى زيادة عدد الأنواع؛ ومن ثمّ زيادة في التنوع الحيوي biological diversity  للأنواع (الشكل11).

 

الشكل (11) التغيرات التطورية لدى مجموعتين من الفراشات:

أ)- التغير التفرعي الذي يؤدي إلى تشكل نوعين جديدين أو أكثر بعد عزل السلالة وتقسمها إلى جماعات نتيجة لتغيرات في تعاقبات الأليلات (أو أشفاع الصبغيات) رافقتها تغيرات وتنوع شكلي في الفراش (الأصفر)، ومؤدية إلى تنوع بيولوجي.
ب)- تغير ضمن السلالة، وهو تغيرات تطورية في الشكل (غير متشعبة) تؤدي إلى تشكل نوع جديد وحيد اعتباراً من الجماعة الأصلية.

كما ينطبق هذا النوع على ما يسمى بالتطور الكبير macroevolution (ويعني التغيرات التطورية التي تكون أعلى من مستوى النوع، ويؤدي إلى تشكيل عدة أنواع جديدة تنضم تحت مفهوم الإشعاع التكيفي adaptive radiation)، أي إنه نوع من تطور متفرع ، يتفرع فيه النوع إلى عدة أنواع جديدة، على النقيض من النمط السابق (السلالي) الذي لا يتطور فيه النوع السلفي إلا إلى نوع واحد فقط وبخط مستقيم.
يشكل هذا النمط من التطور آلية في تطور التكيفات مع البيئة التي تؤدي إلى تطوير أكبر عدد ممكن من الأنواع، فعندما تحدث تغيرات بيئية (أو تجد الجماعة نفسها أمام بيئة جديدة) فإن عدداً من أفرادها (غير القادر على التكيف) يكون مصيره الانقراض، في حين تُفتَح أمام الناجين من الموت أنظمة بيئية جديدة، وهذا ما حدث في الكائنات الحية التي كانت تعيش في جزر أرخبيل هاواي، فقد ضلت طريقها حينما عبرت المحيط ومعظم الجزر، وفقدت بيئتها، ولم تعد تجد لها مكاناً على اليابسة، فكان مصيرها الانقراض، وحدث انعزال بين جماعاتها انعكس على تطورها.

خلاصة القول إن التنوع الكبير في أنواع الكائنات الحية على الأرض كان حصيلة عوامل تطورية عديدة مرت على سطح الأرض عبر ملايين السنين، حين تشكلت القارات والبحار نتيجة الحركات التكتونية التي انتابت الأرض عبر العصور الجيولوجية المختلفة، وقد أدّت في نهاية المطاف إلى تشكيل بيئات مختلفة وظروف مناخية متغايرة. كل ذلك كان وراء أسباب عزل جماعات النوع الواحد إلى جماعات عدة انتشرت في بيئات جديدة فرضت عليها ظروفاً بيئية جديدة لم تألفها سابقاً، فكان على تلك الجماعات أن تتكيف من جديد مع البيئة الجديدة التي وصلت إليها، أو أن تصبح عاجزة عن التكيف وتلقى مصيرها المحتم بالانقراض.

لقد فرض التكيف مع بيئات جديدة على تلك الجماعات تغيرات داخلية جعلتها قادرة على العيش والتكيف من جديد مع البيئات الجديدة؛ الأمر الذي أدى إلى إحداث تغيرات داخلية تناولت ذخيرتها الوراثية؛ مما أدى إلى عزل الجماعات بعضها عن بعض وراثياً، فأصبحت  تلك الجماعات غير قادرة على التزاوج فيما بينها، وغير قادرة على تبادل الجينات، وبذلك تحولت الجماعة من وحدة وراثية مفتوحة (كما جاء في تعريف الجماعة) إلى وحدة وراثية مغلقة، أي إلى نوع جديد (وفق مفهوم النوع وراثياً) الذي أشير إليه في مقدمة البحث.

ووفق رأي داروين فإن تطور الأنواع على الأرض كان "متدرجاً" ومستمراً كما أورده في نظريته التطورية (الداروينية)، بيد أن التنوع السريع والمفاجئ الذي أصاب عدداً من الأنواع (الذي كان نتيجة لتغيرات وراثية مفاجئة مثل الطفرات، أو التغير في تواتر الأليلات، أو الانجراف الوراثي) لم يلقَ تفسيراً لدى داروين؛ وذلك لعدم معرفته بعلم الوراثة، بل عزا التطور على نحو رئيسي إلى عامل الاصطفاء الطبيعي الذي  شكل  المحور الرئيسي في  النظرية الداروينية التي كادت أن تنهار أمام التقدم العلمي في علم الوراثة.

وبسبب التغيرات التطورية المفاجئة و السريعة للأنواع كان لا بدّ من تفسير علمي مقبول  ومقنع، فكان الجواب من قبل العلماء الذين وضعوا أسس علم الوراثة (أمثال مندل ودو فريز de Vries وغيرهما) حيث شدّد دو فريز على أثر الطفرات mutations في إحداث التغيرات التطورية المفاجئة للأنواع، وقد عدّ أن الطفرات التي تنتاب النوع هي العامل الأساسي في التطور المفاجئ والسريع للنوع.

 

مراجع للاستزادة:

- بشير الزالق . التطور ونشأة الحياة على الأرض- منشورات جامعة دمشق 2010.

 - J. A. Endler, Geographic Variation, Speciation and Clines,Princeton University Press 2020.

- N. Patrik.  Ecological Speciation . Oxford series in Ecology and Evolution, OSEE, UK, 2011.

- J.M. Thomas, Speciation: Punctual or Gradual ?, Cornell University, 2012.

 


- المجلد : المجلد العاشر، طبعة 2025، دمشق مشاركة :

بحث ضمن الموسوعة

من نحن ؟

الموسوعة إحدى المنارات التي يستهدي بها الطامحون إلى تثقيف العقل، والراغبون في الخروج من ظلمات الجهل الموسوعة وسيلة لا غنى عنها لاستقصاء المعارف وتحصيلها، ولاستجلاء غوامض المصطلحات ودقائق العلوم وحقائق المسميات وموسوعتنا العربية تضع بين يديك المادة العلمية الوافية معزَّزة بالخرائط والجداول والبيانات والمعادلات والأشكال والرسوم والصور الملونة التي تم تنضيدها وإخراجها وطبعها بأحدث الوسائل والأجهزة. تصدرها: هيئة عامة ذات طابع علمي وثقافي، ترتبط بوزير الثقافة تأسست عام 1981 ومركزها دمشق 1